التفسير المنير - ج ٨

الدكتور وهبة الزحيلي

١
٢

٣
٤

من مظاهر تعنّت المشركين والإياس من إيمانهم

(وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣))

الإعراب :

(كُلَ) مفعول (حَشَرْنا). (قُبُلاً) حال من (كُلَّ شَيْءٍ). (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أن وصلتها في موضع نصب ؛ لأنه استثناء منقطع. (شَياطِينَ) منصوب إما لأنه بدل من (عَدُوًّا) أو لأنه مفعول ثان لجعلنا. (غُرُوراً) منصوب إما لأنه مصدر في موضع الحال ، أو بدل من قوله (زُخْرُفَ) الذي هو مفعول يوحي ، أو لأنه مفعول لأجله ، أي لغرور.

(وَلِتَصْغى) معطوف على فعل مقدر دلّ عليه قوله تعالى : (زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) وتقديره : ليغروه ولتصغى إليه ، فحمل على المعنى. وقيل : اللام لام قسم ، وتقديره: ولتصغين إليه أفئدة الذين ، فلما كسرت اللام حذفت النون.

البلاغة :

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ) ربط المشيئة بالرّبوبية ، والإضافة إلى الضمير العائد إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لتشريف مقامه ، والعناية به ، وتطييب خاطره وتسليته عليه الصّلاة والسّلام.

٥

المفردات اللغوية :

(وَحَشَرْنا) جمعنا. (قُبُلاً) أي مواجهة ومقابلة ومعاينة. (عَدُوًّا) العدو : ضد الصّديق ، ويستعمل للواحد والجمع والمذكر والمؤنث. (شَياطِينَ) جمع شيطان ، والشياطين : المردة ، قال ابن عباس : كلّ عات متمرّد من الجنّ والإنس فهو شيطان. (يُوحِي) يوسوس به الشّيطان ، والإيحاء : الاعلام مع الخفاء والسّرعة كالإيماء. (زُخْرُفَ الْقَوْلِ) أي الكلام المزين الذي يبدّل الحقائق أوهاما ، ويطلق لفظ الزخرف على كلّ زينة ، كالذهب للنّساء ، والورود والأزهار للرّياض وغيرها. (غُرُوراً) خداعا باطلا. (فَذَرْهُمْ) دع الكفار. (وَما يَفْتَرُونَ) من الكفر وغيره مما زين لهم. (وَلِتَصْغى) تميل ، يقال : صغي إليه : مال. ومضارعه : يصغي ، مثل رضي يرضى ، وصغي فلان وصغوه : أي ميله وهواه. (إِلَيْهِ) الزخرف. (أَفْئِدَةُ) قلوب. (وَلِيَقْتَرِفُوا) يكتسبوا ، يقال : اقترف المال : اكتسبه ، واقترف الذّنب : اجترحه.

سبب النّزول :

روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى جماعة من كفار مكة وزعمائها فقالوا له : أرنا الملائكة يشهدون بأنك رسول الله ، أو ابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم ، أحقّ ما تقول أم باطل؟ أو ائتنا بالله والملائكة قبيلا ، فنزلت الآية.

المناسبة :

هذا تفصيل لما ذكر على سبيل الإجمال بقوله تعالى : (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) فبيّن تعالى أنه لو أعطاهم ما طلبوه من إنزال الملائكة ، وإحياء الموتى حتى يكلّموهم ، بل لو زاد في ذلك بأن يحشر عليهم كلّ شيء قبلا يشهد بصدق الرّسول ، ما كانوا ليؤمنوا لتأصّلهم في الضّلال إلا أن يشاء الله.

التفسير والبيان :

قال ابن عباس في قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ ..) : وهم أهل الشقاوة ، ثم قال : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) : وهم أهل السعادة الذين سبق لهم في علمه تعالى أن يدخلوا في الإيمان (١).

__________________

(١) تفسير الطبري : ٨ / ٢ ـ ٣

٦

والمعنى : ولو أننا أجبنا سؤال هؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم : لئن جاءتهم آية ليؤمننّ بها ، فنزلنا عليهم الملائكة ، تخبرهم بالرّسالة من الله ، بتصديق الرّسل كما سألوا ، فقالوا : (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) [الإسراء ١٧ / ٩٢] و (قالُوا : لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) [الأنعام ٦ / ١٢٤] ما آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالقرآن.

وبعبارة أخرى : لو أنّنا نزّلنا إليهم الملائكة ، فرأوهم بأعينهم مرة بعد أخرى ، وسمعوا شهادتهم لك بالرّسالة ؛ ولو كلّمهم الموتى بأن نحييهم ، فيخبروهم بصدق ما جاءتهم به الرّسل كما طلبوا : (فَأْتُوا بِآبائِنا) [الدّخان ٤٤ / ٣٦] ، وحشرنا ، أي وجمعنا كلّ شيء من الآيات والدّلائل معاينة ومواجهة ، فيخبرونهم بصدق الرّسل فيما جاؤوا به ، وقيل : (قُبُلاً) كفلاء بصحّة ما بشّرنا به وأنذرنا ، أو جماعات تعرض عليهم كلّ جماعة بعد أخرى ، ما كان شأنهم به يؤمنوا ، وليس عندهم الاستعداد أن يصدّقوا ؛ لأنهم لا ينظرون في الآيات نظر تأمّل وهداية وعظة ، وإنما ينظرون إليها نظر معاداة واستهزاء ، لا يؤمنون إلا بمشيئة الله ، أي لا يؤمنون ما داموا على صفاتهم ، إلّا أن يزيلها الله تعالى إن شاء ، فالهداية مقدور عليها من الله ، ولكنه تعالى يتركهم وشأنهم بعد أن بصّرهم بطرق الخير والانتفاع بهدي القرآن.

فالمراد بقوله : (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) أي ما كانوا ليؤمنوا على سبيل الاختيار ، والمراد من قوله : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) هو الإيمان الاختياري ، وليس الإيمان الاضطراري ، كما قال الرّازي ؛ لأن المستثنى يجب أن يكون من جنس المستثنى منه ، والإيمان الحاصل بالإلجاء والقهر ليس من جنس الإيمان الاختياري (١).

__________________

(١) تفسير الرّازي : ١٣ / ١٥٠ ـ ١٥٢

٧

ولكن أكثر هؤلاء المشركين يجهلون أن الإيمان إليهم والكفر بأيديهم ، متى شاؤوا آمنوا ومتى شاؤوا كفروا ، وليس ذلك كما يظنون ، لا يؤمن منهم إلا من هديته له فوفقته ، ولا يكفر إلا من خذلته عن الرّشد فأضللته. هذا ما يراه الطبري (١) وهو الظاهر الرّاجح.

ويرى الزّمخشري : ولكن أكثر المسلمين يجهلون أن هؤلاء لا يؤمنون إلا أن يضطرهم الله ، فيطمعون في إيمانهم إذا جاءت الآية المقترحة (٢). يعني أن المعتزلة يرون أن المستثنى هو الإيمان الاضطراري ، وأن الضمير في قوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ) عائد في رأي الزمخشري إلى المسلمين لا إلى الكفار ، والمعتزلة يقولون : المراد : أنهم أي المشركون جهلوا أنهم يبقون كفارا عند ظهور الآيات التي طلبوها ، والمعجزات التي اقترحوها ، وكان أكثرهم يظنون ذلك. وأهل السّنّة يقولون : المراد : يجهلون بأنّ الكلّ من الله وبقضائه وقدره (٣).

قال ابن عباس : المستهزئون بالقرآن كانوا خمسة : الوليد بن المغيرة المخزومي ، والعاصي بن وائل السّهمي ، والأسود بن عبد يغوث الزهري ، والأسود بن المطلب ، والحارث بن حنظلة ، أتوا الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رهط من أهل مكة ، وقالوا له : أرنا الملائكة يشهدون بأنك رسول الله ، أو ابعث موتانا حتى نسألهم ، أحقّ ما تقوله أم باطل؟ أو ائتنا بالله والملائكة قبيلا ، أي كفيلا على ما تدّعيه ، فنزلت الآية (٤).

ثمّ أراد الله تعالى التّخفيف على نبيّه ومواساته وتسليته ، فأبان أنّ سنّته في الخلق أن يكون للأنبياء عدوّ من الجنّ والإنس ، فقال : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا ...)

__________________

(١) تفسير الطّبري : ٨ / ٢

(٢) الكشّاف : ١ / ٥٢٤

(٣) تفسير الرّازي : ١٣ / ١٥٢

(٤) المرجع السابق : ١٣ / ١٤٩ ـ ١٥٠

٨

أي وكما جعلنا لك يا محمد أعداء يخالفونك ويعادونك ويعاندونك ، جعلنا لكلّ نبيّ من قبلك أيضا أعداء ، فلا يحزنك ذلك ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ ، فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا) [الأنعام ٦ / ٣٤] ، وقال تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) [الفرقان ٢٥ / ٣١] ، وقال ورقة بن نوفل لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه البخاري ومسلم : «إنه لم يأت أحد قطّ بمثل ما جئت به إلا عودي» أي أنّ سنّة الله جرت على أن يكون بعض الناس أعداء للأنبياء وورثتهم ، وكلّ أصحاب دعوات الإصلاح في الأمور الدّينيّة والاجتماعيّة ، وهذا ما يعبّر عنه بتنازع البقاء وبقاء الأصلح ، كما قال تعالى : (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً ، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) [الرّعد ١٣ / ١٧].

والعداوة سواء من شياطين الإنس والجنّ ، قال مجاهد وعكرمة وقتادة والحسن البصري : من الجنّ شياطين ، ومن الإنس شياطين ، يوحي بعضهم إلى بعض. وقال قتادة : بلغني أن أبا ذر كان يوما يصلّي ، فقال له النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تعوّذ يا أبا ذرّ من شياطين الإنس والجنّ» فقال : أو إن من الإنس شياطين؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم» (١). وجاء في سورة البقرة : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا : إِنَّا مَعَكُمْ) [١٤].

ثم ذكر تعالى أثر عداوة الشّياطين للأنبياء ، وهو مقاومتهم دعوة الله وهدايته ، فقال: (يُوحِي بَعْضُهُمْ ..) أي يلقي بعضهم إلى بعض القول المزيّن المزخرف ، وهو المزوّق الذي يغتّر سامعه من الجهلة بأمره ، وينخدع ويميل إلى رأي القائل ، ويتأثّر بإغراء الشياطين بالمعاصي. والوحي : الإيماء والقول السريع ، والزّخرف : الذي يكون باطنه باطلا ، وظاهره مزيّنا خادعا.

__________________

(١) ذكره الطبري وابن كثير ، ثم قال الأخير : وهذا منقطع بين قتادة وأبي ذرّ ، وقد روي من وجه آخر عن أبي ذرّ رضي‌الله‌عنه (تفسير الطّبري : ٨ / ٥ ، تفسير ابن كثير : ٢ / ١٦٦).

٩

ولو شاء ربّك ألا يفعلوا هذا التغرير ، ما فعلوه ، ولكنه لم يشأ أن يجبرهم على الهداية ، بل شاء أن يكون الناس مختارين سلوك أي الطريقين : طريق الخير وطريق الشّرّ ، كما قال تعالى : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد ٩٠ / ١٠] هذا ما يراه المعتزلة.

وقال أهل السّنّة في قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) : وذلك كلّه بقدر الله وقضائه وإرادته ومشيئته أن يكون لكلّ نبيّ عدوّ من الشياطين.

فدعهم وما يفترون أي يكذبون ، أي دع مجابتهم واتركهم يخوضون في إفكهم وكذبهم ، ولا تأبه لهم ، وامض في تبليغ دعوتك وتأدية رسالتك ، وتوكّل على الله ، فإن الله كافيك وناصرك عليهم ، وعليك البلاغ ، وعلينا الحساب والجزاء.

وقوله : (وَلِتَصْغى ..) معطوف على فعل مقدر مفهوم مما سبقه ، وتقديره : يوحي هؤلاء الشياطين إلى بعضهم زخرف القول والمموه أو المزيّن منه ، ليغروا المؤمنين أتباع الأنبياء ، ولتميل إليه قلوب الكفار والفسّاق الذين لا يؤمنون بالآخرة ؛ لأنه الموافق لأهوائهم. أمّا المؤمنون الواعون الذين ينظرون في عواقب الأمور ، فلا ينخدعون بأباطيل الأقوال ، ولا تغرّنّهم الزّخارف. وضمير (إِلَيْهِ) وضمير (فَعَلُوهُ) راجع إلى ما ذكر من عداوة الأنبياء ووسوسة الشياطين.

(وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ) أي وليرضوه لأنفسهم ، وليترتب على ذلك أن يكتسبوا ما هم مكتسبون من المعاصي والآثام بغرورهم به ورضاهم عنه.

فقه الحياة أو الأحكام :

لن يؤمن الكفار كما سبق في علم الله تعالى ، ولو جاءتهم المعجزات العجيبة والآيات البليغة القاطعة الدّالّة على صدق الرّسل. فلو فرض أن الله تعالى أجابهم إلى ما اقترحوه ، فأنزل الملائكة إليهم ، وعاد الموتى إلى الحياة فكلّموهم ، وجمعت لهم

١٠

كلّ الآيات معاينة ومواجهة ، فإنهم لن يؤمنوا ، لتأصّلهم في الكفر ، وفقد استعدادهم للإذعان بالحقّ ، فأكثر المشركين يجهلون الحقّ ولا يعرفونه.

ومن سنّته تعالى في الخلق ظهور أعداء من الإنس والجنّ للأنبياء وأتباعهم ، لأنّ الحقّ يعرف بضدّه من الباطل.

وأهل الباطل يصغون أسماعهم لما يوسوس به شياطين الجنّ وشياطين الإنس ، ويقتنعون بالقول المزيّن المغشوش الذي لا مصداقيّة له ولا صحّة ، ولا بقاء ولا استقرار.

قال مالك بن دينار : إن شيطان الإنس أشدّ عليّ من شيطان الجنّ ، وذلك أنّي إذا تعوّذت بالله ، ذهب عنّي شيطان الجنّ ، وشيطان الإنس يجيئني فيجرّني إلى المعاصي عيانا.

والله قادر على تحويل المشركين إلى مؤمنين ، ولكن حكمته ومشيئته وإرادته اقتضت ترك الاختيار إليهم ، ليكون الجزاء عدلا مطابقا للواقع.

ودلّ قوله تعالى : (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) على أنه تعالى ما شاء منهم الإيمان ، فهم لا يؤمنون إلا أن يشاء الله إيمانهم.

ومآل القول المزخرف المزيّن وهو الباطل وعاقبته أنه يستمع إليه ويميل إليه غير المؤمنين بالآخرة ، ويرضون به ، ويؤدي بهم إلى اكتساب المعاصي واقتراف السّيئات واجتراح الذّنوب.

وهكذا فإن عقاب العصاة بسبب ذنوبهم وسيئاتهم ، وليس لله حاجة في تعذيبهم والتّنكيل بهم ، وإنّما العقاب أمر يقتضيه العدل المطلق للتّمييز بين المحسنين الأبرار وبين المسيئين الأشرار ، فلا يعقل التّسوية بين من لازم الطاعة ، فعمل والتزم أوامر الله ، وبين من قارف المعصية ، فأعرض واستكبر ، وعتا

١١

وعاند ، وتنكّر لأوامر الله ولم يأبه بما حظره الله ومنعه ، وأهمل نداء الحقّ والخير.

القرآن الكريم دليل صدق رسالة النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

(أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥))

الإعراب :

(أَفَغَيْرَ اللهِ) منصوب بأبتغي. (حَكَماً) إما منصوب على الحال ، أو على التّمييز.

(مُنَزَّلٌ) نائب الفاعل له ضمير مستتر يعود على الكتاب. (مِنْ رَبِّكَ) في موضع نصب ؛ لأنه يتعلّق بمنزّل. (بِالْحَقِ) حال من ضمير (مُنَزَّلٌ).

(صِدْقاً وَعَدْلاً) منصوبان على المصدر ، وقيل : يجوز كونهما مصدرين في موضع الحال ، بمعنى صادقة وعادلة.

البلاغة :

(فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) الخطاب للرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على طريق إثارة الحماسة وإلهاب المشاعر ، أو التّهييج والإلهاب ، كقوله تعالى : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام ٦ / ١٤].

(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) مجاز مرسل ، من قبيل إطلاق الجزء وإرادة الكلّ ، أي تمّ كلامه ووحيه.

المفردات اللغوية :

(أَبْتَغِي) أطلب. (حَكَماً) قاضيا بيني وبينكم ، والحكم : من يحكم بالحقّ فقط ، فهو أبلغ من الحاكم ؛ إذ لا يستحق التّسمية بحكم إلا من يحكم بالحقّ ؛ لأنها صفة تعظيم في مدح ، أما الحاكم

١٢

فهو صفة جارية على الفعل ، فقد يسمّى بها من يحكم بغير الحقّ. (مُفَصَّلاً) مبيّنا فيه الحقّ والباطل ، والحلال والحرام. (الْمُمْتَرِينَ) المترددين الشّاكين.

(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) المراد بالتّمام هنا : أن كلمة الله وافية في الإعجاز ، والدّلالة على صدق الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد بالكلمة هنا : القرآن. وأصل معنى تمام الشيء : انتهاؤه إلى حدّ لا يحتاج معه إلى شيء خارج عنه. (صِدْقاً) الصدق يكون في الأخبار ومنها المواعيد. (وَعَدْلاً) العدل يكون في الأحكام. (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) التّبديل : التّغيير بالبدل ، والمعنى : لا مبدّل لكلمات الله بنقض أو خلف.

المناسبة :

بعد أن ندّد الله تعالى بالكفار الذين أقسموا بالله ليؤمنن بالآيات إذا جاءتهم ، وأبان أنه لا فائدة في إظهار تلك الآيات ؛ لأنه تعالى لو أظهرها لبقوا مصرّين على كفرهم ، أبان هنا أنّ الدّليل الدّال على نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد حصل من وجهين :

الأول ـ أنه أنزل إليه الكتاب المفصّل المبين المشتمل على العلوم الكثيرة والفصاحة الكاملة ، وقد عجز الخلق عن معارضته ، مما يدلّ على صدق نبوّته.

والثاني ـ اشتمال التّوراة والإنجيل على الآيات الدّالة على أنّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسول حقّ ، وعلى أنّ القرآن كتاب حقّ من عند الله ، وهو المراد بقوله : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ).

والوجهان مذكوران في قوله تعالى : (قُلْ : كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ، وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) [الرعد ١٣ / ٤٣].

وبعد أن بيّن تعالى أنّ القرآن معجز ، ذكر أنّه تمّت كلمة ربّك ، أي القرآن ، والمراد : تمّ القرآن في كونه معجزا دالّا على صدق محمد عليه الصّلاة والسّلام.

التّفسير والبيان :

يأمر الله نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول لهؤلاء المشركين بالله الذين يعبدون غيره :

١٣

ليس لي أن أطلب قاضيا بيني وبينكم ؛ لأنه لا حكم أعدل من حكم الله ، ولا قائل أصدق من قوله ، وهو الذي أنزل إليكم القرآن مبيّنا فيه حكم كلّ شيء ، من العقائد والشّرائع والآداب ، وقد جاوزت سنّ الأربعين ، ولم يصدر عنّي مثله في العلوم والمعارف ، والأخبار الماضية والمستقبلة ، ولا في الفصاحة والبلاغة ، كما قال تعالى : (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ) [يونس ١٠ / ١٦] ، أي : أفغير الله أطلب لكم حاكما ، وهو الذي كفاكم مؤنة المسألة ، في الآيات ، بما أنزله إليكم من الكتاب المفصّل ، أي المبين.

وبعبارة أخرى : لا فائدة من طلبكم دليلا على صدق نبوّتي ، فهناك دليلان واضحان يؤيّدان رسالتي ، وهما الآية الكبرى وهي القرآن المعجز الدّال بإعجازه على أنّه كلام الله ، واشتمال التّوراة والإنجيل على ما يدلّ على أنّي رسول الله حقّا وأنّ القرآن كتاب حقّ من عند الله تعالى.

وإن أنكر هؤلاء المشركون أحقيّة القرآن وكذّبوا به ، فإن اليهود والنصارى أهل الكتاب يعلمون أنه منزّل من ربّك بالحقّ ، بما ورد عندهم من البشارات بك ، على لسان الأنبياء المتقدّمين ، كما قال تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ ، وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [البقرة ٢ / ١٤٦].

فلا تكونن يا محمد من المترددين الشّاكين ، وهذا على أسلوب التّهييج والإلهاب ، أو على طريق التّعريض ، كقوله تعالى : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [يونس ١٠ / ١٠٥] ، وقوله : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ ، فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ ، لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ، فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) [يونس ١٠ / ٩٤].

وليس هذا النّهي مؤذنا بوقوع الشّك من النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه شرط ، والشّرط

١٤

لا يقتضي وقوعه ، لذا قال عليه الصّلاة والسّلام : «لا أشكّ ولا أسأل».

وتمّ كلام الله وهو القرآن ، فلا يحتاج إلى إضافة شيء فيه ، وأصبح كافيا وافيا بإعجازه وشموله ، ودلالته على الصدق ، فهو صادق فيما يقول ، عدل فيما يحكم ، صدقا في الإخبار عن الغيب ، وعدلا في الطلب ، فكلّ ما أخبر به فهو حقّ لا مرية فيه ولا شكّ ، وكلّ ما أمر به فهو العدل الذي لا عدل سواه ، وكلّ ما نهى عنه فباطل ، فإنه لا يأمر إلا بخير ، ولا ينهى إلا عن مفسدة وشرّ ، كما قال تعالى : (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ، وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) [الأعراف ٧ / ١٥٧].

وكلّ ما ورد في القرآن من أمر ونهي ، ووعد ووعيد ، وقصص وخبر لا تغيير فيه ولا تبديل لكلمات الله ، وليس أحد يعقب حكمه تعالى ، لا في الدّنيا ولا في الآخرة.

وهو السميع لأقوال عباده ، العليم بحركاتهم وسكناتهم ، الذي يجازي كلّ عامل بعمله.

فقه الحياة أو الأحكام :

الآية الأولى بتّ قاطع في مسألة التّحكيم الذي طالب به المشركون بينهم وبين النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهي ردّ مفحم عليهم بأنّه قد قام الدّليل القاطع على إثبات نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ناحيتين :

الأولى ـ تأييده بالقرآن الكريم وهو المعجزة الدائمة الخالدة الدّالة على النّبوة.

الثانية ـ معرفة أهل الكتاب وبشارات أنبيائهم به وبصدقه وبصدق القرآن.

ودلّت الآية الثانية : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) على وجوب اتّباع دلالات

١٥

القرآن ؛ لأنّه حقّ لا يمكن تبديله بما يناقضه ؛ لأنه من عند حكيم لا يخفى عليه شيء من الأمور كلها.

والكلمات كما قال قتادة : هي القرآن لا مبدّل له ، لا يزيد فيه المفترون ولا ينقصون.

ضلالات المشركين والمنع من أكل ذبائحهم

(وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١١٧) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٨) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (١٢٠) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (١٢١))

الإعراب :

(أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُ مَنْ) في موضع نصب بفعل مقدر دلّ عليه (أَعْلَمُ) وتقديره : يعلم من يضل عن سبيله. ولا يجوز أن يكون في موضع جر ؛ لأنه يستحيل المعنى ، ويصير التقدير : إن ربك هو أعلم بالضالين ؛ لأن أفعل إنما تضاف إلى ما هو بعض له ، وذلك كفر محال. مثل قوله

١٦

تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام ٦ / ١٢٤] حيث : في موضع نصب بفعل مقدر ، دلّ عليه : أعلم ؛ لأن حيث هاهنا اسم محض ، وتقديره : يعلم حيث يجعل رسالته ، ولا يجوز أن تكون حيث في موضع جر ؛ لأنها بمعنى مكان ، فيكون التقدير : الله أعلم أمكنة رسالاته ، وهذا أيضا كفر.

(وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا) : أن في موضع نصب بحذف حرف الجر. و (ما) استفهامية مبتدأ ، وما بعدها خبرها ، وتقديره : وأي شيء لكم في ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه.

البلاغة :

(وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) يوجد طباق بين لفظ (ظاهِرَ) و «باطن».

المفردات اللغوية :

(أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ) أي الكفار. (سَبِيلِ اللهِ) دينه. (إِنْ) ما. (يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) في مجادلتهم لك في أمر الميتة ، إذ قالوا : ما قتل الله أحق أن تأكلوه مما قتلتم. (يَخْرُصُونَ) يحدسون ويقدرون ويكذبون في ذلك. والخرص : الحدس والتخمين. (أَعْلَمُ) أي عالم. (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) أي ذبح على اسم الله. (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) من الذبائح. (وَقَدْ فَصَّلَ) بيّن وأزال عنكم اللبس في المحرّمات. (هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) المتجاوزين الحلال إلى الحرام.

(وَذَرُوا) اتركوا. (ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) علانيته وسره ، والإثم : القبيح ، وشرعا : ما حرمه الله من كل معصية كالزنى والسرقة ونحوهما. (سَيُجْزَوْنَ) في الآخرة. (يَقْتَرِفُونَ) يكتسبون.

(وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) بأن مات أو ذبح على اسم غيره ، وإلا فما ذبحه المسلم ولم يسم فيه عمدا أو نسيانا فهو حلال ، كما قال ابن عباس ، وأخذ به الشافعي. (وَإِنَّهُ) أي الأكل منه (لَفِسْقٌ) معصية وخروج عن دائرة الدين إلى ما لا يحل. (لَيُوحُونَ) يوسوسون. (إِلى أَوْلِيائِهِمْ) أعوانهم الكفار. (لِيُجادِلُوكُمْ) في تحليل الميتة.

سبب النزول :

نزول الآية (١١٨):

(فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) : روى أبو داود والترمذي عن ابن عباس

١٧

قال : أتى ناس النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا رسول الله ، أنأكل ما نقتل ولا نأكل ما يقتل الله؟ فأنزل الله : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ ...) إلى قوله : (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ).

وأخرج أبو داود والحاكم وغيرهما عن ابن عباس في قوله : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ ..) قال : قالوا : ما ذبح الله لا تأكلوا ، وما ذبحتم أنتم تأكلون؟ فأنزل الله الآية.

نزول الآية (١٢١):

(وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ ..) : قال المشركون : يا محمد ، أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها؟ قال : الله قتلها ، قالوا : فتزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك حلال ، وما قتل الكلب والصقر حلال ، وما قتله الله حرام؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية (١).

وأخرج الطبراني وغيره عن ابن عباس قال : لما نزلت : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) أرسلت فارس إلى قريش أن خاصموا محمدا ، فقولوا له : ما تذبح أنت بيدك بسكّين فهو حلال ، وما ذبح الله بشمشار من ذهب ، يعني الميتة ، فهو حرام ، فنزلت هذه الآية : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ) قال : الشياطين من فارس وأولياؤهم قريش.

وعبارة عكرمة في ذلك هي : إن المجوس من أهل فارس ، لما أنزل الله تعالى تحريم الميتة كتبوا إلى مشركي قريش ، وكانوا أولياءهم في الجاهلية ، وكانت بينهم مكاتبة : إن محمدا وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله ، ثم يزعمون أن ما ذبحوا فهو حلال ، وما ذبح الله فهو حرام ، فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ١٢٨

١٨

المناسبة :

بعد أن أجاب الله تعالى عن شبهات الكفار ، وأثبت صحة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ذكر هنا أنه لا ينبغي الالتفات إلى ما يقوله الجهال ؛ لأنهم يسلكون سبيل الضلال ، ويتبعون الظنون الفاسدة ، وهذا المنهج بالتعبير الحديث تحييد لأهل الإسلام ، وتوفير لاستقلال شخصيتهم ، وإبراز ذاتيتهم ، بالرغم من أن أكثر أهل الأرض كانوا ضلالا بسبب غلبة الشرك على عقائدهم.

التفسير والبيان :

لا يلتفت في شرعة الحق والقرآن إلى مسالك أهل الضلال والشرك ؛ لاتباعهم الظنون الفاسدة ، وإن تطع يا محمد وكل من تبعك أكثر من في الأرض من الكفار والمشركين في أمور الدين ، وتخالف ما أنزل الله عليك ، يضلون عن دين الله ومنهجه وسبيله ، سبيل الحق والعدل والاستقامة ؛ إذ هم لا يتبعون إلا الأهواء والظنون الباطلة أو الكاذبة ، ولا يقيمون وزنا للبراهين الإلهية ، والأدلة العقلية ، وإن هم إلا يحزرون ويحدسون أو يخمنون تخمينا عاريا عن الصحة والحقيقة كخارص ثمر النخل والعنب وغيرهما ، فاعتقادهم قائم على الحدس والتخمين ، لا على البرهان والدليل.

وهذا يدل على أن أكثر أهل الأرض كانوا ضلالا في الاعتقاد فلازموا الشرك ، وفي النبوات فأنكروها ، وفي الأحكام التشريعية كإحلال الميتة والدم والخمر وتحريم المواشي البحائر والسوائب والوصائل. وهذا كقوله تعالى : (وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ) [الصافات ٣٧ / ٧١] وقوله : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف ١٢ / ١٠٣].

وإن ربك يعلم بالضالين عن سبيله القويم ، ويعلم أيضا بالمهتدين السالكين سبيل الاستقامة ، وليس كما يزعم المشركون. وهذا تحذير مؤكد لما سبق من

١٩

ضرورة رفض منهج أهل الضلال ، ومسلك أهل الشرك والأهواء.

ولما كان المشركون يعتبرون الذبائح لغير الله من أصول الشرك ، وكان حال أكثر الناس الضلالة والكفر ، أمر الله المؤمنين بما هو من أصول الاعتقاد بالله ، وهو الأكل مما ذكر اسم الله عليه وذبح باسم الله ، فقال : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ ..) أي احذروا بما ذبح للأصنام والأوثان ولغير الله ، وكلوا مما ذكر اسم الله عليه من الذبائح دون غيره ، إن كنتم بآيات الله الدالة على الهدى والنور والعقيدة الصحيحة مؤمنين مصدقين بها ، مكذبين بما يناقضها من الشرك والوثنية والضلال.

فهذه إباحة واضحة من الله لعباده المؤمنين أن يأكلوا ما ذكر عليه اسمه ، ترسيخا لأصل الاعتقاد بالله ، وردا على مشركي العرب وغيرهم الذين كانوا يجعلون الذبائح من أمور العبادات وأصول الدين والاعتقاد ، فيتقربون بالذبائح لآلهتهم.

ومفهوم الآية أنه لا يباح ما لم يذكر اسم الله عليه ، كما كان يستبيحه كفار قريش من أكل الميتات وأكل ما ذبح على النصب وغيرها.

وجمهور المفسرين على أن في هذه الآية حصرا مستفادا من جهتين : الأولى ـ مما ذكر في الآية السالفة من عدم اتباع المضلين ، والثانية ـ من الشرط في قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ) فيكون المعنى : اجعلوا أكلهم مقصورا على ما ذكر اسم الله عليه ، ولا تتعدوه إلى الميتة.

ثم ندب تعالى إلى الأكل مما ذكر اسم الله عليه ، وأنكر أن يكون هناك شيء يدعوهم إلى ترك الأكل مما ذكر اسم الله عليه ، من البحائر والسوائب وغيرها ، فقال : (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ).

وفي ذلك إشارة إلى ضرورة رفض عوائد الجاهلية واعتراضاتهم وشبهاتهم الواهية.

٢٠