التفسير المنير - ج ١٠

الدكتور وهبة الزحيلي

براءة إلى أهل العهد المشركين ، وهم أهل مكة وخزاعة ومدلج ومن كان له عهد أو غيرهم من العرب ، أي إن الله ورسوله قد برئا من العهد الذي عاهدتم به المشركين ، وأنه منبوذ إليهم ؛ لأنهم ما عدا ناسا منهم وهم بنو ضمرة وبنو كنانة نكثوا العهد ، فنبذ العهد إلى الناكثين ، وأمروا أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر آمنين أين شاؤوا ، لا يتعرض لهم.

وقوله : (فَسِيحُوا) عدول من الخبر إلى الخطاب ، أي قل لهم : سيحوا ، أي سيروا في الأرض آمنين غير خائفين أحدا من المسلمين. وتبيّن بالآية أن هذه البراءة وهذا النّبذ إليهم ، إنما هي بعد أربعة أشهر ، وأن عهد المعاهدين باق إلى آخر هذه المدّة (١).

وحددت لهم هذه المدّة ليفكروا في أمرهم ، فيختاروا إما الإسلام وإما القتال ، ولتكون لديهم فرصة للاستعداد للقتال ، إذا أصرّوا على شركهم وعداوتهم. وهذا منتهى التّسامح والإنذار ، حتى لا يتهم المسلمون بأخذهم فجأة على غرّة.

والأربعة الأشهر في رأي السيوطي هي : شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ؛ لأنه روي عن الزّهري : أن براءة نزلت في شوال.

وقال آخرون كالزّمخشري والرّازي والقرطبي وابن كثير : هي الأشهر الحرم في قوله : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) وذلك لصيانة الأشهر الحرم من القتل والقتال فيها ، وهي عشرون من ذي الحجة والمحرّم وصفر وشهر ربيع الأول وعشر من ربيع الآخر ، وهذا هو القول الأصحّ في تقديري ؛ لأن الإمام علي رضي‌الله‌عنه قرأ أوائل سورة براءة على الناس يوم النّحر في منى.

__________________

(١) أحكام القرآن للجصاص : ٣ / ٧٧

١٠١

وليس المراد بالأشهر الأربعة هي الأشهر الحرم المعروفة ، وهي : ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ورجب كما ارتأى ابن جرير نقلا عن ابن عباس ؛ لأن ذلك مخلّ بالنّظم القرآني ، مخالف للإجماع ؛ لأن حرمة هذه الأشهر قد نسخت ، ومثل هذا القول يقتضي بقاء حرمة الأشهر الحرم. وإنما المراد أشهر التّسيير الأربعة المذكورة آنفا.

والحكمة في إعطاء براءة لعليّ رضي‌الله‌عنه لتبليغها : أن براءة تضمّنت نقض العهد الذي كان عقده النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكانت سيرة العرب ألا يحلّ العقد إلا الذي عقده ، أو رجل من أهل بيته ، فأراد النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقطع ألسنة العرب بالحجة ، ويرسل ابن عمه الهاشمي من بيته ينقض العهد ، حتى لا يبقى لهم متكلّم.

وتضمّنت الآية جواز قطع العهد بيننا وبين المشركين ، وذلك في حالتين : حالة انقضاء مدّة المعاهدة ، فنؤذنهم أي نخبرهم بالحرب ، وحالة نقض العهد منهم ، أو خوف الغدر منهم ، فننبذ إليهم عهدهم.

ثم قال تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ ...) أي واعلموا علم اليقين أنكم لن تفلتوا من عذاب الله بالهرب والتّحصن إن بقيتم على شرككم وعداوتكم ، وإن أمهلكم ، وهو مخزيكم أي مذلّكم في الدّنيا بالقتل ، والآخرة بالعذاب في النّار ، كما قال تعالى في مشركي مكة وأمثالهم : (كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ، فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) [الزّمر ٣٩ / ٢٥ ـ ٢٦].

وبعد أن أعلن الله براءته من المشركين ، أمر بإعلان هذه البراءة للناس قاطبة ، فقال : (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ ...) أي وإعلام من الله ورسوله بالبراءة من عهود المشركين إلى الناس جميعا ، يوم الحجّ الأكبر وهو يوم النّحر الذي تنتهي

١٠٢

فيه فرائض الحجّ ، وأفضل أيام المناسك ، ويجتمع فيه الحجاج في منى لإتمام مناسكهم.

فليس بين البراءتين تكرار ؛ لأن البراءة الأولى مختصة بالمعاهدين والنّاكثين العهد منهم ، وأما الأذان بالبراءة فعام لجميع الناس ، من عاهد ومن لم يعاهد ، ومن نكث من المعاهدين ، ومن لم ينكث.

وسمّي الأكبر لأنه حجّ فيه أبو بكر ، ونبذت فيه العهود. ويوم الحجّ الأكبر في رأي ابن عباس في رواية عنه ، وابن مسعود وابن أبي أوفى والمغيرة بن شعبة ، وهو مذهب مالك : هو يوم النّحر ؛ لأن يوم النّحر فيه الحجّ كله ؛ لأن الوقوف بعرفة في ليلته ، والرّمي والنّحر والحلق والطّواف في صبيحته.

وهو في رأي عمر وعثمان ، وابن عباس في رواية أخرى ، وطاوس ومجاهد ، ومذهب أبي حنيفة والشافعي : يوم عرفة ؛ لحديث مخرمة أنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «يوم الحج الأكبر : يوم عرفة».

وروي عن عطاء ومجاهد : الحجّ الأكبر الذي فيه الوقوف بعرفة ، والأصغر : العمرة. أي أنّ العمرة تسمّى الحجّ الأصغر.

وكان علي هو المخبر بنقض العهد ، مع بقاء إمارة الحج لأبي بكر ، كما تقدّم ، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : «بعثني أبو بكر في تلك الحجّة في مؤذنين بعثهم يوم النّحر يؤذّنون بمنى : ألا لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان» ثم أردف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعلي بن أبي طالب ، وأمره أن يؤذّن ببراءة ، وألا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان.

ثم أكّد الله تعالى الاعلام أو التّبليغ الفوري فقال : (فَإِنْ تُبْتُمْ ...) أي قولوا لهم : فإن تبتم عن الشرك فهو خير لكم ، أي أنفع لكم في الدّنيا والآخرة.

١٠٣

وإن توليتم عن الإيمان ، وأعرضتم عن الإسلام ، فاعلموا أنكم غير معجزي الله ، أي فائتي عذابه ، فلن تفلتوا منه ، فإنه محيط بكم ، ومنزل عقابه عليكم ، ولا طاقة لكم بحربه في الدّنيا ، ووعده لرسله وللمؤمنين بالنّصر عليكم.

وبشّر أيها الرّسول من أنكر رسالتك ، ولم يؤمن بالله وملائكته بعذاب مؤلم شديد الألم في الآخرة. وهذا أسلوب تهكّمي واستهزاء إذ استخدم البشارة بالسّوء محل الإنذار.

ثم استثنى الله تعالى من مدّة التّأجيل بأربعة أشهر لأصحاب العهود المطلقة غير المؤقتة : من له عهد مؤقت ، فأجله إلى انتهاء مدة عهده التي عوهد عليها ، فقال : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ ...) أي إن الإخبار بنقض العهد يسري على جميع المشركين إلا المعاهدين الذين عاهدتموهم ، ثم لم ينقصوكم شيئا من شروط العهد ، ولم يظاهروا ـ يعاونوا ـ عليكم عدوا ، كبني ضمرة وبني كنانة (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) وإن كانت أكثر من أربعة أشهر ، بشرط ألا ينقض المعاهد عهده ، ولم يظاهر على المسلمين أحدا ، أي يمالئ عليهم من سواهم ، فهذا الذي يوفى له بذمّته وعهده ، وأكّد تعالى وجوب الوفاء بقوله : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) أي الموفين بعهدهم.

قال ابن عباس : بقي لحي من كنانة من عهدهم تسعة أشهر ، فأتمّ إليهم عهدهم.

وهذا دليل قاطع على حرمة المعاهدات في الإسلام ، وأن الوفاء بالعهد من فرائض الإسلام ما دامت مدّة المعاهدة قائمة ، وأن العهد المؤقّت لا ينقض إلا بانتهاء وقته ، وأن مراعاة شروط المعاهد من مظاهر التّقوى ومشتملاتها.

١٠٤

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت الآيات على ما يلي :

١ ـ نقض معاهدات المشركين المطلقة غير المؤقّتة بزمن ؛ لأنهم نكثوا العهد وأخلّوا بشروط التّعاهد.

٢ ـ من كان له عهد دون أربعة أشهر ، تكمل له مدّة أربعة أشهر.

٣ ـ مدة الأمان وحريّة الانتقال والتّأمل في المصير ، إما باعتناق الإسلام أو بالدّخول في القتال : هي أربعة أشهر ، تبدأ بعد عيد الأضحى أو يوم النحر ، وتنتهي في عاشر شهر ربيع الآخر سنة عشر. وهي دليل واضح على حرص الإسلام على تسوية العلاقات الخارجية مع الأعداء على أساس من السّلم والأمن والتّفاهم.

٤ ـ من كان له عهد مؤقّت ، فيبقى على عهده إلى انتهاء مدّته ، مهما كان ، ما لم ينقض العهد ، أو يخلّ بشرط من شروطه.

٥ ـ الإسلام يقدّس العهود ويوجب الوفاء بها ويجعل احترامها نابعا من الإيمان ، وملازما لتقوى الله تعالى.

٦ ـ لن يعجز الله أحد من الكفار ولن يفوت من العقاب في الدّنيا ، وللكافرين عذاب أليم في الآخرة ، كيلا يظن أحد أنّ عذاب الدّنيا لما فات وزال ، فقد تخلّص من العذاب ، بل العذاب الشّديد معدّ له يوم القيامة.

٧ ـ إن افتتاح السورة بالبراءة وبدون بسملة يدخل في النّفس الرّهبة الشّديدة والخوف الأشدّ.

٨ ـ لا يأس في شرعة القرآن ، فقد فتح الله باب التوبة والأمل أمام الكفار ، وهددهم بالعذاب إن تولوا عن الإسلام.

١٠٥

فرضية قتال مشركي العرب في أي مكان وجدوا

(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥))

الإعراب :

(كُلَّ مَرْصَدٍ) إما منصوب بتقدير حذف حرف الجرّ ، أي على كل مرصد وهو المنصوب بنزع الخافض ، وإما منصوب على الظرف.

البلاغة :

(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) فيه استعارة ، شبّه انقضاء الشّهر بالانسلاخ الواقع بين الحيوان وجلده.

المفردات اللغوية :

(فَإِذَا انْسَلَخَ) خرج وانقضى ، شبّه مضي الزّمان بانسلاخ الجلد المحيط بالشّاة ، لانتهاء تعلقه به. (الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) جمع حرام ، وهي آخر مدّة التّأجيل ، وهي الأشهر التي أبيح للناكثين أن يسيحوا في الأرض ، ويحرّم فيها قتالهم ، وهي يوم النّحر إلى العاشر من ربيع الآخر ، كما تقدّم. (حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) في حلّ أو حرم. (وَخُذُوهُمْ) أي أسروهم ، والأخيذ : الأسير. (وَاحْصُرُوهُمْ) امنعوهم من الخروج والتّنقل في البلاد ، واحبسوهم وحاصروهم في القلاع والحصون حتى يضطروا إلى القتل أو الإسلام. (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) أي اقعدوا لهم على كل مرصد ، أي ممرّ وطريق يجتازونه في أسفارهم.

(فَإِنْ تابُوا) من الكفر. (فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) اتركوهم ولا تتعرّضوا لهم. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لمن استغفره وتاب ، يستر ذنوبه ، ويرحم شأنه.

١٠٦

المناسبة :

هذه الآية مفرعة على ما قبلها ، فبعد أن أعلن تعالى البراءة من عهود المشركين ، وأعطاهم مهلة أمان ، أربعة أشهر ، ذكر ما يجب على المؤمنين فعله : وهو قتالهم في أي مكان في الحلّ أو الحرم.

التفسير والبيان :

هذه هي آية السّيف ، إذ جاء الأمر فيها بالقتال ، ومعناها : إذا انقضت الأشهر الأربعة الحرم التي حرم فيها القتل والقتال بين المسلمين والمشركين ، من يوم النّحر إلى العاشر من ربيع الآخر ، على الرّاجح لدى المفسّرين ، وأجلناهم فيها ، فافعلوا معهم ما يحقق المصلحة الحربية التي ترونها من اتّخاذ أحد التدابير الآتية :

أن تقتلوهم في أي مكان وجدوا فيه ، من حلّ أو حرم.

أو تأخذوهم أسرى إن شئتم ، والأسر إنما يكون للقتل أو الفداء أو المنّ على ما يراه الإمام.

أو تحاصروهم في مواقعهم من القلاع والحصون ، وتمنعوهم من الخروج حتى يسلموا ، ويرضخوا لما تملونه عليهم من الشروط ، إلا أن تأذنوا لهم ، فيدخلوا إليكم بأمان.

أو تقعدوا لهم في كل مرصد ، أي تراقبوهم في كل موضع أو طريق أو ممرّ يجتازونه في أسفارهم ، حتى تضطروهم إلى الإسلام أو القتل ، وحتى تملؤوا قلوبهم خوفا ورهبة منكم. والمرصد : الموضع الذي يرقب فيه العدو ، وهو موضع الغرّة والمباغتة.

١٠٧

فإن تابوا عن الكفر أو الشرك الذي حملهم على قتالكم وعداوتكم ، ودخلوا في الإسلام بأن أعلنوا الشّهادتين ، وأقاموا حدوده ، والتزموا أركانه ، من إقامة الصلاة ، وإيتاء الزّكاة ، فخلّوا سبيلهم ، واتركوهم وشأنهم ، واعلموا أن الله غفور لمن استغفره ، رحيم بمن تاب إليه.

وقد نبّه على إقامة الصّلاة التي هي حقّ الله عزوجل بعد أداء الشّهادتين ؛ لأنها أشرف أركان الإسلام بعد الشّهادتين ، وبعدها أداء الزّكاة التي هي أشرف الأفعال المتعلّقة بالمخلوقين ، وتؤدّي إلى تحقيق التّكافل الاجتماعي في الإسلام ، وتساهم في حلّ مشكلة الفقر ، ونفع الفقراء ، ولهذا كثيرا ما يقرن الله بين الصلاة والزّكاة.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت الآية على ما يأتي :

١ ـ وجوب قتال المشركين العرب حتى يسلموا ؛ إذ لا يقبل منهم باعتبارهم حملة رسالة الدّعوة الإسلامية إلى العالم إلا الإسلام أو القتل.

٢ ـ إنّ إقامة الصّلاة أو إيتاء الزّكاة دليل على الإسلام ، وأنهما يعصمان الدّم والمال ، ويوجبان لمن يؤدّيهما حقوق المسلمين من حفظ دمه وماله إلا بحق الإسلام ، كارتكاب ما يوجب القتل من قتل النفس البريئة ، وزنى الزّاني المحصن ، والرّدّة إلى الكفر بعد الإيمان ، قال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود وغيره : «لا يحلّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان ، أو زنى بعد إحصان ، أو قتل نفس بغير نفس».

وروى الشّيخان وغيرهما عن ابن عمر رضي‌الله‌عنهما عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال ـ وهو حديث متواتر ـ : «أمرت أن أقاتل الناس ـ أي مشركي العرب

١٠٨

بالإجماع ـ حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأنّ محمدا رسول الله ، ويقيموا الصّلاة ، ويؤتوا الزّكاة ، فإذا فعلوا ذلك ، عصموا مني دماءهم وأموالهم ، إلّا بحقّ الإسلام ، وحسابهم على الله».

واشتراط الأمور الثلاثة للتّحقق من إسلام المشركين ؛ لأن النّطق بالشّهادتين يدلّ على ترك عبادة غير الله ، وطاعة الرّسول فيما يبلّغه عن ربّه ، وإقامة الصّلاة خمس مرات في اليوم والليلة ، أمارة على الانخراط في سلك الرّابطة الدّينية الاجتماعية بين المسلمين ، وأداء الزّكاة دليل على احترام النّظام المالي الاجتماعي في الإسلام.

٣ ـ احتجّ الشّافعي بهذه الآية على أنّ تارك الصّلاة يقتل ؛ لأنه تعالى أباح دماء الكفار بجميع الحالات ، ثم حرّمها عند مجموع هذه الثلاثة : وهي التوبة عن الكفر ، وإقامة الصّلاة ، وإيتاء الزّكاة ، فإذا لم يوجد هذا المجموع ، وجب أن يبقى إباحة الدّم على الأصل.

ورأى الجصّاص الحنفي أن المراد من قوله تعالى : (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) قبول لزومهما والتزام فرضهما دون فعلهما (١).

٤ ـ نقل عن أبي بكر الصّدّيق رضي‌الله‌عنه أنه كان يقول في مانعي الزّكاة : «لا أفرّق بين ما جمع الله» وقال أيضا : «لأقاتلنّ من فرّق بين الصّلاة والزّكاة ؛ فإن الزّكاة حقّ المال». وقال ابن عباس : رحم الله أبا بكر ما كان أفقهه.

ولا خلاف بين المسلمين أن من ترك الصّلاة وسائر الفرائض مستحلّا كفر ، ومن ترك السّنن متهاونا فسق ، ومن ترك النّوافل لم يحرج ؛ إلا أن يجحد فضلها

__________________

(١) أحكام القرآن : ٣ / ٨١ ـ ٨٢

١٠٩

فيكفر ؛ لأنه يصير رادّا على الرّسول عليه الصّلاة والسّلام ما جاء به وأخبر عنه (١).

واختلف العلماء فيمن ترك الصّلاة كسلا من غير جحد لها ولا استحلال ؛ فقال مالك والشّافعي : من آمن بالله ، وصدّق المرسلين ، وأبى أن يصلّي قتل.

وقال أبو حنيفة : يسجن ويضرب ، ولا يقتل ؛ لأنه إذا زال حكم القتل بزوال سمة الشّرك ، فالحصر والحبس باق لترك الصّلاة ومنع الزّكاة ، فمن ترك الصّلاة ومنع الزّكاة حبسه الإمام ، فاستفيد الحبس من الآية.

٥ ـ هذه الآية دالّة على أنّ من قال : قد تبت ، أنه لا يجتزأ بقوله حتى ينضاف إلى ذلك أفعاله المحقّقة للتّوبة ؛ لأن الله عزوجل شرط هنا مع التّوبة إقامة الصّلاة ، وإيتاء الزّكاة ، ليحقّق بهما التّوبة. وقال في آية الرّبا : (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ) [البقرة ٢ / ٢٧٩] ، وقال : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا) [البقرة ٢ / ١٦٠].

٦ ـ قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) عام في كل مشرك وفي كل من كفر بالله ، كما ذكر ابن العربي ، لكن السّنّة خصّت منه المرأة والصّبي والرّاهب ، وخصّ من القتل المثلة للنّهي عنها في السّنّة ، وعن قتل الصّبر بالنّبل ونحوه ، وقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رواه أبو داود وابن ماجه عن ابن مسعود : «أعفّ الناس قتلة : أهل الإيمان» ، وقال فيما رواه الجماعة عن شدّاد بن أوس : «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة».

والمراد بالآية : اقتلوا المشركين الذين يحاربونكم (٢). فيقتل مشركو العرب أو يسلموا. وخصّت الآية أيضا بأهل الكتاب بإقرارهم على الجزية فيخيرون بين الإسلام أو الجزية أو القتل ، كما سيأتي في آية : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٨ / ٧٤.

(٢) أحكام القرآن لابن العربي : ٢ / ٨٨٩

١١٠

وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) [التوبة ٩ / ٢٩] وفي حديث بريدة الذي رواه مسلم : «إذا لقيتم المشركين فادعوهم إلى الإسلام ، فإن أبوا فادعوهم إلى أداء الجزية ، فإن فعلوا فخذوا منهم وكفوا عنهم» وهذا الحديث وإن كان عامّا في سائر المشركين إلا أنه استثني منه مشركو العرب بالآية.

وصار قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) خاصّا في مشركي العرب دون غيرهم (١).

٧ ـ دلّ قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) على أنه يغفر لهم ما سلف من الكفر والغدر.

مشروعيّة الأمان

(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦))

الإعراب :

(وَإِنْ أَحَدٌ) : ارتفع (أَحَدٌ) بفعل الشرط المقدر الذي دلّ عليه الظاهر وفسّره ، تقديره : وإن استجارك أحد ، ولا يرتفع بالابتداء ؛ لأن (إِنْ) من حروف الشرط ، لا تدخل إلا على الفعل ، فوجب تقديره ، فارتفع الاسم بعده ؛ لأنه فاعله.

المفردات اللغوية :

(اسْتَجارَكَ) طلب جوارك ، أي حمايتك وأمانك واستأمنك من القتل. (فَأَجِرْهُ) أمّنه. (كَلامَ اللهِ) أي القرآن. (مَأْمَنَهُ) مكان أمنه ، وهو مسكنه الذي يأمن فيه ، أو دار قومه ، إن لم يؤمن ، لينظر في أمره. (ذلِكَ) المذكور. (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) الإسلام أو دين

__________________

(١) أحكام القرآن للجصاص : ٣ / ٨١

١١١

الله وحقيقته ، فلا بدّ لهم من إعطاء الأمان ، لسماع القرآن ، وفهم الحقّ ، ليعلموا ، ولا يبقى لهم معذرة.

المناسبة :

بعد أن أوجب الله تعالى قتال المشركين بعد مهلة الأمان التي هي أربعة أشهر حرم ، لنقضهم العهود ، أبان تعالى أن المطالبة بالإسلام أو القتل لا يعني عدم تمكين المشركين من سماع أدلّة الإيمان ، فلو طلب أحد من المشركين الدّليل والحجّة ، أو جاء طالبا استماع القرآن ، فإنه يجب إمهاله ، ويحرم قتله ، ويجب إيصاله إلى مأمنه ، ليكون على بيّنة وعلم من أمره.

التّفسير والبيان :

بالرّغم من نزول آية السّيف الشّديدة الوطأة على مشركي العرب ، ونظرا لأن الإسلام يحرص على نشر دعوته بالوسائل السلمية ، وبالإقناع والحجة والبرهان ، وأنه ليس الهدف من تشريع الجهاد سفك الدّماء ، وإنما المهم الوصول إلى الإيمان وترك الجحود ، وقبول الدّين والإقرار بالتّوحيد ، بالرّغم من كلّ ذلك وتقديرا لأسباب مشروعية القتال ، وتأكيد الحرص على السّلام ، أرشد الله المؤمنين إلى وجوب قبول الأمان ومنحه لمن استأمن المسلم من المشركين.

والمعنى : وإن جاءك أحد من المشركين الذين نقضوا العهد بعد انقضاء مهلة السياحة في الأرض بحرية مطلقة وهي الأشهر الأربعة ، يطلب الأمان ليسمع كلام الله ويتدبّره ، ويفهم حقيقة الدّين والأمر ، فيجب تأمينه وحمايته حتى يصل إلى غايته ، ويحرم قتله والتّعدّي عليه.

ومتى أراد العودة لبلاده يجب منحه الأمان حتى يصل إلى وطنه الذي يأمن فيه أو داره وبلاده ومأمنه ، ثم قاتله بعدئذ إن شئت من غير غدر ولا خيانة.

١١٢

وهذا الحكم ثابت في كلّ وقت ، قال الحسن رضي‌الله‌عنه : هي محكمة إلى يوم القيامة. وعن سعيد بن جبير : جاء رجل من المشركين إلى علي رضي‌الله‌عنه فقال : إن أراد الرجل منا أن يأتي محمدا بعد انقضاء هذا الأجل يسمع كلام الله ، أو يأتيه لحاجة قتل؟ قال : لا ؛ لأن الله تعالى يقول : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ).

وروي عن السّدّي والضّحّاك رضي‌الله‌عنهما : هي منسوخة بقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ). وردّ القرطبي : والصّحيح أن الآية محكمة ، بدليل ما قاله الإمام علي رضي‌الله‌عنه فيما رواه عنه ابن جبير من الكلام السابق.

ثم قال تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) يعني أن ذلك التّسامح المفهوم من الأمر بإجارة المستجير في قوله تعالى : (فَأَجِرْهُ) وإبلاغه مأمنه ، بسبب أن هؤلاء المشركين قوم جهلة ، لا يعلمون حقيقة الإسلام وما يدعو إليه ، ومن جهل شيئا عاداه ، فلا بدّ من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا ويفهموا الحق.

وبناء عليه كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعطي الأمان لمن جاءه مسترشدا أو حاملا رسالة ، كما جاءه يوم الحديبية جماعة من الرّسل من قريش ، منهم عروة بن مسعود ، ومكرز بن حفص ، وسهيل بن عمرو وغيرهم ، واحدا بعد واحد ، يتردّدون في القضيّة بينه وبين المشركين ، فرأوا من إعظام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما بهرهم ، وما لم يشاهدوه عند ملك ولا قيصر ، فرجعوا إلى قومهم وأخبروهم بذلك. وكان ذلك من أكبر أسباب هداية أكثرهم.

ولما قدم رسولا مسيلمة الكذّاب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لهما : أتشهدان أن مسيلمة رسول الله؟ قالا : نعم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رواه أحمد وأبو داود عن نعيم بن مسعود : «والله لو لا أنّ الرّسل لا تقتل ، لضربت أعناقكما».

والآية تفيد عموم حكم الأمان لأهداف دينيّة أو سياسيّة أو تجاريّة ، قال

١١٣

ابن كثير : والغرض أنّ من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام في أداء رسالة أو تجارة أو طلب صلح أو مهادنة أو حمل جزية أو نحو ذلك من الأسباب ، وطلب من الإمام أو نائبه أمانا ، أعطي أمانا ، ما دام متردّدا في دار الإسلام ، وحتى يرجع إلى مأمنه ووطنه (١).

ونص الحنفيّة والشافعيّة وغيرهم على أن الحربي إذا دخل دار الإسلام مستجيرا لغرض شرعي كسماع كلام الله ، أو دخل بأمان للتّجارة ، وجب تأمينه وحماية نفسه وماله ، إلى أن يبلغ داره التي يأمن فيها ، فإن دخل الحربي دار الإسلام بلا أمان ، كان مغنوما مع ماله. وقال ابن العربي : الآية إنما هي فيمن يريد سماع القرآن والنّظر في الإسلام ، فأما الإجارة لغير ذلك فإنما هي لمصلحة المسلمين ومنفعتهم (٢).

ولا يقتصر الأمر على مجرد كون المستجير طالبا لسماع القرآن ، كما صرّحت الآية ، وإنما يلحق به كونه طالبا لسماع الأدلّة على كون الإسلام حقّا ، وكونه طالبا الجواب عن الشّبهات التي عنده ؛ لأن كلّ هؤلاء يطلبون العلم ويسترشدون عن الحقّ.

والمراد بالسّماع : أن يسمع ما تقوم به الحجّة ، ويتبيّن به بطلان الشّرك وحقيقة التّوحيد والبعث وصدق الرّسول في تبليغه عن الله ، وكلّ ما يدلّ على أنّ الإسلام حقّ ، سواء أكان سورة براءة أو جميع القرآن ، أو غير ذلك من الأدلّة العقليّة والبراهين العلميّة.

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ٣٣٧

(٢) أحكام القرآن : ٢ / ٧٩١

١١٤

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآية ما يأتي :

١ ـ مشروعيّة الأمان ، أي جواز تأمين الحربي إذا طلبه من المسلمين ، ليسمع ما يدلّ على صحّة الإسلام ، وفي هذا سماحة وتكريم في معاملة الكفار ، ودليل على إيثار السّلم.

٢ ـ يجب علينا تعليم كلّ من التمس منّا تعلّم شيء من أحكام الدّين.

٣ ـ يجب على الإمام حماية الحربي المستجير ، وصون دمه وماله ونفسه من الأذى ، ومنع التّعرّض له بأي شيء من ألوان الإيذاء.

٤ ـ يجب على الإمام تبليغه مأمنه ، أي وطنه وبلاده بعد قضاء حاجته ، فلا يجوز تمكينه من الإقامة في دار الإسلام إلا بمقدار قضاء حاجته ، عملا بالآية : (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ)(١) ، قال العلماء : لا يجوز أن يمكّن من الإقامة في دار الإسلام سنة ، ويجوز أن يمكّن من إقامة أربعة أشهر (٢). ونصّ الحنفيّة على أنه يجب على الإمام أن يأمره بالخروج متى انتهت حاجته ، وأن يعلمه بأنه إن أقام بعد الأمر بالخروج سنة في دار الإسلام ، صار ذميّا مواطنا ، وتفرض عليه الجزية (٣).

٥ ـ دلّ قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) على أن التّقليد في الدّين غير مقبول ، وأنه لا بدّ من تكوين الاعتقاد والإيمان بالنّظر والاستدلال ، بدليل إمهال الكفار وتأمينه وتبليغه مأمنه لسماع أدلّة الإيمان ، فلا بدّ من الحجّة والبرهان.

__________________

(١) أحكام القرآن للجصاص : ٣ / ٨٤

(٢) تفسير ابن كثير : ٢ / ٣٣٧

(٣) الجصاص ، المرجع السابق.

١١٥

٦ ـ قوله تعالى : (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) دليل على أن كلام الله عزوجل مسموع عند قراءة القارئ لكلامه. ويدلّ عليه إجماع المسلمين على أنّ القارئ إذا قرأ فاتحة الكتاب أو سورة قالوا : سمعنا كلام الله. لكن ذلك كما قال ابن العربي بواسطة اللغات ، وبدلالة الحروف والأصوات ، أما القدوس فلا مثل له ولا لكلامه.

واستدلّ المعتزلة بهذه الآية على أنّ كلام الله الذي يسمعه كلّ الناس ليس إلا هذه الحروف والأصوات ، وهذه ليست قديمة ، فدلّ هذا على أنّ كلام الله محدث مخلوق غير قديم.

وأجابهم الرّازي بأن الذي نسمعه ليس عين كلام الله على مذهبكم ، وإنما نسمع حروفا وأصواتا فعلها الإنسان. وهذا لا شكّ حادث ، وأما الكلام الأصلي الصادر عن الله فهو قديم قدم الله تعالى.

وهل كلّ أمان من المسلم للحربي نافذ؟ لا شكّ أن أمان السّلطان جائز ؛ لأنه قائم للنّظر في مصالح الأمة وأحوالها ، نائب عن الجميع في جلب المنافع والمضارّ. وأما أمان غير الخليفة فمختلف في بعض حالاته ، فقال الجمهور : يجوز أمان الحرّ والعبد ، والكبير والصّبي ، والرّجل والمرأة ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رواه أحمد والنسائي وأبو داود عن علي : «المسلمون تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم».

وقال أبو حنيفة : لا أمان للعبد والمرأة والصّبي ؛ لأنه لا يسهم لهم في الغنيمة.

١١٦

أسباب البراءة من عهود المشركين وقتالهم

(كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠))

الإعراب :

(كَيْفَ يَكُونُ) كيف : محلها النصب على التشبيه بالظرف أو الحال. ويكون إما تامة أو ناقصة ، وعهد : اسمها ، وخبرها إما (كَيْفَ) أو (لِلْمُشْرِكِينَ) أو (عِنْدَ اللهِ).

(إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ) هم المستثنون من قبل ، ومحله النصب على الاستثناء ، أو الجر على البدل أو الرفع على أن الاستثناء منقطع ، أي ولكن الذين عاهدتم فاستقيموا لهم.

(فَمَا اسْتَقامُوا) ما : شرطية أو مصدرية.

(وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) جملة الشرط حال ، أي حالهم أنهم لا يراعوا حلفا.

المفردات اللغوية :

(كَيْفَ يَكُونُ) أي لا يكون ، وهو استفهام في معنى الاستنكار والاستبعاد لأن يكون لهم عهد وهم أعداء حاقدون. (لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ) وهم كافرون بالله ورسوله غادرون. (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) يوم الحديبية وهم قريش المستثنون من قبل. (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ) أقاموا على العهد ولم ينقضوه. (فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) على الوفاء بالعهد.

١١٧

(كَيْفَ) يكون لهم عهد ، تكرار لاستبعاد ثبات المشركين على العهد ، وحذف الفعل لكونه معلوما. (وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) يظفروا بكم ويغلبوكم. (لا يَرْقُبُوا) لا يراعوا ، ومنه : فلان لا يرقب الله في أموره ، أي لا ينظر إلى عقابه. (إِلًّا) الإل : الحلف ، وقيل : القرابة ، واشتقاق الإلّ بمعنى الحلف ؛ لأنهم كانوا إذا تحالفوا ، رفعوا به أصواتهم وشهروه ، من الإل : وهو الجؤار. وسميت به القرابة لأن القرابة عقدت بين الرجلين ما لا يعقده الميثاق. (وَلا ذِمَّةً) الذمة والذمام : العهد ، الذي يلزم من ضيّعه الذمّ. (فاسِقُونَ) المراد به هنا ناقضون للعهد والميثاق ، متجاوزون ما يوجبه الصدق والوفاء. والعهد : ما يتفق طرفان من الناس على التزامه بينهما لمصلحتهما المشتركة ، فإن أكداه بما يقتضي زيادة العناية بحفظه والوفاء به سمي ميثاقا ، وإن أكداه باليمين خاصة سمي يمينا.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى براءة الله ورسوله من عهود المشركين ، وإعلان الحرب عليهم بعد أربعة أشهر إلا من يستجير أو يستأمن لسماع كلام الله أو للرسالة أو للتجارة ، أبان سبب البراءة من المشركين وإمهاله إياهم أربعة أشهر ، ثم مناجزتهم بكل أنواع القتال ، وهو نقضهم العهود ومعاملتهم بالمثل.

التفسير والبيان :

كيف يكون للمشركين الناكثين للعهد عهد محترم عند الله وعند رسوله؟ وهذا استفهام بمعنى الإنكار والاستبعاد لأن يكون لهم عهد ، وهم في الواقع أعداء الداء حاقدون مضمرون الغدر ، مشركون بالله ، كافرون به وبرسوله ، يعني محال أن يثبت لهم عهد ، فلا تطمعوا في ذلك. وهذا بيان حكمة البراءة وسببها.

ثم استدرك واستثنى الذين عاهدتم عند المسجد الحرام ، وهم بنو بكر وبنو ضمرة الذين لم ينقضوا عهودهم المعقودة معهم يوم الحديبية ، أي ليس العهد إلا لهؤلاء الذين لم ينقضوا ولم ينكثوا ، وهم المستثنون من قبل في قوله : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً).

١١٨

والمراد بالمسجد الحرام : جميع الحرم كما هي عادة القرآن ، إلا ما استثني ، فالعندية فيه على حذف مضاف أي قرب المسجد الحرام.

فهؤلاء حكمهم أنهم ما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ، أي فما أقاموا على الوفاء بعهدكم ، فأقيموا لهم على مثل ذلك. فأما من لا عهد له فقاتلوه حيث وجدتموه إلا أن يتوب. وهو كقوله : (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) غير أن الكلام هنا مطلق ، والآية النظير مقيدة. وأعيد ذكرهم هنا لبيان أنه يجب أن تكون الاستقامة على العهد مرعية من الطرفين المتعاقدين إلى نهاية المدة ، وأما غيرهم فينبذ عهدهم.

ثم أكد الله تعالى ضرورة الوفاء لهم بالعهد بقوله : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) أي يرضى عن الذين يوفون بالعهد ، ويتقون الغدر ونقض العهد. وهذا تعليل لوجوب الامتثال ، وتبيين بأن مراعاة العهد من باب التقوى ، وإن كان المعاهد مشركا.

ثم كرر الله تعالى قوله : (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا) لاستبعاد ثبات المشركين على العهد ، أي كيف يكون لغير الذين يوفون بعهدهم عهد مشروع محترم واجب الوفاء عند الله وعند رسوله؟ والحال أنهم إن يظفروا بكم ، لم يراعوا حلفا ولا قرابة ولا عهدا. وهذا تحريض للمؤمنين على معاداتهم والتبري منهم ، وتبيان أنهم لا يستحقون أن يكون لهم عهد ، لشركهم بالله تعالى وكفرهم برسوله ، ولأنهم إن تغلبوا على المسلمين لم يبقوا ولم يذروا ، ولا يراعوا فيهم إلّا ولا ذمة أي حلفا وعهدا.

ومن خبثهم وضغينتهم أنهم قوم مخادعون يظهرون الكلام الحسن بأفواههم ، وقلوبهم مملوءة حقدا وحسدا وكراهية : (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) [الفتح ٤٨ / ١١] وأكثرهم فاسقون أي متمردون لا عقيدة تزعهم ولا مروءة تردعهم ،

١١٩

خارجون من أصول الدين والمروءة والأخلاق ، متجاوزون حدود الصدق والوفاء ، متحللون من قيود العهد والميثاق. وقال : (أَكْثَرُهُمْ) لأن نقض العهد كان من الأكثرين ، وهناك أقلية حافظت على الوفاء بالعهد ، استثناهم تعالى وأمر بالوفاء بعهدهم.

ثم ذكر تعالى سببين آخرين للبراءة والقتال وهما :

١ ـ إنهم اشتروا أي اعتاضوا واستبدلوا بآيات الله الدالة على الحق والخير والتوحيد ثمنا قليلا حقيرا من متاع الدنيا ، وهو اتباع الأهواء والشهوات ، والالتهاء بأمور الدنيا الخسيسة ، فصدوا عن سبيله ، أي عدلوا بسبب هذا الشراء الخسيس أنفسهم عن الإسلام وأخلاقه ، وصرفوا أيضا غيرهم عنه ، فمنعوا الناس من اتباع الدين الحق ، إنهم ساء ما كانوا يعملون ، أي بئس العمل عملهم ، وقبح ما ارتضوه لأنفسهم من الكفر والضلالة والصدّ عن دين الله ، بدلا من الإيمان والهدى ، واتباع شرع الله. روي أن أبا سفيان لما أراد إقناع قريش وحلفائها بنقض عهد الحديبية ، صنع لهم طعاما استمالهم به ، فأجابوه إلى ما طلب.

٢ ـ وهم من أجل كفرهم لا يراعون في شأن مؤمن قدروا على الفتك به حلفا ولا قرابة ولا عهدا على الإطلاق ، وأولئك هم المعتدون ، أي المجاوزون الغاية في الظلم والشر ، فهم لا يفهمون بغير لغة السيف ، والخضوع للقوة لا للعهد والذمة ، وقد أثبت التاريخ أنهم كذلك في الواقع. وقد أجمل القرآن صفاتهم بأنهم أولا هم الفاسقون ، وثانيا بأنهم المعتدون ، فكيف يحترمون العهود؟

وقوله هنا : (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) ليس تكرارا ؛ لأن الأول لجميع المشركين ، والثاني لليهود خاصة ، بدليل قوله : (اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) يعني اليهود ، فلو أريد بالثاني المشركون كان تكرارا للتأكيد والتفسير.

١٢٠