التفسير المنير - ج ١٠

الدكتور وهبة الزحيلي

فقه الحياة أو الأحكام :

أوضحت الآيات أسباب البراءة من المشركين وحكمة الأمر بقتالهم بعد مهلة الأربعة الأشهر : وهي أنهم نقضوا العهد ، ولا يرعون في المؤمنين إلّا ولا ذمة أي حلفا وقرابة وعهدا وأمانا ، ومخادعون يقولون بألسنتهم ما يرضي في الظاهر وقلوبهم تغلي حقدا وحسدا وكراهية ، وأكثرهم فاسقون في دينهم وعند أقوامهم ، مما يوجب المبالغة في الذم ، أي ناقضون العهد ، وأنهم استبدلوا بالقرآن متاع الدنيا ، ومنعوا أنفسهم وغيرهم عن سبيل الله : سبيل التوحيد والحق والخير ، وأنهم معتدون ، أي مجاوزون الحلال إلى الحرام بنقض العهد.

واستفيد من الآيات بالنسبة للمؤمنين : أن العهد المحترم عند الله وعند الرسول هو عهد غير الناكثين ، وأن من استقام على عهده نعامله بمقتضاه ، ففي الحالين معاملة بالمثل ، وأن مراعاة العهد وتنفيذ شروطه من تقوى الله التي يرضاها لعباده.

مصير المشركين إما التوبة وإما القتال

(فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢))

الإعراب :

(فَإِخْوانُكُمْ) أي فهم إخوانكم ، خبر لمبتدأ محذوف.

(أَئِمَّةَ) مفعول به ، جمع إمام ، وأصله «أأممة» على أفعلة ، فألقيت حركة الميم الأولى على الهمزة الساكنة قبلها ، وأدغمت الميم الأولى في الثانية ، وأبدل من الهمزة المكسورة ياء مكسورة.

١٢١

(لا أَيْمانَ لا) نافية للجنس ، و (أَيْمانَ) : اسمها ، وهي جمع يمين ، أي لا عهود لهم. وتقرأ بالكسر ، أي لا إيمان ، وهو مصدر بمعنى التصديق تأكيدا لقوله تعالى : (أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) وإما مصدر أمنته إيمانا من الأمن ، لئلا يكون تكرارا لقوله : (أَئِمَّةَ الْكُفْرِ).

البلاغة :

(فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) وضع أئمة الكفر موضع الضمير ، للدلالة على أنهم صاروا بذلك ذوي الرياسة والتقدم في الكفر ، أحقّاء بالقتل. وقيل : المراد بالأئمة : رؤساء المشركين ، فالتخصيص لأن قتلهم أهم وهم أحق به.

المفردات اللغوية :

(وَنُفَصِّلُ) نبين. (يَعْلَمُونَ) يتدبرون. (نَكَثُوا) نقضوا العهد ، وأصل النكث : نقض الحبل. (أَيْمانَهُمْ) مواثيقهم. (وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ) عابوه. (أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) رؤساء الكفر ، فيه وضع الظاهر موضع الضمير. (لا أَيْمانَ) لا عهود. (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) عن الكفر.

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى حال المشركين من أنهم لا يرقبون في مؤمن إلّا ولا ذمة ، وينقضون العهد ، ويضمرون النفاق ، ويتعدون ما حدّ لهم ، بيّن حالهم بعد ثبوت عداوتهم للإسلام ، فهم بين أمرين : التوبة أو القتال.

التفسير والبيان :

هذا مصير الكفار المشركين بعد إعلان عداوتهم للإسلام ، فهم بين أمرين :

أحدهما ـ التوبة الصادقة عن الكفر ونقض العهد والصدّ عن سبيل الله : أي إن تابوا عن شركهم بالله ، وآمنوا بالله ربا واحدا لا شريك له ، وأقاموا الصلاة ، أي أدّوها بشروطها وأركانها باعتبارها عماد الدين ، وآتوا الزكاة المفروضة عليهم الدالة على التكافل بين المسلمين وصدق الاعتقاد ، إن فعلوا ذلك فهم إخوانكم في

١٢٢

الدين ، لهم مالكم ، وعليهم ما عليكم. ووصفهم بالإخوة دليل على أن أخوة الدين أعلى وأخلد وأقوى من أخوة النسب. واستحقوا هذا الوصف بالأمور الثلاثة المتقدمة المتلازمة مع بعضها : وهي التوبة عن الكفر ونقض العهد ، والإنابة إلى الله والإيمان به ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة.

(وَنُفَصِّلُ الْآياتِ) ، أي نبين الأدلة والبراهين على وجودنا الحق ، (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) ما نبين لهم ، فيفهمون ويتفقهون. وهذا اعتراض قصد به الحث على تأمل ما فصّل من أحكام المعاهدين ، وعلى المحافظة عليها.

والثاني ـ القتال بعد نقضهم العهود : أي إن نقض هؤلاء المشركون ما أبرم معهم من عهود ، وطعنوا في دينكم ، أي عابوا القرآن والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واستهزءوا بالمؤمنين ، كما كان يفعل شعراؤهم وزعماء الكفر فيهم ، فهم أئمة الكفر وقادته ورؤساؤه ، فقاتلوهم قتالا عنيفا ، إنهم لا عهود لهم ولا ذمة ؛ لأنهم لما لم يفوا بها صارت كأن لم تكن ، وذلك لتكون المقاتلة سببا في انتهائهم ورجوعهم عما هم فيه من الكفر والعناد والضلال. وهذا من غاية كرم الله وفضله على الإنسان.

فقوله : (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) أي عن كفرهم وباطلهم وإيذائهم المسلمين.

قال قتادة : أئمة الكفر كأبي جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف وآخرين. وليس المراد بالآية هنا هؤلاء ؛ لأنها لما نزلت ، كان هؤلاء قد قتلوا في بدر. وخصّ الأئمة والسادة منهم بالذكر ؛ لأنهم هم الذين يحرضون الأتباع على الأعمال الباطلة.

وفيه دليل على أن الذمي إذا طعن في الإسلام ، فقد نكث عهده ، وعلى أن القتال ليس بقصد المنافع الدنيوية أو الغنائم ، أو إظهار الاستعلاء ، وحب السيطرة ، وإرادة الانتقام ، وإنما هو من أجل التمكين من قبول دعوة الإسلام ؛ وما الحرب إلا ضرورة يقتصر فيها على قدر الضرورة.

١٢٣

قال ابن كثير : والصحيح أن الآية عامة ، وإن كان سبب نزولها مشركي قريش ، فهي عامة لهم ولغيرهم (١).

فقه الحياة أو الأحكام :

حضت الآية على التوبة الصادقة عن الشرك والتزام أحكام الإسلام ، وعلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، فلا تفرقة بين هذه الأمور الثلاثة.

روى الحافظ أبو بكر البزار عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من فارق الدنيا على الإخلاص لله وعبادته ، لا يشرك به ، وأقام الصلاة ، وآتى الزكاة ، فارقها ، والله عنه راض».

فإن أعرض المشركون عن قبول دعوة الإسلام وطعنوا في الدين ، استحقوا القتل والقتال ، وأصبحت عهودهم لا قيمة لها وكأنها لم تكن. وربما كان القتال سبيلا لقبول الإسلام ، والتخلص من الوثنية والشرك.

واستدل أبو حنيفة رحمه‌الله بهذه الآية (إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) على أن يمين الكافر ليست يمينا ، قال البيضاوي : وهو استدلال ضعيف ؛ لأن المراد نفي الوثوق عليها ، لا أنها ليست بأيمان ؛ لقوله تعالى : (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ).

وعند الشافعي رحمه‌الله : يمينهم يمين ، ومعنى هذه الآية عنده : أنهم لما لم يفوا بها ، صارت أيمانهم كأنها ليست بأيمان. والدليل على أن أيمانهم أيمان : أنه تعالى وصفها بالنكث في قوله : (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) ولو لم يكن منعقدا ، لما صحّ وصفها بالنكث.

واستدل بعض العلماء بهذه الآية على وجوب قتل كل من طعن في الدّين ؛ إذ هو كافر. والطعن : أن ينسب إليه ما لا يليق به ، أو يعترض بالاستخفاف على

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ٣٣٩

١٢٤

ما هو من الدين ؛ لما ثبت من الدليل القطعي على صحة أصوله واستقامة فروعه (١). وقال ابن المنذر : أجمع عامة أهل العلم على أن من سبّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليه القتل. وممن قال ذلك : مالك والليث وأحمد وإسحاق ، وهو مذهب الشافعي. وقد حكي عن أبي حنيفة أنه قال : لا يقتل من سبّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أهل الذمّة ، وإنما يقتل بالحرابة والقتال.

وينتقض عهد الذمي إذا طعن في الدين في المشهور من مذهب مالك ، وهو مذهب الشافعي ؛ لقوله تعالى : (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) فأمر بقتلهم وقتالهم.

وقال أبو حنيفة : إنه يستتاب ويعزر ، وإن مجرد الطعن لا ينقض به العهد إلا مع وجود النّكث (٢) ؛ لأن الله عزوجل إنما أمر بقتلهم بشرطين : أحدهما ـ نقضهم العهد ، والثاني ـ طعنهم في الدين. ورد الجمهور بأن ذكر الأمرين لا يقتضي توقف قتاله على وجودهما ، فإن النكث يبيح لهم ذلك بانفراده عقلا وشرعا.

وإذا حاربنا الذمي نقض عهده ، وكان ماله وولده فيئا معه.

وأكثر العلماء على أن من سبّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أهل الذمة ، أو عرّض ، أو استخف بقدره ، أو وصفه بغير الوجه الذي كفر به ، فإنه يقتل ؛ فإنا لم نعطه الذمة أو العهد على هذا.

ورأى أبو حنيفة والثوري أنه لا يقتل ، ما هو عليه من الشرك أعظم ، ولكن يؤدّب ويعزّر. والحجة عليهما قوله تعالى : (وَإِنْ نَكَثُوا) الآية. وقتل كعب بن الأشرف لإيذائه النبي وكان معاهدا.

__________________

(١) أحكام القرآن لابن العربي : ٢ / ٨٩٣

(٢) أحكام القرآن للجصاص : ٣ / ٨٥

١٢٥

وإذا سبّه ثم أسلم تقيّة من القتل ، يسقط إسلامه قتله في مشهور مذهب مالك ؛ لأن الإسلام يجبّ ما قبله ، بخلاف المسلم إذا سبّه ثم تاب ، قال الله عزوجل : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا : إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [الأنفال ٨ / ٣٨].

قال القرطبي في قوله تعالى : (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) : وذلك يقتضي أن يكون الغرض من قتالهم دفع ضررهم ، لينتهوا عن مقاتلتنا ويدخلوا في ديننا.

التحريض على قتال المشركين الناكثين أيمانهم وعهودهم

(أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥))

الإعراب :

(فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ) : فيه ثلاثة أوجه :

الأول ـ أن يكون (فَاللهُ) مبتدأ ، و (أَنْ تَخْشَوْهُ) : بدل منه ، و (أَحَقُ) خبر المبتدأ.

الثاني ـ أن يكون (فَاللهُ) مبتدأ ، و (أَحَقُ) : خبره ، و (أَنْ تَخْشَوْهُ) : في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر ، تقديره : فالله أحق من غيره بأن تخشوه ، أي بالخشية.

الثالث ـ أن يكون (فَاللهُ) مبتدأ ، و (أَنْ تَخْشَوْهُ) : مبتدأ ثان ، و (أَحَقُ) : خبر المبتدأ الثاني ، والمبتدأ الثاني وخبره : خبر المبتدأ الأول.

١٢٦

البلاغة :

(أَلا) تحريض على القتال ؛ لأن الهمزة دخلت على النفي للإنكار ، فأفادت المبالغة في الفعل. (أَتَخْشَوْنَهُمْ) استفهام للإنكار والتوبيخ.

(وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ذكر لفظ الجلالة مكان الضمير لغرس الهيبة والرهبة في القلب.

المفردات اللغوية :

(أَلا) للحض. (نَكَثُوا) نقضوا. (أَيْمانَهُمْ) عهودهم. (وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ) من مكة ، لما تشاوروا في شأنه بدار الندوة. (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ) بالقتال. (أَوَّلَ مَرَّةٍ) حيث قاتلوا مع بني بكر خزاعة حلفاءكم ، فما يمنعكم أن تقاتلوهم. (أَتَخْشَوْنَهُمْ) أتخافونهم. (أَنْ تَخْشَوْهُ) في ترك قتالهم.

(يُعَذِّبْهُمُ اللهُ) يقتلهم. (وَيُخْزِهِمْ) يذلهم بالأسر والقهر. (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) يعني خزاعة. (غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) كربها ، أي ويذهب الغيظ عنهم.

سبب النزول :

نزول الآية (١٤):

(قاتِلُوهُمْ) أخرج أبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن قتادة قال : ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في خزاعة حين جعلوا يقتلون بني بكر بمكة. وأخرج عن عكرمة قال : نزلت هذه الآية في خزاعة. وأخرج عن السدّي : (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) قال : هم خزاعة حلفاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يشف صدورهم من بني بكر.

المناسبة :

بعد أن قال الله تعالى : (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) أتبعه بذكر السبب الذي يبعث على مقاتلتهم ، وهو نقضهم العهد ، واعتداؤهم على المؤمنين ، وبدؤهم لهم بالقتال ، وهمهم بإخراج الرسول من بلده ، وأما قتالهم فلأجل تطهير الجزيرة العربية من الشرك والوثنية.

١٢٧

التفسير والبيان :

هذا حض وتحريض على قتال المشركين الناكثين أيمانهم وعهودهم ، وذلك لأسباب ثلاثة ذكرها الله تعالى في هذه الآية :

١ ـ نكثهم العهد : إنهم نقضوا عهودهم التي أقسموا عليها. قال ابن عباس والسدي والكلبي : نزلت في كفار مكة الذين نكثوا أيمانهم بعد عهد الحديبية ، وأعانوا بني بكر على خزاعة. وهذا يدل على أن قتال الناكثين أولى من قتال غيرهم من الكفار ، ليكون ذلك زجرا لغيرهم.

والعهد الذي نقضوه : هو ـ كما تبين ـ صلح الحديبية ، لمناصرة قريش حلفاءهم بني بكر على خزاعة حلفاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ليلا بالقرب من مكة ، على ماء يسمى (الهجير). فسار إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفتح مكة سنة ثمان هجرية في العشرين من رمضان.

٢ ـ إخراج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكة : فقد هموا بإخراج الرسول من مكة ، أو حبسه حتى لا يراه أحد ، أو قتله بيد عصابة من أفراد القبائل ليذهب دمه هدرا ، كما قال تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ ، أَوْ يَقْتُلُوكَ ، أَوْ يُخْرِجُوكَ ، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ ، وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) [الأنفال ٨ / ٣٠] وقال تعالى : (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ) [الممتحنة ٦٠ / ١] وقال عزوجل : (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ ، لِيُخْرِجُوكَ مِنْها) [الإسراء ١٧ / ٧٦].

٣ ـ بدؤهم بالقتال : إنهم بدؤوا بقتال المؤمنين يوم بدر ، حين قالوا بعد العلم بنجاة العير: لا ننصرف حتى نستأصل محمدا ومن معه. وكذلك في أحد والخندق وغيرها.

١٢٨

وبعد أن ذكر الله تعالى هذه الأسباب الثلاثة التي تستدعي الإقدام على القتال زاد أربعة أخرى : أولها ـ تعداد موجبات القتال وتفصيلها ، وثانيها ـ التحميس بالإغارة والتحريك ، كما لو قال شخص لآخر : أتخشى خصمك وتخافه؟ وثالثها ـ كون الله أحق بالخشية ؛ لأنه صاحب القدرة المطلقة التي تدفع الضرر المتوقع وهو القتل ، ورابعها ـ إن كنتم مؤمنين ، فالإيمان قوة دافعة على الإقدام. فهذه أمور سبعة تبعث على مقاتلة أولئك الكفار الناكثين.

وبعد بيان هذه الأسباب أنكر الله تعالى عليهم الخشية من المشركين ووبخهم عليها ، فقال : (أَتَخْشَوْنَهُمْ)؟ أي أبعد هذا تتركون قتالهم خشية وخوفا منهم؟ فإن كنتم تخشونهم ، فالله أحق بالخشية ، أي لا تخشوهم واخشون ، فأنا أحق بالخشية منهم ، إن كنتم مؤمنين بي ، إذ شرط الإيمان الخوف من الله وحده دون سواه ؛ لأن بيده النفع والضرّ.

وفي هذا دلالة على أن المؤمن الذي يخشى الله وحده يجب أن يكون أشجع الناس وأجرأهم على القتال.

وبعد أن ذكر الله تعالى مسوغات القتال وحكمته ، أمر به المؤمنين أمرا صريحا ، فقال : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ ...) أي قاتلوهم أيها المؤمنون ، وهذا عام في المؤمنين كلهم ، فإن قاتلتموهم يعذبهم الله بأيديكم ، ويخزهم بالقتل والأسر والهزيمة ، وينصركم عليهم ، ويشف صدور قوم مؤمنين امتلأت غيظا من أفعال المشركين بهم في مكة ، وهم بنو خزاعة حلفاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما قال مجاهد. ويذهب غيظ قلوبهم أي قلوب هؤلاء المؤمنين على المشركين من غدرهم وظلمهم وشدة إيذائهم. أو يذهب غيظ قلوبكم لما لقيتم من شدة المكروه منهم. والفرق بين شفاء الصدور وإذهاب غيظ القلوب : أن الأول إحداث للسرور بتحقيق النصر الذي ينتظرونه بعد وعد الله لهم به ، وأن الثاني : إزالة لآثار الواقع.

١٢٩

وقال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : هم بطون من اليمن وسبأ قدموا مكة ، فأسلموا ، فلقوا من أهلها أذى شديدا ، فبعثوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشكون إليه ، فقال : «أبشروا ، فإن الفرج قريب».

ثم قال تعالى : (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) وهذا ابتداء كلام وإخبار بأن بعض أهل مكة يتوب عن كفره ، وقد حدث ذلك فعلا ، فأسلم أناس منهم وحسن إسلامهم ، مثل أبي سفيان وعكرمة بن أبي جهل وسليم بن أبي عمرو. والسبب في جعل هذه الجملة استئناف كلام جديد هو أن التوبة لا يكون سببها القتال ؛ إذ قد توجد بغير قتال لمن شاء الله أن يتوب عليه في كل حال.

والله عليم بما يصلح عباده ، حكيم في أفعاله وأقواله الكونية والشرعية ، فيفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، وهو العادل الحكيم الذي لا يجور أبدا ، ولا يفعل إلا ما اقتضته الحكمة ، ويجازي كل إنسان على ما قدم من خير أو شر في الدنيا والآخرة.

وهذا دليل على أن من سنته تعالى تفاوت البشر في قابلية التحول من حال إلى حال بأسباب ومؤثرات تقتضيها المقادير الإلهية.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآية على أن قتال المشركين الناكثين العهد كان لأسباب كثيرة أهمها نقضهم العهد ، والتصميم على طرد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من موطنه ، أو حبسه أو قتله ، وبدؤهم المؤمنين بالعدوان والقتال ، إلى آخر الأسباب السبعة الداعية للقتال.

فبالرغم من التحريض على القتال بقوله تعالى : (أَلا تُقاتِلُونَ) فإنه تعالى أثار في المؤمنين روح الشجاعة والإقدام من طريق أنهم لا يخشون أحدا إلا الله ، ومن إيمانهم الحق الصادق بالله ، فإن من لا يخشى غير الله ، وآمن بالله إيمانا

١٣٠

صادقا ، هانت عليه الصعاب ، وأقدم على المقاتلة بنفس متحمسة لا تعرف التردد والخوف والجبن.

ونقل عن ابن عباس أنه قال : قوله تعالى : (أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً) ترغيب في فتح مكة. وهذه الأوصاف مناسبة لفتح مكة.

وقال أبو بكر الأصم : دلت هذه الآية على أنهم كرهوا هذا القتال ، لقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) [البقرة ٢ / ٢١٦] فآمنهم الله تعالى بهذه الآيات.

ودلت هذه الآية على أن المؤمن ينبغي أن يخشى ربه ، وألا يخشى أحدا سواه.

وتضمن قوله تعالى : (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) الإخبار بأن بعض المشركين يتوب عن كفره ، وقد حدث ذلك فعلا ، وهذا من معجزات القرآن ، لتأييد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في دعوته ، ودفع الناس إلى الإيمان برسالته ، ما دام قد ظهر لهم صدقه.

فالآية دالة على المعجزة ؛ لأنه تعالى أخبر عن حصول هذه الأحوال ، وقد وقعت موافقة لهذه الأخبار ، فيكون ذلك إخبارا عن الغيب ، والإخبار عن الغيب معجز.

وهذه الآية تدل على كون الصحابة مؤمنين في علم الله تعالى إيمانا حقيقيا ؛ لأنها تدل على أن قلوب الصحابة كانت مملوءة بالحمية لأجل الدين ، والرغبة الشديدة في إعلاء شأن الإسلام(١).

وأرشدت الآية إلى خمس منافع من هذا القتال : وهي تعذيب المشركين

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٦ / ٤

١٣١

بأيدي المؤمنين بالقتل والأسر ، وخزيهم وإذلالهم بعد قتلهم ، وتحقيق النصر عليهم ، وشفاء الصدور من انتظار الفتح الذي وعدهم الله به ، وإذهاب غيظ القلوب.

اختبار المسلمين واتخاذ البطانة

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦))

الإعراب :

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا) : أن وصلتها : في موضع نصب بحسب ، وسدت مع الصلة مسد المفعولين.

(وَلَمَّا) معناها التوقع.

(وَلَمْ يَتَّخِذُوا) معطوف على (جاهَدُوا) داخل في حيز الصلة ، كأنه قيل : ولما يعلم الله المجاهدين منكم والمخلصين غير المتخذين وليجة من دون الله. والوليجة : الدخيلة.

البلاغة :

(أَمْ) منقطعة ، ومعنى الهمزة فيها التوبيخ على وجود الحسبان.

المفردات اللغوية :

(أَمْ) بمعنى همزة الإنكار ، والمعنى : أنكم لا تتركون على ما أنتم عليه حتى يتبين الخلّص منكم ، وهم الذين جاهدوا في سبيل الله ، لوجه الله. (وَلِيجَةً) أي بطانة من قوم ليس منهم ، والمراد هنا : من الذين يضادون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين رضوان الله عليهم. (وَلَمَّا) أي لم ، ومعناها التوقع ، أي إن تبين ذلك وإيضاحه متوقع كائن ، وإن الذين لم يخلصوا دينهم لله ، يميز بينهم وبين المخلصين. والمراد بقوله : (وَلَمَّا يَعْلَمِ) نفي المعلوم الموجود لا نفي العلم. وقال السيوطي : المراد علم ظهور. والمعنى : ولم يظهر المخلصون وهم الموصوفون بما ذكر من غيرهم.

١٣٢

المناسبة :

كانت الآيات المتقدمة مرغبة في جهاد المشركين الناقضين العهد ، وهذه الآية ترغيب جديد زائد عما سبق لتمييز المجاهدين المخلصين عن غيرهم.

التفسير والبيان :

الآية مرتبطة بما قبلها ، والمعنى : ألا تقاتلون أولئك المشركين الذين نقضوا العهود واعتدوا عليكم إلى آخر الأسباب السبعة التي يوجب كل واحد منها الإقدام على القتال ، أم حسبتم أيها المؤمنون أن تتركوا وشأنكم مهملين بغير اختبار بأمور يظهر فيها أهل العزم الصادق من الكاذب ، من طريق الجهاد الذي يتبين فيه الخلّص من المجاهدين منكم بالأموال والأنفس ، والذين لم يتخذوا بطانة من الكفار أولياء يسرّون إليهم بأحوال المسلمين وأمورهم وأسرارهم ، بل هم في الظاهر والباطن على النصح لله ولرسوله ، ويتميزوا من المنافقين الذين يطلعون الولائج على أسرار الأمة وسياستها ، وقد اكتفى بأحد القسمين عن الآخر ، للعلم به ضمنا. قال الجصاص : قوله : (وَلَمْ يَتَّخِذُوا) ... (وَلِيجَةً) يقتضي لزوم اتباع المؤمنين وترك العدول عنهم ، كما يلزم اتباع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفيه دليل على لزوم حجة الإجماع ، وهو كقوله : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ ..)(١) [النساء ٤ / ١١٥].

والله خبير في كل وقت بأعمالكم ، فيجازيكم عليها. ومن المعروف أن التكليف الشاق على الأنفس هو الذي يحقق الاختبار ، ويظهر المخلص من المنافق.

وليس المقصود بقوله تعالى : (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ) نفي علم الله ، وأنه تعالى ـ كما فهم هشام بن عبد الحكم من ظاهر الآية ـ لا يعلم الشيء إلا حال وجوده ، وإنما المراد منه نفي المعلوم الموجود في الواقع وإظهاره على مسرح الحياة ، ليكون

__________________

(١) أحكام القرآن : ٣ / ٨٧.

١٣٣

دليلا ملموسا على الناس يوم القيامة ، يقصد منه أن يصدر الجهاد عنهم فعلا ، ويظهر المجاهدون ويتميزوا عن المنافقين ، بدليل قوله تعالى في آخر الآية : (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي عالم ، مطلع على كل شيء ، محيط به علما ، وما لا يعلم الله وجوده فلا وجود له.

ونظير الآية في الاختبار قوله تعالى : (الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا : آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا ، وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) [العنكبوت ٢٩ / ١ ـ ٣].

ونظير الآية في اتخاذ الوليجة أو البطانة قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ، لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ ، لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً ، وَدُّوا ما عَنِتُّمْ ، قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ ، وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) [آل عمران ٣ / ١١٨].

والخلاصة : أن الله تعالى لما شرع لعباده الجهاد ، بيّن حكمته ، وهي اختبار عبيده ، من يطيعه ممن يعصيه ، وهو تعالى قبل ذلك وبعده العالم بما كان ، وما يكون ، وما لم يكن.

فقه الحياة أو الأحكام :

تبين من الآية أن المكلف لا يتخلص من العقاب إلا بأمرين :

الأول ـ أن يعلم الله الذين جاهدوا منكم ، عن طريق إظهارهم في الواقع ، وتمييزهم بين الناس.

الثاني ـ أن يكون المجاهد مخلصا ، باطنه وظاهره سواء ، لا منافقا ، باطنه خلاف ظاهره ، وهو الذي يتخذ بطانة أو وليجة من المشركين ، يخبرهم بأسرار المسلمين ، ويعلمهم بأمورهم ، فليس كل مجاهد مخلصا ، وليس الغرض من إيجاب القتال القتال نفسه فقط ، بل الغرض الإتيان به على وفق أمر الله وحكمه.

١٣٤

وتبين من الآية أيضا أن الله عالم بالنيات والأغراض ، مطلع عليها ، لا يخفى عليه منها شيء ، فعلى الإنسان التركيز على أمر النية وجعلها خالصة لوجه الله تعالى.

عمارة المساجد

(ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨))

الإعراب :

(شاهِدِينَ) حال من الواو في (يَعْمُرُوا).

(وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) إما عطف على جملة (حَبِطَتْ) على أنها خبر آخر لأولئك ، وإما مستأنفة كجملة (أُولئِكَ حَبِطَتْ) وفائدتهما تقرير النفي السابق ، الأولى : من جهة نفي استتباع الثواب ، والثانية : من جهة نفي استدفاع العذاب.

(أُولئِكَ) عبر به للاستبعاد.

البلاغة :

(وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ) تخصيص الصلاة والزكاة بالذكر توضيح لأهميتهما وحث على القيام بهما.

المفردات اللغوية :

(ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ) ما صح لهم وما استقام وما ينبغي لهم. (أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) عمارة المسجد لغة : لزومه والإقامة فيه وعبادة الله فيه ، وبناؤه وترميمه. وعمارة المساجد نوعان : حسية ، ومعنوية ، فالحسية : بالتشييد والبناء والترميم والتنظيف والفرش والتنوير بالمصابيح والدخول إليها والقعود فيها ، والمعنوية : بالصلاة وذكر الله والاعتكاف والزيارة للعبادة فيها ، وذلك

١٣٥

يشمل العمرة ، ومن الذكر : درس العلم ، بل هو أجله وأعظمه وصيانتها مما لم تبن له المساجد من أحاديث الدنيا ، فضلا عن فضول الحديث ، كما قال الزمخشري. والمساجد فيها وجهان : أحدهما ـ أن يراد المسجد الحرام ، وإنما قيل : مساجد ؛ لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها ، فعامره كعامر جميع المساجد ، ولأن كل بقعة منه مسجد. والثاني ـ أن يراد جنس المساجد ، وتشمل المسجد الحرام ، وإذا لم يصلحوا لأن يعمروا جنسها ، فلأن لا يعمروا المسجد الحرام آكد. والمعنى : ما استقام للمشركين أن يجمعوا بين أمرين متنافيين : عمارة متعبّدات الله ، مع الكفر بالله وبعبادته. والمساجد في الأصل : جمع مسجد ، وهو مكان السجود ، ثم صار اسما للبيت المخصص للعبادة. ومن قرأ : مسجد الله ، فأراد به المسجد الحرام أشرف المساجد في الأرض.

(شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) معنى هذه الشهادة : ظهور كفرهم ، وأنهم نصبوا أصنامهم حول البيت ، وكانوا يطوفون عراة ، ويقولون : لا نطوف عليها بثياب قد أصبنا فيها المعاصي ، وكلما طافوا بها شوطا سجدوا لها. (حَبِطَتْ) بطلت. (أَعْمالُهُمْ) لعدم شرطها وهو الإيمان.

سبب النزول :

أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : قال العباس حين أسر يوم بدر : إن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد ، لقد كنا نعمر المسجد الحرام ، ونسقي الحجاج ، ونفكّ العاني (أي الأسير) فأنزل الله : (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) الآية.

وفي رواية أخرى : قد أقبل المهاجرون والأنصار على أسارى بدر ، فعيّروهم بالشرك ، فطفق علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه يوبخ العباس بقتال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقطيعة الرحم ، وأغلظ له في القول ، فقال العباس : تذكرون مساوينا ، وتكتمون محاسننا؟ فقال : أو لكم محاسن؟ قالوا : نعم ، ونحن أفضل منكم أجرا ، إنا لنعمر المسجد الحرام ، ونحجب الكعبة ، ونسقي الحجيج ، ونفك العاني ، فنزلت (١). والمراد أن الآية تضمنت الرد على العباس وأمثاله ، لا أنها نزلت عقب قوله.

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ص ١٣٩ ، الكشاف : ٢ / ٣١

١٣٦

المناسبة :

بعد أن ذكر الله في أول السورة البراءة عن الكفار ، وذكر أنواع فضائحهم وقبائحهم الموجبة تلك البراءة ، احتجوا بأن هذه البراءة غير جائزة ، وأنه يجب أن تكون المخالطة والمناصرة حاصلة ؛ لأنهم موصوفون بصفات حميدة وخصال مرضية ، ومن جملتها كونهم عامرين للمسجد الحرام ، كما ورد في سبب النزول.

وكذلك ناسب أن يذكر بعد نبذ العهود منع عبادة الشرك من المسجد الحرام ، وإبطال حق المشركين في الإشراف عليه وخدمته ، وذلك مناسب لنقض عهودهم.

التفسير والبيان :

ما ينبغي للمشركين بالله ، وما صح لهم وما استقام أن يعمروا مساجد الله التي منها المسجد الحرام بالإقامة فيه للعبادة ، أو للخدمة والولاية عليه ، ولا أن يدخلوه حجاجا أو عمّارا ، وهم شاهدون على أنفسهم بالكفر ، أي بشهادة الحال والمقال ، بأن يعبدوا الأصنام ، وأن يطوفوا بالبيت عراة ، وكلما طافوا بالكعبة شوطا سجدوا لها. وقيل : هو قولهم : «لبيك لا شريك لك ، إلا شريك هو لك تملكه وما ملك» فهذه شهادتهم بالكفر ثابتة قولا وعملا ، أما القول فهذا ، وأما العمل فهو عبادة الأصنام.

فهم بهذا جمعوا بين الضدين ، وبين أمرين متنافيين لا يعقل الجمع بينهما على وجه صحيح : عمارة بيت الله مع الكفر به.

أولئك المشركون بالله حبطت أعمالهم أي بشركهم ، وبطلت فلا ثواب لهم ، وهم في نار جهنم خالدون لعظم ما ارتكبوه أي ماكثون مقيمون إقامة خلود وبقاء ، فإن الكفر محبط للعمل ولا ثواب لصاحبه في الآخرة ، بدليل آيات كثيرة في القرآن الكريم منها : (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)

١٣٧

[الأنعام ٦ / ٨٨] ، ومنها : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ : لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ، وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) [الزّمر ٣٩ / ٦٥] ومنها : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ ، فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان ٢٥ / ٢٣].

وبعد أن نفى أهليتهم لعمارة المساجد ، أبان من هم أهل لهذه المهمة ، فقال : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ ...) أي إنما يستحق عمارة المساجد وتستقيم منه العمارة ، ويكون أهلا لها من اتصف بالإيمان بالله تعالى إيمانا صحيحا ، على النحو المبيّن في القرآن من الإقرار بوجود الله والاعتراف بوحدانيته ، وتخصيصه بالعبادة ، والتوكل عليه ، وآمن باليوم الآخر الذي يحاسب الله فيه العباد ، ويجزي فيه بالثواب للمحسنين وبالعقاب للمسيئين ، وأقام الصلاة المفروضة على الوجه المستكمل لأركانها وشروطها وتدبر تلاوتها وأذكارها ، وخشوع القلب لله وخشيته ، وآتى الزكاة لمستحقيها المعروفين كالفقراء والمساكين وأبناء السبيل ، ولم يخش في قوله وعمله إلا الله وحده ، دون غيره من الأصنام والعظماء الذين لا ينفعون ولا يضرون في الحقيقة ، وإنما النفع والضر بيد الله. أما إنه لم يذكر الإيمان بالرسول فلأنه دل عليه ما ذكر من إقامة الصلاة وغيرها ؛ لأنه مما جاء به الرسول ، فإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة إنما يصح من المؤمن بالرسول.

هؤلاء الموصوفون بهذه الصفات هم الذين يقتصر عليهم عمارة المساجد الحسية بالبناء والتشييد والترميم ، والمعنوية بالعبادة والأذكار وحضور دروس العلم ، فلا يعمر بيوت الله غيرهم ، وهؤلاء هم الذين يرجى بحق أن يكونوا من المهتدين إلى الخير دائما ، وإلى ما يحب الله ويرضيه ، المستحقون الثواب على أعمالهم ، لا أولئك المشركون الضالون الذين يجمعون بين الأضداد ، فيشركون بالله ويكفرون بما جاء به رسوله ، ويسجدون للطواغيت (الأصنام) ثم يقدمون بعض الخدمات للمسجد الحرام.

١٣٨

وليس المراد من الرجاء المستفاد من (عسى) حقيقته ، فذلك لا يصح أن يكون صادرا من الله ؛ لأنه ظن بحصول أمر وقعت أسبابه. وإنما عبر بكلمة (عسى) إشارة إلى قطع أطماع الكفار من الانتفاع بأعمالهم التي افتخروا بها وتأملوا عاقبتها ، أي إذا كان جزاء المؤمنين على أعمالهم منوطا بالرجاء منهم ، فليس للكفار أي دور ، أو إذا كان حصول الاهتداء للمؤمنين دائرا بين ـ لعل وعسى ـ فما بال هؤلاء المشركين يقطعون بأنهم مهتدون ويجزمون بفوزهم بالخير من عند الله تعالى؟!

ويؤكد استحقاق عمارة المساجد من قبل المتصفين بالأوصاف السابقة أحاديث نبوية كثيرة ، منها في البناء المادي أو الحسي : ما رواه الشيخان والترمذي عن عثمان رضي‌الله‌عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «من بنى لله مسجدا يبتغي به وجه الله ، بنى الله له بيتا في الجنة». ومنها ما رواه أحمد عن ابن عباس مرفوعا : «من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة لبيضها ، بنى الله له بيتا في الجنة» والمفحص : موضع البيض. وروى الحارث بن أبي أسامة وأبو الشيخ بسند ضعيف عن أنس رضي‌الله‌عنه : «من أسرج في مسجد سراجا ، لم تزل الملائكة وحملة العرش تستغفر له ، ما دام في ذلك المسجد ضوء من ذلك السراج».

ومنها في العمارة المعنوية : ما رواه الشيخان والحافظ أبو بكر البزار وعبد بن حميد عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنما عمّار المساجد هم أهل الله». ومنها ما رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد ، فاشهدوا له بالإيمان. قال الله تعالى : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).

ومنها قوله عليه الصلاة والسّلام فيما رواه الطبراني في الكبير عن ابن مسعود وهو ضعيف : قال الله تعالى : إن بيوتي في أرضي المساجد ، وإن زواري فيها عمارها ، فطوبى لعبد تطهر في بيته ، ثم زارني في بيتي ، فحق على المزور أن يكرم زائره».

١٣٩

وحذر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الإخلال بحرمة المساجد ، فقال فيما رواه الطبراني في الكبير عن ابن مسعود وهو ضعيف : «يأتي في آخر الزمان ناس من أمتي ، يأتون المساجد ، فيقعدون فيها حلقا ، ذكرهم الدنيا ، وحب الدنيا ، لا تجالسوهم ، فليس لله بهم حاجة». وفي حديث آخر : «الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش»(١).

فقه الحياة أو الأحكام :

استنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ لا ثواب للمشركين في الآخرة على أعمال البر التي تصدر عنهم في الدنيا.

٢ ـ المتصفون بالإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر ، والمقيمون الصلاة ، والمؤتون الزكاة ، والذين لا يخشون أحدا سوى الله ، هم الجديرون بعمارة المساجد ، وأصحاب هذه الصفات الأربعة هم الذين يعمرون المساجد ، وهم أهل الاهتداء إلى الخير والصراط المستقيم.

٣ ـ دل قوله : (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ) على أنه ينبغي لمن بنى مسجدا أن يخلص لله في بنائه ، وألا يقصد الرياء والسمعة.

والأصح أنه يجوز استخدام الكافر في بناء المساجد ، والقيام بأعمال لا ولاية له فيها ، كنحت الحجارة والبناء والنجارة ، فهذا لا يدخل في المنع المذكور في الآية ، إنما المنع موجه إلى الولاية على المساجد والاستقلال بالقيام بمصالحها ، مثل تعيينه ناظر المسجد أو ناظر أوقافه. وقيل : إن الكفار ممنوعون من عمارة مساجد المسلمين مطلقا.

ولا مانع أيضا من قيام الكافر ببناء مسجد أو المساهمة في نفقاته ، بشرط ألا

__________________

(١) هكذا ذكره الكشاف ، والمشهور على الألسنة «الكلام المباح في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب» (كشف الخفا ١ / ٣٥٤).

١٤٠