التفسير المنير - ج ١٠

الدكتور وهبة الزحيلي

فرد وهو رجب ، أي ذات حرمة وتعظيم تمتاز بها عن بقية الشهور ، فقد ورد أن المعصية فيها أشد عقابا ، وأن الطاعة فيها أعظم ثوابا ، ولله تعالى أن يعظم بعض الأزمنة والأمكنة كما يشاء ، فقد فضل البلد الحرام عن سائر البلاد ، وميّز يوم الجمعة ويوم عرفة وعشر ذي الحجة عن سائر الأيام ، وميز شهر رمضان وأشهر الحج عن بقية الشهور كما قال تعالى : (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ) [البقرة ٢ / ١٩٧] وإن كان ذلك محرما في سائر الشهور ، وميز بعض الليالي كليلة القدر ، وبعض الأشخاص بالرسالة أو النبوة.

وكان القتال محرما في هذه الأشهر الأربعة على لسان إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام ، واستمر العرب على ذلك ، ثم نسخت حرمتها ؛ عن عطاء الخراساني رضي‌الله‌عنه قال : أحلّت القتال في الأشهر الحرم : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ).

وجاءت السنة مبينة حرمة الأشهر وثباتها في وقتها الصحيح ، روى الإمام أحمد والبخاري في التفسير عن أبي بكرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطب في حجة الوداع ، فقال : «ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرا ، منها أربعة حرم : ثلاثة متواليات : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرّم ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» أي رجعت الأشهر إلى ما كانت عليه ، وعاد الحج في ذي الحجة ، وبطل النسيء الذي كان في الجاهلية. وقد وافقت حجة الوداع ذا الحجة ، وكانت حجة أبي بكر رضي‌الله‌عنه قبلها في ذي القعدة(١).

ثم قال : «أي يوم هذا؟ قلنا : الله ورسوله أعلم ، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، قال : أليس يوم النحر؟ قلنا : بلى ، ثم قال : أي شهر هذا؟

__________________

(١) الكشاف : ٢ / ٣٨

٢٠١

قلنا : الله ورسوله أعلم ، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، قال : أليس ذا الحجة؟ قلنا : بلى ، ثم قال : أي بلد هذا؟ قلنا : الله ورسوله أعلم ، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، قال : أليست البلدة؟ قلنا : بلى ؛ قال : فإن دماءكم وأموالكم ـ وأحسبه قال : وأعراضكم ـ عليكم حرام كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا.

وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ؛ ألا لا ترجعوا بعدي ضلّالا يضرب بعضكم رقاب بعض ؛ ألا هل بلغت؟ ألا ليبلّغ الشاهد منكم الغائب ، فلعلّ من يبلّغه يكون أوعى له من بعض من سمعه».

ثم قال الله تعالى : (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي أن تحريم الأشهر الأربعة هو الدين المستقيم دين إبراهيم وإسماعيل ، أي الحكم والشرع الذي لا التواء فيه ولا اعوجاج ، فلا يجوز نقل تحريم المحرم مثلا إلى صفر ، خلافا لما كان يفعل أهل الجاهلية من تقديم بعض أسماء الشهور وتأخير البعض.

وكانت العرب قد تمسكت بتعظيم هذه الأشهر الحرم وراثة عن إبراهيم وإسماعيل ، ويحرمون القتال فيها ، حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه أو أخيه ، لم يتعرض له. وسموا رجبا : الأصم ، حتى أحدث النسيء ، فغيروا وبدلوا وأخلّ أهل الجاهلية بحرمة هذه الأشهر.

(فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) أي لا تظلموا في الأشهر الحرم أنفسكم ، باستحلال حرامها ، فإن الله عظّمها ، وإياكم أن تعملوا النسيء فتنقلوا الحج من شهره إلى شهر آخر ، وتغيروا حكم الله تعالى.

والمراد النهي عن جميع المعاصي بسبب ما لهذه الأشهر من تعظيم الثواب والعقاب فيها ، كما قال تعالى : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ ، فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) [البقرة ٢ / ١٩٧].

٢٠٢

وهذه الأمور وإن كانت حراما في غير هذه الأشهر ، إلا أنه أكد الله تعالى فيها المنع ، زيادة في شرفها.

ثم أبان الله تعالى حكم قتال المشركين بنحو عام في كل زمان ، فقال : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) أي قاتلوا المشركين جميعا أي مجتمعين متعاونين ، كما يقاتلونكم جميعا مجتمعين متعاونين ، وهذا على أن (كَافَّةً) حال من الفاعل ، ويصح كونها حالا من المفعول ، أي قاتلوا المشركين حال كونهم جميعا ، كما يقاتلونكم جميعا من غير تفرقة بين فئة وأخرى.

وظاهر الآية : إباحة قتالهم في جميع الأشهر ، حتى الأشهر الحرم ، فيكون القتال فيها مباحا ، ويؤيده قول عطاء الخراساني المتقدم : أحلت القتال في الأشهر الحرم : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) أي ما فيها من قوله تعالى : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) وقوله : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً).

فهذه الآية تأذن للمؤمنين بقتال المشركين في الشهر الحرام ، إذا كانت البداءة منهم ، كما قال تعالى : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) [البقرة ٢ / ١٩٤] وقال تعالى : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ ، فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) [البقرة ٢ / ١٩١].

وحاصر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهل الطائف في شوال ، واستمر الحصار إلى أن دخل الشهر الحرام ، وهو بعض ذي القعدة.

وأما آيات البقرة الدالة على تحريم القتال في الأشهر الحرم [١٩٤ ، ٢١٧] وآية المائدة [٢] فهي منسوخة بآيات التوبة ؛ لنزولها بعد سورة البقرة بسنتين.

وهذا القول بإباحة القتال في الأشهر الحرم هو المعتمد شرعا.

٢٠٣

ويحتمل أن يكون قوله تعالى : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً ...) منقطعا عما قبله وأنه حكم مستأنف ، للتحريض على قتال المشركين ، أي كما يجتمعون لحربكم إذا حاربوكم ، فاجتمعوا أنتم أيضا لهم إذا حاربتموهم ، وقاتلوهم بنظير ما يفعلون.

ثم قال الله تعالى مطمئنا المؤمنين بالنصر : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) أي أن الله تعالى مؤيد وناصر الأولياء الأتقياء الذين يتخذون وقاية من مخالفة أمره ، وهو معهم بالمعونة والنصر فيما يقومون به من أعمال القتال وغيره.

ثم أبان الله تعالى سبب استحقاق المشركين القتال والذم العظيم وهو تصرفهم في شرع الله بآرائهم الفاسدة ، وتغييرهم أحكام الله بأهوائهم الخاصة ، وتحليلهم ما حرم الله ، وتحريمهم ما أحلّ الله ، وذلك بالتلاعب في الزمان والوقت بلجوئهم إلى كبس السنة القمرية لتساوي السنة الشمسية ، وعملهم النسيء في الأشهر الحرم ؛ لأنه كان يشق عليهم ترك القتال وشن الغارات ثلاثة أشهر متواليات.

أما كبس السنة القمرية : فهو تكميل النقص الذي في السنة القمرية لتساوي السنة الشمسية ، فيزيدون كل ثلاث سنين شهرا في العام ، وذلك لأن السنة القمرية تنقص عن السنة الشمسية أحد عشر يوما تقريبا ، إذ هي (١٠٠٠ / ٣٦٦ ٣٥٤ يوما) فتنتقل الشهور العربية من فصل إلى فصل ، فيكملون النقص بأن يزيدوا في كل ثلاث سنوات شهرا ، لتكون السنة قمرية شمسية ، وليجعلوا وقت الحج في زمن معين وفقا لمصلحتهم ، لينتفعوا بتجاراتهم ، فكانوا إذا حضروا للحج حضروا للتجارة ، وربما يكون الوقت غير مناسب لحضور التجارات من أنحاء البلاد ، فيختل بذلك نظام تجارتهم ؛ إذ قد يكون الحج مرة في الشتاء ، ومرة في الصيف ، فيشق ذلك على العرب أيام الجاهلية ، فاختاروا للحج وقتا معينا ، وثبّتوا السنة القمرية كالسنة الشمسية لتنتظم علاقاتهم التجارية مع غيرهم من الشعوب الأخرى ، مع احتفاظهم بمراعاة نظام السنة القمرية في المعاملات والعبادات الذي توارثوه عن إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام.

٢٠٤

وقد تعلموا كبس السنة من اليهود والنصارى الذين يعتمدون على السنة الشمسية ، وهي (٤ / ١ ٣٦٥ يوما) وفي كل أربع سنوات يتكون من الكسر عندهم يوم كامل ، فتصبح السنة (٣٦٦ يوما) وفي كل مائة وعشرين سنة تزيد السنة شهرا كاملا ، فتكون ثلاثة عشر شهرا ، وتسمى كبيسة. أما في عصرنا فيقتصر على زيادة يوم في آخر شهر شباط (فبراير) كل أربع سنوات.

وأما النسيء في الشهور : فهو تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر ليس له تلك الحرمة ، بسبب أنه كان يشق عليهم أداء عباداتهم والقيام بتجاراتهم بالسنة القمرية ، حيث كان حجهم يقع مرة في الشتاء ، ومرة في الصيف ، فيتألمون من مشقة الصيف ، ولا ينتفعون بتجاراتهم التي يصطحبونها في موسم الحج ، كما أنه كان يشق ترك القتال وشن الغارات ثلاثة أشهر متوالية ، فتركوا اعتبار السنة القمرية ، واعتمدوا على السنة الشمسية ، ولزيادتها عن السنة القمرية احتاجوا إلى الكبس ، كما بينت ، فنقلوا حرمة شهر المحرم إلى صفر لتبقى الأشهر الحرم أربعة ليوافقوا عدد ما حرمه الله في الاسم دون الحقيقة ، اكتفاء بمجرد العدد ، ونقلوا الحج من شهر إلى آخر ، وإذا كانوا في حرب ودخل شهر رجب مثلا قالوا : نسميه رمضان ، ونطلق اسم رمضان على رجب.

وذلك لأن دورة القمر الشهرية : (٨ ، ٢ ثانية+ ٤٤ دقيقة+ ١٢ ساعة+ ٢٩ يوما) فتكون السنة القمرية أنقص من السنة الشمسية.

وأول من عمل النسيء : نعيم بن ثعلبة الكناني.

وكان يفعل النسيء بعده رجل كبير من كنانة يقال له (القلمّس) يقول في أيام منى حيث يجتمع الحجيج : أنا الذي لا يردّ لي قضاء ، فيقولون : صدقت ، فأخّر عنا حرمة المحرم ، واجعلها في صفر ؛ فيحل لهم المحرم ، ويحرم عليهم صفرا ، ثم يجيء العام المقبل بعده ، فيقول مثل مقالته : إنا قد حرمنا صفر

٢٠٥

وأخرنا المحرم ، ثم صاروا ينسئون غير المحرم ، فتتغير حقائق الشهور كلها ، حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم ، وحرموا أربعة أشهر من شهور العام اكتفاء بمجرد العدد.

لذا ذم الله تعالى تصرفهم وتلاعبهم بالشهور القمرية ، فقال : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) أي إن تأخير حرمة شهر إلى آخر ، وقلب وضع التحريم والتحليل زيادة في أصل كفرهم القائم على الشرك وعبادة الأصنام ، وتغيير لملة إبراهيم بسوء التأويل ، ولأن الكافر كلما أحدث معصية ازداد كفرا.

(يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي يوقع النسيء الذين كفروا في ضلال زيادة على ضلالهم القديم. وعلى قراءة يضل المبني للمعلوم معناه : يضلهم الله ، فيحلون الشهر المؤخر عاما ، ويحرمونه عاما.

(لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ) أي ليوافقوا في مجرد العدد الأربعة الأشهر الحرم.

(فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ) أي فيحلوا بهذه المواطأة ما حرمه الله تعالى من القتال ، بتأخير هذا الشهر الحرام.

(زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ) أي حسّن الشيطان لهم أعمالهم السيئة ، فظنوا ما كان سيئا حسنا ، وتوهموا شبهتهم الباطلة أنها صواب.

(وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) أي لا يوفق ولا يرشد القوم الضالين الذين يختارون السيئات ، إلى الحكمة والخير والصواب وفهم الحكمة من أحكام الشرع ، وإنما يخذلهم ولا يلطف بهم ؛ لأن الهداية المؤدية إلى السعادة في الدارين من آثار الإيمان والعمل الصالح ، كما قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) [يونس ١٠ / ٩].

٢٠٦

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيتان على الأحكام التالية :

١ ـ إن عدد الشهور القمرية في علم الله تعالى وفي حكمه وإيجابه في اللوح المحفوظ يوم خلق السموات والأرض اثنا عشر شهرا ، فإنه تعالى وضع هذه الشهور وسماها بأسمائها على ما رتّبها عليه ، يوم خلق السموات والأرض ، على وفق سنته الإلهية ونظامه البديع المتقن ، وأنزل ذلك على أنبيائه في كتبه المنزلة. وحكمها باق على ما كانت عليه ، لم يزلها عن ترتيبها تغيير المشركين لأسمائها.

والمقصود من ذلك اتباع أمر الله تعالى ، ورفض ما كان عليه أهل الجاهلية ، من تأخير أسماء الشهور وتقديمها ، وتعليق الأحكام على الأسماء التي رتّبوها عليه.

٢ ـ الواجب في شريعتنا الاعتماد على السنة القمرية في العبادات كالصوم والحج وغيرها ، كما عرفتها العرب ، دون السنة الشمسية أو العبرية أو القبطية وغيرها ، وإن لم تزد على اثني عشر شهرا. وذلك بدليل الآية التي معنا ، حيث ذكر فيها : (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) والأربعة الحرم من الشهور القمرية وهي (ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب) وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن رجب : «الذي بين جمادى وشعبان» وبدليل قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً ، وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ ، لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) [يونس ١٠ / ٥] فجعل تقدير القمر بالمنازل علة لمعرفة السنوات والحساب ، وهو إنما يصحّ بالاعتماد على دورة القمر.

وبدليل قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ، قُلْ : هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) [البقرة ٢ / ١٨٩] وهو يدل على السنة القمرية واعتبارها في الصيام والزكاة والحج والأعياد والمعاملات وأحكامها.

٢٠٧

٣ ـ الإسلام دين الحق والصواب والاستقامة ؛ لقوله تعالى : (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي ذلك الشرع والطاعة ، والقيّم أي القائم المستقيم. وقيل : ذلك الحساب الصحيح والعدد المستوفى ، وقيل : ذلك القضاء ، وقيل : الحق.

٤ ـ تحريم ظلم النفس بارتكاب المعاصي والذنوب في جميع السنة ؛ لقوله تعالى : (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) على قول ابن عباس : راجع إلى جميع الشهور. وقال الأكثرون : راجع إلى الأشهر الحرم خاصة ؛ لأنه إليها أقرب ، ولها مزية في تعظيم الظلم ؛ لقوله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) وهذا تعظيم لحرمتها وتأكيد لامتيازها ، لا أن الظلم في غير هذه الأيام جائز ، وإنما هو حرام في كل الأيام والشهور والسنين ، وإذا عظم الله تعالى شيئا عظّمه من جهتين ، وصارت حرمته متعددة ، فيضاعف فيه العقاب بالعمل السيء ، كما يضاعف الثواب بالعمل الصالح ، وذلك ثابت في البلد الحرام.

وقيل : إن الظلم هو إباحة القتال فيها ، ثم نسخ بإباحة القتال في جميع الشهور ، كما قال قتادة وعطاء الخراساني والزهري وسفيان الثوري ، وهو الصحيح المعتمد ؛ لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غزا هوازن بحنين وثقيفا بالطائف ، وحاصرهم في شوال وبعض ذي القعدة.

ونظرا لتعظيم حرمة الشهر الحرام ، قال الشافعي فيمن قتل فيه شخصا خطأ : تغلظ عليه الدية ، وقال : تغلظ الدية في النفس وفي الجراح في الشهر الحرام وفي البلد الحرام وذوي الرحم. وقال الأوزاعي : القتل في الشهر الحرام تغلّظ فيه الدية فيما بلغنا ، وفي الحرم ، فتجعل دية وثلثا.

وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما وابن أبي ليلى : القتل في الحلّ والحرم سواء ، وفي الشهر الحرام وغيره سواء ، قال القرطبي : وهو الصحيح ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سنّ الديات ، ولم يذكر فيها الحرم ولا الشهر الحرام. وأجمعوا على أن

٢٠٨

الكفارة على من قتل خطأ في الشهر الحرام وغيره سواء ، فالقياس أن تكون الدية كذلك.

٥ ـ تعظيم حرمة الأشهر الحرم : خصّ الله تعالى الأربعة الأشهر بالذكر ، ونهى عن الظلم فيها تشريفا لها ، وإن كان منهيا عنه في كل الزمان ، كما قال : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) وهذا رأي أكثر المفسرين ، أي لا تظلموا في الأربعة الأشهر أنفسكم. وروي عن ابن عباس قال : (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) في الاثني عشر.

٦ ـ الأمر بقتال المشركين كافة ، قال ابن العربي : يعني محيطين بهم من كل جهة وحالة ، فمنعهم ذلك من الاسترسال في القتال (١). وهذا ترغيب في قتالهم وتحريض ، معاملة بالمثل ، وتوحيدا للصف وجمعا للكلمة.

وقال بعض العلماء : كان الغرض بهذه الآية قد توجّه على الأعيان (أي أن القتال فرض عين) ثم نسخ ذلك ، وجعل فرض كفاية.

وفي هذا الكلام بعد ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يلزم الأمة جميعا النّفر ، وكان القتال قد استقرّ على أنه فرض كفاية بعد أن كان في مرحلة قصيرة فرض عين ، وإنما معنى هذه الآية ـ كما ذكر القرطبي ـ الحض على قتالهم والتحزب عليهم وجمع الكلمة ، ثم قيدها بقوله : (كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) فبحسب قتالهم واجتماعهم لنا يكون فرض اجتماعنا لهم (٢).

فليس في هذه الآية إعلان شامل للحرب على المشركين ، وإنما هي آمرة بتوحيد المؤمنين ، وجعلهم جبهة واحدة عند قتال المشركين ، فهي لتحريضهم

__________________

(١) أحكام القرآن : ٢ / ٩٢٨

(٢) تفسير القرطبي : ٨ / ١٣٦ ، تفسير الرازي : ١٦ / ٥٤

٢٠٩

على التعاون والتناصر ، وعدم التخاذل والتقاطع ، كما أن المشركين جبهة واحدة متعاونون متناصرون أثناء قتالهم المسلمين.

٧ ـ تحريم النسيء ، أي تأخير حرمة شهر ووقته إلى شهر آخر ، فذلك يضادّ الحقائق ، ويظهر التلاعب بالسنن الإلهية ، ويغير أوقات العبادة ، وهو أيضا زيادة في كفر المشركين ، الذين أنكروا وجود الباري فقالوا : (وَمَا الرَّحْمنُ؟) [الفرقان ٢٥ / ٦٠] في أصح الوجوه ، وأنكروا البعث فقالوا : (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟) [يس ٣٦ / ٧٨] وأنكروا بعثة الرسل فقالوا : (أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ؟) [القمر ٥٤ / ٢٤] ، وزعموا أن التحليل والتحريم عائد إليهم ، فحللوا ما حرّم الله وحرموا ما أحل الله على وفق شهواتهم وأهوائهم ، وأضلوا الذين كفروا ، وحافظوا على مجرد العدد في التحريم : (لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ) أي لم يحلّوا شهرا إلا حرموا شهرا لتبقى الأشهر الحرم أربعة ، وذلك كله من تزيين الشيطان لهم هذا العمل السيء ، والله لا يرشد كل كفار أثيم.

وكان الهدف من النسيء شيئين ماديين لمصالح الدنيا : الأول ـ ترتيب وقت الحج في زمن يناسب ظروف تجاراتهم ، بدلا من تقلّبه تارة في الصيف وتارة في الشتاء ، والثاني ـ شن الغارات والحروب ، أو الاستمرار في القتال ، على وفق رغباتهم وأهوائهم ومصالحهم.

وترتب على النسيء الاعتماد على السنة الشمسية في الواقع ؛ لأنهم جعلوا السنة القمرية تساير السنة الشمسية ، عن طريق الكبيسة ، وأدى ذلك إلى جعل بعض السنين ثلاثة عشر شهرا ، ونقل الحج من بعض الشهور القمرية إلى غير وقته المخصص له.

٢١٠

التحريض على الجهاد والتحذير من تركه

ومعجزة الغار في الهجرة

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠))

الإعراب :

(إِلَّا تَنْفِرُوا) بإدغام لا في نون إن الشرطية ، ومثلها : (إِلَّا تَنْصُرُوهُ). (إِذْ أَخْرَجَهُ) منصوب ب (نَصَرَهُ اللهُ) و (ثانِيَ اثْنَيْنِ) أي أحد اثنين ، وهو منصوب على الحال من هاء (أَخْرَجَهُ) وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وقيل : هو حال من ضمير محذوف تقديره : فخرج ثماني اثنين. (فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ) جواب الشرط.

(إِذْ هُما فِي الْغارِ) منصوب على البدل من قوله تعالى : (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) وهو بدل الاشتمال.

٢١١

(إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ) بدل من قوله : (إِذْ هُما فِي الْغارِ) وهاء (لِصاحِبِهِ) يراد بها أبو بكر.

(لا تَحْزَنْ) جملة فعلية في موضع نصب ب (يَقُولُ). وهاء (أَيَّدَهُ) يراد بها النبي عليه الصلاة والسّلام.

(وَكَلِمَةُ اللهِ) مبتدأ مرفوع ، و (هِيَ الْعُلْيا) خبره. وقرئ كلمة بالنصب ، وفيه بعد ؛ لأن كلمة الله لم تزل عالية ، فيبعد نصبها ب (جَعَلَ) لما فيه من إيهام أنها صارت عالية بعد أن لم تكن. والذي عليه جماهير القراء : هو الرفع.

(هِيَ الْعُلْيا هِيَ) ضمير فصل أو مبتدأ ، وفيها تأكيد فضل كلمة الله في العلو وأنها المختصة به دون سائر الكلم.

البلاغة :

(ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ) استفهام للإنكار واللوم أو التوبيخ.

(أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ) فيه إيجاز بالحذف ، أي أرضيتم بنعيم الدنيا بدل نعيم الآخرة.

(فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) إظهار الدنيا في مقام الإضمار ؛ لزيادة التقرير ، والمبالغة في التهوين بشأن الدنيا وبيان حقارتها بالنسبة للآخرة.

(يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) بينهما جناس اشتقاق.

(وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى) : (كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا) استعارة للشرك والدعوة إلى الكفر ، (وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا) استعارة للإيمان والتوحيد والدعوة إلى الإسلام.

المفردات اللغوية :

(انْفِرُوا) أقدموا على القتال بخفة ونشاط ، والمصدر : النفر والنفور ، واستنفر الإمام الناس إلى القتال : أعلن النفير العام ، وحثهم ودعاهم إلى جهاد العدو ، واسم ذلك القوم الذين يخرجون : النفير. (اثَّاقَلْتُمْ) تباطأتم وملتم عن الجهاد. (إِلَى الْأَرْضِ) قعدتم فيها ، والاستفهام للتوبيخ. (مِنَ الْآخِرَةِ) آثرتم الدنيا على الآخرة ، وقبلتم بدل نعيمها. (مَتاعُ) ما يتمتع به من لذائذ الدنيا. (فِي الْآخِرَةِ) في جنب متاعها. (إِلَّا قَلِيلٌ) حقير. (إِلَّا تَنْفِرُوا) إن لم تخرجوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للجهاد. (أَلِيماً) مؤلما. (وَيَسْتَبْدِلْ) أي يأت بهم بدلكم. (وَلا تَضُرُّوهُ) أي الله

٢١٢

أو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. (شَيْئاً) بترك نصره ، فإن الله ناصر دينه. (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) مقتدر ، ومنه نصر دينه ونبيه.

(إِلَّا تَنْصُرُوهُ) إن لم تنصروا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. (إِذْ) حين. (أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) من مكة ، أي ألجؤوه إلى الخروج ، لما أرادوا قتله أو حبسه أو نفيه ، بدار الندوة. (ثانِيَ اثْنَيْنِ) أحد اثنين ، والآخر أبو بكر ، والمعنى : نصره الله في مثل تلك الحالة ، فلا يخذله في غيرها. (الْغارِ) غار جبل ثور ، والغار : النقب أو الفتحة في الجبل. (إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ) أبي بكر الذي قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما رأى أقدام المشركين : لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا. (لا تَحْزَنْ) المراد بالنهي عن الحزن مجاهدة النفس وتوطينها على عدم الاستسلام له. (إِنَّ اللهَ مَعَنا) بنصره وتأييده. (سَكِينَتَهُ) طمأنينته. (عَلَيْهِ) الضمير يعود على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقيل : على أبي بكر. (وَأَيَّدَهُ) أي النبي. (بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) ملائكة في الغار ، وفي مواطن قتاله. (كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي دعوة الشرك والكفر. (السُّفْلى) المغلوبة. (وَكَلِمَةُ اللهِ) أي كلمة التوحيد أو الشهادة بتوحيد الإله. (هِيَ الْعُلْيا) الغالبة. (وَاللهُ عَزِيزٌ) في ملكه. (حَكِيمٌ) في صنعه.

سبب النزول :

نزول الآية (٣٨):

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) : أخرج ابن جرير عن مجاهد في هذه الآية قال : هذا حين أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح وحنين في الصيف حين طابت الثمار ، واشتهوا الظلال ، وشق عليهم المخرج ، فأنزل الله هذه الآية.

نزول الآية (٣٩) (إِلَّا تَنْفِرُوا) :

أخرج ابن أبي حاتم عن نجدة بن نفيع قال : سألت ابن عباس عن هذه الآية ، فقال: استنفر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحياء من العرب ، فتثاقلوا عنه ، فأنزل الله : (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) فأمسك عليهم المطر ، فكان عذابهم.

والخلاصة : لا خلاف أن هذه الآيات نزلت عتابا على تخلّف من تخلّف عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غزوة تبوك ، سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام.

٢١٣

قال المحققون : وإنما استثقل الناس الخروج لغزوة تبوك لجهاد الروم لأسباب.

أحدها ـ شدة الزمان في الصيف والقحط.

وثانيها ـ بعد المسافة والحاجة إلى الاستعداد الكثير الزائد على ما جرت به العادة في سائر الغزوات.

وثالثها ـ إدراك الثمار بالمدينة في ذلك الوقت.

ورابعها ـ شدة الحر في ذلك الوقت.

وخامسها ـ مهابة عسكر الروم (١).

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى أسباب قتال الكفار من المشركين واليهود والنصارى ، وذكر منافع مقاتلتهم ، كقوله : (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ). ذكر هنا ما يوجب قتال الروم وأتباعهم من النصارى من عرب الشام في غزوة تبوك. وتبوك في منتصف الطريق بين المدينة ودمشق ، تبعد عن الأولى ٦٩٠ كم وعن الثانية ٦٩٢ كم ، وكانت هذه الغزوة في رجب السنة التاسعة للهجرة بعد رجوع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غزوة حنين والطائف.

ونزلت هذه الآيات لما دعا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى غزوة تبوك ، وكانوا في عسرة وضيق. وشدة حر وقد حان قطاف التمر عندهم ، فشق ذلك عليهم ، فأبان تعالى أنه لا يصح ترك سعادة الآخرة والخير الكثير من أجل سعادة الدنيا وطيباتها ، فذلك جهل وسفه.

والكلام من هنا إلى آخر السورة في غزوة تبوك ، وما صاحبها من هتك ستر

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٦ / ٥٩

٢١٤

المنافقين وضعفاء الإيمان ، وتطهير قلوب المؤمنين من عوامل الشقاق ، إلا آيتين في آخرها ، وإلا ما جاء في أثنائها من أحكام وحكم ، جريا على منهج القرآن في أسلوبه الذي اختص به.

وسبب الغزوة : استعداد الروم والقبائل العربية المتنصرة من لخم وجذام وغيرهم ، وتجهيز جيش كثيف ، لغزو المدينة ، بقيادة «قباذ» وعدد جنده أربعون ألفا.

فندب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس للخروج لقتالهم ، وكان عثمان قد جهز عيرا إلى الشام للتجارة ، فقال : يا رسول الله ، هذه مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها ، ومائتا أوقية (من الفضة) فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم».

ولما لم يجد النبي من يقاتله عاد إلى المدينة ، بسبب انسحاب الروم وعدولهم عن فكرة الزحف واقتحام الحدود. ولكن كان لهذه الغزوة أثر معنوي كبير في نظر العرب والروم ، فكانت كفتح مكة ؛ لأنها كانت احتكاكا بأعظم قوة حينذاك ، وأثرت على المدى البعيد في نفوس الأعداء ، بعد أن كان العرب يخشون غزو الروم في عقر دارهم.

وقد مهد الله بهذا الغزو الذي كان له أثر عميق في نفوس العرب ، لغزو المسلمين للشام في عهد الخليفتين : أبي بكر وعمر.

التفسير والبيان :

يا أيها المؤمنون بالله ورسوله ، ما لكم تثاقلتم وتباطأتم عن الجهاد ، حين قال لكم الرسول الأمين : (انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) لقتال الروم الذين تجهزوا لقتالكم ومهاجمتكم؟ فقوله : (ما لَكُمْ) ما : حرف استفهام معناه التقرير والتوبيخ ، والتقدير : أي شيء يمنعكم عن كذا؟

٢١٥

ومعنى : (انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) : إذا دعيتم إلى الجهاد في سبيل الله ولإعلاء كلمته. و (اثَّاقَلْتُمْ) : تكاسلتم وملتم إلى الراحة وطيب الثمار والتفيؤ في الظلال. فهذا ليس من شأن الإيمان الذي يدعو إلى بذل النفس والمال في سبيل الله وطاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما قال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ، ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا ، وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [الحجرات ٤٩ / ١٥].

أرضيتم بلذات الحياة الدنيا بدلا من الآخرة وسعادتها ونعيمها؟ إن كنتم فعلتم ذلك فقد تركتم الخير الكثير في سبيل الشيء الحقير ، فما تتمتعون به في الدنيا متاعا مقترنا بالهم والألم ، إذا قيس بنعيم الآخرة الدائم المقيم ، إلا شيء حقير ، لا يصلح عوضا عن الشيء الكثير.

روى الإمام أحمد ومسلم والترمذي عن المستورد أخي بني فهر قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم ، فلينظر بم ترجع؟» وأشار بالسبابة.

وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إن الله يجزي بالحسنة ألفي ألف حسنة» ثم تلا هذه الآية : (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ).

فالآية والحديث تزهيد في الدنيا ، وترغيب في الآخرة.

ثم توعد الله تعالى من ترك الجهاد ، فقال : (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ ...) أي إن لم تخرجوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ما دعاكم إليه ، يعذبكم عذابا مؤلما في الدنيا كالهلاك بالقحط وغلبة العدو ، ويستبدل بكم قوما غيركم ، لنصرة نبيه وإقامة دينه ، كما قال تعالى : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ، ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) [محمد ٤٧ / ٣٨] أي أنه تعالى يهلكهم ويستبدل بهم قوما آخرين خيرا منهم وأطوع ،

٢١٦

وأنه غني عنهم في نصرة دينه ، لا يؤثر تثاقلهم فيها شيئا. قال ابن عباس : استنفر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيا من العرب ، فتثاقلوا عنه ، فأمسك الله عنهم القطر ، فكان عذابهم.

ولا تضروا الله شيئا بتوليكم عن الجهاد ، وتثاقلكم عنه ؛ لأنه هو القاهر فوق عباده. وقيل: الضمير للرسول ، أي ولا تضروه ؛ لأن الله وعده أن يعصمه من الناس ، وأن ينصره ، ووعد الله كائن لا محالة : (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) [آل عمران ٣ / ١٩٤]. (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) [الحج ٢٢ / ٤٧].

(وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي قادر على الانتصار من الأعداء بدونكم.

ثم رغبهم الله تعالى في الجهاد ثانية ومناصرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : (إِلَّا تَنْصُرُوهُ ...) أي إن لم تنصروا رسوله ، فإن الله ناصره ومؤيده ، وكافيه وحافظه ، كما تولى نصره عام الهجرة ، لما همّ المشركون بقتله أو حبسه أو نفيه من بلده : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ...) [الأنفال ٨ / ٣٠].

فخرج منهم هاربا بصحبة صدّيقه وصاحبه أبي بكر ، فلجأ إلى غار ثور ثلاثة أيام ، ليرجع الطلب الذين خرجوا في آثارهم ، ثم يسيروا نحو المدينة. ففزع أبو بكر على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما رأى المشركين ، حال كون النبي أحد اثنين ، والثاني أبو بكر في غار جبل ثور ، إذ قال لصاحبه : لا تخف ولا تحزن ، إن الله معنا يؤيدنا بنصره وعونه وحفظه.

روى أحمد والشيخان عن أنس قال : «حدثني أبو بكر قال : كنت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الغار ، فرأيت آثار المشركين ، فقلت : يا رسول الله ، لو أن أحدهم رفع قدمه ، لأبصرنا تحت قدمه ، فقال : يا أبا بكر ، ما ظنك باثنين ، الله

٢١٧

ثالثهما» وفي رواية أحمد : «لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه ...».

(فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ..) أي فأنزل الله طمأنينته وتأييده ونصره عليه ، أي على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في أشهر القولين ، وقيل : على أبي بكر ، قال ابن عباس وغيره : لأن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم تزل معه سكينة ، وهذا لا ينافي تجدد سكينة خاصة بتلك الحال. والسكينة : ما ألقى في قلبه من الأمن. وقال ابن العربي : عود الضمير على أبي بكر هو الأقوى ؛ لأنه خاف على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من القوم ، (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ) بتأمين النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسكن جأشه ، وذهب روعه ، وحصل الأمن ، ورجح الرازي هذا القول ؛ لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات ، وأقرب المذكورات في هذه الآية : هو أبو بكر ، ولأن الحزن والخوف كان حاصلا لأبي بكر لا للرسول عليه الصلاة والسلام ، ولو كان الرسول خائفا لما أمكنه تسكين خوف أبي بكر بقوله : (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) ، وقال الجمهور : الضمير عائد على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأن السكينة هنا بمعنى الصون وخصائص النبوة.

ثم قال : (وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) أي قوّاه وآزره بالملائكة. وجعل كلمة الشرك والكفر هي السفلى أي المغلوبة ، وكلمة الله التي هي لا إله إلا الله أو الدعوة إلى الإسلام هي العليا الغالبة ، والله عزيز غالب في انتقامه وانتصاره ، منيع الجناب ، لا يضام من لاذ به ، حكيم في أقواله وأفعاله ، يضع الأشياء في مواضعها. وقد تم نصر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وارتقاء دولته ، وهزمت كلمة المشركين وذلت دولة الشرك ، وأظهر الله دينه على كل الأديان : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ ، لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [الصف ٦١ / ٩]

قال ابن عباس : يعني بكلمة الذين كفروا : الشرك ، وكلمة الله : هي لا إله إلا الله. وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي‌الله‌عنه قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ، ويقاتل حميّة ، ويقاتل رياء ، أي

٢١٨

ذلك في سبيل الله؟ فقال : «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ، فهو في سبيل الله».

فقه الحياة أو الأحكام :

تضمنت الآيات عتاب من تخلف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غزوة تبوك ، سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام واحد.

ودلت الآية الأولى : (انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ...) على وجوب الجهاد في كل حال ، وذلك ليس من صيغة الأمر عند القائلين بأن الأمر يقتضي الفعل فقط ، وإنما من النص على العقاب ، وإنكار التثاقل ؛ لأنه تعالى نص على أن تثاقلهم عن الجهاد أمر منكر ، ولو لم يكن الجهاد واجبا ، لما كان هذا التثاقل منكرا. ثم إن الآية التي بعدها وهي (إِلَّا تَنْفِرُوا) فيها تهديد شديد ، ووعيد مؤكد في ترك النفير ، بعذاب أليم ، ولا يكون العذاب أو العقاب إلا على ترك واجب ، فوجب بمقتضى الآيتين النفير للجهاد والخروج إلى الكفار لمقاتلتهم ، على أن تكون كلمة الله هي العليا ، لكن قيل : المراد بهذه الآية الثانية وجوب النفير عند الحاجة وظهور الكفرة واشتداد شوكتهم.

وآية : (ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ) وإن دلت على خطاب كل المؤمنين ، إلا أن المراد بها البعض ، وخطاب الكل وإرادة البعض مجاز مشهور في القرآن ، وفي سائر أنواع الكلام ، كقول بعضهم : إياك أعني واسمعي يا جارة.

ثم إن فرضية الجهاد العينية المستفادة من هاتين الآيتين قد نسخت بما يدل على أن فرض الجهاد استقر كونه فرض كفاية ؛ روى أبو داود عن ابن عباس قال : (إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) و (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ) ـ إلى قوله ـ (يَعْمَلُونَ) [التوبة ٩ / ١٢٠ ـ ١٢١] نسختها الآية التي تليها : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) [التوبة ٩ / ١٢٢]. وهو قول الضحاك والحسن البصري وعكرمة.

٢١٩

وقال المحققون : إن هذه الآية خطاب لمن استنفرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم ينفروا ، وعلى هذا التقدير فلا نسخ.

وتضمنت آية (إِلَّا تَنْصُرُوهُ) عتاب الله أيضا للمؤمنين بعد انصراف نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تبوك ؛ لأن معناها كما عرفنا : إن تركتم نصره ، فالله يتكفّل به ؛ إذ قد نصره الله في مواطن القلة ، وأظهره على عدوه بالغلبة والعزة.

وأبانت الآية في قوله تعالى : (إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ : لا تَحْزَنْ ، إِنَّ اللهَ مَعَنا) فضل أبي بكر بسبب صحبته النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أحلك الظروف وشدة الخوف ، وتعرضه للقتل إن عثر المشركون عليه وعلى النبي ، واختيار النبي له لعلمه بأنه من المؤمنين الصادقين ، ولأن الظاهر يدل على كون الاختيار بأمر الله. ولتسميته بأنه (ثانِيَ اثْنَيْنِ) ولوصف الله تعالى أبا بكر بكونه صاحبا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال الليث بن سعد : ما صحب الأنبياء عليهم‌السلام مثل أبي بكر الصديق.

وقال سفيان بن عيينة : خرج أبو بكر بهذه الآية من المعاتبة التي في قوله : (إِلَّا تَنْصُرُوهُ).

وفي قوله تعالى : (ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ) ما يدل على أن الخليفة بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبو بكر الصديق رضي‌الله‌عنه ؛ لأن الخليفة لا يكون أبدا إلا ثانيا. وجاء في السنة أحاديث صحيحة ، يدل ظاهرها على أنه الخليفة بعده ، وقد انعقد الإجماع على ذلك ، ولم يبق منهم مخالف. روى البخاري عن ابن عمر قال : كنا نخيّر بين الناس في زمن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنخيّر أبا بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان.

٢٢٠