التفسير المنير - ج ١٦

الدكتور وهبة الزحيلي

١
٢

٣
٤

تتمة قصة موسى مع الخضر

(قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (٧٦) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (٧٧) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٧٨) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٩) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (٨١) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٨٢))

الإعراب :

(لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) قرئ (لَاتَّخَذْتَ) بالتشديد ، وبالتخفيف.

(لَاتَّخَذْتَ). وأدخل اللام على الفعل الذي هو جواب (لَوْ).

(مِنْ لَدُنِّي) بالتشديد والتخفيف. وكذا (أَنْ يُبْدِلَهُما) بالتشديد والتخفيف.

٥

(هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) إضافة الفراق إلى البين إضافة المصدر إلى الظرف على الاتساع.

والإضافة في (بَيْنِكَ) إضافة بين إلى غير متعدد : سوغها تكراره بالعطف بالواو.

(غَصْباً) منصوب على المصدر المبين لنوع الأخذ (زَكاةً رُحْماً) منصوبان على التمييز.

(رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) مفعول لأجله.

البلاغة :

(أَمَّا السَّفِينَةُ وَأَمَّا الْغُلامُ وَأَمَّا الْجِدارُ) لف ونشر مرتب بعد ذكر ركوب السفينة ، وقتل الغلام ، وبناء الجدار.

(كُلَّ سَفِينَةٍ) فيه إيجاز بالحذف ، أي صالحة ، لدلالة (أَعِيبَها) عليه ، وكذا (وَأَمَّا الْغُلامُ) حذف منه لفظ الكافر ، لدلالة قوله تعالى : (فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ).

(أَبَواهُ) أي أبوه وأمه ، بطريق التغليب.

(يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) استعارة ؛ لأن الإرادة من صفات العقلاء ، وإسنادها إلى الجدار استعارة ومجاز.

(فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) و (فَأَرَدْنا) و (فَأَرادَ رَبُّكَ) : أسند ما ظاهره شر لنفسه ، وأسند الخير إلى الله تعالى ، على سبيل الأدب مع الله تعالى.

المفردات اللغوية :

(أَلَمْ أَقُلْ لَكَ ..) زاد (لَكَ) هنا على ما تقدم لعدم العذر بعد التنبيه ، ووسما له بقلة الثبات والصبر ، مع سبق التذكير أول مرة ، فاحتاج إلى الإنكار عليه بما هو أشد مرة ثانية (عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها) أي إن سألت صحبتك بعد هذه المرة (فَلا تُصاحِبْنِي) ، أي لا تجعلني صاحبا (قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) أي قد وجدت عذرا من قبلي ، لما خالفتك ثلاث مرات ، في مفارقتك لي.

(أَهْلَ قَرْيَةٍ) هي أنطاكية ، كما روي عن ابن عباس ، أو الأبلّة : أبلة بصرة ، أو الناصرة ، والواقع لا دليل يوثق به على صحة تعيين القرية. (اسْتَطْعَما أَهْلَها) طلبا منهم الطعام بضيافة (أَنْ يُضَيِّفُوهُما) أي ينزلوهما أضيافا ، مأخوذ من ضيّفه وقرئ : (يُضَيِّفُوهُما) مأخوذ من أضافه ، أي أنزله ضيفا.

(جِداراً) حائطا (يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) يداني أو يقرب أن يسقط لميلانه ، فاستعيرت

٦

الإرادة للمشارفة ، كما أستعير لها الهم والعزم (فَأَقامَهُ) الخضر بعمارته ، أو بعمود عمده به ، وقيل : مسحه بيده فقام كما روي عن ابن عباس ، وقيل : نقضه وبناه ، وهو الشائع. (لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) جعلا ، حيث لم يضيفونا ، مع حاجتنا إلى الطعام ، وهو تحريض على أخذ الجعل للارتفاق والانتعاش به ، وتعريض بأنه فضول واشتغال بما لا يعنيه.

(قالَ : هذا فِراقُ) أي قال له الخضر : هذا وقت الفراق بيني وبينك (سَأُنَبِّئُكَ) قبل فراقي لك (لِمَساكِينَ) عشرة (يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ) يعملون بها مؤاجرة لها ، طلبا للكسب (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ) أمامهم الآن ، أو خلفهم إذا رجعوا عليه ، وكان رجوعهم عليه ، واسمه : جلندي بن كركر ، أو منوار بن جلندي الأزدي ، وهو ملك كافر (يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ) صالحة (غَصْباً) من أصحابها ، منصوب على المصدر المبين لنوع الأخذ.

(أَنْ يُرْهِقَهُما) أن يغشاهما (طُغْياناً وَكُفْراً) لنعمتهما بعقوقه ، فيلحقهما شرا ، أو يقرن بإيمانهما طغيانه وكفره ، فيجتمع في بيت واحد مؤمنان وطاغ كافر ، أو يصيبهما بالعدوى فيرتدا بإضلاله ، جاء في حديث مسلم : «طبع كافرا ، ولو عاش لأرهقهما ذلك ، لمحبتهما له ، يتبعانه في ذلك» قيل : اسم المقتول : خيسور.

(خَيْراً مِنْهُ زَكاةً) أي صلاحا وتقى (وَأَقْرَبَ رُحْماً) أقرب منه رحمة ، وهي البر بوالديه ، فأبدلهما تعالى فتاة تزوجت نبيا ، فولدت نبيا ، فهدى الله تعالى به أمة.

(وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما) الكنز : المال المدفون من ذهب وفضة (وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً) كان أبو الغلامين تقيا صالحا ، فأكرمهما الله بصلاحه في أنفسهما ومالهما. قيل : كان بينهما وبين الأب الذي حفظا به سبعة آباء ، واسمه كاشح (أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما) أي إيناس الرشد ، وكمال الرأي ، قيل : اسمهما : أصرم وصريم (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي مرحومين من ربك ، وهو مفعول لأجله ، عامله : أراد (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) أي ما فعلت ما ذكر من خرق السفينة ، وقتل الغلام ، وإقامة الجدار ، باختياري ، بل بأمر إلهام من الله (ما لَمْ تَسْطِعْ) ، أي تستطع ، يقال : اسطاع واستطاع بمعنى أطاق ، فجمع بين اللغتين.

المناسبة :

الكلام واضح الصلة بما قبله ، فهو في قصة موسى عليه‌السلام مع الخضر الذي خصه الله بعلم لم يطلع عليه موسى النبي ، كما أنه تعالى أعطى موسى بن العلم ما لم يعلّمه الخضر. وهذا أي قتل الغلام هو الحادث الثاني بعد خرق السفينة الذي

٧

اختبر فيه الخضر صبر موسى ، ولم يصبر ؛ لمخالفته ظاهر شريعته ؛ لأن القتل لا يكون إلا لأجل القصاص بالنفس ، مع أنه قد يكون لسبب آخر.

التفسير والبيان :

(قالَ : أَلَمْ أَقُلْ لَكَ : إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) أي قال الخضر لموسى الذي خالف الشرط : ألم أخبرك أنك لا تتمكن من احتمال ما أفعله ، ولن تسكت على ما أقوم به. ويلاحظ أنه زاد هنا لفظ (لَكَ) على ما سبق ؛ لأن سبب العتاب أوضح وأقوى بعد التذكير المتقدم ، وتكرر المخالفة من موسى للعهد أو الشرط الذي التزمه ، وإن كان قتل الغلام الوضيء الجميل الحسن الذي كان يلعب مع الغلمان في قرية أعظم جرما وأقبح من خرق السفينة ، لذا قال موسى : (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) والنكر أعظم من (الإمر) في القبح. وهذا إشارة إلى أن قتل الغلام أقبح من خرق السفينة ؛ لأن إتلاف النفس أخطر من إتلاف المال.

فاعتذر موسى عليه‌السلام بقوله :

(قالَ : إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي ، قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) أي قال موسى للخضر : إن اعترضت على شيء يحدث بعد هذا الفعل ، أو هذه المرة ، فلا تجعلني صاحبا لك ، قد أعذرت إلي مرة بعد مرة ، حيث أكون قد خالفتك إلى الآن مرتين. وهذا كلام نادم شديد الندامة.

روى ابن جرير عن أبيّ بن كعب قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا ذكر أحدا ، فدعا له ، بدأ بنفسه ، فقال ذات يوم : «رحمة الله علينا وعلى موسى ، لو لبث مع صاحبه لأبصر العجب ، ولكنه قال : (إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها ، فَلا تُصاحِبْنِي ، قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً)».

٨

والحادث الثالث هو :

(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها ، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما) أي فانطلق الخضر وموسى يمشيان بعد المرتين الأوليين ، حتى إذا وصلا إلى قرية ، طلبا من أهلها إطعامهما وسد جوعتهما ، فرفضوا ذلك وأبوا أن يعطوهما ما هو حق واجب عليهم من الضيافة. وهذا إخلال بالمروءة ، واتصاف بالبخل والشح ، وتلك القرية هي أنطاكية.

(فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ) أي وجد الخضر وموسى في تلك القرية حائطا آيلا إلى السقوط ، فردّه الخضر كما كان ، جاء في الحديث الصحيح : أنه مسحه بيده فإذا هو قد استقام. وهذا من كراماته.

وإسناد الإرادة هنا إلى الجدار على سبيل الاستعارة كما تقدم ، فإن الإرادة في المحدثات بمعنى الميل ، والانقضاض : هو السقوط ، والأول من أفعال العقلاء والثاني من خواص الجمادات ونحوها.

فعند ذلك قال موسى للخضر :

(قالَ : لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) أي قال موسى للخضر : ليتك تطلب أجرة على إقامة الجدار وإصلاحه ، فإنه نظرا لأنهم لم يضيفونا ، كان ينبغي ألا تعمل لهم مجانا ، فأجابه الخضر :

(قالَ : هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ، سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) أي قال الخضر لموسى عليهما‌السلام : هذا الإنكار أو الاعتراض المتكرر سبب الفراق بيننا أو المفرّق بيننا ، بحسب الشرط الذي قبلته على نفسك ، فقد قلت بعد قتل الغلام : (إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها ، فَلا تُصاحِبْنِي). وسأخبرك بتفسير وبيان وجه الأفعال التي أنكرتها ، ولم تطق صبرا عليها ، وهي خرق السفينة ،

٩

وقتل الغلام ، وإقامة الجدار. وهذا عتاب ولوم على عدم الصبر. ثم ذكر الخضر سبب ما أقدم عليه من الأمور الثلاثة :

١ ـ (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها ، وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) أي إن السفينة التي خرقتها لأعيبها ، فكانت مملوكة لضعفاء أيتام ليس لهم شيء ينتفعون به غيرها ، ولا يقدرون على دفع من أراد ظلمهم ، وكانوا يكرون تلك السفينة لركاب البحر ، ويأخذون الأجرة ، فأردت بخرقها ونزع لوح منها أن أعيبها ؛ لأنه كان أمامهم ملك جبار ظالم يستولي على كل سفينة صالحة غير معيبة ، ويغتصبها ظلما وعدوانا دون وجه حق ، فكان عملي حماية لهذه السفينة لأصحابها الضعفاء ، فأنا لم أعمل سوءا ، وإنما ارتكبت أخف الضررين لدفع أعظمهما.

روى ابن جريج عن شعيب الجبائي : «أن اسم ذلك الملك هدد بن بدد» وهو مذكور في التوراة في ذرية العيص بن إسحاق.

ويلاحظ أن المراد بقوله (وَراءَهُمْ) أمامهم ، كقوله تعالى : (مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) [الجاثية ٤٥ / ١٠] وقوله تعالى : (وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً) [الدهر ٧٦ / ٢٧].

٢ ـ (وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ ، فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً) أي وأما الولد الغلام الذي قتلته ، وكان اسمه شمعون أو حيثور أو حيسون ، فإنه كان كافرا ، وقد أطلعني الله على مستقبله ، وكان أبواه مؤمنين ، فخشينا إذا صار كبيرا أن يحملهما حبه على متابعته في الكفر والوقوع في الظلم والعصيان والمنكرات ؛ لأن حب الولد غريزة. وهذا من قبيل سد الذرائع وفتحها ، فإن كل ما كان وسيلة إلى المصلحة فهو مصلحة.

قال قتادة : قد فرح به أبواه حين ولد ، وحزنا عليه حين قتل ، ولو بقي

١٠

لكان فيه هلاكهما ، فليرض امرؤ بقضاء الله ، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب. وصح في الحديث : «لا يقضي الله لمؤمن قضاء إلا كان خيرا له» وقال تعالى : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة ٢ / ٢١٦].

(فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً) أي قال الخضر العالم : فأردنا أن يرزقهما الله بدل هذا الولد ولدا خيرا منه دينا وصلاحا وطهارة من الذنوب ، وأقرب رحمة لوالديه ، وعطفا عليهما ، وبرا بهما وشفقة عليهما. ويلاحظ أن الغلام يشمل البالغ والصغير ، ويرى الجمهور أن هذا الغلام لم يكن بالغا ، لذا قال موسى : نفسا زكية أي لم تذنب. وقال الكلبي : كان بالغا.

٣ ـ (وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ ، وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما ، وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً ، فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما ، وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي وأما الحائط الذي أصلحته ، فكان لولدين صغيرين يتيمين في قرية هي أنطاكية ، وكان تحته كنز ، أي مال جسيم مدفون ، وكان أبوهما وهو الأب السابع رجلا صالحا ، فأراد الله إبقاء ذلك الكنز (وكان مالا) مدفونا حفظا لمالهما ، ولصلاح أبيهما ، فأمرني ربي بإصلاح ذلك الحائط ، إذ لو سقط لاكتشف وأخذ ، وأراد الله أن يبلغ الغلامان كمالهما وتمام نموهما ، ويستخرجا الكنز من ذلك الموضع الذي عليه الجدار ، رحمة لهما ، بصلاح أبيهما. والمراد بالمدينة هي القرية المذكورة سابقا : (حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ) وهو دليل على إطلاق القرية على المدينة. والظاهر أن الغلامين كانا صغيرين بقرينة وصفهما باليتم ، وقد قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه أبو داود عن علي : «لا يتم بعد احتلام».

ويلاحظ أنه هنا أسند الإرادة إلى الله تعالى ؛ لأن بلوغهما الحلم لا يقدر عليه إلا الله. وأما في السفينة ، فأسند الفعل إلى الخضر العالم ، فقال تعالى : (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) كما أن الأدب يقضي إسناد الخير إلى الله ، والشر إلى العباد.

١١

(وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ، ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) أي إن ما فعلته من الأمور الثلاثة لم يكن باجتهادي ورأيي ، ولكنه بأمر الله وإلهامه ووحيه ، فالإقدام على ذلك كله من الاعتداء على المال والنفس وإصلاح الجدار ، وهو لا يكون إلا بالوحي والنص القاطع.

وذلك المذكور هو تفسير ما ضاق صبرك عنه ، ولم تطق السكوت عنه ، ولم تصبر حتى أبيّن لك السبب والحكمة فيه.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ إن الأحداث الثلاثة التي فعلها الخضر كانت من قبيل اختيار أهون الشرين ، وأخف الضررين ، وتحمل الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى ، وهو معنى قوله تعالى : (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) ، فهي وإن كانت مستنكرة في الظاهر ، وحقّ لموسى عليه‌السلام إنكارها والاعتراض عليها ، فهي خير في الحقيقة والواقع ، وذلك لا يتسنى لأحد ادعاؤه بغير وحي صريح ، وأحكام العالم والنبي في غير حال الوحي تنبني على ظواهر الأمور ، وفي حال الوحي تنبني على الأسباب الحقيقية الواقعية.

والوحي لا يحصل إلا لنبي أو رسول ، والجمهور كما تقدم على أن الخضر كان نبيا ؛ لأن قوله تعالى : (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا) يدل على نبوته ؛ لأن بواطن الأفعال لا تكون إلا بوحي ؛ ولأن الإنسان لا يتعلم ولا يتّبع إلا من فوقه ، وليس فوق النبي من ليس بنبي.

ويرى آخرون أن الخضر لم يكن نبيا ، وقد يوجد في المفضول ما ليس في الفاضل. قال بعض العلماء : ولا يجوز أن يقال : كان نبيا ؛ لأن إثبات النبوة

١٢

لا يجوز بأخبار الآحاد ، وهذا هو المحقق في كتب العقائد ، والمراد بقوله : (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) الإلهام وليس الوحي.

٢ ـ إن ترك الضيافة المندوبة شرعا من المستقبح عرفا وعقلا وشرعا ، وقد تصبح أمرا واجبا في حال تعرض الجائع للهلاك ، ولعل موسى والخضر عليهما‌السلام كانا في حالة جوع شديد ، وإن لم يبلغا حد الهلاك ، مما سوغ الغضب الشديد لدى موسى.

٣ ـ قوله تعالى : (اسْتَطْعَما أَهْلَها) دليل على جواز سؤال القوت ، وأن من جاع وجب عليه أن يطلب ما يسد جوعه ، والاستطعام : سؤال الطعام ، والمراد به هنا سؤال الضيافة ؛ لقوله تعالى : (فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما) فاستحق أهل القرية لذلك أن يذمّوا ، وينسبوا إلى اللوم والبخل ، كما وصفهم بذلك نبينا عليه الصلاة والسلام. قال قتادة في هذه الآية : شر القرى التي لا تضيف الضيف ، ولا تعرف لابن السبيل حقه. ويظهر من ذلك أن الضيافة كانت عليهم واجبة ، وأن الخضر وموسى إنما سألا ما وجب لهما من الضيافة. وهذا هو الأليق بحال الأنبياء ، ومنصب الفضلاء والأولياء.

٤ ـ إن ضرر المشقة الحاصلة بسبب الإقدام على إقامة جدار أقل من سقوطه ؛ لأنه لو سقط لضاع مال تلك الأيتام ، وفيه ضرر شديد.

وتسوية الجدار تمت بإعادة بنائه ، ذكر ابن الأنباري عن ابن عباس عن أبي بكر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه «قرأ : (فَوَجَدا فِيها جِداراً ، يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) ثم قال : فهدمه ثم قعد يبنيه» وهذا الحديث صحيح السند ؛ جار مجرى التفسير للقرآن. وقال سعيد بن جبير : مسحه بيده وأقامه ، فقام. قال القرطبي : وهذا القول هو الصحيح ، وهو الأشبه بفعل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، بل والأولياء.

١٣

٥ ـ واجب على الإنسان ألا يتعرض للجلوس تحت جدار مائل يخاف سقوطه ، بل يسرع في المشي إذا كان مارّا عليه ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : «إذا مرّ أحدكم بطربال (١) مائل ، فليسرع المشي» ذكره ابن الأثير في النهاية.

٦ ـ كرامات الأولياء ثابتة ، بدليل الأخبار الثابتة والآيات المتواترة ، ولا ينكرها إلا المبتدع الجاحد أو الفاسق الحائد ، فالآيات : مثل ما أخبر الله تعالى في حق مريم من ظهور الفواكه الشتوية في الصيف ، والصيفية في الشتاء ، وما ظهر على يدها حيث أمرت النخلة وكانت يابسة فأثمرت ، وهي ليست بنبية ، ومثل ما ظهر على يد الخضر عليه‌السلام من خرق السفينة ، وقتل الغلام ، وإقامة الجدار ، وهذا على رأي من قال : إنه ليس نبيا.

٧ ـ هل يجوز أن يعلم الوليّ أنه ولي أو لا؟ قولان للعلماء :

أحدهما ـ أنه لا يجوز ، وأن ما يظهر على يديه يجب أن يلاحظه بحذر وحيطة ، لأنه لا يأمن أن يكون استدراجا له ، ولأنه لو علم أنه وليّ ، لزال عنه الخوف من الله ، وحصل له الأمن من عذابه ، ومن شرط الولي أن يستديم الخوف إلى أن تتنزل عليه الملائكة ، كما قال عزوجل : (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا) [فصّلت ٤١ / ٣٠] ولأن الولي : من كان مختوما له بالسعادة ، والعواقب مستورة ، ولا يدري أحد ما يختم له به ؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الأصبهاني عن ابن عباس : «وإنما الأعمال بخواتيمها».

القول الثاني ـ أنه يجوز أن يعلم أنه ولي ؛ إذ لا خلاف أنه يجوز لغيره أن يعلم أنه وليّ الله تعالى ، فجاز له أن يعلم ذلك ، وقد أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن حال العشرة المبشرين بالجنة من أصحابه : أنهم من أهل الجنة ، ولم يكن في ذلك زوال خوفهم ، بل كانوا أكثر تعظيما لله تعالى ، وأشد خوفا وهيبة ، فغيرهم مثلهم.

__________________

(١) الطربال : القطعة العالية من الجدار ، والصخرة العظيمة المشرفة من الجبل.

١٤

٨ ـ لا ينكر أن يكون للولي مال وضيعة (عقارات) يصون بها وجهه وعياله ، وحسبك بالصحابة وأموالهم ، مع ولايتهم وفضلهم ، وهم الحجة على غيرهم.

وأما حديث الترمذي عن ابن مسعود : «لا تتخذوا الضيعة فتركنوا إلى الدنيا» فمحمول على من اتخذها مستكثرا أو متنعما ومتمتعا بزهرتها ، وأما من اتخذها معاشا يصون بها دينه وعياله ، فاتخاذها بهذه النية من أفضل الأعمال ، وهي من أفضل الأموال ؛ قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد وابن منيع عن عمرو بن العاص : «نعم المال الصالح للرجل الصالح».

٩ ـ تمّ خرق السفينة وتعييبها لحفظها لأصحابها المساكين (المحتاجين المتعيشين بها في البحر) من اغتصاب ملك ظالم عات لكل سفينة صالحة ، وقد احتج الشافعي بهذه الآية على أن حال الفقير في الضر والحاجة أشد من حال المسكين ؛ لأنه تعالى سمّاهم مساكين ، مع أنهم كانوا يملكون تلك السفينة.

١٠ ـ حدث قتل الغلام بسبب كفره حتى لا يتأثر به أبواه ، ويميلا إلى دينه ، بسبب محبتهما الفطرية له ، وقد أبدلهما الله خيرا منه زكاة ، أي دينا وصلاحا ، وأقرب رحما ، أي أقرب رحمة وعطفا وشفقة عليهما.

١١ ـ إن صلاح الآباء يفيد الأبناء حتى الجيل السابع ؛ لأن أب الغلامين كان هو الأب السابع ، كما قال جعفر بن محمد. وقد روي أن الله تعالى يحفظ الصالح في سبعة من ذريته ، وعلى هذا يدل قوله تعالى : (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ ، وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) [الأعراف ٧ / ١٩٦].

١٢ ـ قوله تعالى : (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) يقتضي أن الخضر نبي ، وقال جماعة : لم يكن نبيا ، وهو الأصح. واسم الخضر : إيليا بن ملكان بن قالغ بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح ، وكنيته أبو العباس ، وكان أبوه ملكا. وأمه كانت بنت فارس ، واسمها ألمى ، ولدته في مغارة.

١٥

وذهب الجمهور إلى أن الخضر مات ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : «أرأيتكم ليلتكم هذه ، فإنه على رأس مائة منها لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد» (١). وقالت فرقة : إنه حي ؛ لأنه شرب من عين الحياة ، وأنه باق في الأرض ، وأنه يحج البيت.

قيل : إن الخضر لما ذهب يفارق موسى قال له موسى : أوصني ، قال : كن بسّاما ولا تكن ضحّاكا ، ودع اللجاجة ، ولا تمش في غير حاجة ، ولا تعب على الخطائين خطاياهم ، وابك على خطيئتك يا ابن عمران.

١٣ ـ لا تثبت الأحكام الشرعية إلا بالوحي أو برؤيا الأنبياء ، ولا يصح القول بأن الأحكام تثبت للأولياء بالإلهام في قلوبهم ، وما يغلب عليهم من خواطر ، لصفاء قلوبهم عن الأكدار ، وخلوها عن الأغيار ، وفتتجلى لهم العلوم الإلهية ، والحقائق الربانية ، فيقفون على أسرار الكائنات ، ويعلمون أحكام الجزئيات ، فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات ، كما اتفق للخضر ، فإنه استغنى بما تجلى له من العلوم ، عما كان عند موسى من تلك الفهوم ، واستدلوا بحديث رواه البخاري في التاريخ عن وابصة : «استفت نفسك وإن أفتاك المفتون». قال أبو العباس المالكي : وهذا القول زندقة وكفر يقتل قائله ولا يستتاب ؛ لأنه إنكار ما علم من الشرائع ؛ فإن الله تعالى قد أجرى سنته ، وأنفذ حكمته ، بأن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسله السفراء بينه وبين خلقه ، وهم لمبلغون عنه رسالته وكلامه ، المبيّنون شرائعه وأحكامه ، اختارهم لذلك ، وخصهم بما هنالك ، كما قال تعالى : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ ، إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) [الحج ٢٢ / ٧٥] وقال تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ

__________________

(١) رواه مسلم عن عبد الله بن عمر ، قال : صلى بنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته ، فلما سلم قام فقال : «أرأيتكم ليلتكم هذه ، فإن على رأس مائة سنت منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد».

١٦

رِسالَتَهُ) [الأنعام ٦ / ١٢٤] وقال تعالى : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ، فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) [البقرة ٢ / ٢١٣] إلى غير ذلك من الآيات.

وقال القرطبي : وعلى الجملة فقد حصل العلم القطعي ، واليقين الضروري ، وإجماع السلف والخلف على أن لا طريق لمعرفة أحكام الله تعالى التي هي راجعة إلى أمره ونهيه ، ولا يعرف شيء منها إلا من جهة الرسل ، فمن قال : إن هناك طريقا آخر يعرف بها أمره ونهيه غير الرسل بحيث يستغني عن الرسل فهو كافر ، يقتل ولا يستتاب ، ولا يحتاج معه إلى سؤال ولا جواب. ثم هو قول بإثبات أنبياء بعد نبينا عليه الصلاة والسلام ؛ الذي قد جعله الله خاتم أنبيائه ورسله ، فلا نبي بعده ولا رسول. وبيان ذلك : أن من قال : يأخذ عن قلبه ، وأن ما يقع فيه هو حكم الله تعالى ، وأنه يعمل بمقتضاه ، وأنه لا يحتاج مع ذلك إلى كتاب ولا سنة ، فقد أثبت لنفسه خاصة النبوة ، فإن هذا نحو مما قاله رسول الله عليه الصلاة والسلام : «إن روح القدس نفث في روعي» (١).

١٤ ـ لهذه القصة فوائد أدبية رفيعة مجملها : أن يكون المرء متواضعا غير معجب بعلمه ، وأن يلتزم بعهده ، فلا ينقضه ويعترض على ما لم يعرف سره ، وألا يتعجل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بطلب إنزال العقوبة بالمشركين الذين كذبوه وأنكروا رسالته واستهزءوا به وبكتابه ، فهم معاقبون هالكون في الدنيا والآخرة.

وتتكرر حوادث القصة مع مرور الزمان ، فلا يعترض الإنسان على موت غلام صغير ، فقد يكون موته خيرا له ولوالديه ، كما أن وقائع الموت المتكررة رحمة بالمجتمع ، فلو لم يمت كبار السن وغيرهم لضاقت الأرض بالمواليد المتجددة يوميا. وخرق السفينة يذكرنا بتسلط الظلمة على أموال الضعفاء ، وهدم الجدار وإقامته لون من ألوان توفير الثروة المنتظرة ليتيم أو ضعيف من الإله الرحيم

__________________

(١) تفسير القرطبي : ١١ / ٤٠ ـ ٤١. والرّوع : القلب أو العقل. والحديث رواه أبو نعيم في الحلية عن أبي أمامة ، وهو ضعيف.

١٧

بعباده الضعفاء ، وفيه مقابلة الإساءة بالإحسان ، فإن أهل القرية الذين أبوا الضيافة قابلهم الخضر بحسن الصنيع ، وهذه سمة الأنبياء والأولياء المقربين من ربهم.

وكل هذه الوقائع من فعل الله تعالى ، وما الخضر وأمثاله إلا وسطاء بين الناس لتنفيذ أمر الله تعالى.

قصة ذي القرنين ويأجوج ومأجوج

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (٨٦) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (٨٨) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ

١٨

الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (٩٦) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨) وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (٩٩))

الإعراب :

(مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ) أي كيف شاء ، فحذف المفعول به.

(وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) : (تَغْرُبُ) جملة فعلية ، حال من هاء (وَجَدَها) ووجدها : بمعنى أصابها. وليست هنا بمعنى علم ، فلو كانت كذلك ، لكانت الجملة مفعولا ثانيا لوجد ؛ لأن (وجد) بمعنى (علم) تتعدى إلى مفعولين. (إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ ...) أن وصلتها : إما في موضع نصب بفعل مقدر ، كقوله تعالى : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) [محمد ٤٧ / ٤] وإما على تقدير مبتدأ وخبره محذوف ، تقديره : إما العذاب واقع منك فيهم ، وإما اتخاذ أمر ذي حسن واقع فيهم ، فحذف الخبر لطول الكلام بالصلة.

(فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى جَزاءً) منصوب على المصدر في موضع الحال ، والعامل فيه : له ، أي ثبتت الحسنى له جزاء. وقيل : تمييز منصوب. ومن قرأ بالرفع : (جزاء) جعله مبتدأ ، وله : خبره ، أي فله جزاء الخصال الحسنى ، فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه. و (الْحُسْنى) مضاف إليه مجرور. ويجوز جعله بدلا مرفوعا من (جَزاءً) والأصل فيهالتنوين ، وحذفه لالتقاء الساكنين ، كما حذف التنوين من (أَحَدٌ) في قوله تعالى : (قُلْ : هُوَ اللهُ أَحَدٌ ، اللهُ الصَّمَدُ) [الإخلاص ١١٢ / ١ ـ ٢] وقرئ : (جزاء) بالنصب من غير تنوين.

(لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً قَوْلاً) مفعول به. وقرئ يفقهون أي يفقهون الناس قولا ، فحذف المفعول الأول ، وبقي (قَوْلاً) المفعول الثاني ، ويجوز حذف أحد المفعولين ؛ لأن هذا فعل متعد.

١٩

(أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) منصوب بأفرغ عند البصريين لا ب (آتُونِي) لأن (أُفْرِغْ) أقرب من (آتُونِي) فكان إعماله أولى ؛ لأن القرب له أثر في قوة العمل. وذهب الكوفيون إلى أن العامل فيه (آتُونِي). (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) بمعنى استطاعوا.

(قالَ : هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) إنما قال : هذا ، ولم يقل : هذه ؛ لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي ، والتأنيث غير الحقيقي يجوز فيه التذكير ، ولأن الرحمة بمعنى الغفران ، فذكّره حملا على المعنى ، والتذكير بالحمل على المعنى كثير في كلام العرب.

البلاغة :

(مَطْلِعَ) و (مَغْرِبَ) بينهما طباق.

(حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً) تشبيه بليغ ، أي كالنار في الحرارة وشدة الاحمرار ، حذفت أداة الشبه ووجه التشبيه.

(يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) استعارة تبعية في الفعل (يَمُوجُ) شبههم لكثرتهم وتداخل بعضهم في بعض ، بموج البحر المتلاطم.

(أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى) بينهما مقابلة.

المفردات اللغوية :

(وَيَسْئَلُونَكَ) أي اليهود أو مشركو مكة. (عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ) قيل في رأي ضعيف : هو الإسكندر بن فيلبوس اليوناني ، وقيل : الرومي ، ملك فارس والروم ، وقيل : ملك المشرق والمغرب ، لكن الإسكندر كافر ، والأصح أنه رجل صالح حكم الدنيا غير الإسكندر ، وهو على التحقيق الملك الفارسي الصالح «قورش» ولذلك سمي ذا القرنين ، أو لأنه طاف قرني الدنيا شرقها وغربها ، وقيل : كان له قرنان ، أي ضفيرتان ، وقيل : كان لتاجه قرنان ، ويحتمل أنه لقب بذلك لشجاعته ، ومع الاتفاق على إيمانه وصلاحه ، لم يكن على الأصح نبيا. (سَأَتْلُوا) سأقص. (عَلَيْكُمْ مِنْهُ) من حاله. (ذِكْراً) خبرا مذكورا ، وهو القرآن. قيل : ملك الدنيا. مؤمنان : سليمان وذو القرنين ، وكافران : نمروذ وبختنصر.

(إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ) سهلنا له السير فيها وجعلناه قادرا على التصرف فيها كيف شاء. (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) يحتاج إليه. (سَبَباً) طريقا يوصله إلى مراده من علم أو قدرة أو إرادة.(فَأَتْبَعَ سَبَباً) طريقا نحو الغرب ، أي فأراد بلوغ المغرب ، فاتبع سببا يوصله إليه. (مَغْرِبَ الشَّمْسِ) موضع غروبها. (فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) أي ذات حمأة ، وهي الطين الأسود ، وغروبها في

٢٠