التفسير المنير - ج ١٠

الدكتور وهبة الزحيلي

وجمهور أئمة السلف على تقديم عثمان على علي رضي‌الله‌عنهم أجمعين. وتضمنت آية (إِلَّا تَنْصُرُوهُ) أيضا معجزتين هما : تأييد الله نبيه بجند من الملائكة في قوله : (وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) والضمير يعود إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحماية الله نبيه في الغار من أذى المشركين في قوله : (إِذْ هُما فِي الْغارِ) والمراد غار ثور.

وقصة الهجرة ومعجزة الغار هي بإيجاز : لما رأت قريش أن المسلمين قد صاروا إلى المدينة ، قالوا : هذا شر شاغل لا يطاق ؛ فأجمعوا أمرهم على قتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فبيّتوه ورصدوه على باب منزله طوال ليلتهم ، ليقتلوه إذا خرج ؛ فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علي بن أبي طالب أن ينام على فراشه (١) ، ودعا الله أن يعمّي عليهم أثره ، فطمس الله على أبصارهم ، فخرج وقد غشيهم النوم ، فوضع على رؤوسهم ترابا ونهض ، فلما أصبحوا ، خرج عليهم علي رضي‌الله‌عنه ، وأخبرهم أن ليس في الدار أحد ، فعلموا أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد فات ونجا.

وتواعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أبي بكر الصديق للهجرة ، فدفعا راحلتيهما إلى عبد الله بن أرقط ، ويقال : ابن أريقط ، وكان كافرا ، لكنهما وثقا به ، وكان دليلا بالطرق ، فاستأجراه ليدل بهما إلى المدينة.

وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خوخة (ثغرة) في ظهر دار أبي بكر التي في بني جمح ، ونهضا نحو الغار في جبل ثور.

وأمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يستمع ما يقول الناس ، وأمر مولاه عامر بن فهيرة أن يرعى غنمه ، ويريحها (يردّها) عليهما ليلا ، فيأخذا منها حاجتهما. ثم نهضا فدخلا الغار.

__________________

(١) وفي هذا مخاطرة وفضل كبير أيضا لسيدنا علي كرم الله وجهه ، وهي طاعة عظيمة ومنصب رفيع.

٢٢١

وكانت أسماء بنت أبي بكر الصديق تأتيهما بالطعام ، ويأتيهما عبد الله بن أبي بكر بالأخبار ، ثم يتلوهما عامر بن فهيرة بالغنم ، فيعفّي آثارهما ، فلما فقدته قريش جعلت تطلبه بقائف معروف بقفاء الأثر ، حتى وقف على الغار ، فقال : هنا انقطع الأثر ، فنظروا فإذا بالعنكبوت قد نسج على فم الغار من ساعته (١) ؛ ولهذا نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن قتله. فلما رأوا نسج العنكبوت أيقنوا أن لا أحد فيه ، فرجعوا وجعلوا في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مائة ناقة لمن ردّه عليهم ، والخبر مشهور ، وقصة سراقة بن مالك بن جعشم في ذلك مشهورة أيضا.

وقد روي من حديث أبي الدرداء وثوبان رضي‌الله‌عنهما : أن الله عزوجل أمر حمامة ، فباضت على نسج العنكبوت ، وجعلت ترقد على بيضها ، فلما نظر الكفار إليها ردهم ذلك عن الغار.

روى البخاري عن عائشة قالت : استأجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبو بكر رجلا من بني الدّيل هاديا خرّيتا (٢) ، وهو على دين كفار قريش ، فدفعا إليه راحلتيهما ، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال ، فأتاهما براحلتيهما صبيحة ثلاث ، فارتحلا وارتحل معهما عامر بن فهيرة والدليل الدّيلي ، فأخذ بهما طريق الساحل ، أي موضع بعينه ، ولم يرد به ساحل البحر.

قال المهلب : وفي هذا من الفقه ائتمان أهل الشرك على السرّ والمال إذا علم منهم وفاء ومروءة ، كما ائتمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا المشرك على سرّه في الخروج من مكة وعلى الناقتين. وقال ابن المنذر : فيه استئجار المسلمين الكفار على هداية الطريق (٣).

__________________

(١) هذا ثابت في صحاح السيرة ، وإن لم يثبته أهل الحديث.

(٢) الخرّيت : الدليل الحاذق والماهر بطرق المفاوز.

(٣) تفسير القرطبي : ٨ / ١٤٤ وما بعدها.

٢٢٢

وفي قوله تعالى : (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى ...) دلالة واضحة على أنه تعالى جعل يوم بدر كلمة الشرك مغلوبة خاسئة حقيرة ، وأن كلمة الله هي العليا ، وهي قوله: لا إله إلا الله.

وختام الآية : (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فيه بيان مقتضب يدل على قدرة الله الباهرة وحكمته العالية ، فالله قاهر غالب ، لا يفعل إلا الصواب.

النفر للجهاد في سبيل الله

(انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١))

الإعراب :

(خِفافاً وَثِقالاً) منصوبان على الحال من واو (انْفِرُوا).

البلاغة :

(خِفافاً وَثِقالاً) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(انْفِرُوا) أصل النفر : الخروج إلى مكان ، لأمر واجب ، والمراد هنا الحث على الجهاد والدعوة إليه ، ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رواه النسائي عن صفوان بن أمية : «إذا استنفرتم فانفروا» واسم ذلك القوم الذين يخرجون : النفير ، ومنه قولهم : فلان لا في العير ولا في النفير. (خِفافاً وَثِقالاً) نشاطا وغير نشاط ، وقيل : أقوياء وضعفاء ، كهولا وشبانا ، في العسر واليسر ، أو أغنياء وفقراء ، ثم خفف الأمر على الضعفاء بآية : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ ...) [التوبة ٩ / ٩١]. (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أنه خير لكم فلا تتثاقلوا.

٢٢٣

سبب النزول :

أخرج ابن جرير عن حضرمي : أنه ذكر له أن أناسا ربما كان أحدهم عليلا أو كبيرا ، فيقول: إني آثم ، فأنزل الله تعالى : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً).

وعن أبي طلحة : كهولا وشبانا ، ما سمع الله عذر أحد. ثم خرج إلى الشام فقاتل حتى قتل.

وعن مجاهد : قالوا : فإن فينا الثقيل وذا الحاجة والضيعة والشغل والمتيسر به أمره ، فأنزل الله تعالى ، وأبى أن يعذرهم دون أن ينفروا : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) أي على ما كان منهم.

والخلاصة : نزلت الآية في الذين اعتذروا بالضيعة والشغل ، فأبى الله أن يعذرهم دون أن ينفروا على ما كان منهم.

التفسير والبيان :

موضوع الآية : أمر الله تعالى بالنفير العام مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عام غزوة تبوك ، لقتال أعداء الله من الروم الكفرة من أهل الكتاب ، وحتّم على المؤمنين في الخروج معه على كل حال ، في المنشط والمكره والعسر واليسر. والمعنى : اخرجوا إلى الجهاد على كل حال من يسر أو عسر ، صحة أو مرض ، غنى أو فقر ، شغل أو فراغ منه ، كهولة أو شباب ، نشاط وغير نشاط ، أي خفاف في النفر لنشاطكم له ، وثقال عنه لمشقته عليكم.

(وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) أي قاتلوا أعداءكم الذين يقاتلونكم ، وفيه إيجاب للجهاد بالنفس والمال إن أمكن ، أو بأحدهما على حسب الحال ، فمن قدر على

٢٢٤

الجهاد بنفسه وماله ، وجب عليه ذلك ، ومن قدر على الجهاد بالنفس فقط ، أو بالمال فقط ، وجب عليه.

ذلكم المأمور به من النفر والجهاد خير لكم في الدنيا والآخرة ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رواه الشيخان والنسائي عن أبي هريرة : «تكفل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة ، أو يرده إلى منزله بما نال من أجر أو غنيمة».

(إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ذلك وأنه خير ، فانفروا ولا تتثاقلوا.

فقه الحياة أو الأحكام :

الآية تدل على إيجاب الجهاد والنفير العام في غزوة تبوك ، لكن روي عن ابن عباس وآخرين أنها منسوخة بقوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى) [التوبة ٩ / ٩١].

قال القرطبي : والصحيح أنها ليست بمنسوخة. ويبقى الجهاد فرض عين إذا تعيّن بغلبة العدو على قطر من الأقطار ، فيجب حينئذ على جميع أهل تلك الدار أن ينفروا ويخرجوا إلى الجهاد خفافا وثقالا ، شبانا وشيوخا ، كلّ على قدر طاقته ، يخرج الابن بغير إذن أبيه ، ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج. فإن عجز أهل تلك البلدة عن القيام بدحر العدو ، كان على من قاربهم وجاورهم أن يخرجوا لتحقيق الهدف المرجو ، فالمسلمون كلهم يد واحدة على من سواهم ، حتى إذا قام هؤلاء بدفع العدو سقط الفرض عن الباقين.

ولو قارب العدو دار الإسلام ، ولم يدخلوها ، لزم المسلمين أيضا الخروج إليه ، حتى تعلو كلمة الله ، وتصان البلاد ، ويخزي العدو.

وفرض أيضا على الإمام غزو الأعداء كل سنة مرة ، حتى يدخلوا الإسلام ،

٢٢٥

أو يعطوا الجزية عن يد (١).

وقد بادر الصحابة لتنفيذ هذا الأمر الإلهي الحاسم العام ، فقال أبو أيوب الأنصاري ـ وقد شهد المشاهد كلها إلا غزاة واحدة ـ : قال الله تعالى : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) فلا أجدني إلا خفيفا أو ثقيلا.

وروى ابن جرير الطبري عن أبي راشد الحرّاني قال : وافيت المقداد بن الأسود فارس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جالسا على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص ، وقد فصل عنها من عظمه ، يريد الغزو ، فقلت : قد أعذر الله إليك ، فقال : أتت علينا سورة البعوث (أي سورة براءة): (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً).

وروى ابن جرير أيضا عن صفوان بن عمرو قال : كنت واليا على حمص ، فلقيت شيخا قد سقط حاجباه ، من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو ، قلت : يا عم ، أنت معذور عند الله ، فرفع حاجبيه ، وقال : يا ابن أخي ، استنفرنا الله خفافا وثقالا ، ألا إن من أحبه الله ابتلاه.

والجهاد واجب بالنفس والمال إذا قدر عليهما ، أو على أحدهما ، على حسب الحال والحاجة ، فقد كان المسلمون ينفقون على أنفسهم من أموالهم ، وهم يعدّون السلاح ، وقد ينفقون على غيرهم ، كما فعل عثمان رضي‌الله‌عنه في تجهيز جيش العسرة في غزوة تبوك ، وكما فعل غيره من أغنياء الصحابة. فهذه الآية : (انْفِرُوا) تتناول القادر المتمكن ؛ إذ عدم الاستطاعة عذر في التخلف.

ولما أصبح في بيت المال وفر وسعة ، صار الحكام يجهزون الجيوش من بيت المال ، وهذا هو المتبع الآن ، حيث تخصص بنود من الميزانية كل عام لنفقات الحرب والدفاع ، وتزاد الميزانية عند الحاجة.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٨ / ١٥٠ ـ ١٥٢

٢٢٦

وللجهاد ثمرة يانعة عظيمة ، فهو يحقق إحدى الحسنيين : إما النصر ، وما الشهادة في سبيل الله ، وفي ذلك من الخير العظيم مالا يوصف ، سواء في الدنيا بإعلاء كلمة الله وإعزاز المسلمين ، وفي الآخرة بالقرار في نعيمها والاستمتاع بخلود الجنة ، ولا يقدّر هذا إلا المؤمن الصادق الإيمان ، الذي يؤمن بأن القيامة حق ، وبأن الثواب والعقاب فيها حق وصدق.

فما يستفاد بالجهاد من نعيم الآخرة خير وأعظم مما يستفيده القاعد عنه من الراحة والدعة والتنعم بهما ، ولا تدرك هذه الخيرات إلا بالتأمل ، ولا يعرفها إلا المؤمن بالآخرة ، لذا قال الله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

تخلف المنافقين عن غزوة تبوك وقضية الإذن لهم

(لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٤٢) عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (٤٣) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥))

الإعراب :

(بِاللهِ) متعلق ب (سَيَحْلِفُونَ) أو هو من جملة كلامهم ، والقول مراد في الوجهين ، أي سيحلفون ، يعني المتخلفين ، عند رجوعك من غزوة تبوك ، معتذرين يقولون: (بِاللهِ).

٢٢٧

(لَخَرَجْنا) سادّ مسدّ جوابي القسم والشرط. وهذا من المعجزات ؛ لأنه إخبار عما وقع قبل وقوعه.

(يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ) إما أن يكون بدلا من (سَيَحْلِفُونَ) أو حالا بمعنى : مهلكين. ويحتمل أن يكون حالا من قوله : (لَخَرَجْنا) أي لخرجنا معكم ، وإن أهلكنا أنفسنا وألقيناها في التهلكة بما نحملها من المسير في تلك المشقة.

(أَنْ يُجاهِدُوا) في موضع نصب بإضمار : في ، وقيل : التقدير كراهية أن يجاهدوا ، مثل : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) [النساء ٤ / ١٧٦].

البلاغة :

(بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) استعار الشقة للمسافة الطويلة البعيدة الشاقة.

(عَفَا اللهُ عَنْكَ) كناية عن خطئه في الإذن ؛ لأن العفو يعقب الخطأ ، وهو خبر قصد به تقديم المسرة على المضرة ، وإن من لطف الله بالنبي أن بدأه بالعفو قبل العتاب.

(لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) بيان لما كني عنه بالعفو ، ومعناه : مالك أذنت لهم في القعود عن الغزو حين استأذنوك وهلا استأنيت بالإذن؟

المفردات اللغوية :

(لَوْ كانَ) ما دعوتهم إليه من الخروج للجهاد (عَرَضاً) متاعا من الدنيا قريبا سهل المأخذ ، أو ما يعرض من منافع الدنيا ، ويكون غنيمة قريبة (سَفَراً قاصِداً) أي سهلا لا عناء فيه ولا مشقة ، أي وسطا معتدلا (لَاتَّبَعُوكَ) طلبا للغنيمة (الشُّقَّةُ) المسافة البعيدة التي تحتاج لعناء ومشقة (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ) إذا رجعتم إليهم (لَوِ اسْتَطَعْنا) الخروج (يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ) بالحلف الكاذب (عَفَا اللهُ عَنْكَ) العفو : التجاوز عن الخطأ وترك المؤاخذة عليه (إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ) في التخلف (وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ) شكت قلوبهم في الدين (يَتَرَدَّدُونَ) يتحيرون.

سبب النزول : نزول الآية (٤٣):

(عَفَا اللهُ عَنْكَ) : أخرج ابن جرير الطبري عن عمرو بن ميمون الأزدي قال : اثنتان فعلهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يؤمر فيهما بشيء : إذنه للمنافقين ، وأخذ

٢٢٨

الفداء من الأسارى ، فأنزل الله : (عَفَا اللهُ عَنْكَ ، لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ). وهذا مروي أيضا عن قتادة.

قال بعض العلماء : إنما بدر منه ترك الأولى ، فقدّم الله العفو على الخطاب الذي هو في صورة العتاب.

وهو عتاب تلطف ؛ إذ قال : (عَفَا اللهُ عَنْكَ). وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أذن من غير وحي نزل فيه.

المناسبة :

بعد أن بالغ الله تعالى في ترغيب المؤمنين في الجهاد في سبيل الله ، ووبخ المتثاقلين عنه بقوله: (ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ : انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) عاد إلى تقرير كونهم متثاقلين ، وبيّن أن أقواما ، مع كل ما تقدم من الوعيد والحث على الجهاد ، تخلفوا عن غزوة تبوك ، وأما الأكثر فكان يلبي نداء الجهاد بسرعة ونشاط ؛ لأنهم ينتظرون إحدى الحسنيين : إما الشهادة ، وإما النصر.

فهذه الآيات نزلت في المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك ، وهي أول ما نزل في التفرقة بين المنافقين والمؤمنين في القتال ، لذا سميت سورة براءة كما بينت آنفا «الفاضحة» لأنها فضحت أحوال المنافقين ، قال ابن عباس : لم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعرف المنافقين حتى نزلت سورة براءة أي لم يعرف شؤونهم مفصلة ، فلما رجع من غزوة تبوك أظهر الله نفاق قوم.

التفسير والبيان :

وبخ الله تعالى في هذه الآيات المتخلفين عن غزوة تبوك ، الذين استأذنوا

٢٢٩

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التخلف ، مظهرين أنهم ذوو أعذار ، ولم يكونوا كذلك ، فقال : (لَوْ كانَ عَرَضاً ...).

أي لو كان الأمر الذي دعوتهم إليه غنيمة أو منفعة قريبة المنال ، أو سفرا سهلا قريبا لا عناء فيه ، لاتبعوك أي لجاؤوا معك ، وسارعوا إلى الذهاب ، ولكنهم تخلفوا حينما رأوا أن السفر شاق إلى مسافة بعيدة إلى الشام ، وأن القتال لأكبر قوة في العالم وهم الروم حينذاك ، فآثروا الجبن والراحة والسلامة ، والتفيؤ في الظلال وقت الحر والقيظ ، فدل ذلك على انهم جماعة نفعيون ماديون دنيويون ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة : «لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقا ـ أي عظما عليه لحم ـ سمينا أو مرماتين (١) حسنتين ، لشهد العشاء» أي لو علم أحدهم أنه يجد شيئا ماديا حاضرا معجّلا يأخذه ، لأتى المسجد من أجله.

ثم أخبر الله تعالى عن شيء سيقع منهم فقال : (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ) أي سيقسمون بالله اليمين الكاذبة عند رجوعك من غزوة تبوك ، كما قال : (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ) [التوبة ٩ / ٩٤](يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ) [التوبة ٩ / ٩٦] قائلين : (لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ) ، أي لو لم يكن لنا أعذار لخرجنا معكم.

(يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ) في العذاب باليمين الكاذبة أو بالكذب والنفاق ، كما قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رواه خيثمة بن سليمان : «اليمين الغموس تدع الديار بلاقع».

(وَاللهُ يَعْلَمُ ، إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في الاعتذار والاعتلال وحلفهم بالله ، وقولهم : لو استطعنا الخروج لخرجنا معكم ، فإنهم لم يكونوا ذوي أعذار ، وإنما كانوا أقوياء الأجسام ، وأصحاب يسار. قال قتادة : لقد كانوا يستطيعون الخروج ، ولكن كان تبطئة من عند أنفسهم وزهادة في الجهاد.

__________________

(١) المرماتان : تثنية مرماة : وهي ظلف الشاة ، أو ما بين ظلفها من اللحم.

٢٣٠

ثم عاتب الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إذنه لطائفة ممن تخلف من هؤلاء المنافقين ، فقال : (عَفَا اللهُ عَنْكَ ...) أي سامحك الله بإذنك لهم ، لم أذنت لهم بالتخلف ، وهلا استأنيت بالإذن وتوقفت عنه حتى تظهر لك الحقيقة ، ويتبين لك الفريقان : الذين صدقوا ، والذين كذبوا في إبداء الأعذار ، وهلا تركتهم لما استأذنوك لتعلم الصادق منهم من الكاذب ، فإنهم كانوا مصرين على التخلف وإن لم تأذن لهم فيه. على أن الله كره انبعاثهم ، وكان في خروجهم ضرر وخطر على المسلمين.

قال مجاهد : نزلت هذه الآية في أناس قالوا : استأذنوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإن أذن لكم فاقعدوا ، وإن لم يأذن لكم فاقعدوا.

لهذا أخبر الله تعالى أنه لا يستأذنه في القعود عن الغزو أحد يؤمن بالله ورسوله ، فقال: (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ ...) أي لا يستأذنك في القعود عن الغزو المؤمنون بالله واليوم الآخر في أن يجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ، بل يقدمون على الجهاد من غير استئذان ؛ لأنهم يرون أن الجهاد قربة وسبيل إلى الجنة ، كما قال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ، ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا ، وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [الحجرات ٤٩ / ١٥].

فليس من شأن المؤمنين ولا من عادتهم أن يستأذنوك في الجهاد ، وكان أكابر المهاجرين والأنصار يقولون : لا نستأذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الجهاد ، فإن ربنا ندبنا إليه مرة بعد أخرى ، فأي فائدة في الاستئذان؟

والله عليم بالمتقين خبير بمن خافه فاتقاه ، باجتناب ما يسخطه ، وفعل ما يرضيه.

عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال فيما رواه مسلم وابن ماجه عن

٢٣١

أبي هريرة : «من خير معاش الناس لهم : رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله ، يطير على متنه ، كلما سمع هيعة أو فزعا ، طار على متنه ، يبتغي القتل والموت في مظانّه ...» أي خير أعمال الرجل إعداد فرسه في سبيل الله ، كلما سمع صيحة لقتال أو دعوة لجهاد ، أقدم قاصدا الاستشهاد في المواضع التي يظن فيها ذلك.

وإذا كان أهل الإيمان لا يستأذنون للجهاد عادة ، فإن الذي يستأذنك في التخلف عن الجهاد من غير عذر ، إنما هم المنافقون الذين لا يصدّقون بالله واليوم الآخر ، ولا يرجون ثواب الله في الدار الآخرة على أعمالهم ، وشكّت قلوبهم في صحة ما جئتم به ، فهم في شكهم أو ريبهم يتحيرون ، ليس لهم ثبات على شيء ، فهم قوم حيارى هلكى.

روي أن عدد هؤلاء كان تسعة وثلاثين رجلا.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يلي :

١ ـ إن الأيمان الكاذبة توجب الهلاك ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديث المتقدم عن خيثمة بن سليمان : «اليمين الغموس تدع الديار بلاقع».

٢ ـ الجهاد يتطلب التضحية والإيمان ، للتغلب على أهواء النفس ، وميلها إلى حب المنافع المادية العاجلة ، وإيثارها على الباقي الدائم الخالد.

٣ ـ القرآن معجز لأسباب كثيرة منها إخباره عن المغيبات في المستقبل ، مثل إخباره تعالى هنا أنهم سيحلفون ، والأمر لما وقع كما أخبر ، كان هذا إخبارا عن الغيب ، فكان معجزا.

٤ ـ كان تقديم العفو على العتاب واللوم بالإذن للمنافقين بالتخلف عن غزوة تبوك لطفا عظيما من الله برسوله ، ومبالغة في تعظيمه وتوقيره ، وهو أخف من

٢٣٢

العتاب على قبوله مفاداة أسرى بدر ، الذي صدر بتقرير حازم صارم في قوله تعالى : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) [الأنفال : ٨ / ٦٧].

أما ما احتج به بعضهم بهذه الآية على صدور الذنب عن الرسول من وجهين : الأول ـ إصدار العفو ، والعفو يستدعي سابقة الذنب ، والثاني ـ الاستفهام الإنكاري في قوله تعالى : (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) فيجاب عن الأول بأنا لا نسلم أن قوله : (عَفَا اللهُ عَنْكَ) يوجب الذنب ، وإنما ذلك دليل على مبالغة الله في تعظيم نبيه وتوقيره. ويجاب عن الثاني بأنه بعد حصول العفو عنه يستحيل أن يتوجه الإنكار عليه ، ويحمل قوله : (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) على ترك الأولى والأكمل ، لا سيما وهذه الوقعة من قضايا الحرب ومصالح الدنيا التي يجوز للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الاجتهاد فيها اتفاقا ، فكان ما حكم به صادرا بمقتضى الاجتهاد.

٥ ـ دل قوله : (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ ..) على وجوب الاحتراز عن العجلة ، ووجوب التثبت والتأني ، وترك الاغترار بظواهر الأمور ، والمبالغة في التفحص والتريث.

٦ ـ قال قتادة : عاتبه الله كما تسمعون في هذه الآية ، ثم رخص له في سورة النور ، فقال : (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) [٦٢].

٧ ـ لا ينبغي الاستئذان في أداء شيء من الواجبات ، وفضائل العادات مثل إكرام الضيف ، وإغاثة الملهوف ، وفعل المعروف ، قال تعالى : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ ، أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) [النساء ٤ / ١١٤].

٨ ـ المنافقون غير مؤمنين بالله ورسوله واليوم الآخر ، وعدم إيمانهم إنما كان بسبب الشك والريب ، لا بسبب الجزم والقطع بعدمه ، وهذا يدل على أن الشاك المرتاب غير مؤمن بالله تعالى.

٢٣٣

٩ ـ قوله : (أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) دليل على أن الجهاد نوعان : جهاد بالمال وجهاد بالنفس. والجهاد بالمال له وجهان : إنفاق المال في التسليح والإعداد المادي الذي تتطلبه المعارك عادة ، وإنفاق المال على المجاهدين وأسرهم وإعانتهم بالزاد والعتاد. والجهاد بالنفس أنواع منها : مباشرة القتال بالفعل وهو الأفضل ، ومنها التحريض على القتال والأمر به ، ومنها الإخبار بعورات العدو ومواطن الضعف لديه ، والإرشاد إلى مكايد الحرب ، وتنبيه المسلمين إلى الأولى والأصلح في أمر الحروب ، كما قال الحباب بن المنذر حين نزل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببدر ، فقال : يا رسول الله ، أهذا رأي رأيته أم وحي؟ فقال : بل رأي رأيته ، قال : فإني أرى أن تنزل على الماء وتجعله خلف ظهرك ، وتغوّر الآبار التي في ناحية العدو ، ففعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك. ومنها بيان ما افترض الله من الجهاد وذكر الثواب الجزيل لمن قام به والعقاب لمن قعد عنه.

وأي الجهادين أفضل ، أجهاد النفس والمال ، أم جهاد العلم؟ الحقيقة أن جهاد العلم أصل ، وجهاد النفس فرع ، والأصل أولى بالتفضيل من الفرع.

فإذا كان النفير عاما : تعين فرض الجهاد على كل أحد ، فيكون الاشتغال في هذه الحال بالجهاد أفضل من تعلم العلم ؛ لأن ضرر العدو إذا وقع بالمسلمين لم يمكن تلافيه ، وتعلم العلم ممكن في سائر الأحوال ، ولأن تعلم العلم فرض على الكفاية ، لا على كل أحد في خاصة نفسه.

وأما إذا لم يكن النفير عاما : ففرض الجهاد على الكفاية ، مثل تعلم العلم ، إلا أن الاشتغال بالعلم في هذه الحال أولى وأفضل من الجهاد ، لعلو مرتبة العلم على مرتبة الجهاد ؛ لأن ثبات الجهاد بثبات العلم ، ولأن الجهاد فرع عن العلم ومبني عليه (١).

__________________

(١) أحكام القرآن للجصاص : ٣ / ١١٩

٢٣٤

ويجوز الجهاد وإن كان أمير الجيش فاسقا ، وجنوده فساقا ، وقد كان أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يغزون بعد الخلفاء الأربعة مع الأمراء الفساق ، وقد غرا أبو أيوب الأنصاري مع يزيد بن أبي سفيان. وإذا جاهد الفساق فهم مطيعون في ذلك. ثم إن الجهاد نوع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولو رأينا فاسقا يأمر بمعروف وينهى عن منكر ، كان علينا معاونته على ذلك ، فكذلك الجهاد (١).

الدليل على تخلف المنافقين بغير عذر وخطر خروجهم للقتال

(وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ (٤٨))

الإعراب :

(يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) جملة فعلية في موضع نصب على الحال من الواو في (وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ). و (الْفِتْنَةَ) : مفعول به ثان.

البلاغة :

(لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً) و (اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) بينهما جناس اشتقاق.

(وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ) الأصل : ولأوضعوا ركائبهم بينكم بالنميمة ، والتضرية أو الهزيمة ، أو

__________________

(١) المرجع السابق.

٢٣٥

لسعوا بينكم بالنمائم وإفساد ذات البين ، يقال : وضع البعير وضعا : إذا أسرع ، وأوضعته أنا. فيه استعارة تبعية حيث شبه سرعة إفسادهم ذات البين بالنميمة بسرعة سير الراكب ، ثم أستعير لها الإيضاع وهو للإبل.

المفردات اللغوية :

(وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ) معك (لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً) أهبة من السلاح والزاد ، فالعدة : هي ما يعده الإنسان ويهيئه لما يفعله في المستقبل ، وهو نظير الأهبة (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ) استدراك عن مفهوم قوله : (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ) كأنه قال : ما خرجوا ، ولكن تثبطوا ، لأنه تعالى كره انبعاثهم ، أي نهوضهم للخروج (فَثَبَّطَهُمْ) فحبسهم وعوقهم بالجبن والكسل (وَقِيلَ: اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) تمثيل لإلقاء الله كراهة الخروج في قلوبهم ، أو وسوسة الشيطان بالأمر بالقعود ، أو حكاية قول بعضهم لبعض ، أو إذن الرسول لهم ، والقاعدين يحتمل المعذورين وغيرهم ، وعلى الوجهين لا يخلو عن ذم (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ) بخروجهم شيئا (إِلَّا خَبالاً) فسادا وشرا ونميمة وزرع الاختلاف ، وأصل الخبال : مرض في العقل كالجنون ، ينشأ عنه اضطراب في الرأي وفساد في العمل. وهذا ليس من الاستثناء المنقطع في شيء ، كما يقولون ؛ لأن الاستثناء المنقطع : هو أن يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه ، كقولك : ما زادوكم خيرا إلا خبالا ، والمستثنى منه في هذا الكلام غير مذكور ، وإذا لم يذكر وقع الاستثناء من أعمّ العام الذي هو الشيء ، فكان استثناء متصلا ؛ لأن الخبال بعض أعم العام ، كأنه قيل : ما زادوكم شيئا إلا خبالا.

(وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ) أسرعوا بالمشي بينكم بالنميمة (يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) يريدون أن يفتنوكم بإيقاع الخلاف فيما بينكم أو الرعب في قلوبكم ، و (الْفِتْنَةَ) : التشكيك في الدين والتخويف من الأعداء. وخلال الأشياء : ما يفصل بينها من الفرجة ونحوها.

(وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) أي فيكم قوم ضعاف يسمعون قول المنافقين ويطيعونهم ، أو فيكم نمامون يسمعون حديثكم وينقلونه إليهم (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ) أي لقد طلبوا وأرادوا لك تشتيت أمرك وتفريق أصحابك من قبل ، أول ما قدمت المدينة ، يعني يوم أحد ، فإن عبد الله بن أبي وأصحابه المنافقين ، كما تخلفوا عن تبوك ، بعد ما خرجوا مع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ذي جدّة أسفل من ثنية الوداع (١) ، انصرفوا يوم أحد (وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ) أجالوا الفكر في تدبير المكايد والحيل لك ، ونظروا في إبطال دينك وأمرك (حَتَّى جاءَ الْحَقُ) النصر والتأييد الإلهي (وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ) علا دينه وغلب شرعه (وَهُمْ كارِهُونَ) أي على رغم منهم.

__________________

(١) الثنية : الطريق في الجبل كالنقب ، والوداع : واد بمكة ، وثنية الوداع منسوبة إليه.

٢٣٦

المناسبة :

بعد ما ذكر الله تعالى أن استئذان المنافقين في التخلف عن غزوة تبوك كان بغير عذر ، وأنهم أرادوا التخلف ثم استأذنوا سترا لنفاقهم ، أقام الدليل هنا على ذلك وهو تركهم الاستعداد للمشاركة في هذه الغزوة ، وأوضح أن خروجهم مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كان مصلحة ، وإنما يؤدي إلى مفاسد ثلاثة : هي الإفساد والشر ، وتفريق كلمة المؤمنين بالنميمة ، والتسبب في سماع بعض ضعفاء الإيمان كلامهم وقبول قولهم.

فكانت الآية الأولى فضحا لاعتذارهم ونفاقهم ، والآيتان الآخريان لتسلية الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين على تخلفهم ، وبيان ما ثبطهم الله لأجله ، وكره انبعاثهم له ، وهتك أستارهم ، وكشف أسرارهم ، وإزاحة اعتذارهم ، تداركا لأسباب عتاب الرسول عليه الصلاة والسّلام على الإذن.

والخلاصة : تستمر الآيات في توضيح قبائح المنافقين ، وبيان أخطارهم ، وتحذير المؤمنين من مكائدهم.

التفسير والبيان :

ولو قصدوا الخروج معك إلى القتال لاستعدوا وتأهبوا له بإعداد السلاح والزاد والراحلة ونحوها ، وقد كانوا مستطيعين ذلك ، و (لكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ) ، أي أبغض الله خروجهم مع المؤمنين ، لما فيه من أضرار ، فثبطهم أي أخرهم بما أحدث في قلوبهم من المخاوف ، وفي نفوسهم من الكسل والفتور ، وقيل لهم من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اقعدوا مع القاعدين من النساء والأطفال والمرضى والعجزة الذين شأنهم القعود في البيوت ، كما قال تعالى : (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) [التوبة ٩ / ٨٧] وهم القاعدون والخالفون.

٢٣٧

ثم ألقى الله الطمأنينة في نفوس المؤمنين ، وبيّن أن عدم خروجهم مصلحة للجيش ، إذ لو خرج هؤلاء المنافقون ما زادوكم شيئا من القوة والمنعة ، بل زادوكم اضطرابا في الرأي وفسادا في العمل والنظام ، ولأسرعوا بالسعي بينكم بالنميمة والبغضاء ، وتفريق الكلمة ، وبذر بذور التفرقة والاختلاف ، وإشاعة الخوف والأراجيف من الأعداء ، وتثبيط الهمة.

علما بأن فيكم قوما ضعاف العقل والإيمان والعزيمة يسمعون كلامهم ، ويصدقونهم في قولهم ، ويطيعونهم ، فتفتر عزائمهم عن القيام بأمر الجهاد ، وإن كانوا لا يعلمون حالهم ، فيؤدي إلى وقوع شر بين المؤمنين وفساد كبير.

والله عليم علم إحاطة بأحوال الظالمين الظاهرة والباطنة ، فهو يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن ، ومجازيهم على أعمالهم كلها.

وفي هذا دلالة واضحة على أن خروجهم شر لا خير فيه ، وضعف لا قوة.

ثم ذكّر الله تعالى بموقفهم المتخاذل في الماضي ، وحرّض نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على مهادنة المنافقين ، فقال تعالى ذاكرا نوعا آخر من مكر المنافقين وخبث باطنهم : (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ ...) أي لقد أرادوا إيقاع الفتنة بين المسلمين من قبل ذلك ، في غزوة أحد ، حين اعتزلهم عبد الله بن أبي زعيم المنافقين بثلث الجيش ، في موضع يسمى الشوط بين المدينة وأحد ، ثم قال للناس : أطاع النبي الولدان ومن لا رأي له ، فعلام نقتل أنفسنا؟ وكاد يتبعه بنو سلمة وبنو حارثة ، ولكن عصمهم الله من الهوان : (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا ، وَاللهُ وَلِيُّهُما ...) [آل عمران ٣ / ١٢٢] فكان خروجهم مع المؤمنين خطرا عليهم ، وشرا محققا بهم.

وأرادوا أيضا تدبير الحيل والمكايد للنبي ، وفكروا في إبطال أمره ، حتى جاء النصر والتأييد ، وظهر أمر الله ، أي وغلب دينه وعلا شرعه ، بالتنكيل باليهود ، وإبطال الشرك بفتح مكة ، وانتشار الإسلام ، وهم كارهون لذلك.

٢٣٨

قال ابن كثير : لما قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة ، رمته العرب عن قوس واحدة ، وحاربته يهود المدينة ومنافقوها ، فلما نصره الله يوم بدر ، وأعلى كلمته ، قال عبد الله بن أبي وأصحابه : هذا أمر قد توجه (أي أقبل). فدخلوا في الإسلام ظاهرا ، ثم كلما أعز الله الإسلام وأهله ، غاظهم ذلك وساءهم ، ولهذا قال تعالى : (حَتَّى جاءَ الْحَقُّ ، وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ ، وَهُمْ كارِهُونَ)(١).

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يلي :

١ ـ ترك المنافقين الاستعداد للمعركة دليل واضح على أنهم أرادوا التخلف ، سواء أذن لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو لم يأذن ، مع أنهم كانوا موسرين قادرين على تحصيل الأهبة والعدة.

٢ ـ إن لوم هؤلاء على ترك الإعداد للقتال يدل على وجوب الاستعداد للجهاد قبل وقت وقوعه ، وهو كقوله تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) [الأنفال ٨ / ٦٠].

٣ ـ لم تكن مشاركة المنافقين وخروجهم للقتال مع المؤمنين في غزوة تبوك وغيرها خيرا ومصلحة ، وإنما كانت شرا ومفسدة ، وقد شرح تعالى المفاسد وحصرها في ثلاث :

إفساد النظام والعمل ، وتفريق كلمة المسلمين بالنميمة ، واستدراج فئة من ضعاف الإيمان والعقل والحزم إلى صفوفهم وسماع كلامهم.

ثم تأكد ذلك بآيات أخرى ، منها : (فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ ، فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ ، فَقُلْ : لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً) [التوبة ٩ / ٨٣] ومنها :

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ٣٦١

٢٣٩

(سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ) ـ إلى قوله ـ (قُلْ : لَنْ تَتَّبِعُونا) [الفتح ٤٨ / ١٥].

٤ ـ كراهية انبعاثهم : معناها إرادة الله عدم ذلك الشيء (١) ، أي عدم خروجهم ؛ لأن خروجهم يؤدي إلى الفساد وتخذيل المسلمين وتخويفهم من العدو وإثارة الخلافات والمنازعات ، والخروج على هذا النحو معصية وكفر ، فكرهه الله تعالى وثبطهم عنه ، إذ كان معصية ، والله لا يحب الفساد (٢).

٥ ـ المقصود من قوله : (اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) التنبيه على ذمهم وإلحاقهم بالنساء والصبيان والعاجزين الذين شأنهم القعود في البيت ، وهم القاعدون والقواعد ، والخالفون والخوالف.

٦ ـ لن تفلح مكائد البشر من منافقين ويهود ومشركين وغيرهم ، ولن تقف أي قوة في الدنيا أمام إرادة الله القاهرة إعلاء دينه ، وغلبة شرعه ، ونصرة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

انتحال المنافقين أعذارا أخرى للتخلف عن غزوة تبوك

وفرحهم عند السيئة التي تصيب المؤمنين وترحهم عند الحسنة

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٤٩) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٦ / ٧٩

(٢) أحكام القرآن للجصاص : ٣ / ١٢٠

٢٤٠