التفسير المنير - ج ١٠

الدكتور وهبة الزحيلي

إنهم أشبهوا قوم فرعون بالكفر والمعصية وإنكار وجود الله ووحدانيته ، وتكذيب الرسل ، وتبديل الجحود والعناد بالنعمة المستحقة للشكر.

إن مظهر تغيير آل فرعون ومشركي مكة نعمة الله عليهم ، كان مقابلة الإله المنعم بجحوده وإنكاره وعبادة الأصنام ، فسلبوا الخيرات التي أنعم الله عليهم ، من ثمار كثيرة في مصر ، وجلب الأرزاق لأهل مكة ، وقد تتغير الحال المسخوطة إلى أسخط منها ، فلما بعث إليهم الرسل ، كذبوهم وعادوهم وهموا بقتلهم ، فغير الله حالهم إلى أسوأ مما كانت ، وغير ما أنعم به عليهم من الإمهال إلى التعجيل بالعذاب.

معاملة من نقض العهد ومن ظهرت منه بوادر النقض

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (٥٦) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (٥٨) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (٥٩))

الإعراب :

(الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ) بدل من قوله (الَّذِينَ كَفَرُوا) أي الذين عاهدت من الذين كفروا. وقوله : (مِنْهُمْ) للتبعيض.

(فَانْبِذْ) فعل أمر هو جواب الشرط ، وفيه حذف تقديره : فانبذ إليهم العهد وقابلهم على إعلام منك لهم ، وفي هذه الآية من لطيف الحذف والاختصار ما يدل على فصاحة القرآن وبلاغته. (عَلى سَواءٍ) حال متساوية في العلم بنقض العهد.

٤١

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا ، إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) : (الَّذِينَ كَفَرُوا) : فاعل ، و (سَبَقُوا) : تقديره : أنهم سبقوا ، فسد مسد المفعولين. وقرئ : ولا تحسبن ، فيكون (الَّذِينَ كَفَرُوا) المفعول الأول ، و (سَبَقُوا) : المفعول الثاني ، كأنه قال : ولا تحسبن يا محمد الذين كفروا سابقين. وإنهم لا يعجزون : ابتداء كلام ، وقرئ بفتح : أن ، على تقدير: لأنهم.

المفردات اللغوية :

(الدَّوَابِ) جمع دابة : وهي في الأصل : كل ما دبّ على الأرض وغلب استعماله في الحيوانات ذوات الأربع ، والمراد به هنا : الناس ، وهو المعنى الأصلي للكلمة وهم بنو قريظة (عِنْدَ اللهِ) أي في حكمه وعلمه (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ) ألا يعينوا المشركين ، وهم طوائف من يهود المدينة (وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) الله في غدرهم. (فَإِمَّا) فيه إدغام نون إن الشرطية في «ما» المزيدة (تَثْقَفَنَّهُمْ) تجدنهم وتصادفنّهم ، من ثقف الرجل : أدركه وظفر به (فَشَرِّدْ بِهِمْ) فرّق وبدّد وخوّف بهم ، والتشريد : التفريق مع إزعاج ، والمراد هنا: نكّل بهم تنكيلا وعاقبهم عقابا يخوّف غيرهم (مَنْ خَلْفَهُمْ) أي غيرهم من المحاربين ناقضي العهد ، وهم كفار مكة وأعوانهم من المشركين. (لَعَلَّهُمْ) أي الذين خلفهم (يَذَّكَّرُونَ) يتعظون بهم.

(فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ) فاطرح إليهم عهدهم وحاربهم (عَلى سَواءٍ) أي استواء أنت وهم في العلم بنقض العهد ، بأن تعلمهم به ، لئلا يتهموك بالغدر ، أو على طريق واضح سوي لا خداع فيه ولا خيانة. (سَبَقُوا) أنهم فاتوا وأفلتوا من الظفر بهم (إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) أي لا يعجزون الله في إدراكهم ولا يفوتونه ، بل سيجازيهم على كفرهم. وهو تعليل على سبيل الاستئناف. وعلى قراءة الفتح أي أنهم فيه تصريح بالتعليل ، قال البيضاوي : والأظهر أنه تعليل للنهي ، أي لا تحسبنهم سبقوا فأفلتوا ؛ لأنهم لا يفوتون الله ، أو لا يجدون طالبهم عاجزا عن إدراكهم.

سبب النزول :

نزول الآية (٥٥):

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِ) : قال ابن عباس : إنهم بنو قريظة نقضوا عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأعانوا عليه بالسلاح في بدر ، ثم قالوا : نسينا وأخطأنا ، فعاهدهم الثانية فنقضوا العهد ومالؤوا الكفار على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الخندق ، وركب زعيمهم كعب بن الأشرف إلى مكة ، فحالفهم على محاربة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٤٢

نزول الآية (٥٩):

(وَإِمَّا تَخافَنَ) :روى أبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن ابن شهاب الزهري قال : دخل جبريل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : قد وضعت السلاح ، وما زلت في طلب القوم ، فاخرج فإن الله قد أذن لك في قريظة ، وأنزل فيهم : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً) الآية.

وقال سعيد بن جبير : نزلت هذه الآيات في ستة رهط من اليهود ، منهم ابن تابوت. وقال مجاهد : نزلت في يهود المدينة ، وكان زعيمهم الطاغوت كعب بن الأشرف ، وهو فيهم كأبي جهل في مشركي مكة.

المناسبة :

بعد أن وصف الله تعالى كل الكفار بقوله : (وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ) أفرد بعضهم بمزية في الشر والعناد. وبعد أن أبان تعالى حال مشركي قريش في قتالهم النبي والمؤمنين ببدر ، ذكر حال فريق آخر قاتلوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يهود الحجاز.

التفسير والبيان :

نزلت هذه الآيات في يهود بني قريظة ، ومفادها : إن شر ما دبّ على وجه الأرض في حكم الله وعدله هم الذين كفروا ونقضوا العهد ، فهم شر خلق الله لاتصافهم بصفتين : الإصرار على الكفر الدائم والعناد ، ونقض العهد الذي عاهدوه وأكدوه بالأيمان ، ولهم صفة ثالثة هي أنهم لا يتقون الله ولا يخافون منه في شيء ارتكبوه من الآثام ، ولا يتقونه في غدرهم ونقض العهد.

وقد وصفهم الله بأنهم شر الدواب للإشارة إلى أنهم بلغوا درجة الدواب ، بل هم شر منها ؛ لعدم وجود نفع منهم ، كما قال تعالى في أمثالهم : (إِنْ هُمْ إِلَّا

٤٣

كَالْأَنْعامِ ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) [الفرقان ٢٥ / ٤٤](أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ ، أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) [الأعراف ٧ / ١٧٩].

وبعد أن أبان الله تعالى صفاتهم الثلاث وأخصها هنا تكرار نقض العهد ، أبان حكم من نقض العهد وهو القتل ، فقال : (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ) أي إن ظفرت بهم في الحرب ، فافعل بهم فعلا يفرّق بهم من خلفهم ، أي فنكّل بهم تنكيلا شديدا يخافك من وراءهم أو سواهم من الأعداء من العرب وغيرهم ، ويصيروا لهم عبرة ، افعل هذا لعلهم يتعظون بهم ، ويحذرون أن ينقضوا العهد ، فيصنع بهم مثل ذلك.

وفي هذا دلالة على أن الحرب ليست مرغوبة ، وإنما هي ضرورة لمنع البغي والعدوان وإعلاء كلمة الله ، وإن القسوة مع ناقضي العهد أمر مطلوب للعظة والعبرة ، حتى لا يعودوا هم وغيرهم إلى مثل صنيعهم.

وبما أن الوقاية خير من العلاج ، أوضح الله تعالى أيضا حكم من ظهرت منه بوادر نقض العهد والخيانة بأمارة من الأمارات ، فقال تعالى : (وَإِمَّا تَخافَنَّ ...).

أي إن توقعت من قوم معاهدين وغلب على ظنك خيانة بنقض العهد الذي بينك وبينهم ، بأمارة ظاهرة وقرينة واضحة ، فاطرح لهم عهدهم على سواء ، أي أعلمهم بأنك قد نقضت عهدهم ، وأنه لا عهد بينك وبينهم على السواء ، فتكون أنت وهم متساويين في العلم بنقض العهد ، وبأنك حرب لهم وهم حرب لك ، أي قيام حالة الحرب. والنبذ لغة : الرمي والرفض. والسواء : المساواة والاعتدال.

إن الله يكره الخيانة ويعاقب عليها ، حتى ولو في حق الكفار ، فلا يك منك إخفاء نكث العهد والخداع.

٤٤

قال الإمام أحمد عن شعبة عن سليم بن عامر : كان معاوية يسير في أرض الروم ، وكان بينه وبينهم أمد ، فأراد أن يدنو منهم ، فإذا انقضى الأمد غزاهم ، فإذا شيخ على دابة يقول : الله أكبر ، الله أكبر ، وفاء لا غدرا ، إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ومن كان بينه وبين قوم عهد ، فلا يحلنّ عقدة ، ولا يشدها ، حتى ينقضي أمدها ، أو ينبذ إليهم على سواء» فبلغ ذلك معاوية ، فرجع ، فإذا بالشيخ عمرو بن عنبسة رضي‌الله‌عنه (١).

وروى الإمام أحمد أيضا عن سلمان الفارسي رضي‌الله‌عنه : أنه انتهى إلى حصن أو مدينة ، فقال لأصحابه : دعوني أدعوهم كما رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدعوهم فقال : إنما كنت رجلا منكم ، فهداني الله عزوجل للإسلام ، فإن أسلمتم فلكم ما لنا ، وعليكم ما علينا ، وإن أبيتم فأدوا الجزية وأنتم صاغرون ، وإن أبيتم نابذناكم على سواء : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) يفعل ذلك بهم ثلاثة أيام ، فلما كان اليوم الرابع ، غدا الناس إليها ، ففتحوها بعون الله تعالى.

وروى البيهقي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ثلاثة ، المسلم والكافر فيهن سواء : من عاهدته فوفّ بعهده مسلما كان أو كافرا ، فإنما العهد لله ، ومن كانت بينك وبينه رحم فصلها ، مسلما كان أو كافرا ، ومن ائتمنك على أمانة فأدّها إليه ، مسلما كان أو كافرا».

ثم أنذر الله تعالى الخائنين بما يحل بهم من عقاب ، وبيّن حال من فات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بدر وغيره ، لئلا يبقى حسرة في قلبه نحو من بلغ في إيذائه مبلغا عظيما ، فقال : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا ...) أي لا يظننّ الذين كفروا أنهم فاتوا وأفلتوا من الظفر بهم ، ونجوا من عاقبة خيانتهم ، وأنهم فاتونا فلا نقدر عليهم ، بل هم تحت قدرتنا وفي قبضة مشيئتنا ، فلا يعجزوننا ، كقوله تعالى :

__________________

(١) ورواه أيضا أبو داود الطيالسي عن شعبة ، وأخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحة من طرق عن شعبة ، وقال الترمذي : حسن صحيح.

٤٥

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي يظنون [العنكبوت ٢٩ / ٤].

إنهم لا يعجزون الله تعالى ولا يفوتونه ، وإنما سيجزون على كفرهم ، كما قال تعالى : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ ، وَمَأْواهُمُ النَّارُ ، وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [النور ٢٤ / ٥٧] وقال تعالى أيضا : (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ ، وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ) [التوبة ٩ / ٢].

فالآية تطمين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه منتقم ممن كفروا وآذوه ، وقطع لأطماعهم بالتغلب على المؤمنين.

فقه الحياة أو الأحكام :

تضمنت الآية الأولى : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ ...) بيان أوصاف اليهود من بني قريظة ، فهم كفرة ، ناقضوا العهود على الدوام ، لا يتقون الله في غدرهم وخيانتهم.

قال أهل المعاني : إنما عطف المستقبل (ثُمَّ يَنْقُضُونَ ...) على الماضي (الَّذِينَ كَفَرُوا ...) لبيان أن من شأنهم نقض العهد مرة بعد مرة.

قال ابن عباس : هم قريظة ، فإنهم نقضوا عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأعانوا عليه المشركين بالسلاح في يوم بدر ، ثم قالوا : أخطأنا ، فعاهدهم مرة أخرى ، فنقضوه أيضا يوم الخندق.

ثم أوضح الله تعالى ما يفعل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حق من يجده في الحرب من ناقضي العهد وهو التنكيل الشديد ، ليكون عبرة لغيره.

ثم ذكر ما يجب أن يفعله فيمن ظهر منه نقض العهد والغش في قوله : (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) وهو نبذ العهد وإعلامه بانتهاء المعاهدة ، حتى

٤٦

يتساوى الطرفان في العلم بقيام حالة الحرب. حكى الطبري عن مجاهد : أن هذه الآية نزلت في بني قريظة وبني النضير. فآية (فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) في شأن بني قريظة ، الذين كانت خيانتهم ظاهرة مشهورة حين تحزبوا مع قريش في وقعة الخندق. وآية (وَإِمَّا تَخافَنَ) تشمل بني النضير وغيرهم ممن تخاف خيانتهم.

وقد تساءل ابن العربي حول آية (وَإِمَّا تَخافَنَ) ثم أجاب عن التساؤل ، فقال : كيف يجوز نقض العهد مع خوف الخيانة ، والخوف ظنّ لا يقين معه ، فكيف يسقط يقين العهد بظنّ الخيانة؟

والجواب من وجهين :

أحدهما ـ أن الخوف هاهنا بمعنى اليقين ، كما يأتي الرجاء بمعنى العلم ، كقوله تعالى : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) [نوح ٧١ / ١٣].

الثاني ـ إنه إذا ظهرت آثار الخيانة ، وثبتت دلائلها ، وجب نبذ العهد ، لئلا يوقع التمادي عليه في الهلكة ، وجاز إسقاط اليقين هاهنا بالظن للضرورة (١).

أي أن قوله : (تَخافَنَ) إما بمعنى تعلمنّ ، وإما بمعنى تظنن ، ويكفي الظن للضرورة.

وأما إذا علم اليقين فيستغنى عن نبذ العهد إليهم ، وقد سار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أهل مكة عام الفتح ؛ لما اشتهر منهم نقض العهد ، من غير أن ينبذ إليهم عهدهم.

وفي الآية دلالة واضحة على إيجاب الإسلام المحافظة على العهود مع الأعداء ، وتحريم الخيانة معهم. روى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لكل غادر لواء يوم القيامة ، يرفع له بقدر غدره ، ألا

__________________

(١) أحكام القرآن : ٨ / ٨٦٠

٤٧

ولا غادر أعظم غدرا من أمير عامة» والسبب أن غدره يفقد الثقة بعهوده ومصالحاته ، فيعظم ضرره ، ويكون ذلك منفّرا عن الدخول في الدين ، وموجبا لذم أئمة المسلمين.

فأما إذا لم يكن للعدو عهد ، فيمكن اتخاذ كل الحيل والخديعة معه ، وعليه يحمل قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رواه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي عن جابر : «الحرب خدعة» وإذا كان العدو اليوم مثل اليهود في الأرض المحتلة لا يعتد بعهد ولا ذمّة ، فتكون مفاجأته من ألوان الفن الحربي.

وهل يجاهد مع الإمام الغادر؟ للعلماء رأيان : ذهب أكثرهم إلى أنه لا يقاتل معه ، بخلاف الخائن والفاسق ، وذهب بعضهم إلى الجهاد معه.

ثم ذكر الله تعالى حال من فاته العقاب يوم بدر ، وظل على قيد الحياة ، وهو أن شأنهم يسير هيّن على الله ، فهم إن تخلصوا من الأسر والقتل لا يعجزون الله من الانتقام منهم في الآخرة ، بل لا يعجزونه من العقاب في الدنيا حتى يظفر الله الرسول بهم. والمقصود تسلية الرسول فيمن فاته ، ولم يتمكن من التشفي والانتقام منه.

الإعداد الحربي لقتال الأعداء بحسب الطاقة والاستطاعة

(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٦٠))

الإعراب :

(تُرْهِبُونَ بِهِ) الهاء في (بِهِ) إما أن تعود على (مَا) أو على الرباط ، أو على الإعداد المفهوم من قوله : (وَأَعِدُّوا).

٤٨

(وَآخَرِينَ) منصوب بالعطف على (عَدُوَّ اللهِ) أي ترهبون آخرين من دونهم.

البلاغة :

(مِنْ قُوَّةٍ) نكرة تفيد العموم ، فتشمل الإعداد المادي بمختلف الأسلحة المناسبة للعصر ، المتطورة حسبما يوجد لدى العدو ، المصنّعة في داخل البلاد الإسلامية ، وتشمل أيضا الإعداد المعنوي والروحي من حفز المواهب والقوى وإعداد الجيل إعدادا حربيا ، وتسليحه بالعقيدة الإسلامية الحقة ، وبالأخلاق الدينية الصالحة ، وبغير ذلك لا نصر على العدو.

المفردات اللغوية :

(وَأَعِدُّوا) الإعداد : التهيئة للمستقبل. (لَهُمْ) لقتالهم. (مِنْ قُوَّةٍ) قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثا فيما رواه مسلم : «ألا إن القوة : الرمي» وهي الآن : كل ما يتقوى به في الحرب. (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) رباط الخيل : اسم للخيل التي تربط في سبيل الله ، فالمراد من رباط الخيل : حبسها واقتناؤها في سبيل الله وإعدادها للجهاد باعتبار أنها كانت في الماضي أداة الحرب المهمة. (تُرْهِبُونَ بِهِ) تخوفون من الإرهاب والترهيب : وهو الإيقاع في الرهبة : وهي الخوف المقترن بالاضطراب. (عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) هم في الماضي كفار مكة ، والآن : كل من يعادي الإسلام ويتآمر عليه وعلى المسلمين. (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ) أي غيرهم وهم المنافقون أو اليهود. (يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) جزاؤه إليكم. (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) لا تنقصون منه شيئا.

المناسبة :

بعد أن أمر الله رسوله بتشريد ناقضي العهد ، ونبذ العهد إلى من خاف منه النقض ، أمره في هذه الآية بالإعداد لهؤلاء الكفار ، وهذا أمر طبيعي يستتبع نقض العهد وقيام حالة الحرب.

التفسير والبيان :

يأمر الله تعالى المؤمنين بإعداد آلات الحرب المناسبة لكل عصر ، وإعداد الجيش المقاتل على أرفع المستويات ؛ لأن الجيش درع الأمة وحصنها المنيع ، وذلك بحسب الطاقة والإمكان والاستطاعة.

فقال : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ ...) أي هيئوا لقتال الأعداء ما أمكنكم من

٤٩

أنواع القوى المادية والمعنوية المناسبة لكل زمان ومكان ، ومن مرابطة الخيول في الثغور والحدود ؛ لأنها منفذ الأعداء ومواطن الهجوم على البلاد ، وقد كانت الخيول أداة الحرب البرية الرهيبة في الماضي ، وما تزال لها أهميتها أحيانا في بعض ظروف الحرب الحاضرة ، مثل حال استعمال السلاح الأبيض والتجسس ونقل بعض المؤن والذخيرة في الطرق الجبلية ، وإن كان الدور الحاسم اليوم هو لسلاح الطيران ، والمدافع ، والدبابات ، والغواصات البحرية ، فصار ذلك هو المتعين إعداده بدلا من الخيول ؛ لأن المهم تحقيق الأهداف ، وأما الوسائل والآلات فهي التي يجب إعدادها بحسب متطلبات العصر ، ويكون المقصود هو إعداد جيش دائم مستعد للدفاع عن البلاد ، ويتم ذلك بالمال المخصص لهذه المهمة ، ودعمه بالسلاح الذي ينفق عليه من المسلمين بحسب الطاقة. وقد خص الله الخيل بالذكر ، وإن كانت داخلة في القوة ، تشريفا لها ، وتكريما ، واعتدادا بأهميتها.

ثم ذكرت الآية سبب الإعداد وهدفه وهو إرهاب عدو الله وعدو المسلمين من الكفار الذين ظهرت عداوتهم كمشركي مكة في الماضي ، وإرهاب العدو الخفي الموالي لهؤلاء الأعداء ، سواء أكان معلوما لنا أم غير معلوم ، بل الله يعلمهم ؛ لأنه علام الغيوب. وهذا يشمل اليهود ، والمنافقين في الماضي ، ومن تظهر عداوته بعدئذ مثل فارس والروم ، وسلالاتهم في دول العالم المعاصر.

وبغير الإعداد الملائم للحرب في كل عصر لا يصان السّلام ، وصون السّلام عرفا وعادة وعقلا لا يكون إلا بآلات الحرب الحديثة.

وبما أن الإعداد للجهاد لا يتوافر بغير المال ، حثّ القرآن على الإنفاق في سبيله ، فقال تعالى : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ ...) أي أن كل شيء قليل أو كثير تنفقونه في الجهاد في سبيل الله ، فإنه يوفى لصاحبه ، ويجازى عليه على أتم وجه وأكمله ، ولا ينقص منه شيء. جاء في الحديث الذي رواه أبو داود : أن الدرهم

٥٠

يضاعف ثوابه في سبيل الله إلى سبعمائة ضعف ، كما نص تعالى في قوله : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ ، فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ، وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ ، وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة ٢ / ٢٦١].

وقوله : (فِي سَبِيلِ اللهِ) عام في الجهاد وفي سائر وجوه الخيرات.

وهذا يدل على أن الإعداد الحربي متوقف على إنفاق المال الكثير في سبيله. ومردود النفقة في الواقع يعود إلى المنفق في الدنيا بتحصين ماله وأرضه وتجارته وصناعته مثلا ، وفي الآخرة بالظفر في جنان الخلد جزاء ما قدم ، كما قال تعالى : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ ، وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ ، وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ، وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) [البقرة ٢ / ٢٧٢].

فقه الحياة أو الأحكام :

ما تزال الأمم قديما وحديثا تعنى بإعداد وتجهيز الجيوش الضاربة المقاتلة للدفاع عن وجودها وعزتها وكرامتها ، وحماية حدودها ، وصون أمنها ومجدها ورخائها.

لذا أمر الله المؤمنين بالإعداد الدائم للقوة الحربية لمواجهة الأعداء ، وفي هذا كما أشارت الآية إرهاب للعدو ، ومنعه من التفكير في العدوان على الأمة والمقدسات.

وبما أن الإعداد المادي والأدبي والفني للجهاد متوقف على الدعم المالي ، أوجب الله على المؤمنين المساهمة في الإنفاق على متطلبات القتال بحسب الحاجة وعلى قدر الطاقة والسعة.

وقد استدل بعض علماء المالكية بهذه الآية على جواز وقف الخيل والسلاح ، واتخاذ الخزائن والخزّان لها ، عدّة للأعداء. وقد اختلف العلماء في جواز وقف

٥١

الحيوان كالخيل والإبل على قولين : قول بالمنع وهو لأبي حنيفة ، وقول بالصحة وهو قول الشافعي والجمهور ، وهو أصح ؛ لهذه الآية ، وقوله عليه الصلاة والسّلام في حق خالد : «وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا ، فإنه قد احتبس أدراعه وأعتاده (١) في سبيل الله» ولأنه مال ينتفع به في وجه يعد قربة ، فجاز أن يوقف كالديار والأراضي.

إيثار السّلام وتوحيد الأمة وتحريضها على القتال

(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (٦٥) الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦))

__________________

(١) الأعتاد : آلات الحرب من السلاح والدواب وغيرها.

٥٢

الإعراب :

(حَسْبُكَ اللهُ) مبتدأ وخبر ، والمعنى : يكفيك الله ، فكأنه قال : يكفيك الله وتابعك. (وَمَنِ اتَّبَعَكَ) الواو بمعنى (مع) وما بعده منصوب ، تقول : حسبك وزيدا درهم ، ولا تجرّ ؛ لأن عطف الظاهر المجرور على المكني ممتنع ، والمعنى : كفاك وكفى أتباعك من المؤمنين الله ناصرا. و (مَنِ) : إما مرفوع عطفا على لفظ (اللهُ) أي حسبك الله وتابعوك ، أو مبتدأ وخبره محذوف ، تقديره : ومن اتبعك من المؤمنين كذلك. وإما منصوب بالحمل في العطف على المعنى.

(وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ ... فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ ...) من قرأ يكن بالياء على التذكير فللفصل بين الفعل والفاعل ، ومن قرأ بالتاء فلتأنيث المائة.

البلاغة :

(وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ...) الآية فيها ما يسمى بالإطناب ، للتذكير بنعمة الله العظمى على الرسول والمؤمنين ، وهي نعمة التأليف ووحدة الأمة.

(إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) فيه ما يسمى بالاحتباك وهو إثبات قيد الصبر في الشرط الأول ، وحذف نظيره من الشرط الثاني ، وإثبات صفة الكفر من الآية الثانية وحذفها من الأولى ، ثم ختمت الآية بالصابرين للمبالغة في الطلب.

المفردات اللغوية :

(وَإِنْ جَنَحُوا) مالوا. (لِلسَّلْمِ) بكسر السين وفتحها : الصلح ، والإسلام دين السّلام ، كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) [البقرة ٢ / ٢٠٨]. (فَاجْنَحْ لَها) مل إليها وعاهدهم. (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) ثق به. (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) للقول. (الْعَلِيمُ) بالفعل. (أَنْ يَخْدَعُوكَ) بالصلح ليستعدوا للحرب. (فَإِنَّ حَسْبَكَ) كافيك وناصرك عليهم. (حَرِّضِ) حث على القتال. (بِأَنَّهُمْ) أي بسبب أنهم. (قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) أي لا يدركون حكمة الحرب وما تؤدي إليه من سعادة الدنيا والآخرة.

(إِنْ يَكُنْ) هذا خبر بمعنى الأمر ، أي ليقاتل العشرون منكم المائتين ، والمائة ألفا ، ويثبتوا لهم ، ثم نسخ ذلك لما كثروا ، بالآية التالية.

(أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) عن قتال الواحد عشرة أمثاله. (بِإِذْنِ اللهِ) بإرادته. (وَإِنْ يَكُنْ) خبر بمعنى الأمر أي لتقاتلوا مثليكم وتثبتوا لهم. (مَعَ الصَّابِرِينَ) أي يعينهم.

٥٣

سبب النزول :

نزول الآية (٦٤):

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ) : قال الزمخشري في الكشاف نقلا عن الكلبي : هذه الآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال. وهذا هو الراجح.

وقيل : نزلت في إسلام عمر ، والآية مكية ، كتبت بأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سورة مدنية ، كما ذكر القشيري. قال ابن عباس : نزلت في إسلام عمر ؛ فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أسلم معه ثلاثة وثلاثون رجلا ، وست نسوة ؛ فأسلم عمر ، وصاروا أربعين.

وأخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح عن سعيد بن جبير قال : لما أسلم مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثة وثلاثون رجلا ، وست نسوة ، ثم أسلم عمر ، نزلت (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ) الآية.

وأخرج أبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن سعيد بن المسيب قال : لما أسلم عمر ، أنزل الله في إسلامه : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ) الآية.

لكن ورد في السيرة خلاف ما ذكر عن إسلام عمر ، قال ابن مسعود : ما كنا نقدر على أن نصلّي عند الكعبة حتى أسلم عمر ، فلما أسلم قاتل قريشا ، حتى صلّى عند الكعبة ، وصلينا معه. وكان إسلام عمر بعد خروج من خرج من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الحبشة. قال ابن إسحاق : وكان جميع من لحق بأرض الحبشة ، وهاجر إليها من المسلمين ، سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم صغارا ، أو ولدوا بها ، ثلاثة وثمانين رجلا.

نزول الآية (٦٥):

(إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ) : أخرج إسحاق بن راهويه في مسنده

٥٤

عن ابن عباس قال : لما افترض الله عليهم أن يقاتل الواحد عشرة ، ثقل ذلك عليهم وشق ، فوضع الله ذلك عنهم إلى أن يقاتل الواحد رجلين ، فأنزل الله : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ...) الآية وما بعدها.

المناسبة :

بعد أن أمر الله تعالى بإعداد العدة لإرهاب الأعداء ، أمر هنا بالصلح القائم على العزة والكرامة ، وأنه عند توافر الرهبة إذا مالوا إلى الصلح ، فالحكم قبول الصلح ؛ لأن الحرب ضرورة لرد العدوان ، وتحقيق حرية نشر الإسلام ، ومنع الظلم والطغيان ، والضرورة تقدر بقدرها ، فلا يلجأ إليها إلا إذا استعصت الحلول السلمية.

التفسير والبيان :

بعد توافر الإعداد الحربي والاستعداد التام للجهاد إن مال العدو إلى طلب الصلح ، وآثر السلم على الحرب والقتال ، فالحكم قبول الصلح حسبما يرى الإمام من المصلحة ، قال الزمخشري : والصحيح أن الأمر موقوف على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام وأهله ، من حرب أو سلم ، وليس بحتم أن يقاتلوا أبدا ، أو يجابوا إلى الهدنة أبدا (١).

ومعنى الآية : وإن جنح ، أي مال الأعداء إلى السلم أو الهدنة والصلح ، فمل إليها ؛ لأنك أولى بالسلم منهم ، وصالحهم وتوكل على الله أي ثق به ، وفوّض الأمر إليه ، ولا تخف من مكرهم وغدرهم في جنوحهم إلى السلم ، فإن الله كافيك وعاصمك من مكرهم وخديعتهم ، والله سميع لما يقولون ، عليم بما يفعلون.

__________________

(١) الكشاف : ٢ / ٢٢

٥٥

وإن يريدوا بالصلح خديعة ليتقووا ويستعدوا ، فالله يكفيك أمرهم وينصرك عليهم ، فهو كافيك وحده.

وهذا دليل واضح على إيثار السلم وتفضيله على الحرب ؛ لأن الإسلام دين السّلام والهداية والمحبة ، ولا يلجأ في شرعه إلى القتال إلا عند وجود الظروف القاهرة ، والضرورات الملجئة.

ولهذا لما طلب المشركون عام الحديبية الصلح ، ووضع الحرب بينهم وبين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تسع سنين ، أجابهم إلى ذلك ، مع ما اشترطوا من شروط مجحفة في حق المسلمين. روى عبد الله ابن الإمام أحمد عن علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنه سيكون اختلاف أو أمر ، فإن استطعت أن يكون السلم فافعل».

وأما ما نقل عن ابن عباس وجماعة آخرين من التابعين : أن هذه الآية منسوخة بآية السيف في براءة (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) [٢٩] ففيه نظر ، كما ذكر ابن كثير ؛ لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك ، فأما إذا كان العدو كثيفا ، فإنه يجوز مهادنتهم ، كما دلت عليه هذه الآية الكريمة ، وكما فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الحديبية ، فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص (١).

ثم ذكر الله تعالى نعمته عليه بما أيده من المؤمنين : المهاجرين والأنصار ، فقال : (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) أي لا تأبه بمكرهم وخديعتهم ، فإن الله أيدك بنصره ومعونته ، وأيدك بالمؤمنين ، وجعلهم أمة متآلفة واحدة على الإيمان بك وعلى طاعتك ، وعلى مناصرتك ومؤازرتك ، فكان التأييد على

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ٣٢٢ ـ ٣٢٣

٥٦

قسمين : تأييد مباشر من الله من غير توسط أسباب معلومة ، وتأييد معتمد على أسباب معتادة معلومة.

ثم أبان الله تعالى كيفية تأييده بالمؤمنين وتوحيد صفوفهم ، فقال : (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ...) أي إنه تعالى جعلهم أمة واحدة متآلفة ، متعاونة في مناصرتك ، بعد ما كان بينهم من العداوة والبغضاء إثر منازعات وحروب طويلة في الجاهلية ، كما كان الحال بين الأوس والخزرج من الأنصار ، ثم أزال الله كل تلك الخلافات بنور الإيمان ، كما قال تعالى : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ ، فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً ، وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ ، فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها ...) [آل عمران ٣ / ١٠٣].

ولو أنفقت جميع ما في الأرض من أموال ، ما استطعت تأليف قلوبهم ، وجمع كلمتهم ، ولكن الله بهدايتهم للإيمان ، وتوحيدهم على صراط مستقيم سوي ، أمكنه بقدرته وحكمته التأليف بينهم.

وهذا دليل واضح على أن من أهم أسباب النصر هو التآلف واتحاد الكلمة.

ولم يقتصر التأليف على تسوية المنازعات الجاهلية القديمة ، وإنما شمل تسوية المنازعات الجديدة التي حدثت بعد الإسلام ، كما وقع من خلاف بين المهاجرين والأنصار ، حين قسمة الغنائم في حنين ، جاء في الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لما خطب الأنصار في شأن غنائم حنين قال لهم : «يا معشر الأنصار ، ألم أجدكم ضلّالا ، فهداكم الله بي ، وعالة (١) فأغناكم الله بي ، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي» كلما قال شيئا ، قالوا : الله ورسوله أمنّ.

ولهذا قال تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ، إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي إنه تعالى

__________________

(١) أي فقراء.

٥٧

قوي غالب على أمره ، لا يغلبه خداع الخادعين ، ولا مكر الماكرين ، ولا يخيب رجاء من توكل عليه ، حكيم في أفعاله وأحكامه.

وذكر الحافظ أبو بكر البيهقي عن ابن عباس قال : «قرابة الرحم تقطع ، ومنة النعمة تكفر ، ولم ير مثل تقارب القلوب» يقول الله تعالى : (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ).

وبعد أن وعد تعالى رسوله بالنصر عند مخادعة الأعداء ، وعده بالنصر والظفر في جميع الحالات في الدين والدنيا ، فلا تكرار ، فقال : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ ...) أي إن الله كافيك ما يهمك من شؤونهم وناصرك ومؤيدك على عدوك ، وإن كثرت أعداده ، وتزايدت أمداده ، ولو قلّ عدد المؤمنين ، وحسبك وكافيك من تبعك وآمن بك من المؤمنين.

لكن وإن كان يكفيك الله بنصره وبنصر المؤمنين ، فلا يعني ذلك تعطيل الأسباب والأخذ بالوسائل المطلوبة عادة للقتال ، فلا تتكل على ذلك وحده ، وإنما عليك أن تحرض المؤمنين على القتال ، فإنه تعالى يكفيك بشرط أن يبذلوا النفس والمال في المجاهدة. والتحريض : الحث على الشيء.

ثم قال : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) وليس المراد منه الإخبار ، بل المراد الأمر ، كأنه قال : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ) فليصبروا وليجتهدوا في القتال حتى (يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) أي إن يوجد منكم عشرون صابرون ثابتون في مواقعهم ، يغلبوا بإيمانهم وصبرهم وفقههم مائتين من الكفار ليست عندهم هذه الخصال الثلاث ، لذا قال تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) أي أن السبب في هزيمة الكفار أنهم قوم جهلة لا يدركون حكمة الحرب كما تدركونها ، فهم إنما يقاتلون بقصد مجرد التفوق والاستعلاء ، وأنتم تقاتلون لإعلاء كلمة الله ، من إصلاح العقيدة ، والتطهر من الوثنية ، والتحلي بالأخلاق الفاضلة ، وإظهار

٥٨

العبودية لله عزوجل بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كما قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ) [النساء ٤٤ / ٧٦] وقال : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) [الحج ٢٢ / ٤١].

ثم إنهم لا يؤمنون بالبعث والجزاء ، وأما أنتم فتنتظرون إحدى الحسنيين من الغنيمة والنصر أو الشهادة في سبيل الله والظفر بالجنة.

وفي الآية عدة من الله وبشارة بأن جماعة المؤمنين إن صبروا غلبوا عشرة أمثالهم من الكفار بعون الله تعالى وتأييده. وفيها أيضا أن من شأن المؤمنين أن يكونوا واعين لأهداف القتال ، يعملون لما يرضي الله عزوجل ، وأن يكونوا أعلم من الكافرين بكل ما يصلح حياة البشر وارتقاء الأمم. أما الكفار والمشركون واليهود والنصارى فهم قوم ماديون يبغون من حروبهم مجرد التسلط والشهرة وإذلال الشعوب الأخرى.

ووقوف المسلم أمام عشرة من الكفار كان في مبدأ الأمر حيث كان المسلمون قلة ، فطولبوا بالمرتبة العليا من الأفعال الكريمة وهي مرتبة العزيمة ، وأما بعد أن كثر المسلمون ، فلم يطالبوا إلا بما هو رخصة وتيسير وسهولة ، لذا جاءت الآية التالية مخففة نوع التكليف ، فقال تعالى : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ) أي لما أوجب الله على المسلم الواحد مقاومة العشرة والثبات لهم ، وثقل ذلك عليهم ، خفف عنهم إلى مرتبة أقل منها ، هي مقاومة الواحد الاثنين ، فإن يكن منكم مائة صابرة ، بعد أن علم فيكم ضعفا في البدن من كثرة الجهاد والعمل ، يغلبوا مائتين ، وإن يكن منكم ألف صابرون يغلبوا ألفين بإذن الله وقوته ومشيئته ، والله دائما مع الصابرين بالمعونة والتأييد والرعاية. روى البخاري عن ابن عباسرضي‌الله‌عنهما قال : «لما نزلت : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) شقّ ذلك على المسلمين حين فرض عليهم ألا يفرّ الواحد من عشرة ،

٥٩

فجاء التخفيف فقال : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ ...) الآية قال : فلما خفف الله عنهم من العدة ، نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم.

وفي كلا الحالين يطالب المسلمون القلة بمقاومة الجماعة الأكثر منهم ؛ لأن العبرة بالانضباط والصبر ، والحزم والعزم ، وصدق الإيمان ، واتباع أوامر الله تعالى. وقوله : (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) تحذير للمؤمنين من الاعتماد على الإيمان وحده لتحقيق النصر والغلبة ، فإنه لا بد مع الإيمان من أوصاف أخرى ، أهمها الصبر والثبات ، والإعداد المادي والنفسي الدائم ، والمعرفة بحقائق الأمور ، ومقاصد الجهاد.

وقد تكرر الأمر بالثبات فردا وجماعة والصبر في القرآن الكريم ، مثل قوله تعالى في الثبات : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا) [الأنفال ٨ / ٤٥] وقوله : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) [الصف ٦١ / ٤] وقوله تعالى في الصبر : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران ٣ / ٢٠٠] وقوله : (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ، وَاصْبِرُوا ، إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال ٨ / ٤٦].

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت آية (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ) على الأمر بقبول عقد الصلح والمهادنة أو المسالمة إن مال إليه العدو ، وعلى الأمر بالتوكل على الله ، أي تفويض الأمر فيما عقد من صلح إلى الله ، ليكون عونا على السلامة ، والنصر عليهم إذا نقضوا العهد وعدلوا عن الوفاء. ونبه تعالى في آخر الآية بقوله : (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) على الزجر عن نقض الصلح ؛ لأنه تعالى عالم بما يضمره العباد ، وسامع لما يقولون.

وفي هذا دلالة واضحة على أن الإسلام يؤثر السلم على الحرب ، ويوجب

٦٠