التفسير المنير - ج ١٠

الدكتور وهبة الزحيلي

يتخذ أداة للضرر ، وإلا كان حينئذ كمسجد الضرار. ولكن ليس للكافر ترميم المساجد ، حفاظا على تعظيمها ، ولأن تطهير المساجد واجب لقوله تعالى : (أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ) والكافر نجس الاعتقاد ، لقوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) [التوبة ٩ / ٢٨] ولأنه لا يحترز من النجاسات ، فدخوله في المسجد ربما يؤدي إلى تلويثه ، فتفسد عبادة المسلمين.

٤ ـ الترغيب بعمارة المساجد الحسية والمعنوية ، كما دلت الآية والأحاديث.

٥ ـ قال الواحدي : يمنع الكافر من دخول المساجد ، وإن دخل بغير إذن مسلم ، استحق التعزير ، وإن دخل بإذن لم يعزر ، والأولى تعظيم المساجد ، ومنعهم منها ، وقد أنزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفد ثقيف في المسجد ، وهم كفار ، وشد ثمامة بن أثال الحنفي في سارية من سواري المسجد الحرام ، وهو كافر.

٦ ـ دل قوله : (وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) على أن الكفار مخلدون في النار.

٧ ـ قوله تعالى في بدء الآية : (إِنَّما يَعْمُرُ) وتعبيره بكلمة (إِنَّما) التي تفيد الحصر ، دليل على أن المسجد يجب صونه عن غير العبادة ، من فضول الحديث ، وإصلاح مهمات الدنيا ، وكما أوضحت الأحاديث المتقدمة.

٨ ـ قال الجصاص : اقتضت الآية منع الكفار من دخول المساجد ، ومن بنائها ، وتولي مصالحها والقيام بها ؛ لانتظام اللفظ ـ أي العمارة ـ للأمرين ، وهما الدخول والبناء. فإن عمارة المسجد تكون بمعنيين : أحدهما ـ زيارته والكون فيه ، والآخر ـ ببنائه وتجديد ما استرم منه (١).

٩ ـ دلت الآية على أن عمارة المسجد لا تكون بالكفر ، وإنما تكون بالإيمان والعبادة وأداء الطاعة.

__________________

(١) أحكام القرآن : ٢ / ٨٧

١٤١

فضل الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل الله

(أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢))

الإعراب :

(أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ ...) في الكلام حذف مضاف إما من أول الكلام تقديره: أجعلتم أصحاب سقاية الحاج وأصحاب عمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله. وإما من آخر الكلام تقديره : أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كإيمان من آمن بالله. وإنما وجب تقدير الحذف ليصح المعنى.

(خالِدِينَ فِيها) حال (لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ نَعِيمٌ مُقِيمٌ) : مبتدأ وصفة ، و (لَهُمْ) : خبر المبتدأ ، والجملة صفة لجنات. وضمير (فِيها) يعود إلى الجنات أو الرحمة أو البشرى. وكذلك ضمير (فِيها) الثانية حال ...

البلاغة :

(أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ) استفهام إنكاري لمن يسوي بين هذا أو ذاك.

(وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) في الجملة حصر ، أي هم الفائزون لا غيرهم.

(بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ) تنكير الكلمتين للتفخيم والتعظيم ، أي برحمة ورضوان لا يوصفان.

١٤٢

المفردات اللغوية :

(سِقايَةَ الْحاجِ) سقي الحجيج الماء ، والسقاية في اللغة : موضع السقي أو إناء السقي. وكانت قريش تسقي الحجاج من الزبيب المنبوذ في الماء ، وكان يتولى هذا العباس بن عبد المطلب في الجاهلية والإسلام. وفي الآية حذف مضاف : أي أجعلتم أهل ذلك. لا يستوون عند الله في الفضل. (الظَّالِمِينَ) الكافرين. (دَرَجَةً) رتبة. (الْفائِزُونَ) الظافرون بالخير. (نَعِيمٌ مُقِيمٌ) دائم. (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) ماكثين فيها على الدوام ، أكد الخلود بالتأييد ؛ لأنه قد يستعمل للمكث الطويل. (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) يستحقر دونه ما استوجبوه لأجله أو نعم الدنيا.

سبب النزول :

أخرج مسلم وابن حبان وأبو داود عن النعمان بن بشير قال : كنت عند منبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نفر من أصحابه ، فقال رجل منهم : ما أبالي أن لا أعمل لله عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج ، وقال آخر : بل عمارة المسجد الحرام ، وقال آخر : بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم ، فزجرهم عمر ، وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك يوم الجمعة ، ولكن إذا صليت الجمعة ، دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فاستفتيته فيما اختصمتم ، فأنزل الله : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ) ـ إلى قوله ـ (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

وأخرج الفريابي عن ابن سيرين قال : قدم علي بن أبي طالب مكة ، فقال للعباس : أي عم؟ ألا تهاجر؟ ألا تلحق برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : أعمر المسجد ، وأحجب البيت ، فأنزل الله : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ) الآية. والحجابة : هي سدانة البيت وخدمته.

والسقاية والحجابة أفضل مآثر قريش ، وقد أقرهما الإسلام ، جاء في الحديث الوارد في خطبة حجة الوداع عن جابر : «إن مآثر الجاهلية تحت قدمي إلا سقاية الحاج وسدانة البيت» ومآثر العرب : مكارمها ومفاخرها التي تؤثر عنها ، أي تروى وتذكر.

١٤٣

وأخرج عبد الرزاق عن الشعبي نحوه. وأخرج ابن جرير الطبري عن محمد بن كعب القرظي قال : افتخر طلحة بن شيبة والعباس وعلي بن أبي طالب ، فقال طلحة : أنا صاحب البيت معي مفتاحه ، وقال العباس : أنا صاحب السقاية والقائم عليها ، فقال علي : لقد صليت إلى القبلة قبل الناس ، وأنا صاحب الجهاد ، فأنزل الله : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ) الآية كلها.

والخلاصة : أن الأصح في سبب النزول ما ذكره النعمان بن بشير ، والروايات الأخرى عن الحسن والشعبي والقرظي وابن سيرين تفصيل لمجمل رواية النعمان.

المناسبة :

هذه الآية مرتبطة بما قبلها ، ومكملة لها ، فالآية السابقة أوضحت أن عمارة المسجد الحرام مقبولة إذا كانت صادرة عن إيمان ، فهي للمسلمين دون المشركين ، وهذه الآية أبانت أن الإيمان والجهاد أفضل مما كان يفخر به المشركون من عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج.

التفسير والبيان :

هذه الآية خطاب للمؤمنين بحسب حديث النعمان بن بشير ، وقيل : هي خطاب للمشركين بدليل السياق ، والأصح أنها تضمنت المفاضلة التي جرت بين المسلمين والكافرين ، لقوله تعالى : (كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ) فإن العباس ـ كما تقدم ـ احتج على فضائل نفسه بأنه عمر المسجد الحرام وسقى الحاج.

والمعنى : أجعلتم أهل السقاية وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر ، وجاهد في سبيل الله سواء في الفضيلة والدرجة؟ فإن السقاية والعمارة ، وإن كانتا من أعمال الخير ، فأصحابهما لا يساوون في المنزلة أهل الإيمان والجهاد.

وهذا معنى قوله : (لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ) أي لا تساوي أبدا بين الفريقين

١٤٤

لا في الصفة ولا في العمل ، في حكم الله وفي إثابته ، في الدنيا والآخرة.

ثم بين عدم تساويهم بقوله : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي لا يهدي القوم الكافرين في أعمالهم إلى ما هو الأفضل والأرقى رتبة ؛ إذ قد طمس على قلوبهم.

والمعنى : إنكار أن يشبه المشركون وأعمالهم المحبطة بالمؤمنين وأعمالهم المثبتة ، وأن يسوى بينهم ، وجعل تسويتهم ظلما ، بعد ظلمهم بالكفر.

فالإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل الله بالمال والنفس أفضل وأعظم درجة عند الله من أعمال السقاية والسدانة أو العمارة.

ثم بين الله تعالى مراتب التفاضل بين المؤمنين أنفسهم ، فقال : (الَّذِينَ آمَنُوا ..) أي أن المؤمنين بالله ورسوله ، المهاجرين من مكة إلى المدينة ، المجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ولإعلاء كلمة الله ، هم أعظم درجة وأرفع مقاما ومكانة من القائمين بأعمال أخرى كالسقاية والعمارة.

وأولئك المؤمنون المهاجرون المجاهدون هم الفائزون بفضل الله وكرامته ومثوبته.

وهذا الفوز هو أنه تعالى يبشرهم في كتابه المنزل على رسوله برحمة واسعة ، ورضوان كامل ، وجنات لهم فيها نعيم دائم ، وهم في هذا النعيم خالدون على الدوام إلى ما شاء الله تعالى.

وإن الله عنده الثواب العظيم على الإيمان والعمل الصالح ومنه الهجرة ، والجهاد في سبيله ومن أجل مرضاته ، كما قال تعالى : (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، خالِدِينَ فِيها ، وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ، وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ، ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة ٩ / ٧٢].

١٤٥

والرضوان : نهاية الإحسان ، وهو شيء روحي ، والنعيم في الجنة شيء مادي ، فهو لين العيش ورغده.

وروى الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن الله يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة ، فيقولون : لبيك ربنا وسعديك ، فيقول : هل رضيتم؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى ، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ فيقول : أنا أعطيكم أفضل من ذلك ، فيقولون : ربنا ، وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول : أحل عليكم رضواني ، فلا أسخط عليكم بعده أبدا».

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآية على أن الجهاد مع الإيمان أفضل عند الله من أي عمل آخر من أعمال الخير والبر ؛ لأنه بذل للنفس أو المال ، بقصد إعلاء كلمة الله. وأما السقاية وعمارة المسجد الحرام فهما وإن كانا عملين طيبين ، إلا أنهما ليسا في الدرجة مثل الجهاد. روى عبد الرزاق عن الحسن البصري قال : نزلت آية (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ ...) في علي وعباس وعثمان وشيبة ، تكلموا في ذلك ، فقال العباس : ما أراني إلا أني تارك سقايتنا؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أقيموا على سقايتكم ، فإن لكم فيها خيرا».

والآية إنكار أن يشبه المشركون وأعمالهم المحبطة بالمؤمنين وأعمالهم المثبتة وأن يسوى بينهم ، وجعل تسويتهم ظلما بعد ظلمهم بالكفر.

ومراتب فضل المجاهدين كثيرة ، فهم أعظم درجة عند الله من كل ذي درجة ، فلهم المزية والمرتبة العلية ، وهم الفائزون الظافرون الناجون ، وهم الذين يبشرهم ربهم ، أي يعلمهم في الدنيا ما لهم في الآخرة من الثواب الجزيل

١٤٦

والنعيم المقيم ، وهم الخالدون إلى الأبد وإلى ما شاء الله في جنان الخلد ، ولهم ثواب عظيم أعده الله لهم في دار كرامته.

هؤلاء هم أعظم درجة عند الله من أهل السقاية والعمارة ، وهم المختصون بالفوز دون غيرهم.

ولاية الآباء والإخوان الكافرين وتفضيل الإيمان والجهاد على

ثمانية أشياء

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤))

البلاغة :

(فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) أمر يراد به الوعيد ، مثل (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت ٤١ / ٤٠].

المفردات اللغوية :

(اسْتَحَبُّوا) اختاروا ، وهو بمعنى : أحبوا (الظَّالِمُونَ) الظلم : وضع الشيء في غير موضعه. (وَعَشِيرَتُكُمْ) أقرباؤكم ذوو القرابة القريبة (اقْتَرَفْتُمُوها) اكتسبتموها (كَسادَها) عدم رواجها أو عدم نفادها ، وبوارها (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ) أي أحب إليكم

١٤٧

من طاعة الله وطاعة رسوله ومن المجاهدة في سبيل الله ، فقعدتم لأجله عن الهجرة والجهاد (فَتَرَبَّصُوا) انتظروا (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) تهديد لهم ، والأمر : العقوبة العاجلة أو الآجلة.

سبب النزول :

نزلت الآيتان فيمن ترك الهجرة لأجل أهله وتجارته.

سبب نزول الآية : (٢٣)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا) قال الكلبي : لما أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالهجرة إلى المدينة ، جعل الرجل يقول لأبيه وأخيه وامرأته : إنا قد أمرنا بالهجرة ، فمنهم من يسرع إلى ذلك ويعجبه ، ومنهم من يتعلق به زوجته وعياله وولده ، فيقولون : نشدناك الله أن تدعنا إلى غير شيء فنضيع ، فيرق ، فيجلس معهم ويدعالهجرة ، فنزلت يعاتبهم سبحانه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ) الآية (١).

ونزلت في الذين تخلفوا بمكة ولم يهاجروا آية : (قُلْ : إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ) إلى قوله (فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) يعني القتال وفتح مكة.

أخرج الفريابي عن ابن سيرين عن علي بن أبي طالب قال لقوم قد سماهم : ألا تهاجروا ، ألا تلحقوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم!! فقالوا : نقيم مع إخواننا وعشائرنا ومساكننا ، فأنزل الله : (قُلْ: إِنْ كانَ آباؤُكُمْ) الآية كلها.

المناسبة :

لما أمر الله تعالى المؤمنين بالتبري عن المشركين ونبذ عهودهم ، قالوا : كيف تمكن هذه المقاطعة التامة بين الرجل وبين أبيه وأمه وأخيه ، فذكر تعالى أن

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ص ١٤٠

١٤٨

الانقطاع عن الآباء والأولاد والإخوان واجب بسبب الكفر ، وهو قوله : (إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ).

ثم جاءت الآية التالية : (قُلْ : إِنْ كانَ آباؤُكُمْ) مؤكدة لمضمون الآية السابقة ، وأبان تعالى أنه يجب تحمل جميع هذه المضار الدنيوية ، ليبقى الدين سليما ، إذ سلامة الدين تكون بمباينة الكفار وعدم موالاتهم.

والخلاصة : أن الدين يغير المفاهيم ، فيجعل رابطة الدين أعلى وأقوى وأولى من رابطة العصبية الجنسية ، وصلة القرابة ، والانتماء للأسرة ، ويقرر أن ثمرة الهجرة والجهاد لا تظهر إلا بترك ولاية المشركين ، وإيثار طاعة الله والرسول على كل شيء في الحياة.

التفسير والبيان :

يا أيها المصدقون بالله ورسوله ، لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء تنصرونهم في القتال ، وتؤيدون الكفار لأجلهم ، أو تطلعونهم على أسرار المسلمين العامة أو الحربية ، إن اختاروا الكفر على الإيمان ، وآثروا الشرك على الإسلام ، ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون لأنفسهم وأمتهم ؛ لأنه خالفوا الله ورسوله ، بموالاة الكافرين بدلا من التبرؤ منهم.

فبعد أن نهى عن مخالطتهم ، أوضح أن هذا النهي للتحريم لا للتنزيه ، بقوله : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) قال ابن عباس : هو مشرك مثلهم ؛ لأنه رضي بشركهم ، والرضا بالكفر كفر ، كما أن الرضا بالفسق فسق.

ويؤيد ذلك آية أخرى هي (إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ ، وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ، وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الممتحنة ٦٠ / ٩].

١٤٩

ثم أمر تعالى رسوله أن يتوعد من آثر أهله وقرابته وعشيرته على الله ورسوله وجهاد في سبيله ، مصدرا ذلك بكلمة (إِنِ) المفيدة للشك ؛ لأن حب الكافرين مشكوك فيه من المؤمنين ، والمقصود هو تفضيل حبهم على حب الله ، أما أصل الحب فهو أمر فطري طبعي لا لوم عليه ، ولا مؤاخذة فيه ؛ لأن التكليف يتوجه على الأمور المقدورة للإنسان ، لا على الأمور الجبلية الفطرية كالحب والبغض.

فقال له : قل : إن كنتم تؤثرون هذه الأشياء الثمانية ، وتفضلون الآباء ، والأبناء ، والإخوان ، والأزواج ، والعشيرة (القرابة القريبة) والأموال ، والتجارة ، والمساكن ، على حب الله ورسوله ، أي طاعتهما ، والجهاد في سبيله الذي يحقق السعادة الأبدية في الآخرة ، فانتظروا حتى يأتي الله بعقابه العاجل أو الآجل.

ويمكن تصنيف هذه الأنواع الثمانية بأربعة : وهي مخالطة الأقارب ، وذلك يشمل الآباء والأبناء والإخوان والأزواج ، ثم بقية العشيرة ، والميل إلى إمساك الأموال المكتسبة ، والرغبة في تحصيل الأموال بالتجارة ، والرغبة في المساكن. وهذا ترتيب حسن ، يبدأ بالأشد تعلقا والأدعى إلى المخالطة وهو القرابة ، ثم الحرص على المال ، ثم طريق اكتسابه بالتجارة ، ثم الرغبة في البناء في الأوطان والدور المخصصة للسكنى. ولكن الله تعالى أبان أن رعاية الدين خير من رعاية جملة هذه الأمور.

ومن المعروف أن محبة هذه الأمور الثمانية بالطبيعة ، فمحبة الآباء غريزة عند الأبناء ؛ لأن الولد بضعة من أبيه ، والولد يشعر أن أباه سبب في وجوده ، والعرب قديما وحديثا يفخرون بالآباء ، لهذا حث الله على ذكره في الحج مثل ذكر الآباء أو أشد ، فقال : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) [البقرة ٢ / ٢٠٠].

١٥٠

ومحبة الأبناء غريزة أيضا ، بل هي أشد من محبة الآباء ؛ إذ الولد فلذة من الكبد ، وهو محط الأمل ، ومفخرة الأهل ، كما قال تعالى : (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) [الكهف ١٨ / ٤٦].

والأخ يتقوى بأخيه ، ويربطهما الانتماء للأصول من الأب والأم ، قال تعالى لموسى: (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) [القصص ٢٨ / ٣٥].

وحب الزوجة أمر فطري أيضا ، وكل من الزوجين يكمل الآخر ، وسكينة له ، وبينهما الود والتراحم : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الروم ٣٠ / ٢١].

وحب العشيرة قائم على الحاجة للتعاون والتناصر ، وهو شديد التأثير في المجتمعات القبلية.

وحب المال المكتسب قوي عند الإنسان ؛ لأنه ثمرة عنائه وجهده ، وكذلك حب التجارة أصيل في النفس البشرية ؛ لأنه مصدر التمويل ، لذا يحرص الشخص على تنمية تجاراته ، لتنمو موارده ، وتكثر أرباحه ، فيستفيد منها.

وحب المساكن الطيبة أمر مستكن في النفوس ؛ لأنها مهد الراحة والطمأنينة والاستقرار ، ووسيلة التفاخر والتظاهر بالنعمة ، وربما كانت من المقومات الاجتماعية في الأعراف والعادات.

وبالرغم من مظاهر الحب وحقائقه لهذه الأنواع الثمانية ، أمر الله تعالى بإيثار حب الله والرسول وطاعتهما والجهاد في سبيله على هذه الأشياء ؛ لأن الله تعالى مصدر جميع النعم ، وملجأ لدفع كل الكروب والمحن ، لذا وصف تعالى المؤمنين بقوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) [البقرة ٢ / ١٦٥].

١٥١

وكذلك حب الرسول واجب بعد محبة الله ؛ لأنه صاحب الفضل في إنقاذنا من الضلالة إلى النور ، ومن الكفر إلى الإيمان ، ولأنه القدوة الحسنة والمثل الأعلى للمؤمنين في تطبيق الشريعة والأخلاق.

وقد ثبت في الصحيح عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين».

وروى أحمد والبخاري عن عبد الله بن هشام ، قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال : والله يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه» فقال عمر : فأنت الآن والله أحب إلي من نفسي ، فقال رسول الله : «الآن يا عمر».

وأما الجهاد ، وإن كان مكروها لدى بعض الناس : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) [البقرة ٢ / ٢١٦] فإنه السبيل للحفاظ على كرامة الأمة ومنعة البلاد واستقلالها ومصالح الأفراد ، وسبب للذود عن الحرمات والأموال والأعراض ، وطريق لدفع العدوان وقمع الأطماع ، وأساس لتوفير عزة الأمة ومجدها ، وبدونه تكون المصالح العامة والخاصة مهددة بالزوال. لذا فرضه تعالى للضرورة من أجل الحفاظ على هذه المقاصد ، ولمنع الفتنة في الدين ، وحماية المستضعفين ، والتمكين لحرية انتشار الإسلام بالطرق السلمية ، وكانت محبته أمرا مطلوبا لحياة المسلمين ، لذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فيما أخرجه الترمذي عن معاذ بن جبل ـ : «رأس الأمر الإسلام ، وعموده الصلاة ، وذروة سنامه الجهاد» وقال فيما يرويه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه عن أنس : «لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها».

ثم ختم الله تعالى الآية بوعيد المخالفين وتهديد المعرضين بعقوبة عاجلة أو

١٥٢

آجلة ، فقال : (فَتَرَبَّصُوا ...) أي فانتظروا العقاب الآتي عاجلا أو آجلا. قال الزمخشري : وهذه آية شديدة ، لا ترى أشد منها ، كأنها تنعى على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين ، واضطراب حبل اليقين (١). وقال البيضاوي : وفي الآية تشديد عظيم وقل من يتخلص منه.

ثم قال تعالى : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي لا يرشد العصاة الخارجين عن حدود الدين ومقتضى العقل والحكمة أو عن طاعة الله إلى معصيته.

ونظير هذه الآية قوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ ، وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ، أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ، وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ...) [المجادلة ٥٨ / ٢٢].

فقه الحياة أو الأحكام :

ظاهر آية : (لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ ...) أنها خطاب لجميع المؤمنين ، وهي باقية الحكم إلى يوم القيامة في قطع الولاية بين المؤمنين والكافرين.

وخص الله سبحانه الآباء والإخوة ؛ إذ لا قرابة أقرب منها ، فنفى الموالاة بينهم كما نفاها بين الناس بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) [المائدة ٥ / ٥١] ليبين أن القرب قرب الأديان ، لا قرب الأبدان.

ولم يذكر الأبناء في هذه الآية ؛ إذ الأغلب من البشر أن الأبناء هم التبع للآباء.

والإحسان وهبة الأشياء مستثناة من الولاية ، بدليل ما أخرجه البخاري :

__________________

(١) الكشاف : ٢ / ٣٣

١٥٣

قالت أسماء : يا رسول الله ، إن أمي قدمت علي راغبة ، وهي مشركة ، أفأصلها؟ قال : صلي أمك».

وقوله : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) تفسير لقوله : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) إما بالمآل وسوء العاقبة ، وإما بالأحكام في الدنيا العاجلة ، وذلك ظلم ، أي وضع الشيء في غير موضعه.

وفي آية : (قُلْ : إِنْ كانَ آباؤُكُمْ ...) دليل على وجوب حب الله ورسوله ، ولا خلاف في ذلك بين الأمة ، وأن ذلك مقدم على كل محبوب.

ومعنى محبة الله تعالى ومحبة رسوله كما قال الأزهري : طاعته لهما واتباعه أمرهما ، قال الله تعالى : (قُلْ : إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ ، فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) [آل عمران ٣ / ٣١](١).

ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يطعم أحدكم طعم الإيمان حتى يحب في الله ، ويبغض في الله ، حتى يحب في الله أبعد الناس ، ويبغض في الله أقرب الناس إليه».

وهذه الآية دليل على فضل الجهاد ، وإيثاره على راحة النفس وعلائقها بالأهل والمال. وقال المفسرون : هذه الآية في بيان حال من ترك الهجرة ، وآثر البقاء مع الأهل والمال.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٤ / ٦٠

١٥٤

نصر المؤمنين في مواطن كثيرة

(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧))

الإعراب :

(فِي مَواطِنَ) امتناعه من الصرف ؛ لأنه جمع وعلى صيغة لم يأت عليها واحد. (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) ظرف منصوب بالعطف على موضع (فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) وتقديره : ونصركم يوم حنين. وعطف الزمان وهو (يَوْمَ) على المكان وهو (مَواطِنَ) ؛ لأن معناه وموطن يوم حنين ، أو في أيام مواطن كثيرة ويوم حنين ويجوز أن يراد بالموطن : الوقت كمقتل الحسين ، على أن الواجب أن يكون (يَوْمَ حُنَيْنٍ) منصوبا بفعل مضمر ، لا بهذا الظاهر ، وموجب ذلك أن قوله : (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ) بدل من (يَوْمَ حُنَيْنٍ). أما لو جعل ناصبه هذا الظاهر فلم يصح ؛ لأن كثرتهم لم تعجبهم في جميع تلك المواطن ، ولم يكونوا كثيرا في جميعها ، فصار ناصبه فعلا خاصا به ، إلا إذا نصبت (إِذْ) بإضمار : اذكر. و (حُنَيْنٍ) : اسم منصرف ؛ لأنه اسم مذكر ، وهي لغة القرآن ، ومن العرب من لا يصرفه ، يجعله اسما للبقعة.

البلاغة :

(وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) عطف خاص على عام للتنويه بشأنه ، لمجيء النصر بعد اليأس. (وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) استعارة ، شبه ما حل بهم من الكرب والهزيمة بضيق الأرض على سعتها.

١٥٥

المفردات اللغوية :

(مَواطِنَ كَثِيرَةٍ) أي مواقع الحرب ومشاهدها ، مثل بدر وقريظة والنضير ، والحديبية ، وخيبر ، وفتح مكة (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) أي واذكر ، وهو واد بين مكة والطائف على ثلاثة أميال من الطائف ، كانت فيه الوقعة بين المسلمين ، وهم اثنا عشر ألفا ، الذين حضروا فتح مكة ، منضما إليهم ألفان من الطلقاء ، وبين هوازن وثقيف ، وهم أربعة آلاف مع من انضم إليهم من أمداد سائر العرب. وتسمى غزوته غزوة أوطاس ، وغزوة هوازن ، في شوال سنة ثمان ، فكانوا الجم الغفير ، فلما التقوا قال رجل من المسلمين : «لن نغلب اليوم من قلة» فساء ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ) بدل من (يَوْمَ).

(بِما رَحُبَتْ) ما : مصدرية ، و (رَحُبَتْ) : اتسعت ، والرحب : السعة ، والرحب : الواسع ، أي ضاقت عليكم الأرض مع رحبها أي سعتها ، فلم تجدوا مكانا تطمئنون إليه ، لشدة ما لحقكم من الخوف (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) أي هاربين منهزمين ، وثبت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على بغلته البيضاء ، وليس معه غير العباس ، وأبو سفيان آخذ بركابه (سَكِينَتَهُ) طمأنينته (عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي فردوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما ناداهم العباس بإذنه وقاتلوا.

(وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها) أي ملائكة (وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالقتل والأسر. (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ) منهم بالإسلام.

سبب النزول :

(وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) : أخرج البيهقي في الدلائل أن رجلا قال يوم حنين : «لن نغلب اليوم من قلة» وكانوا اثني عشر ألفا ، فشق ذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأنزل الله : (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) الآية.

المناسبة :

لما ذكر الله تعالى في الآية المتقدمة أنه يجب الإعراض عن مخالطة الآباء وغيرهم ، رعاية لمصالح الدين ، وعلم الله أن هذا يشق جدا على النفوس ، ذكر ما يدل على أن من ترك الدنيا لأجل الدين ، فإنه يوصله إلى مطلوبه من الدنيا أيضا ، وضرب مثلا لذلك كثرة عسكر المؤمنين وقوتهم يوم حنين ، فلما أعجبوا

١٥٦

بكثرتهم انهزموا ، ثم في حال الانهزام لما تضرعوا إلى الله قواهم حتى هزموا عسكر الكفار ، وهو يدل على أن الإنسان متى اعتمد على الدنيا فاته الدين والدنيا ، ومتى أطاع الله ورجح الدين على الدنيا ، آتاه الله الأمرين معا على أحسن الوجوه ، فكان ذكر ذلك تسلية عن مقاطعة الآباء ومن عداهم ، لمصلحة الدين ، وإعلاما للمؤمنين ليتذكروا أن عنايته تعالى لهم بالقوة المعنوية ، لا بالكثرة العددية.

قال مجاهد : هذه أول آية نزلت من براءة يذكر تعالى للمؤمنين فضله عليهم ، وإحسانه لديهم في نصره إياهم ، في مواطن كثيرة من غزواتهم مع رسوله ، وأن ذلك من عنده تعالى وبتأييده وتقديره ، لا بعددهم ولا بعددهم ، ونبههم على أن النصر من عنده ، سواء قل الجمع أو كثر ، فإن يوم حنين أعجبتهم كثرتهم ، ومع هذا ما أجدى ذلك عنهم شيئا ، فولوا مدبرين إلا القليل منهم ، مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم أنزل نصره وتأييده على رسوله وعلى المؤمنين الذين معه ، ليعلمهم أن النصر من عنده تعالى وحده ، وبإمداده ، وإن قل الجمع ، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ، والله مع الصابرين.

أضواء من التاريخ على وقعة حنين :

كانت هوازن قوة كبيرة بعد قريش ، وكانت تنافسها ، فلما بلغها فتح مكة ، نادى سيدهم مالك بن عوف النصري بالحرب ، واجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلها ، ونصر وجشم كلها ، وسعد بن بكر ، وأجمع السير إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وساق مع جيشه أموالهم ومواشيهم ونساءهم وأولادهم ، وزعم أن ذلك يحمي نفوسهم به ، ويقوي شوكتهم ، وكان على ثقيف كنانة بن عبيد ، وشهد الحرب دريد بن الصمة ، وكان شيخا كبيرا ، له رأي وحكمة ، ونزلوا بأوطاس : واد في ديار هوازن عند الطائف ، كانت فيه وقعة حنين.

ولما علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمرهم ، خرج إليهم ، وكان معه إثنا عشر ألفا من

١٥٧

المسلمين : عشرة آلاف من أصحابه في المدينة ، من المهاجرين والأنصار ، وألفان من أهل مكة مسلمة الفتح ، وهم الطلقاء.

واستعار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من صفوان بن أمية أدراعا وسلاحا.

ولما رأى المسلمون كثرتهم ، وبلوغ عددهم ما لم يبلغه عدد في غزوة سابقة ، اغتروا وقال بعضهم : لن نغلب اليوم من قلة. روى أحمد وأبو داود والترمذي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «خير الصحابة أربعة ، وخير السرايا أربعمائة ، وخير الجيوش أربعة آلاف ، ولن تغلب اثنا عشر ألفا من قلة» قيل : إن القائل : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقيل : أبو بكر رضي‌الله‌عنه.

واتكل المسلمون على قوتهم في مبدأ الأمر فانهزموا ، ثم لما عدلوا عن غرورهم ، وتضرعوا إلى ربهم ، كان النصر حليفهم.

التفسير والبيان :

لقد نصركم الله أيها المؤمنون في مواقع حربية كثيرة ، كبدر والحديبية ومكة وقريظة والنضير ، وأنتم قلة وهم كثرة : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) [آل عمران ٣ / ١٢٣] حيث كنتم متوكلين على الله ، معتمدين على أن النصر من عند الله. والمواطن الكثيرة : غزوات رسول الله ، ويقال : إنها ثمانون موطنا ، فأعلمهم الله تعالى بأنه هو الذي نصر المؤمنين ، إما نصرا كاملا وهو الأكثر ، وإما نصرا جزئيا للتربية والتعليم ، كما حدث في أحد ، حينما خالف جماعة من الصحابة أوامر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فتركوا جبل الرماة ، وكما حدث في حنين حينما اعتمدوا على الكثرة العددية ، وغاب عنهم أن الله هو الناصر ، لا كثرة الجنود ، فانهزموا.

وذكر بعضهم أن المواطن أقل من ثمانين ، روى أبو يعلى عن جابر أن عدد غزواتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إحدى وعشرون ، قاتل بنفسه في ثمان : بدر وأحد والأحزاب والمصطلق وخيبر ومكة وحنين والطائف. وبعوثه وسراياه ست وثلاثون.

١٥٨

ثم قال تعالى : (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ...) أي ونصركم أيضا في يوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فيه ، إذ بلغتم اثني عشر ألفا ، وكان الكافرون أربعة آلاف فقط ، وقيل : ثمانية آلاف في قول الحسن ومجاهد ، فكانت الهزيمة عليكم ، لاعتمادكم على أنفسكم ، وغروركم بقوتكم ، وتركتم اللجوء إلى ربكم واهب النصر ، فلم تغن كثرتكم عنكم شيئا من قضاء الله ، وضاقت عليكم الأرض بما اتسعت من الخوف ، ثم وليتم مدبرين منهزمين.

وذلك أنهم اقتتلوا اقتتالا شديدا ، فانهزموا أمام ثقيف وهوازن ، إذ كمنت هوازن في وادي حنين ، ثم بادروا المسلمين بالقتال ، وحملوا حملة رجل واحد ، كما أمرهم سيدهم ، فولى المسلمون مدبرين ، وثبت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو راكب يومئذ بغلته الشهباء يسوقها إلى نحر العدو ، والعباس عمه آخذ بلجامها وبركابها الأيمن ، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب آخذ بركابها الأيسر ، يثقلانها لئلا تسرع في السير.

وهذا دليل على تناهي شجاعته ورباطة جأشه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما هي إلا من آيات النبوة ، ثم قال : «يا رب ائتني بما وعدتني».

ثم قال للعباس وكان صيتا : صح بالناس ، فنادى الأنصار ثم نادى : يا أصحاب الشجرة (١) ، يا أصحاب السمرة ، فأجابوه : لبيك لبيك.

ويدعو الرسول المسلمين إلى الرجعة قائلا : «إلى عباد الله ، إلي أنا رسول الله» ويقول في تلك الحال :

أنا النبي لا كذب

أنا ابن عبد المطلب

__________________

(١) يعني شجرة بيعة الرضوان التي بايعه المسلمون من المهاجرين والأنصار تحتها ، على ألا يفروا عنه.

١٥٩

فتراجع الناس ، وثبت معه من أصحابه قريب من مائة ، وقيل : ثمانون ، ونزلت الملائكة عليهم البياض على خيول بلق ، فنظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى قتال المسلمين ، فقال : «الآن حمي الوطيس» (١) ثم أخذ كفا من تراب ، فرماهم به ، ثم قال : «اللهم أنجز لي ما وعدتني ، انهزموا ورب الكعبة» فانهزموا ، قال العباس : «فما زلت أرى حدهم كليلا ، وأمرهم مدبرا» «لكأني أنظر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يركض خلفهم على بغلته». وتمت هزيمة هوازن ، وكانت هذه آخر غزوة ضد المسلمين ، انتصر فيها المسلمون ، وانهزم فيها العرب.

ولهذا قال تعالى : (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ ...) أي أفرغ الله طمأنينته وثباته على رسوله ، وعلى المؤمنين الذين كانوا معه ، وأنزل جنودا لم تروها ، وهم الملائكة ، كما روي مسلم في صحيحة ، لتقوية روح المؤمنين وتثبيتهم ، وإضعاف الكافرين بما يقذفون في قلوبهم من الخوف والجبن من حيث لا يرونهم.

إلا أن الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر ، روي عن بعض من أسلم بعد حنين أنه قال : أين الخيل البلق ، والرجال الذين كانوا عليهم ، بيض ، ما كان قتلنا إلا بأيديهم؟!

وعذب الذين كفروا بسيوفكم بالقتل والسبي والأسر ، وذلك هو جزاء الكافرين في الدنيا ، ونظير الآية : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ) [التوبة ٩ / ١٤].

وكان السبي ستة آلاف رأس ، والإبل أربعة وعشرين ألفا ، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة ، وأربعة آلاف أوقية فضة ، وكانت تلك أكبر غنيمة غنمها المسلمون.

__________________

(١) يعني : استعرت الحرب ، وهي من كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي لم يسبق إليه.

١٦٠