التفسير المنير - ج ١٠

الدكتور وهبة الزحيلي

التفسير والبيان :

جعلت الآيات أصناف المؤمنين في مواجهة الكفار أربعة أقسام :

١ ـ المهاجرون الأولون قبل غزوة بدر إلى صلح الحديبية.

٢ ـ الأنصار : أهل المدينة الذين آووا إخوانهم المهاجرين.

٣ ـ المؤمنون الذين لم يهاجروا.

٤ ـ المؤمنون الذين هاجروا بعد صلح الحديبية.

أما المصنف الأول

فهم المذكورون في مطلع الآية الأولى وهم الذين آمنوا بالله ورسوله أصحاب الهجرة الأولى قبل غزوة بدر إلى صلح الحديبية سنة ست من الهجرة ، الذين خرجوا من ديارهم وأموالهم ، وتركوها في مكة ، وجاؤوا لنصر الله ورسوله وإقامة دينه ، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في سبيل الله. وهذا الصنف هو الأفضل والأكمل. وقد وصفهم الله بالإيمان ، أي التصديق بكل ما جاء به النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووصفهم بالمهاجرة من ديارهم وأوطانهم ، فرارا بدينهم من فتنة المشركين ، إرضاء لله تعالى ونصرا لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونعتهم بالجهاد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم.

أما الجهاد بالأموال : فهو إنفاقها في التعاون والهجرة والدفاع عن دين الله ، كصرفها للكراع (الخيول) والسلاح ، وعلى محاويج المسلمين. فضلا عن سخاء النفس بترك تلك الأموال في وطنهم : مكة.

وأما الجهاد بالنفس فهو قتال الأعداء والاستعلاء عليهم وعدم المبالاة بهم ، وما كان قبل ذلك من احتمال المشاق ، والصبر على الأذى والشدائد والاضطهاد المتواصل.

وتقديم الجهاد بالأموال على الأنفس ؛ لأنه أدفع للحاجة ويتوقف الجهاد بالنفس عليه.

٨١

والخلاصة : وصف المهاجرون الأولون بأربع صفات : الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، والهجرة ، والجهاد ، وأولية الإقدام على هذه الأفعال.

وأما الصنف الثاني فهم المشار إليهم بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا) أي آووا الرسول والمهاجرين إليهم ، ونصروهم ، فكانت المدينة عاصمة الإسلام ومنطلق الدعوة في أرجاء الأرض ، وملجأ المهاجرين الذين عملوا مع الأنصار على نصرة دين الله والقتال معهم ، وشارك هؤلاء أولئك في أموالهم ، وآثروهم على أنفسهم ، فكانوا في الفضل بعد الصنف الأول.

ثم وصف الله الصنفين بأن بعضهم أولياء بعض ، أي يتولي بعضهم أمر الآخر كما يتولي أمر نفسه ، ويكون كل منهم أحق بالآخر من كل أحد ؛ لأن حقوقهم ومصالحهم مشتركة ، ولهذا آخى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين المهاجرين والأنصار ، كل اثنين أخوان ، فكانوا يتوارثون بهذا الإخاء إرثا مقدما على القرابة ، حتى تقوّى المهاجرون بالتجارة وغيرها ، فنسخ الله تعالى ذلك بالمواريث ، كما ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس. وروى الإمام أحمد عن جرير بن عبد الله البجليرضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض ، والطلقاء من قريش ، والعتقاء من ثقيف ، بعضهم أولياء بعض إلى يوم القيامة» لكن تفرد به أحمد.

فكان الإرث بين المهاجرين والأنصار بالإسلام والهجرة دون القرابة ، فالمسلم في غير المدينة لا يرث المسلم الذي في المدينة وما حولها إلا إذا هاجر إليها ، فيرث ممن بينه وبينه إخاء.

وهكذا فالولاية بين المهاجرين والأنصار عامة في الحرب والإرث وكل أوجه العلاقة بينهم وبين الكفار. وقال أبو بكر الأصم : الآية محكمة غير منسوخة ، والمراد بالولاية : النصرة والمظاهرة.

٨٢

وقد أثنى الله ورسوله على المهاجرين والأنصار ، في غير ما آية في كتابه ، لتضامنهم وتناصرهم ، فقال : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ ، وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ، وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ) [التوبة ٩ / ١٠٠] وقال تعالى : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) [التوبة ٩ / ١١٧] وقال عزوجل : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً ، وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ. وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ ، وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا ، وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ ، وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) [الحشر ٥٩ / ٨ ـ ٩] أي لا يحسدونهم على فضل ما أعطاهم الله على هجرتهم.

وظاهر الآيات تقديم المهاجرين على الأنصار ، وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء لا يختلفون في ذلك ، كما ذكر ابن كثير. ولهذا روى أبو بكر البزار في مسنده عن حذيفة قال : خيرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين الهجرة والنصرة ، فاخترت الهجرة».

وأما الصنف الثالث وهم المؤمنون الذين لم يهاجروا فقد ذكرهم الله بقوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ، ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا) أي أن الذين صدّقوا برسالة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يهاجروا من مكة إلى المدينة ، وظلوا مقيمين في أرض الشرك تحت سلطان المشركين أي في دار الحرب والشرك ، لا يثبت لهم شيء من ولاية (نصرة) المؤمنين الذين في دار الإسلام. أما من أسره الكفار من أهل دار الإسلام ، فله حكم أهل هذه الدار. إن الولاية منقطعة بين أهل الدارين إلا في حالة واحدة ذكرها تعالى بقوله : (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ ...) وهي مناصرتهم على الكفار إذا قاتلوهم أو اضطهدوهم لأجل دينهم ، إلا إذا كان هؤلاء الكفار معاهدين ، فيجب الوفاء بعهدهم ؛ لأن الإسلام لا يبيح الغدر والخيانة بنقض

٨٣

العهود. وهذا أصل من أصول أحكام الإسلام وسياسته الخارجية العادلة الرفيعة المستوى.

وحذر الله تعالى من نقض العهد بقوله : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي إن الله مطلع على جميع أعمالكم ، فالزموا حدوده ، ولا تخالفوا أمره ، ولا تتجاوزوا ما حدّه لكم ، كيلا يحل بكم عقابه.

والخلاصة : ليست المقاطعة تامة ، كما في حق الكفار ، بين المؤمنين في دار الإسلام وبين المؤمنين الذين لم يهاجروا ، فلو استنصروكم فانصروهم ولا تخذلوهم.

ومن أجل دعم الولاية (التناصر والتعاون) بين المهاجرين والأنصار ، ذكر الله تعالى حال الكفار في مواجهة المؤمنين ، ليكونوا صفا واحدا تجاههم ، وليعلموا قطع الموالاة بينهم وبين الكفار ، فقال : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي أن الكفار في جملتهم فريق واحد تجاه المسلمين ، يوالي بعضهم بعضا في النصرة والتعاون على قتال المسلمين ، وإن تعددت مللهم ، وعادى بعضهم بعضا ، وقد أكد التاريخ ذلك ، فكان اليهود مناصرين المشركين في حربهم ضد المؤمنين ، حتى إنهم نقضوا عهودهم مع المسلمين ، مما استوجب حربهم وإجلاءهم من خيبر ، والتاريخ يعيد نفسه ، فترى المشركين والماديين الملحدين واليهود والنصارى في كل عصر في خندق معاد للإسلام والمسلمين.

وجعل الكفار في صف والمسلمين في صف آخر مواجه لهم اقتضى امتناع الإرث بسبب اختلاف الدين باتفاق المذاهب الأربعة ، فلا يرث المسلم كافرا ، ولا الكافر مسلما ، لما رواه الحاكم في مستدركه عن أسامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لا يتوارث أهل ملتين ، ولا يرث مسلم كافرا ولا كافر مسلما» ثم قرأ : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ، إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) وروى الجماعة إلا النسائي عن أسامة بن زيد : «لا يرث المسلم الكافر ، ولا الكافر المسلم».

٨٤

أما توارث الكفار بعضهم من بعض فجائز في رأي الجمهور ؛ لأن الكفر ملة واحدة في الإرث ؛ لقوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ). وقال المالكية : لا يرث كافر كافرا إذا اختلف دينهما من اليهودية والنصرانية ؛ لأنهما دينان مختلفان ، ولا يرثان من مشرك ولا يرثهما مشرك ؛ لعموم الحديث السابق : «لا يتوارث أهل ملتين شتى» ولأنه لا موالاة بينهم.

وأما اختلاف الدار فهو مانع للإرث عند الحنفية فقط إذا كان بين الكفار ، دون المسلمين ، لثبوت التوارث بين أهل البغي وأهل العدل (دار الإسلام) فيكون هذا المانع خاصا بغير المسلمين.

وليس اختلاف الدار لدى الشافعية مانعا من موانع الإرث ، لكنهم قالوا : لا توارث بين حربي ومعاهد ، وهو يشمل الذمي والمستأمن ؛ لانقطاع الموالاة بينهما.

وليس اختلاف الدار مطلقا مانعا للميراث لدى المالكية والحنابلة ، فيرث أهل الحرب بعضهم من بعض ، سواء اتفقت ديارهم أو اختلفت.

ثم قال تعالى : (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ ...) أي إن لم تفعلوا ما شرع لكم من موالاة المسلمين وتواصلهم وتناصرهم وتعاونهم تجاه ولاية الكفار بعضهم لبعض ، وتجنب موالاة المشركين وعدم الاختلاط بهم ، تحصل فتنة عظيمة في الأرض هي ضعف الإيمان وقوة الكفر ، وفساد كبير وهو سفك الدماء ، فتعم الفتنة وهي التباس الأمر ، واختلاط المؤمنين بالكافرين ، فيقع بين الناس فساد زائد في الدين والدنيا.

وفي هذا دلالة على حرص الإسلام على الحفاظ على شخصية المسلمين الذاتية ، واستقلالهم في ديارهم ، وعدم إقامتهم في أوطان الكفار. روى ابن جرير عن

٨٥

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «أنا برىء من كل مسلم بين ظهراني المشركين» ثم قال : «لا يتراءى ناراهما».

ثم أراد الله تعالى أن يبين فضل المهاجرين والأنصار على غيرهم ، ويوضح مالهم في الآخرة ، بعد أن ذكر حكمهم في الدنيا فهم متواصلون بينهم ، وهذا ثناء عليهم ، فلا تكرار ، فقال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ...) أي إن الله تعالى يخبر عنهم بأنهم هم المؤمنون حق الإيمان وأكمله ، دون من لم يهاجر وأقام بدار الشرك ، مع حاجة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين إلى هجرته ، وأنه سبحانه سيجازيهم بالمغفرة التامة والصفح عن ذنوبهم إن كانت ، وبالرزق الكريم في الجنة : وهو الحسن الكثير الطيب الشريف ، الدائم المستمر الذي لا ينقطع أبدا.

هؤلاء الأصناف الثلاثة هم السابقون المقربون كما قال تعالى : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ).

وأما الصنف الرابع

وهم المؤمنون الذين هاجروا بعد صلح الحديبية ، فهم المشار إليهم بقوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ ...) أي والذين تأخر إيمانهم وهجرتهم عن الهجرة الأولى ، وبعد أن قويت شوكة المسلمين ، وهاجروا إلى المدينة ، وجاهدوا مع السابقين لهم ، فأولئك منكم ، أي أنهم كالمهاجرين الأولين والأنصار ، في الموالاة والتعاون والتناصر والفضل والجزاء ، فهؤلاء الأتباع لهم في الدنيا ، على ما كانوا عليه من الإيمان والعمل الصالح ، النصرة ، وهم مع المتقدمين في حسن الجزاء والعاقبة في الآخرة ، فهم تبع لمن سبقهم ، لذا قال تعالى : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) الآية [الحشر ٥٩ / ١٠] وفي الحديث المتفق عليه المتواتر من طرق صحيحة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «المرء مع من أحب» وفي الحديث الآخر الذي رواه الطبراني والضياء عن أبي قرصافة : «من أحب قوما فهو منهم» وفي رواية «حشره الله في زمرتهم».

٨٦

وفي جعل الصنف الرابع من جملة الأصناف الثلاثة السابقة بقوله (فَأُولئِكَ مِنْكُمْ) دليل على فضل السابقين على اللاحقين ، كما أن في الآية قدرا مشتركا بين الصنف الأول والأخير وهو الهجرة والإيمان ، مما يدل على الترغيب فيهما.

ثم ذكر الله تعالى ولاية الرحم والقرابة بعد ولاية الإيمان والهجرة ، فقال : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ ...) أي أصحاب القرابة التي تربط بينهم رابطة الدم ، والآية عامة تشمل جميع القرابات ، سواء أكانوا من ذوي الفروض أم العصبات (القرابة من جهة الأب) أم الأرحام (القرابة من جهة الأم) في اصطلاح علماء الفرائض ، هؤلاء بعضهم أولى ببعض أي أجدر وأحق من المهاجرين والأنصار الأباعد بالتناصر والتعاون والتوارث في دار الهجرة ، في كتاب الله ، أي في حكم الله الذي كتبه على عباده المؤمنين ، وأوجب به عليهم صلة الأرحام.

فولاية الرحم أهم من ولاية الإيمان وولاية الهجرة في عهدها السابق ، والقريب المؤمن أولى بقريبه الرحم من المؤمن المهاجر والأنصاري البعيد القرابة ، فتكون الآية مخصصة ما سبقها. أما القريب الكافر فيقطع الكفر صلته بقريبه.

وتكون الأخوة في النسب والدم ، والأخوة في الله أولى في حكم الله من مجرد الأخوة الدينية.

ثم ختم الله الآية بقوله : (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي إن الله عليم بكل الأشياء ، وعلمه واسع محيط بكل شيء من مصالحكم الدنيوية والأخروية ، وبكل ما شرعه في هذه السورة من أحكام في السلم والحرب والغنائم والأسرى والعهود والمواثيق والولاية العامة والخاصة بين المؤمنين وصلة الأرحام ، وهو إشارة إلى أن جميع أحكام السورة محكمة غير منسوخة ولا منقوضة وكلها حكمة وصواب وصلاح ، وليس فيها شيء من العبث ، ونظير ذلك قوله تعالى : (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ) [الأعراف ٧ / ٥٢].

٨٧

لكن آية (وَأُولُوا الْأَرْحامِ) نقل عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة وغير واحد : أنها ناسخة للإرث بالحلف والإخاء اللذين كانوا يتوارثون بهما أولا. ويؤيدهم حديث صحيح متواتر : «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصية لوارث».

فالإرث الذي كان بسبب النصرة والهجرة صار منسوخا ، فلا يحصل الإرث إلا بسبب القرابة ، وقوله : (فِي كِتابِ اللهِ) المراد منه السهام المذكورة في آيات المواريث في سورة النساء. وهذا ما ذهب إليه الشافعية ، فلا إرث لذوي الأرحام بالمعنى الضيق عند علماء الفرائض كالخال والخالة والعمة وأولاد البنات وأولاد الأخوات ونحوهم ، وليس لهم نصيب ، والعصبات أولى بعضهم ببعض ؛ لأن الفروض عينت. وقال الحنفية : يثبت الإرث لذوي الأرحام بنص هذه الآية ، وذلك إذا لم يوجد أحد من العصبات.

وأما من نفي كون آية (وَأُولُوا الْأَرْحامِ) ناسخة لما تقدمها ، فإنه فسر المراد بالولاية بالنصرة والمحبة والتعظيم ، وتكون الآية الأولى لبيان أن رابطة الإسلام أقوى من رابطة النسب ، والثانية لبيان مكانتهم وأنهم المؤمنون حقا ، والثالثة لبيان أن المتأخرين في الإيمان والهجرة لهم حكم من تقدمهم ، وأن التناصر بالقرابة أيضا مطلوب.

ويكون المراد من آية أولي الأرحام أن ولاية الإرث إنما تحصل بسبب القرابة إلا ما خصه الدليل ، فيكون المقصود من هذا الكلام إزالة الوهم في أن الولاية محتملة للولاية بسبب الإرث ، قال الرازي : وهذا أولى ؛ لأن تكثير النسخ من غير ضرورة ولا حاجة لا يجوز (١).

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٥ / ٢١٣

٨٨

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يلي :

١ ـ ثبوت ولاية النصرة بين مؤمني دار الإسلام ، وبيان فضل المهاجرين السابقين على اللاحقين ، وفضل المهاجرين على الأنصار ، وجعل المتأخرين في الإيمان والهجرة بمنزلة المتقدمين في تضامنهم معهم.

٢ ـ ثبوت ولاية النصرة بين مؤمني دار الإسلام ومؤمني دار الحرب في حال مقاتلتهم أو اضطهاد الكفار لهم إلا إذا كان بيننا وبينهم ميثاق صلح وسلام ، فلا تمكن مناصرتهم. وفيما عدا حالة المقاتلة لا تثبت ولاية النصرة بين المسلمين في دار الإسلام ، والمسلمين في دار الحرب.

٣ ـ تقديس الوفاء بالعهود والمواثيق في شرعة الإسلام ، وإن مس ذلك مصلحة بعض المسلمين.

٤ ـ الكفار بعضهم أولياء بعض أي نصراء وأعوان.

٥ ـ إذا لم نحقق ولاية النصرة بيننا ، ووالينا الكفار ، أدى ذلك إلى ضعفنا ، وقوتهم علينا.

٦ ـ إن كل ما شرعه الله من أحكام صادر عن علم واسع شامل محيط بالمصالح الدينية والدنيوية.

٧ ـ إرث ذوي الأرحام وهو من لا سهم له في القرآن من قرابة الميت ، وليس بعصبة ، وبه قال الحنفية والحنابلة محتجين بالآية (١) ، فقد اجتمع في ذوي الأرحام سببان : القرابة والإسلام ، فهم أولى ممن له سبب واحد وهو الإسلام. وروى أبو داود والدارقطني عن المقدام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من ترك كلّا

__________________

(١) أحكام القرآن للجصاص : ٣ / ٧٦

٨٩

فإلي ، ومن ترك مالا فلورثته ، فأنا وارث من لا وارث له ، أعقل عنه وأرثه ، والخال وارث من لا وارث له ، يعقل عنه ويرثه».

وقال المالكية والشافعية : لا يرث من لا فرض له من ذوي الأرحام ، وترد التركة إلى بيت المال ؛ لأن الله تعالى ذكر في آيات المواريث نصيب أصحاب الفروض والعصبات ، ولم يذكر لذوي الأرحام شيئا ، ولو كان لهم حق لبينه : (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) [مريم ١٩ / ٦٤] وروى الترمذي وغيره من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن الله أعطى لكل ذي حق حقه».

وأما آية (وَأُولُوا الْأَرْحامِ) فهي آية مجملة جامعة ، وآيات المواريث مفسّرة ، والمفسّر قاض على المجمل ومبيّن. وروى أبو داود في المراسيل أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عن ميراث العمة والخالة ، فقال : «أخبرني جبريل أن لا شيء لهما».

والأصح أن الهجرة انقطعت بفتح مكة ؛ لأنها صارت حينئذ بلد إسلام وجزءا من دار الإسلام.

٩٠

بسم الله الرحمن الرّحيم

سورة التوبة

مدنية وهي مائة وتسع وعشرون آية. نزلت في غزوة تبوك سنة تسع.

تسميتها :

قال الزمخشري : لها عدة أسماء : براءة ، التوبة ، المقشقشة ، المبعثرة ، المشردة ، المخزية ، الفاضحة ، المثيرة ، الحافرة ، المنكّلة ، المدمدمة ، سورة العذاب ؛ لأن فيها التوبة على المؤمنين ، وهي تقشقش من النفاق ، أي تبرئ منه ، وتبعثر عن أسرار المنافقين ، أي تبحث عنها ، وتثيرها ، وتحفر عنها ، وتفضحهم ، وتنكلهم ، وتشرد بهم ، وتخزيهم ، وتدمدم عليهم (١). وتسمى أيضا البحوث ؛ لأنها تبحث عن أسرار المنافقين.

وعن حذيفة رضي‌الله‌عنه : إنكم تسمونها سورة التوبة ، وإنما هي سورة العذاب ، والله ما تركت أحدا إلا نالت منه.

وعن ابن عباس في هذه السورة قال : إنها الفاضحة ما زالت تنزل فيهم ، وتنال منهم ، حتى خشينا ألا تدع أحدا ، وسورة الأنفال نزلت في بدر ، وسورة الحشر نزلت في بني النضير.

__________________

(١) الكشاف : ٢ / ٢٥

٩١

السبب في إسقاط التسمية من أولها :

قال ابن عباس : سألت عليا رضي‌الله‌عنه ، لم لم يكتب في براءة (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)؟ قال : لأن (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) أمان ، وبراءة نزلت بالسيف ونبذ العهود ، وليس فيها أمان (١).

وقال سفيان بن عيينة : إنما لم تكتب في صدر هذه السورة البسملة ؛ لأن التسمية رحمة ، والرحمة أمان ، وهذه السورة نزلت بالمنافقين وبالسيف ، ولا أمان للمنافقين (٢).

قال القرطبي نقلا عن القشيري : والصحيح أن التسمية لم تكتب ؛ لأن جبريل عليه‌السلام ما نزل بها في هذه السورة. فلم يكتبها الصحابة في المصحف الإمام ، مقتدين في ذلك بأمير المؤمنين عثمان رضي‌الله‌عنه ، كما قال الترمذي.

مناسبتها لما قبلها :

هناك شبه بين سورة براءة وسورة الأنفال قبلها ، فهي كالمتممة لها في وضع أصول العلاقات الدولية الخارجية والداخلية ، وأحكام السلم والحرب ، وأحوال المؤمنين الصادقين والكفار والمنافقين ، وأحكام المعاهدات والمواثيق ، إلا أن في الأنفال بيان العهود والوفاء بها وتقديسها ، وفي براءة نبذ العهود ، وذكر في السورتين صدّ المشركين عن المسجد الحرام ، والترغيب في إنفاق المال في سبيل الله ، وتفصيل الكلام في قتال المشركين وأهل الكتاب وبيان أوضاع المنافقين.

وبالرغم من هذا الشبه الموضوعي في السورتين ، وأنهما تدعيان القرينتين ، وأنهما نزلتا في القتال ، فإنهما في الأصح سورتان مستقلتان ، فليست براءة جزءا

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٥ / ٢١٦

(٢) تفسير القرطبي : ٨ / ٦٢ ـ ٦٣

٩٢

من الأنفال ، بدليل كثرة أسمائها المميزة لها ، وفصلها عما سبقها ، واستقر على ذلك ترتيب السور والآيات ، وتناقل المسلمون هذا الفصل في المصحف من عهد الصحابة لما كتبوا المصحف في خلافة عثمان.

قال عثمان رضي‌الله‌عنه : قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يبين لنا أنها منها. وفي قوله هذا دليل على أن السور كلها انتظمت بقوله وتبيينه ، وأن براءة وحدها ضمّت إلى الأنفال من غير عهد من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لما عاجله من الحمام قبل تبيينه ذلك. وكانتا تدعيان القرينتين ، فوجب أن تجمعا وتضم إحداهما إلى الأخرى ؛ للوصف الذي لزمهما من الاقتران ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيّ (١).

قال ابن العربي : هذا دليل على أن القياس أصل في الدين ، ألا ترى إلى عثمان وأعيان الصحابة كيف لجؤوا إلى قياس الشّبه عند عدم النص ، ورأوا أن قصة براءة شبيهة بقصة الأنفال فألحقوها بها ، فإذا كان الله قد بيّن دخول القياس في تأليف (أي جمع) القرآن ، فما ظنك بسائر الأحكام (٢)؟!

تاريخ نزولها :

كانت الأنفال من أوائل ما أنزل بعد الهجرة ، وبراءة من آخر ما نزل من القرآن ، نزلت في السنة التاسعة من الهجرة ، وهي السنة التي حدثت فيها غزوة تبوك ، وهي آخر غزواتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، خرج فيها لغزو الروم ، وقت القيظ والحر الشديد ، زمن العسرة ، حين طابت الثمار ، فكانت ابتلاء لإيمان المؤمنين ، وافتضاحا لنفاق المنافقين. وقد نزل أولها بعد فتح مكة ، فأرسل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليا ليقرأها على المشركين في موسم الحج.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٨ / ٦٣

(٢) أحكام القرآن : ٢ / ٨٨١

٩٣

روى البخاري عن البراء بن عازب قال : آخر آية نزلت : (يَسْتَفْتُونَكَ ، قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) وآخر سورة نزلت : براءة.

ما اشتملت عليه السورة :

افتتحت السورة بالبراءة من المشركين ، ومنحهم مدة أمان أربعة أشهر ، ثم إعلان الحرب عليهم بسبب جرائمهم ، ثم منعهم من دخول المسجد الحرام إلى الأبد. ثم مجاهدة أهل الكتاب حتى يؤدوا الجزية أو يسلموا. وتضمنت السورة في قسمها الأول حتى نهاية الآية [٤١] الحث على الجهاد والنفير العام في سبيل الله بالأموال والأنفس. ثم تحدثت عن أوصاف المنافقين ومخاطرهم في القسم الثاني إلى آخر السورة ، وتخلل ذلك الإشارة إلى تخلف الأعراب عن الجهاد ، وعدم قبول تخلف أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب عن المشاركة في الجهاد ، وختمت السورة بمقارنات واضحة تميز بين المؤمنين والمنافقين ، وجعل الجهاد فرض كفاية ، وتخصيص فئة أخرى للتفقه في الدين.

فكان محور السورة يدور حول أمرين :

الأول ـ أحكام جهاد المشركين وأهل الكتاب.

الثاني ـ تمييز المؤمنين عن المنافقين بصدد غزوة تبوك.

أما أحكام الجهاد فقد مهد لها القرآن الكريم في هذه السورة بنبذ العهود والأمان بالنسبة للمشركين ، وإنهاء المعاهدات التي كانت قائمة بين المسلمين وأهل الكتاب ؛ لأن كلا من المشركين والكتابيين نقضوا العهود ، وتواطأت طوائف اليهود من بني النضير وبني قريظة وبني قينقاع مع المشركين على محاربة المسلمين ومحاولة القضاء عليهم. وتحدثت حوالي عشرون آية عن أحقاد اليهود ودسائسهم ومؤامراتهم ، وخبثهم وكيدهم ، فلا عهد ولا أمان ، ولا سلم ولا مصالحة بعد انتهاء أمد الأمان ، ونقض العهود من غير المسلمين.

٩٤

وأما الأمر الثاني فكان بسبب استنفار المسلمين لغزو الروم في غزوة تبوك ، وقد أوضحت الآيات في القسم الأعظم من هذه السورة نفسيات المسلمين ، وظهور عوارض التثاقل والتخلف والتثبيط ، ومراوغة المنافقين ، ودسائسهم الماكرة ، واتخاذهم ما أطلق عليه (مسجد الضرار) الذي نزل بشأنه أربع آيات ، وكرا للتآمر والتخريب ، وتعريتهم بشكل فاضح ، حتى سميت السورة (الفاضحة) لأنها فضحت المنافقين ، ولم تدع لهم سترا إلا هتكته.

والخلاصة : كانت هذه السورة سورة الحسم الكامل لأوضاع غير المسلمين ، وربما كانت أخطر سورة حشدت جيش الإيمان وأعدته للمعركة الفاصلة النهائية بين المسلمين وغيرهم ، سواء في داخل الدولة بتصفية جذور النفاق ، والقضاء على مكر اليهود ، أو في خارج الدولة بالتصدي لغطرسة الروم في غزوة تبوك التي أرهبتهم ، وجمّدت كل تحركاتهم المشبوهة للقضاء على الإسلام والمسلمين.

وكان لهذه التصفية المقدّر والمخطط لها من قبل الله تعالى على الصعيد الداخلي والخارجي الأثر الأكبر في استقرار الدولة الإسلامية ، والحفاظ على كيانها الدولي وإظهار هيبتها ومنعة وجودها ، بعد انتقال مؤسسها وقائدها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الرفيق الأعلى.

أضواء من التاريخ على صلح الحديبية :

عقد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معاهدة صلح الحديبية سنة ست من الهجرة مع المشركين على وضع الحرب أوزارها ، وعلى السلم والأمان مدة عشر سنوات ، بشروط متسامح فيها عن قوة وعزة ، لا عن ضعف وذلة. ثم نقضت قريش المعاهدة بإعانة حليفتها قبيلة بني بكر على قبيلة خزاعة حليفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالسلاح والرجال ، فاستغاث عمرو بن سالم الخزاعي على رأس وفد بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأغاثه قائلا :

٩٥

«نصرت يا عمرو بن سالم ، لا نصرت إن لم أنصر بني كعب» فكان ذلك سبب عودة حالة الحرب مع قريش.

فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس بالتأهب للقتال ، وسار لفتح مكة سرا ، ففتحها في السنة الثامنة من الهجرة.

ولما بلغ هوازن فتح مكة ، جمعهم أميرهم مالك بن عوف النصري لقتال المسلمين ، وكانت غزوة حنين التي شهدها دريد بن الصّمّة في شوال في السنة الثامنة ، ثم حاصر النبي بعدها الطائف بضعا وعشرين ليلة ، وقاتلهم قتالا شديدا ، ورماهم بالنبل والمنجنيق.

ثم خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رجب سنة تسع إلى غزوة تبوك ، وهي آخر غزواته ، وفيها نزلت أكثر آيات سورة براءة.

ولما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غزوة تبوك أراد الحج ، ولكنه تذكر أن المشركين يحضرون عامهم هذا الموسم على عادتهم ، ويطوفون بالبيت عراة ، فكره مخالطتهم ، وبعث أبا بكر الصديقرضي‌الله‌عنه أميرا على الحج تلك السنة ، ليقيم للناس مناسكهم ويعلم المشركين ألا يحجوا بعد عامهم هذا ، وأن ينادي في الناس : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ).

فلما قفل أتبعه بعلي بن أبي طالب ، ليكون مبلّغا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكونه عصبة له. وقال له : «أخرج بهذه القصة من صدر براءة فأذن بذلك في الناس إذا اجتمعوا».

فخرج علي راكبا العضباء ناقة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأدرك أبا بكر في ذي الحليفة ، وأمّ أبو بكر الناس في الحج ، وقرأ عليّ على الناس صدر سورة براءة (١).

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ٣٣١ وما بعدها ، الكشاف : ٢ / ٢٦ ، تفسير القرطبي : ٨ / ٦٤ ـ ٦٨

٩٦

وذلك يوم النحر بمنى سنة تسع.

روى الإمام أحمد والترمذي في التفسير عن أنس بن مالك رضي‌الله‌عنه : أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعثه ببراءة مع أبي بكر ، فلما بلغ ذا الحليفة قال : «لا يبلّغها إلا أنا أو رجل من أهل بيتي» فبعث بها مع علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه.

وروى البخاري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث عليا سنة تسع ، فأذن يوم النحر بمنى بصدر سورة براءة ، وأن لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان.

وروى أحمد والترمذي والنسائي عن زيد بن يثيغ رجل من همدان قال : سألنا عليا بأي شيء بعثت؟ يعني يوم بعثه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أبي بكر في الحجة ، قال : «بعثت بأربع : لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان بينه وبين النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عهد فعهده إلى مدته ، ولا يحج المشركون بعد عامهم هذا».

نقض عهود المشركين وإعلان الحرب عليهم والبراءة منهم

(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢) وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤))

٩٧

الإعراب :

(بَراءَةٌ) خبر مبتدأ محذوف ، أي هذه براءة ، ويكون (مِنَ اللهِ) في موضع رفع ؛ لأنه وصف براءة وتقديره : براءة كائنة من الله. ويجوز أن تكون (بَراءَةٌ) مبتدأ وخبره : (إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ). و (مِنَ اللهِ) وصف لبراءة ، و (مِنَ) لابتداء الغاية متعلق بمحذوف.

(وَأَذانٌ) معطوف على (بَراءَةٌ) ، ورفعه مثل الوجهين المذكورين في (بَراءَةٌ) من أنه خبر مبتدأ محذوف ، أو أنه مبتدأ ، ويكون خبره (إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِ). و (مِنَ اللهِ) وصف لأذان. و (يَوْمَ الْحَجِ) : العامل فيه الصفة. ولا يجوز أن يكون (أَذانٌ) لأنه وصف ، والمصدر إذا وصف لم يعمل عمل الفعل.

(أَنَّ اللهَ) في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر أي بأن (وَرَسُولِهِ) بالرفع والنصب ، فالرفع من وجهين : أحدهما ـ أنه مبتدأ وخبره محذوف ، أي ورسوله بريء ، وحذف لدلالة الأول عليه. والثاني ـ أنه معطوف على الضمير المرفوع في (بَرِيءٌ) وجاز العطف على الضمير المرفوع وإن لم يؤكد ، لوجود الفصل بالجار والمجرور ؛ لأنه يقوم مقامه. أو معطوف على محل : إن واسمها في قراءة من كسرها إجراء للأذان مجرى القول. وأما بالنصب فهو عطف على اسم (أَذانٌ) أو لأن الواو بمعنى مع.

ولا تكرار لمعنى (بَراءَةٌ) لأن قوله (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ) إخبار بثبوت البراءة و (بَرِيءٌ) إخبار بوجوب الاعلام بذلك ، ولذلك علقه بالناس ، ولم يخص بالمعاهدين.

البلاغة :

(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) تنوين (بَراءَةٌ) للتفخيم ، وتقييدها بأنها (مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) لزيادة التهويل. (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أسلوب تهكمي ؛ لأن البشارة بالعذاب ، وهي تكون عادة بما هو مفرح.

المفردات اللغوية :

(بَراءَةٌ) أي تبرؤ من الله ورسوله ، يقال : برىء من العهد أو المرض : خلص منه ، وبرىء من الذنب : تركه وتباعد عنه ، وبرىء من الدين : أسقط عنه. (عاهَدْتُمْ) المعاهدة : عقد العهد بين فريقين على شروط يلتزمونها. وكانت توثق بالأيمان بوضع كل فريق يمينه في يمين الآخر ، فسميت أيمانا في قوله تعالى : (إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) أي لا عهود لهم. والمراد من المعاهدين هنا : ذوي العهود المطلقة غير المؤقتة ، أو من له عهد دون أربعة أشهر ، فيكمل له أربعة أشهر ، وكذا من

٩٨

كان له عهد فوقها ونقض العهد. أما من له عهد مؤقت فأجله إلى مدته مهما كان ، لقوله تعالى: (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) الآية ، وللحديث : «ومن كان بينه وبين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عهد ، فعهده إلى مدته» قال ابن كثير : وهذا أحسن الأقوال وأقواها.

(فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ) سيروا آمنين أيها المشركون في الأرض مدة أربعة أشهر ، والمراد حرية الانتقال مع الأمان هذه المدة دون قتال فيها ، وأولها شوال ، بدليل قول الزهري : إن براءة نزلت في شوال. ولا أمان لكم بعدها. والسياحة والسيح : الانتقال في الأرض بحرية (غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) أي لا تفوتونه من عذابه بالهرب والتحصن (وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ) مذلّهم في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار ، والخزي : الذل والفضيحة بما هو عار.

(وَأَذانٌ) إعلام (يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) هو يوم العيد الأكبر وهو يوم النحر الذي تنتهي فيه فرائض الحج ، ويجتمع فيه الحجيج لإتمام مناسكهم ، وإنما قيل : الأكبر من أجل قول الناس عن العمرة : الحج الأصغر (أَنَّ اللهَ) أي بأن الله بريء من عهود المشركين (وَرَسُولِهِ) بريء أيضا (فَإِنْ تُبْتُمْ) من الكفر (وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) عن الإيمان (وَبَشِّرِ) أخبر (بِعَذابٍ أَلِيمٍ) مؤلم وهو القتل والأسر في الدنيا ، والنار في الآخرة. (ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) من شروط العهد والميثاق ، فلم يقتلوا أحدا ولم يضروه. (وَلَمْ يُظاهِرُوا) يعاونوا (عَلَيْكُمْ أَحَداً) من الكفار (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) أي إلى انقضاء مدتهم التي عاهدتم عليها (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) بإتمام العهود.

المناسبة :

كان هناك عهد عام بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومشركي مكة وغيرهم على ألا يصدّ عن البيت الحرام أحد من الطرفين ، ولا يزعج أحد في الأشهر الحرم ، وكانت هناك أيضا عهود بينه عليه الصلاة والسّلام وبين كثير من قبائل العرب إلى آجال معينة ، فنقض كثير من المشركين عهودهم مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مما اقتضى نزول البراءة من عهودهم.

التفسير والبيان :

نزلت آيات (بَراءَةٌ) الأولى في أهل مكة في السنة التاسعة ، بعد أن عاهدهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صلح الحديبية سنة ست هجرية ، فنقضوا العهد ، إلا بني ضمرة وبني كنانة ، فأمر المسلمون بالتبرؤ من عهود المشركين وإمهالهم أربعة

٩٩

أشهر ، فإذا انتهت هذه المدة قاتلوهم.

والمراد بالعهود : العهود المطلقة غير المؤقتة بزمن ، ومن كان له عهد دون أربعة أشهر فتكمل له هذه المدة ، وأما من عهده مؤقت بمدة فوق ذلك فأجله إلى مدته ، مهما كان ؛ لقوله تعالى : (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) [براءة ٩ / ٤]. هذا أصح الأقوال الذي اختاره الطبري وابن كثير وغيرهما. قال الكلبي : إنما كانت الأربعة الأشهر لمن كان بينه وبين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عهد دون أربعة أشهر ؛ ومن كان عهده أكثر من أربعة أشهر ، فهو الذي أمر الله أن يتم له عهده بقوله : (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ).

وقد أمّر النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كما أوضحت ـ أبا بكر في السّنة التّاسعة أميرا على الحجّ ، فلما سافر نزلت سورة براءة متضمّنة نقض عهد المشركين ، فأرسل عليّا ليبلّغ ذلك النّاس يوم الحجّ الأكبر قائلا : «لا يؤدّي عني إلا رجل من أهل بيتي». فلما اجتمع الناس بمنى يوم النّحر ، قرأ عليهم علي آيات من أول سورة براءة ، ثم قال ـ فيما رواه التّرمذي والنسائي وأحمد ـ : بعثت بأربع : ألا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان بينه وبين النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عهد فهو إلى مدته ، ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر ، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ، ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا.

ومعنى الآية : (بَراءَةٌ) أي تبرؤ وتخلص ، وهي براءة صادرة من الله ورسوله ، واصلة إلى الذين عاهدتم من المشركين. وإنما نسبت البراءة لله ولرسوله لأنها تشريع جديد من الله ، وأمر لرسوله بتنفيذه ، وتنويه بمقامه ومكانته. ونسبت المعاهدة بقوله : (عاهَدْتُمْ) للمؤمنين ؛ لأنهم هم الذين ينفذون أحكام المعاهدات ، مع أن الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي عقد العهد بوصفه قائد الأمّة. قال الجصّاص : البراءة : هي قطع الموالاة ، وارتفاع العصمة ، وزوال الأمان.

١٠٠