التفسير المنير - ج ١٠

الدكتور وهبة الزحيلي

فأعقبهم الله تعالى أي صيّر عاقبة أمرهم نفاقا دائما في قلوبهم ، بمعنى زادهم نفاقا ، وقيل : أعقبهم ذلك البخل نفاقا ، ولهذا قال : (بَخِلُوا بِهِ) والأول أصح ؛ لأن البخل لا يؤدي عادة إلى النفاق فقد يوجد لدى كثير من الفساق ، ولأن الضمير في قوله تعالى : (يَلْقَوْنَهُ) عائد إلى الله تعالى.

واستمر ذلك النفاق ثابتا متمكنا ملازما قلوبهم إلى يوم الحساب في الآخرة. وفي هذا دليل على أنهم ماتوا منافقين.

وهذا دليل آخر على أن المنزّل فيه ليس ثعلبة أو حاطب البدريين ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعمر : «وما يدريك ، لعلّ الله اطّلع على أهل بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» وثعلبة وحاطب ممن حضر بدرا وشهدها.

ثم ذكر الله تعالى سببين للموت على النفاق وهما : إخلاف الوعد والكذب ، فقال : (بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ ، وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ) أي أن ملازمة النفاق لهم كان بسبب إخلافهم ما وعدوا الله تعالى من التصدق والصلاح ، وكونهم كاذبين ، وكذبهم : نقضهم العهد وتركهم الوفاء بما التزموه من ذلك.

أي أنه تعالى أعقبهم النفاق في قلوبهم إلى الموت بسبب إخلافهم الوعد وكذبهم ، وخلف الوعد والكذب من أخص صفات المنافقين ، كما جاء في الصحيحين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان». وخرّج البخاري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «أربع من كنّ فيه ، كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه خصلة منهن ، كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا ائتمن خان ، وإذا حدث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر».

ثم ندد الله تعالى بالمنافقين ووبخهم فقال : (أَلَمْ يَعْلَمُوا ...) أي ألم يعلم هؤلاء المنافقون أن الله يعلم السر وأخفى ، ويعلم ما يسرونه من الكلام ،

٣٢١

ويتناجون أو يتحدثون به فيما بينهم من المطاعن في الدين ، وأنه أعلم بضمائرهم ، فإنهم إن قالوا : ليتصدقن بشيء من أموالهم ، فإن الله أعلم بهم من أنفسهم ، وأنه علام الغيوب ، يعلم كل غيب وشهادة ، وكل سرّ ونجوى ، ويعلم ما ظهر وما بطن ، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، يعلم الله كل ذلك وما أسروه من النفاق والعزم على إخلاف ما وعدوه ، فكيف يكذبون على الله فيما يعاهدونه به ، وعلى الناس فيما يحلفون عليه باسمه؟!

والفرق بين السرّ والنجوى والغيب : أن السر : ما ينطوي عليه صدورهم ، والنجوى : ما يتحدث به الناس فيما بينهم. والغيب : ما كان غائبا عن الخلق.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على الأحكام التالية :

١ ـ المعاهدة مع الله توجب الوفاء بالعهد ، وهل من شرط المعاهدة التلفظ بها باللسان أو لا حاجة إلى التلفظ ، وإنما تكفي النية في القلب؟ خلاف بين العلماء ، قال المالكية : العهد والطلاق وكل حكم ينفرد به المرء ، ولا يفتقر إلى غيره فيه ، فإنه يلزمه منه ما يلتزمه بقصده ، وإن لم يتلفظ به. سئل مالك : إذا نوى الرجل الطلاق بقلبه ولم يلفظ به بلسانه ، فقال : يلزمه ؛ كما يكون مؤمنا بقلبه ، وكافرا بقلبه. وروي عنه غير ذلك كما سيأتي.

وقال الشافعي وأبو حنيفة : لا يلزم أحدا حكم إلا بعد أن يلفظ به ، وذلك يشمل النذور والأيمان والطلاق ونحوها. ودليلهم ما رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ، ما لم تعمل أو تتكلم به» قال ابن عبد البر : هذا هو الأشهر عن مالك ، وقال القرطبي : وهذا هو الأصح في النظر وطريق الأثر ؛ لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رواه أصحاب الكتب الستة عن أبي هريرة : «إن الله تعالى تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ، ما لم تتكلم به أو تعمل به».

٣٢٢

وبناء عليه : إن كان المعاهد به نذرا ، فالوفاء بالنذر واجب من غير خلاف ، وتركه معصية. وإن كان يمينا فليس الوفاء باليمين واجبا باتفاق.

٢ ـ دلّ قوله تعالى : (لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَ) على أن من قال : «إن ملكت كذا وكذا فهو صدقة» فإنه يلزمه ، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي : لا يلزمه. ويجري الخلاف في الطلاق والعتق. وقال أحمد : يلزمه ذلك في الطلاق ، ولا يلزمه في العتق ؛ لأن العتق قربة ، وهي تثبت في الذمة بالنذر ، بخلاف الطلاق ، فإنه تصرف في محل.

واحتج الشافعي بما رواه أبو داود والترمذي وغيرهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا نذر لابن آدم فيما لا يملك ، ولا عتق له فيما لا يملك ، ولا طلاق له فيما لا يملك» وهو قول أكثر الصحابة والتابعين وغيرهم.

٣ ـ مظاهر نقض المنافقين العهد تمثلت في أوصاف ثلاثة : أـ البخل بإعطاء الصدقة وبإنفاق المال في الخير وبالوفاء بما ضمنوا والتزموا ب ـ والتولي عن العهد وعن طاعة الله تعالى ج ـ وإظهار الإعراض عن الإسلام أي عن تكاليف الله وأوامره.

٤ ـ ظاهر هذه الآية يدل على أن نقض العهد وخلف الوعد يورث النفاق ، فيجب على المسلم أن يبالغ في الاحتراز عنه ، فإذا عاهد الله في أمر فليجتهد في الوفاء به.

٥ ـ دلّ قوله : (إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) على أن ذلك المعاهد مات منافقا ، وهذا إخبار بالغيب الذي هو أحد وجوه إعجاز القرآن.

٦ ـ قوله تعالى : (نِفاقاً) : إذا كان النفاق في القلب فهو الكفر ، وأما إذا

٣٢٣

كان في الأعمال فهو معصية. وعلى هذا فإن الخيانة والكذب ونقض العهد والفجور عند الخصام التي هي آية المنافق في الحديث تعتبر معاص لا تكفّر مرتكبها ، قال ابن العربي : قد قام الدليل الواضح على أن متعمد هذه الخصال لا يكون كافرا ، وإنما يكون كافرا باعتقاد يعود إلى الجهل بالله وصفاته أو التكذيب له ، تعالى وتقدس عن اعتقاد الجاهلين وعن زيغ الزائغين. ثم قال : والذي عندي أنه لو غلبت عليه المعاصي ما كان بها كافرا ما لم يؤثر في الاعتقاد (١).

وقالت طائفة عن الحديث : ذلك مخصوص بالمنافقين زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٧ ـ يوصف الله تعالى بأنه علام الغيوب ، أي أن ذاته تقتضي العلم بجميع الأشياء ، فيعلم بجميع المعلومات ، وهو عالم بما في الضمائر والسرائر. فأما وصف الله بالعلّامة فإنه لا يجوز ؛ لأنه مشعر بنوع تكلف بالعلم ، والتكلف في حق الله تعالى محال.

طعن المنافقين بالمؤمنين وعدم المغفرة لهم

(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٩) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٨٠))

__________________

(١) أحكام القرآن : ٢ / ٩٧٤ وما بعدها.

٣٢٤

الإعراب :

(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ ... الَّذِينَ) : اسم موصول مبتدأ ، و (يَلْمِزُونَ) : صلته ، و (فِي الصَّدَقاتِ) من صلة (يَلْمِزُونَ). وما بين (يَلْمِزُونَ) و (فِي الصَّدَقاتِ) داخل في صلة (الَّذِينَ). و (الَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ) : عطف على (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ) وخبر المبتدأ : إما أن يكون (سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) أو أن يكون مقدرا ، تقديره : ومنهم الذين يلمزون.

البلاغة :

(فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) هذا من باب المقابلة على سوء صنيعهم واستهزائهم بالمؤمنين.

(وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) التنوين في (عَذابٌ) : للتهويل والتفخيم.

(اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) بينهما طباق السلب ، والمراد بالأمر التسوية.

(سَبْعِينَ مَرَّةً) هذا جار مجرى المثل للمبالغة ، وليس لتحديد العدد. وقد شاع استعمال السبعة والسبعين والسبع مائة ونحوها في التكثير ، لاشتمال السبعة على جملة أقسام العدد ، فكأنه العدد بأسره.

المفردات اللغوية :

(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ) يعيبون. (الْمُطَّوِّعِينَ) المتطوعين أو المتنفلين المؤدي النفل بعد الواجب. (إِلَّا جُهْدَهُمْ) طاقتهم : وهي أقصى ما يستطيعه الإنسان ، فيأتون به. (سَخِرَ) استهزأ بهم احتقارا ، والمراد هنا جازاهم على سخريتهم ، مثل : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [البقرة ٢ / ١٥] فهو خبر غير دعاء. (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ) يا محمد. (أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) يراد به التسوية بين الأمرين. (سَبْعِينَ مَرَّةً) المراد بالسبعين : المبالغة في كثرة الاستغفار.

سبب النزول :

روى الشيخان عن أبي مسعود البدري قال : «لما نزلت آية الصدقة ، كنا نحامل (١) على ظهورنا فجاء رجل (أبو عقيل اسمه الحبحاب) بشيء كثير ،

__________________

(١) المعنى : نحمل الحمل على ظهورنا بالأجرة ، ونتصدق من تلك الأجرة ، أو نتصدق بها كلها ، وبعبارة أخرى : نؤاجر أنفسنا في الحمل.

٣٢٥

فقالوا : مرائي ، فتصدق بصاع ، فقالوا : إن الله لغني عن صدقة هذا ، فنزل : (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ ...) الآية.

المناسبة :

هذا نوع آخر من أعمال المنافقين القبيحة ، وهو لمزهم من يأتي بالصدقات طوعا وطبعا.

قال ابن عباس رضي‌الله‌عنهما فيما رواه عنه ابن جرير : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطبهم ذات يوم ، وحث على أن يجمعوا الصدقات ، فجاءه عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم ، وقال : كان لي ثمانية آلاف درهم ، فأمسكت لنفسي وعيالي أربعة ، وهذه الأربعة أقرضتها ربي ، فقال : بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت. قيل : قبل الله دعاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه ، حتى صالحت امرأته ناضر عن ربع الثمن على ثمانين ألفا.

وجاء عمر بنحو ذلك ، وجاء عاصم بن عدي الأنصاري بسبعين وسقا من تمر الصدقة ، وجاء عثمان بن عفان بصدقة عظيمة ، وجاء أبو عقيل بصاع من تمر ، وقال : آجرت الليلة الماضية نفسي من رجل لإرسال الماء إلى نخيله ، فأخذت صاعين من تمر ، فأمسكت أحدهما لعيالي ، وأقرضت الآخر ربي ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بوضعه في الصدقات.

فقال المنافقون على وجه الطعن : ما جاؤوا بصدقاتهم إلا رياء وسمعة. وأما أبو عقيل فإنما جاء بصاعه ليذكر مع سائر الأكابر ، والله غني عن صاعه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (١).

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٦ / ١٤٤ ـ ١٤٥

٣٢٦

التفسير والبيان :

إن شأن المنافقين في كل أمة عجيب وغريب ، ديدنهم تثبيط الهمم ، وتدمير القيم ، فلا يسلم أحد من طعنهم ، ولو كان العمل خيرا محضا ؛ فهم يعيبون المتطوعين في الصدقات ، والمراد بها هنا النوافل ، سواء أكان المتطوع غنيا يأتي بالكثير كعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان ، أم فقيرا كأبي عقيل ، الذي يأتي بالقليل ، وهو جهد المقلّ ، فلا يجدون ما ينفقونه في سبيل الله إلا غاية جهدهم ومنتهى طاقتهم ، فيهزءون منهم ، وذكر هؤلاء ، وإن كانوا داخلين في المتطوعين ؛ لأن السخرية منهم كانت أشد وأوقع.

ولكن الله تعالى سخر منهم ، أي جازاهم على سخريتهم بمثل ذنبهم ، حيث صاروا إلى النار ، فقوله : (سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) من باب المقابلة أو المشاكلة على سوء صنيعهم ، واستهزائهم بالمؤمنين ؛ لأن الجزاء من جنس العمل ، فعاملهم معاملة من سخر منهم ، انتصارا للمؤمنين في الدنيا.

وأعد للمنافقين في الآخرة عذابا شديدا مؤلما ؛ لأن الجزاء من جنس العمل.

ثم أبان الله تعالى أنهم كالكفار ليسوا أهلا للاستغفار ، ولا ينفعهم الدعاء ، فسواء استغفر لهم الرسول أو لم يستغفر لهم ، فلن يستر الله عليهم ذنوبهم بالعفو عنها ، وترك فضيحتهم بها ، وإنه لو استغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ولن يعفو عنهم ، وذلك نظير قوله تعالى : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ، لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) [المنافقون ٦٣ / ٦].

وليس المراد بالسبعين هنا التحديد بعدد معين ، فيكون ما زاد عليها بخلافها ، وإنما المراد المبالغة في الكلام بحسب أسلوب العرب.

وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إظهارا لرحمته بالأمة ، ولطلبهم الاستغفار منه ، يدعو الله لهم بالهداية ، ويستغفر لهم ، كما كان يدعو للمشركين كلما اشتد إيذاؤهم له ،

٣٢٧

فيقول كما روى ابن ماجه : «اللهم اغفر لقومي ، فإنهم لا يعلمون» فمنعه الله من ذلك.

وكان عذر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في استغفاره : هو عدم يأسه من إيمانهم ، ما لم يعلم أنهم مطبوعون على الضلالة ، والممنوع هو الاستغفار بعد العلم ؛ لقوله تعالى : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ، وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى ، مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) [التوبة ٩ / ١١٣].

وقد ذكر الله تعالى هنا سبب عدم قبول الاستغفار والدعاء لهم بقوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا ...) أي إنهم كفروا وجحدوا بالله ورسوله ، فلم يقروا بوحدانية الله تعالى ، ولم يعترفوا ببعثه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأصروا على الجحود والإنكار ، فلم تعد قلوبهم مستعدة لقبول الخير والنور ، وإن سنة الله ألا يوفق للخير القوم المتمردين في الكفر ، الخارجين عن الطاعة ، الذين فقدوا الاستعداد للإيمان والتوبة. فاليأس من المغفرة وعدم قبول الاستغفار لهم ليس لبخل من الله ، ولا قصور في النبي ، بل لعدم قابليتهم بسبب الكفر الصارف عن المغفرة.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ إن المنافقين قوم حيارى مرضى القلوب لا يدركون حقيقة الأمور ، فتراهم يعيبون غيرهم من المؤمنين ، تسترا على النفاق ، وحماية لأنفسهم من افتضاح أمرهم ، وحبا في النقد والطعن ، فافتضح القرآن أسرارهم ، وأبان سوء تصرفاتهم.

٢ ـ لقد كان جزاء لمزهم وعيبهم المؤمنين المتطوعين بالإنفاق في سبيل الله هو النار والعذاب الأليم فيها ؛ لأن الجزاء من جنس العمل كما تبين.

٣٢٨

٣ ـ لن ينفعهم استغفار الرسول ما داموا كفارا مصرين على النفاق. قال الشعبي : سأل عبد الله بن عبد الله بن أبيّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان رجلا صالحا أن يستغفر لأبيه في مرضه ، ففعل ، فنزلت الآية. أي إن استغفار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبعض المنافقين كان بطلبهم ، لكن رجح الرازي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يستغفر لهم ؛ لأنه يعلم أن المنافق كافر ، والاستغفار للكافر لا يجوز في شرعه ، وإنما لما طلب القوم منه أن يستغفر لهم ، منعه الله منه (١).

فرح المنافقين المتخلفين عن الجهاد في غزوة تبوك

(فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (٨١) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢))

الإعراب :

(خِلافَ) منصوب : لأنه مفعول لأجله ، وقيل : لأنه مصدر.

(جَزاءً) مفعول لأجله ، أي للجزاء.

البلاغة :

(فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً) فيه ما يسمى بالمقابلة من أنواع الجناس.

المفردات اللغوية :

(فَرِحَ) سرّ وطرب ، والفرح : شعور النفس بالارتياح والسرور. (الْمُخَلَّفُونَ) المتروكون في المدينة عن تبوك ، من خلف فلانا ، أي تركه خلفه. (بِمَقْعَدِهِمْ) بقعودهم. (خِلافَ) أي

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٦ / ١٤٧

٣٢٩

بعد ، أو هو مصدر كالمخالفة ، ويصح المعنيان هنا. (وَقالُوا) أي قال بعضهم لبعض. (لا تَنْفِرُوا) تخرجوا إلى الجهاد. (أَشَدُّ حَرًّا) من تبوك ، فالأولى أن يتقوها بترك التخلف. (لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ) يعقلون أو يعلمون ذلك ما تخلفوا. (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً) في الدنيا. (وَلْيَبْكُوا) في الآخرة. وهو خبر عن حالهم وارد بصيغة الأمر.

سبب النزول :

أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس أن ينبعثوا معه ، وذلك في الصيف ، فقال رجال : يا رسول الله ، الحر شديد ، ولا نستطيع الخروج ، فلا ننفر في الحر ، فأنزل الله : (قُلْ : نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا).

وأخرج ابن جرير أيضا عن محمد بن كعب القرظي قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حر شديد إلى تبوك ، فقال رجل من بني سلمة : لا تنفروا في الحر ، فأنزل الله : (قُلْ : نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا) الآية.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى بعض قبائح المنافقين من اعتذارهم عن الخروج للقتال في تبوك ، ولمزهم في قسمة الصدقات ، عاد إلى بيان حال أولئك الذين تخلفوا عن الخروج مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غزوة تبوك ، وهو نوع آخر من قبائحهم ، وهو فرحهم بالقعود وكراهتهم الجهاد.

وسموا بالمخلّفين لا بالمتخلفين أي المتأخرين عن الجهاد ، لأنهم تخلفوا عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد خروجه إلى الجهاد ، من حيث إنهم لم ينهضوا ، فبقوا وأقاموا ، ولأن الرسول منع أقواما منهم من الخروج معهم ، لعلمه بأنهم يفسدون ويشوشون ، ولأن الله تعالى لما منعهم في الآية التالية عن الخروج معه بقوله : (فَقُلْ : لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً) صاروا بهذا السبب مخلّفين.

٣٣٠

التفسير والبيان :

هذه الآيات ذمّ واضح للمنافقين المتخلفين عن المشاركة في القتال في غزوة تبوك ، وإخبار عن مصيرهم السيء في الآخرة ، وقد نزلت في أثناء السفر.

والمعنى : فرح أولئك المنافقون المخلّفون في المدينة بقعودهم في بيوتهم ، بعد أن تركهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند خروجه إلى غزوة تبوك ، وسبب فرحهم عدم إيمانهم بأن في الجهاد خيرا ، وكراهيتهم الجهاد مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله. والفرح بالإقامة يدل على كراهة الذهاب ، إلا أنه تعالى أعاده للتأكيد. والخلاصة : إنهم فرحوا بسبب التخلف ، وكرهوا الذهاب إلى الجهاد.

ولم يقتصر الأمر على فرحهم بأنفسهم ، بل أغروا غيرهم بعدم الخروج ، وقال بعضهم لبعض: لا تخرجوا للجهاد ؛ لأن غزوة تبوك في شدة الحر ، وقد طابت الثمار والظلال.

فرد الله عليهم بقوله : (قُلْ : نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا) أي إن نار جهنم التي أعدت للعصاة والتي تصيرون إليها بمخالفتكم أشدا حرا مما فررتم منه من الحر ، فلو كانوا يعقلون ذلك ويعتبرون به ، لما خالفوا وقعدوا ، ولما فرحوا بل حزنوا ، كما روى الإمام مالك والشيخان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «نار بني آدم التي توقدونها جزء من سبعين جزءا من نار جهنم».

ثم أخبر الله تعالى عن عاقبة أمرهم فقال : (فَلْيَضْحَكُوا ...) أي إن الأولى بهم أن يضحكوا ويفرحوا قليلا ، ويبكوا كثيرا ، وهو خبر عن حالهم وارد بصيغة الأمر ، يقصد به التهديد وانتظار ما سيلاقون من عذاب شديد ، جزاء على ما اقترفوه أو اكتسبوه من الجرائم والنفاق. أخرج الشيخان في الصحيحين عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة لمن له نعلان وشراكان من نار جهنم ، يغلي منهما دماغه ، كما يغلي المرجل ،

٣٣١

لا يرى أن أحدا من أهل النار أشدّ عذابا منه ، وإنه أهونهم عذابا».

فقه الحياة أو الأحكام :

الآيات تدل على قصر نظر الإنسان ، فهو ينظر غالبا إلى الحال والواقع الذي هو فيه ، ولا ينظر إلى المستقبل وما يتمخض عنه من أحداث. فهؤلاء المنافقون فرحوا بالقعود والراحة في المدينة لعدم إيمانهم بجدوى الجهاد ، وكرهوا الجهاد ؛ لأنه يحرمهم نعمة التفيؤ بالظلال وقطاف الثمار.

ولكن القرآن لامهم ونبّه عقولهم ، فإن شدة الحر في نار جهنم التي يصيرون إليها بسبب تخلفهم عن جهاد الأعداء ونصرة الإسلام أكثر بكثير جدا من حر الصيف في الدنيا.

ثم هددهم تعالى بأنهم إن فرحوا قليلا في الدنيا ، فليبكوا وليحزنوا كثيرا في جهنم ، أو إنهم سيضحكون قليلا ويبكون كثيرا ، جزاء بما كسبت أنفسهم ، واقترفته أيديهم.

ولا يقتصر هذا التهديد على المنافقين ، بل يشمل العباد الصالحين الذين يتحسسون شدة الخوف من الله تعالى ، أخرج الترمذي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ، ولبكيتم كثيرا ، ولخرجتم إلى الصّعدات (١) تجأرون إلى الله تعالى ، لوددت أني كنت شجرة تعضد».

ولا يعني هذا منع الضحك الخفيف ؛ لأن الله أضحك وأبكى ، ولكن الإكثار منه وملازمته حتى يغلب على صاحبه مذموم منهي عنه ، وهو من فعل السفهاء والبطالة ، وفي الخبر : «أن كثرته تميت القلب».

والخلاصة : لقد صدرت من المنافقين مخالفات خطيرة ثلاثة : هي التخلف

__________________

(١) الصعدات : هي الطرق ، وهي جمع صعد ، وصعد جمع صعيد ؛ كطريق وطرق وطرقات.

٣٣٢

في المدينة عن غزوة تبوك ، وكراهة الجهاد ، وإغراء إخوانهم بعدم الجهاد ، فاستحقوا نار جهنم ، فهم إن فرحوا وضحكوا في كل عمرهم ، فهذا قليل ؛ لأن متاع الدنيا قليل ، وسيكون حزنهم وبكاؤهم في الآخرة كثيرا ؛ لأنه عقاب دائم لا ينقطع ، بسبب ما كانوا يكسبون في الدنيا من النفاق.

منع المنافقين من الجهاد والمنع من الصلاة على موتاهم

والتحذير من الاغترار بأموالهم وأولادهم

(فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (٨٣) وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (٨٤) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٨٥))

الإعراب :

(فَإِنْ رَجَعَكَ) الكاف : منصوب برجع ، وهو يكون متعديا ، كما يكون لازما يقال : رجع ورجعته ، نحو زاد وزدته ، ونقص ونقصته ، في أفعال تزيد على ثمانين فعلا.

(ماتَ) صفة لأحد ، وإنما قيل : مات وماتوا بلفظ الماضي بالنسبة إلى سبب النزول وزمان النهي ، لكن معناه على الاستقبال على تقدير الكون والوجود ؛ لأنه كائن موجود لا محالة.

(إِنَّهُمْ كَفَرُوا) تعليل للنهي.

(أَبَداً) ظرف متعلق بالنهي.

٣٣٣

المفردات اللغوية :

(فَإِنْ رَجَعَكَ) ردك. (اللهُ) من تبوك. (إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ) ممن تخلف بالمدينة من المنافقين. (الْخالِفِينَ) المتخلفين من النساء والصبيان. (وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) لدفن أو زيارة والمراد النهي عن الوقوف على قبره حين دفنه أو لزيارته ، والقبر هو مدفن الميت. (فاسِقُونَ) كافرون. (وَتَزْهَقَ) تخرج.

سبب النزول :

نزول الآية (٨٤):

(وَلا تُصَلِ) : روى الشيخان عن ابن عمر قال : لما توفي عبد الله بن أبي ، جاء ابنه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه ، فأعطاه ، ثم سأله أن يصلي عليه ، فقام ليصلي عليه ، فقام عمر بن الخطاب ، وأخذ بثوبه ، وقال : يا رسول الله ، أتصلي عليه ، وقد نهاك ربك أن تصلي على المنافقين؟ قال : إنما خيرني الله ، فقال : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ، إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً ...) وسأزيده على السبعين ، فقال : إنه منافق ، فصلى عليه ، فأنزل الله : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً ، وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ) فترك الصلاة عليهم. وقد فهم عمر ذلك من قوله تعالى : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) الآية ، على أنه تقدم نهي صريح. أو أنه فهم ذلك من قوله تعالى : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) [التوبة ٩ / ١١٣] لأنها نزلت بمكة.

وورد ذلك من حديث عمر وأنس وجابر وغيرهم.

وجاء في رواية عن ابن عباس : فقال عمر رضي‌الله‌عنه ، لم تعطي قميصك الرجس النجس (١)؟ فقال عليه الصلاة والسلام : إن قميصي لا يغني عنه من الله

__________________

(١) وهذا يدل على منقبة عظيمة من مناقب عمر رضي‌الله‌عنه ؛ وذلك لأن الوحي نزل على وفق قوله في آيات كثيرة ، منها آية الفداء عن أسارى بدر ، وآية تحريم الخمر ، وآية تحويل ـ

٣٣٤

شيئا ، فلعل الله أن يدخل به ألفا في الإسلام. وكان المنافقون لا يفارقون عبد الله ، فلما رأوه يطلب هذا القميص ، ويرجو أن ينفعه ، أسلم منهم يومئذ ألف.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنما خيرني الله» مشكل ، والظاهر أن الاستغفار للمنافقين الذي خير فيه إنما هو استغفار لساني لا ينفع ، وغايته تطييب قلوب بعض الأحياء من قرابات المستغفر له.

وصلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليه بعد أن علم كونه كافرا ، وقد مات على كفره ؛ لأنه لما طلب منه أن يرسل إليه قميصه الذي مس جلده ليدفن فيه ، غلب على ظنه أنه انتقل إلى الإيمان ؛ لأن ذلك الوقت وقت يتوب فيه الفاجر ، ويؤمن فيه الكافر. أو إنما صلى عليه بناء على الظاهر من إعلان إسلامه. وأخرج أبو يعلى وغيره عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد أن يصلي على عبد الله بن أبي ، فأخذ جبريل بثوبه ، فقال : (وَلا تُصَلِّ ...) الآية. فهذه الرواية تدل على أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يصل على عبد الله بن أبي.

وأمام هذا التعارض في الروايات رجح بعض العلماء رواية البخاري ، وجمع بعضهم بين الروايتين ، فقال : المراد من الصلاة في رواية عمر وابنه : الدعاء ، أو الهم بالصلاة عليه ثم منعه جبريل.

المناسبة :

ما تزال الآيات تتحدث عن مخازي المنافقين وسوء طريقتهم ، فبعد أن بين تعالى قبائحهم ، بين بعض المواقف الحاسمة في معاملتهم ، بعد رجوعه من غزوة تبوك ، فمنعهم الله تعالى من الخروج مع النبي إلى الجهاد في غزوات أخرى ؛ لأن

__________________

ـ القبلة ، وآية أمر النسوان بالحجاب ، وهذه الآية. لهذا قال عليه الصلاة والسلام في حقه : «لو لم أبعث لبعثت يا عمر نبيا».

٣٣٥

خروجهم يؤدي إلى الفساد ، ومنع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الصلاة على موتاهم ؛ لأن الصلاة على الميت دعاء واستغفار واستشفاع له ، والكافر ليس بأهل لذلك ، ونهاه عن الاغترار بأموالهم وأولادهم أو استحسان ما لديهم ؛ لأنها ليست لخيرهم ، وإنما هي طريق لتعذيبهم بها في الدنيا ، وانشغالهم بها عن الآخرة.

التفسير والبيان :

يأمر الله رسوله عليه الصلاة والسلام بأنه إن ردك الله من سفرك هذا حين رجوعك من غزوة تبوك إلى طائفة من المنافقين المتخلفين ، وكانوا كما ذكر قتادة اثني عشر رجلا ، فاستأذنوك للخروج معك إلى غزوة أخرى ، فقل لهم تعزيرا وعقوبة : لن تخرجوا معي أبدا على أية حال ، ولن تقاتلوا معي أبدا عدوا بأي وضع كان.

ثم علل ذلك وبين سبب المنع بقوله : (إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ ...) أي إنكم اخترتم القعود عني أول مرة ، وتخلفتم بلا عذر ، وكذبتم في أيمانكم الفاجرة ، وفرحتم بالقعود ، بل وأغريتم بالتخلف عن الجهاد ، فاقعدوا أبدا مع الخالفين أي الرجال المنافقين الذين تخلفوا عن الجهاد كما قال ابن عباس ، أو مع فئة النساء والصبيان والعجزة كما قال الحسن ، لكن قال ابن جرير : وهذا لا يستقيم ؛ لأن جمع النساء لا يكون بالياء والنون ، ولو أريد النساء لقال : فاقعدوا مع الخوالف أو الخالفات. وقيل : المعنى فاقعدوا مع الفاسدين ، وهذا يدل على أن استصحاب المخذل في الغزوات لا يجوز. وقوله : (أَوَّلَ مَرَّةٍ) هي الخرجة إلى غزوة تبوك.

وعلى كل حال ، فالآية تأمر بعقابهم بألا يصاحبوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبدا ، وذلك كما قال تعالى في سورة الفتح : (قُلْ : لَنْ تَتَّبِعُونا) [١٥].

ثم أمر الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يبرأ من المنافقين ، وألا يصلي على أحد منهم إذا مات ، وألا يقوم على قبره ليستغفر له أو يدعو له ؛ لأنهم كفروا بالله

٣٣٦

ورسوله ، وماتوا عليه. وهذا نص في الامتناع من الصلاة على الكفار ، وهو حكم عام في كل من عرف نفاقه ، وإن كان سبب نزول الآية في عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين. ومعنى الآية : ولا تصل أيها النبي على أحد من المنافقين سيموت في المستقبل ، ولا تقم على قبره حين دفنه أو لزيارته ، داعيا له ومستغفرا ، ويجوز أن يراد بالقبر : الدفن ، ويكون المعنى : لا تتول دفنه.

ثم بين الله تعالى سبب النهي عن الصلاة والقيام على القبر للدعاء بقوله : (إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ...) أي لأنهم كفروا بوجود الله وتوحيده وأنكروا بعثة نبيه ؛ لأن الصلاة على الميت استشفاع له ، والقيام على قبره احتفال بالميت وإكرام له ، وليس الكافر من أهل الاحترام والإكرام.

وماتوا وهم فاسقون أي إنهم ماتوا والحال أنهم خارجون من دين الإسلام ، متمردون على أحكامه ، متجاوزون حدوده وأوامره ونواهيه.

ثم نهى الله رسوله عن استحسان بعض مظاهر المنافقين ، فقال : (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ ...) أي لا تستحسن ما أنعمنا به عليهم من الأموال والأولاد ، فلا يريد الله بهم الخير ، إنما يريد أن يعذبهم بها في الدنيا بالمصائب ، وتخرج أرواحهم ويموتوا على الكفر وهم مشغولون بالتمتع بها عن النظر في عواقب الأمور.

وقد سبق ذكر هذه الآية في هذه السورة رقم (٥٥) مع تفاوت في بعض الألفاظ : فلا تعجبك ولا تعجبك. أموالهم ولا أولادهم أموالهم وأولادهم ، ليعذبهم أن يعذبهم ، في الحياة الدنيا في الدنيا ، ويفهم من اللفظ السابق : (وَلا أَوْلادُهُمْ) أن إعجابهم بأولادهم كان أكثر من إعجابهم بأموالهم ، وأما هنا رقم [٨٥] فلا تفاوت بين الأمرين. وفائدة التكرار التأكيد والتحذير من الاشتغال بالأموال والأولاد ، مرة بعد أخرى ، بسبب شدة تعلق النفوس بها ، حتى

٣٣٧

لا تحجب عن طلب ما هو أولى وهو الاشتغال للآخرة ، فهي تحذير ونهي صريح عن الاغترار بالأموال والأولاد.

فقه الحياة أو الأحكام :

تتضمن الآيات اتخاذ مواقف حاسمة من المنافقين ، بعد أن أمهلوا لمدة طويلة ، وعوملوا في الظاهر معاملة المسلمين. وهي مواقف ثلاثة : منعهم من الخروج إلى الجهاد مع المسلمين ، وعدم الصلاة على موتاهم ، وعدم الاغترار بأموالهم وأولادهم التي يتباهون بها ، وتلك المواقف تدل على أنهم جماعة كفار ، كفروا بالله ورسوله.

أما الموقف الأول : فاقتصر على طائفة من المنافقين ؛ لأن جميع من أقام بالمدينة ما كانوا منافقين ، بل كان فيهم معذورون ومن لا عذر له ، ثم عفا عنهم وتاب عليهم ، كالثلاثة الذين خلفوا.

وأما الموقف الثاني : فإسقاط لاعتبارهم ؛ لأن الصلاة على الميت والقيام على قبره للدعاء له إكرام له واحترام ، والكافر ليس من أهل الاحترام.

وعلى العكس من ذلك أهل الإيمان ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يبادر إلى الصلاة عليهم ؛ لأن صلاته شفاعة وسكن لهم واطمئنان وكان يطلب من المؤمنين الدعاء لهم والاستغفار تكريما وتعظيما. روى أبو داود والحاكم والبزار عن عثمان رضي‌الله‌عنه قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال : «استغفروا لأخيكم. وسلوا له التثبيت ، فإنه الآن يسأل».

وهذه الآية نص في الامتناع من الصلاة على الكفار وحظر الوقوف على قبورهم حين دفنهم ، وكذلك تولي دفنهم ، وليس فيه دليل على الصلاة على المؤمنين ، وإنما يستفاد وجوب الصلاة على الميت المسلم من الأحاديث الصحيحة ، مثل ما روى مسلم عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن أخا لكم قد مات ، فقوموا فصلوا عليه» قال : فقمنا فصففنا صفين ، يعني النجاشي.

٣٣٨

وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نعى للناس النجاشي في اليوم الذي مات فيه ، فخرج بهم إلى المصلى ، وكبر أربع تكبيرات.

وأجمع المسلمون على أنه لا يجوز ترك الصلاة على جنائز المسلمين ، وراثة عن نبيهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قولا وعملا.

وألحق بعض العلماء بذلك تشييع جنائز المسلمين ، ويفهم من الآية من طريق دليل الخطاب مشروعية الوقوف على قبر المسلم إلى أن يدفن ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يفعله ، وقد قام على قبر حتى دفن الميت ، ودعا له بالتثبيت ، وكان ابن الزبير إذا مات له ميت ، لم يزل قائما على قبره حتى يدفن. وجاء في صحيح مسلم أن عمرو بن العاص رضي‌الله‌عنه قال عند موته : إذا دفنتموني فسنوا علي التراب سنا ، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر الجزور ، ويقسم لحمها ، حتى أستأنس بكم ، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي.

وجمهور العلماء على أن التكبير على الجنائز أربع. روى الدارقطني عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إن الملائكة صلت على آدم ، فكبرت عليه أربعا ، وقالوا : هذه سنتكم يا بني آدم».

ولا قراءة في هذه الصلاة في المشهور من مذهب مالك ، وكذلك أبو حنيفة والثوري ؛ لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رواه أبو داود عن أبي هريرة : «إذا صليتم على الميت ، فأخلصوا له الدعاء».

وذهب الشافعي وأحمد وداود وجماعة إلى أنه يقرأ بالفاتحة ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رواه الجماعة عن عبادة بن الصامت : «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» حملا له على عمومه ، وبما أخرجه البخاري عن ابن عباس ، وصلى على جنازة ، فقرأ بفاتحة الكتاب ، وقالوا : لتعلموا أنها سنة.

وسنة الإمام أن يقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة ، وهو رأي الشافعي ؛

٣٣٩

لما رواه أبو داود عن أنس ، وصلى على جنازة ، فقال له العلاء بن زياد : يا أبا حمزة ، هكذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلي على الجنائز كصلاتك ، يكبر أربعا ، ويقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة؟ قال : نعم. ورواه مسلم عن سمرة بن جندب قال : صليت خلف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وصلى على أم كعب ، ماتت وهي نفساء ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للصلاة عليها وسطها.

وأما الموقف الثالث مع المنافقين الذي دلت عليه الآية فهو النهي عن الاغترار بأموالهم وأولادهم ، والتحذير منه مرة بعد أخرى ؛ لشدة تعلق النفوس بذلك ، وحملا للإنسان المؤمن على الاشتغال بما هو خالد باق ، وطلب مغفرة الله تعالى. والتكرار مع ما سبق لهذه الآية لأجل التأكيد والمبالغة في التحذير ، كما كرر تعالى مرتين قوله في سورة النساء : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [٤ ، ١١٦].

قصة حديث الصلاة على عبد الله بن أبي :

ضعف جماعة من العلماء كالقاضي أبي بكر الباقلاني ، وإمام الحرمين الجويني ، والغزالي حديث الصلاة على زعيم المنافقين ، لمخالفته لظاهر الآية من أوجه هي :

١ ـ إن الآية نزلت أثناء رجوع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غزوة تبوك ، وابن أبي مات في السنة التي بعدها.

٢ ـ اعتراض عمر وقوله للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟» يدل على أن النهي عن هذه الصلاة سابق لموت ابن أبي. وهذا يعارض قوله بعدئذ : فصلى عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأنزل الله تعالى : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ) وهو صريح في أن الآية نزلت بعد الصلاة عليه.

٣٤٠