التفسير المنير - ج ١٩

الدكتور وهبة الزحيلي

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سورة الفرقان

مكية ، وهي سبع وسبعون آية.

تسميتها :

سميت سورة الفرقان ؛ لافتتاحها بالثناء على الله عزوجل الذي نزل الفرقان ، هذا الكتاب المجيد على رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهو النعمة العظمى ، الذي فرق الله به بين الحق والباطل ، وجعله نذيرا للعالمين : الجن والإنس ، من بأس الله تعالى.

مناسبتها لما قبلها :

تظهر مناسبة سورة الفرقان لسورة النور من وجوه : أهمها : أن سورة النور ختمت بأن الله تعالى مالك جميع ما في السموات والأرض ، وبدئت سورة الفرقان بتعظيم الله الذي له ملك السموات والأرض من غير ولد ولا شريك في الملك.

وأوجب الله تعالى في أواخر سورة النور إطاعة أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأبان مطلع الفرقان وصف دستور الطاعة ، وهو هذا القرآن العظيم الذي يرشد العالم لأقوم طريق.

وتضمنت سورة النور القول في الإلهيات ، وأبانت ثلاثة أنواع من دلائل التوحيد : أحوال السماء والأرض ، والآثار العلوية من إنزال المطر وكيفية تكون الثلج والبرد ، وأحوال الحيوانات ، وذكر في الفرقان جملة من المخلوقات الدالة على توحيد الله ، كمدّ الظل ، والليل والنهار ، والرياح والماء ، والأنعام ،

٥

والأناسي ، ومرج البحرين ، وخلق الإنسان والنسب والصهر ، وخلق السموات والأرض في ستة أيام ، والاستواء على العرش ، وبروج السماء ، والسراج والقمر ونحو ذلك مما هو تفصيل لقوله سبحانه : (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فقال في النور : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً) [٤٣] ، وقال في الفرقان : (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً) [٤٨] وقال في النور : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) [٤٥] وقال في الفرقان : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً ، فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً) [٥٤].

وفي كلتا السورتين وصف أعمال الكافرين والمنافقين يوم القيامة وأنها تكون مهدرة باطلة ، فقال في النور : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ) [٣٩] وقال في الفرقان : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ ، فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [٢٣].

وشمل آخر سورة النور الكلام على فصل القضاء : (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) [٦٤] وافتتحت سورة الفرقان بالثناء على الله عزوجل مالك الملك ، وصاحب السلطان المطلق.

ما اشتملت عليه السورة :

هذه السورة كسائر السور المكية اهتمت بأصول العقيدة من التوحيد والنبوة وأحوال القيامة.

فبدأت بإثبات الوحدانية لله عزوجل ، وصدق القرآن ، وصحة رسالة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ووقوع البعث والجزاء يوم القيامة لا محالة ، وفندت أضداد هذه العقائد ، ونعت على المشركين عبادة الأصنام والأوثان ونسبة الولد لله عزوجل ، وتكذيبهم بالبعث والقيامة ، وهددتهم بما سيلقون من ألوان العذاب والنكال في نار جهنم ، ومفاجأتهم بما في جنان الخلد من أصناف النعيم المقيم.

٦

ثم أبانت شؤم مصير بعض المشركين كعقبة بن أبي معيط الذي عرف الحق ثم ارتدّ عنه ، فسمّاه القرآن بالظالم : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) متأثرا بصديقه الذي سمي بالشيطان وهو أبيّ بن خلف.

ثم ذكرت قصص بعض الأنبياء السابقين وتكذيب أقوامهم لهم ، وما حلّ بهم من نكال ودمار وهلاك بسبب تكذيبهم رسل الله ، كقوم نوح ، وعاد ، وثمود ، وأصحاب الرّس ، وقوم لوط ، وأمثالهم من الكافرين الطغاة.

وأوردت السورة أدلة على قدرة الله ووحدانيته ، مما في الكون البديع من عجائب صنعه ، وما في الأرض من آثار خلقه في الإنسان ، والبحر ، وخلق السموات والأرض في ستة أيام ، وإنزال الأمطار وإرسال الرياح مبشرات بالمطر ، وجعل البروج في السماء ، وتعاقب الليل والنهار.

ثم ختمت السورة ببيان صفات عباد الرحمن المخلصين الموقنين ، وما يتحلون به من أخلاق سامية وآداب رضية ، تجعلهم يستحقون بها إكرام الله تعالى وثوابه الجزيل في جنات النعيم.

إنزال القرآن ووحدانية الله تعالى

(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (٢) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (٣))

٧

الإعراب :

(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ ..) بدل من (الَّذِي) الاول ، أو مدح مرفوع أو منصوب.

البلاغة :

(عَلى عَبْدِهِ) إضافة عبد إلى الله للتشريف والتكريم ، دون ذكر اسم النبي.

(لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) أي وبشيرا ، واكتفى بأحد الوصفين لبيان حال المعاندين ومناسبة الكلام مع الكفار.

(يَخْلُقُونَ) و (يَخْلُقُونَ) جناس ناقص لتغاير الشكل فقط.

(ضَرًّا) و (نَفْعاً مَوْتاً) و (حَياةً) بين كلّ منهما طباق.

المفردات اللغوية :

(تَبارَكَ) تعالى وتعاظم وتكاثر خيره ، من البركة : وهي كثرة الخير ، ففي إنزال القرآن خير كثير من الله لعباده ، ودلالة على تعاليه عنه وعلى كل شيء في صفاته وأفعاله. (الْفُرْقانَ) القرآن ؛ لأنه فرق بين الحق والباطل ، وبين المحق والمبطل بإعجازه ، أو لأنه فرّق وفصل بعضه عن بعض في الإنزال كما قال تعالى : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ) [الإسراء ١٧ / ١٠٦].

(عَبْدِهِ) أي رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ووصف بأنه عبد تشريفا له بكونه في أكمل مراتب العبودية ، وتنبيها إلى أن الرسول عبد للمرسل ، وهو ردّ على النصارى الذين يدّعون ألوهية عيسى عليه‌السلام. (لِيَكُونَ) العبد أو الفرقان. (لِلْعالَمِينَ) للجن والأنس دون الملائكة. (نَذِيراً) منذرا مخوفا من عذاب الله تعالى.

(وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) كزعم النصارى. (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) كقول الثنوية والمشركين. (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) أي خلق كل ما من شأنه أن يخلق. ويلاحظ أنه تعالى في أول الآية أثبت الملك له مطلقا ، ثم نفى ما يقوم مقامه وما يقاومه فيه ، ثم نبّه بقوله : (وَخَلَقَ) على ما يدل عليه ، والخلق : إحداث مراعى فيه التقدير حسب إرادته ، كخلقة الإنسان من مواد مخصوصة وصور أشكال معينة. (فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) سواه تسوية ، وهيأه لما أراد منه من الخصائص والأفعال ، كتهيئة الإنسان للإدراك والفهم والنظر والتدبير ، واستخراج الصنائع المتنوعة ، ومزاولة الأعمال المختلفة وغير ذلك.

٨

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) بعد أن أثبت التوحيد والنبوة ، أخذ في الرّد على المخالفين فيهما (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) لأن عبدتهم ينحتونهم ويصوّرونهم ، ومن دونه أي غير الله ، وآلهة : هي الأصنام. (وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) أي دفع ضر ولا جلب نفع (وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً) أي إماتة أحد أو إحياء أحد (وَلا نُشُوراً) ولا بعث أحد من الأموات ، فالنشور : الإحياء بعد الموت للحساب.

التفسير والبيان :

افتتح الله تعالى سورة الفرقان بالكلام عن إثبات الصانع ووصفه بالجلال والكمال ، وتنزهه عن النقصان والمحال ، فقال :

(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) أي أن الله تعالى يحمد نفسه الكريمة على ما نزّله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القرآن العظيم ، لينذر به الثقلين : الجن والإنس ويخوفه من بأسه أو عذابه وعقابه. وهذا دليل قاطع على عموم الرسالة الإسلامية للناس قاطبة وللجن أيضا. ومعنى : (تَبارَكَ) : تعالى وتعاظم وكثر خيره ، ولا خير ، أكثر ولا أفضل من إنزال القرآن المجيد دستور الحياة الإنسانية ، المشتمل على التبشير والإنذار ، تبشير الطائعين بالجنة ، والمخالفين المعاندين المعارضين بالنار. وإنما ذكر الإنذار فقط ولم يذكر التبشير ، مع أن مهمة الرسول تشملهما ، لمناسبة الكلام مع الكفار المعارضين الذين اتخذوا لله ولدا ، وجعلوا معه شريكا. والعبد : هو محمد رسول الله ، و (الْفُرْقانَ) : القرآن الذي فرق الله به بين الحق والباطل ، والهدى والضلال ، والحلال والحرام ، وفرّقه في الإنزال منجما حسب المناسبات.

ونظير الآية قوله تعالى في فاتحة سورة الكهف : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. قَيِّماً ، لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ ، وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً) [١ ـ ٢] وتكرار كلمة (عَبْدِهِ) في الآيتين مدح للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وثناء عليه ؛ للإشارة إلى كمال عبوديته في

٩

منزلة الخلق والسلطان ، كما وصفه بذلك في أشرف أحواله وهي ليلة الإسراء فقال : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) ووصفه بذلك أيضا في مقام الدعوة إليه في قوله : (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) [الجن ٧٢ / ١٩] ووصفه هنا عند إنزال

الكتاب عليه وتكليفه بتبليغ الرسالة.

ثم وصف الله تعالى ذاته بأربع صفات من صفات الكبرياء ، فقال :

١ ـ (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي أن المالك الحقيقي لجميع ما في السموات والأرض هو الله تعالى ، والمالك : له السلطان المطلق في التصرف في ملكه كما يشاء ، وله القدرة التامة على ما في ملكه إيجادا وإعداما ، وإحياء وإماتة ، وأمرا ونهيا على وفق الحكمة والمصلحة.

وهذا دليل على وجود الله تعالى ، لأنه لا طريق إلى إثباته إلا ببيان احتياج هذه المخلوقات إليه سبحانه في أصل وجودها ، وزمان حدوثها ، وأثناء بقائها ، وتصرفه تعالى فيها كيف يشاء ، والحاجة إلى الموجد المتصرف يوجب وجوده ، لذا قدمت هذه الصفة على سائر الصفات.

٢ ـ (وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) أي لم يكن له ولد إطلاقا ، خلافا لما زعم اليهود والنصارى ومشركو العرب من جعل عزير والمسيح ابن الله والملائكة بنات الله ، كما حكى القرآن عنهم: (وَقالَتِ الْيَهُودُ : عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى : الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) [التوبة ٩ / ٣٠](فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ. أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ. أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ. وَلَدَ اللهُ ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ؟!) [الصافات ٣٧ / ١٤٩ ـ ١٥٣].

٣ ـ (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) أي ليس لله في ملكه وسلطانه شريك ، فهو المتفرد بالألوهية ، المستحق وحده للعبادة والعبودية ، وإذا عرف

١٠

العبد ذلك وجّه رجاءه إلى الله تعالى ولم يخف إلا منه ، ولم يشغل قلبه إلا برحمته وإحسانه.

وهذا ردّ على الثنوية القائلين بوجود إلهين اثنين للعالم : وهما النور والظلمة ، وعلى عبدة النجوم والكواكب من الصابئة ، وعلى عبدة الأوثان من مشركي العرب الذين كانوا يقولون في تلبية الحج : «لبّيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك».

والصفتان المتقدمتان نزّه الله تعالى نفسه فيهما عن الولد وعن الشريك.

٤ ـ (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) أي أوجد كل شيء مما سواه ، وأحدثه إحداثا راعى فيه التقدير بقدر معين والتسوية بشكل محدد ، وهيأه لما يصلح له من الخصائص والأفعال اللائقة به ، فالإنسان مثلا خلقه الله بشكل مقدر مسوّى في أحسن تقويم ، وأوجد فيه من الحواس والطاقات والإمكانات للإدراك والفهم ، والنظر والتدبير ، واستنباط الصنائع ، ومزاولة الأعمال المختلفة ، وكذلك الحيوان والجماد جاء به على خلقة مستوية مقدرة ، مطابقة لما يراه من الحكمة والمصلحة والتدبير ، ولما قدر له غير منافر أو متجاف عنه. والخلاصة : أنه قدر كل شيء مما خلق بحكمته على ما أراد.

وفسّر ابن كثير الجملة الأخيرة بأن كل شيء مخلوق مربوب لله ، والله هو خالق كل شيء وربه ومليكه وإلهه ، وكل شيء تحت قهره وتدبيره وتسخيره وتقديره.

وبعد أن وصف الله تعالى نفسه بصفات الجلال والعزة والعلو ، أردف ذلك بتزييف مزاعم عبدة الأوثان فقال :

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ..) إلى قوله : (وَلا نُشُوراً) والمعنى أن تلك الآلهة المزعومة لا تستحق الألوهية لنقصانها من وجوه أربعة هي.

١١

أ ـ أنها لا تخلق شيئا ، والإله يجب أن يكون قادرا على الخلق والإيجاد.

ب ـ أنها مخلوقة ، والمخلوق محتاج ، والإله يجب أن يكون غنيا عن غيره. ولما اعتقد المشركون في أصنامهم أنها تضرّ وتنفع عبّر عنها بقوله : (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) كما يعبر عن العقلاء.

ج ـ أنها لا تملك لأنفسها ضرا ولا نفعا ، أي لا دفع ضرر ولا جلب نفع ، فلا تملك ذلك لغيرها ، ومن لا يملك لنفسه ولا لغيره النفع ودفع الضرر لا فائدة في عبادته.

د ـ أنها لا تملك موتا ولا حياة ولا نشورا ، أي لا تقدر على الإماتة والإحياء المبتدأ والمعاد في زماني التكليف والجزاء ، ومن كان كذلك كيف يسمى إلها؟ بل ذلك كله مرجعه إلى الله عزوجل الذي هو يحيي ويميت ، وهو الذي يعيد الخلائق يوم القيامة ، كما قال سبحانه : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) [لقمان ٣١ / ٢٨].

والخلاصة : أن الله هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ، لا إله غيره ، ولا ربّ سواه ، ولا تنبغي العبادة إلا له ، لأنه ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن. وأما عبدة الأصنام والمشركون فقد عبدوا غير الخالق ، الذي لا يملك لنفسه ولا لغيره ضرا ولا نفعا ، ولا يقبل بهذا عاقل متزن ، أو عالم متأمل.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يلي :

١ ـ الله تعالى هو الإله الموجود الواحد الأحد ، الخالق المالك لكل شيء.

٢ ـ الله تعالى مصدر الخير الكثير الفياض على عباده ، ومن أتمّ فضائله

١٢

وخيراته ونعمه إنزاله القرآن الكريم على عبده ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣ ـ إثبات نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتحديد مهمته في الإنذار والتبشير ، فمن أطاعه دخل الجنة ، ومن عصاه دخل النار.

٤ ـ الرسالة الإسلامية رسالة شاملة للثقلين : الجن والإنس ، عالمية الهدف ، موجهة لكل أبناء البشرية في مشارق الأرض ومغاربها ، لأنها التي تمثل الدين الحق ، وخاتمة الرسالات الإلهية كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما ورد في الصحيحين والنسائي عن جابر : «بعثت إلى الأحمر والأسود» وقال فيما رواه أحمد عن علي : «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي» وذكر منها : «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصّة ، وبعثت إلى الناس عامة» فالنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد كان رسولا إلى العالمين : الإنس والجن ، ونذيرا لهما ، وأنه خاتم الأنبياء ، ولم يكن غيره عام الرسالة إلا نوح عليه‌السلام ، فإنه عمّ برسالته جميع الإنس بعد الطوفان ، بحكم الواقع ؛ لأنه بدأ به الخلق.

٥ ـ عظم الله تعالى نفسه بأربع صفات من صفات الكبرياء وهي أنه مالك السموات والأرض ، ولم يتخذ ولدا ، فنزّه نفسه عما قاله المشركون من أن الملائكة أولاد الله أي بناته ، وعما قالت اليهود : عزير ابن الله ، وعما قالت النصارى : المسيح ابن الله ، تعالى الله ، وأنه لا شريك له في الملك لا كما قال عبدة الأوثان ؛ وخلق كل الأشياء لا كما قال المجوس والثّنوية : إن الشيطان أو الظلمة يخلق بعض الأشياء.

٦ ـ دلّ قوله سبحانه : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) على أنه تعالى خالق لأعمال العباد.

٧ ـ بالرغم من هذه الأدلة على وحدانية الله وقدرته اتخذ المشركون آلهة لا تتصف بأي صفة من صفات الله تعالى ، بل إنها أعجز من البشر الذين عبدوها مع الله ، فهي مخلوقة غير خالقة ، ولا تدفع ضررا ولا تجلب نفعا لنفسها ولمن

١٣

يعبدها ، لأنها جمادات ، ولا تقدر على التصرف في شيء بالإحياء ، والإماتة ، والنشور : الإحياء بعد الموت ، فهل بعد هذا يقبل عاقل اتخاذها آلهة معبودة؟! لقد احتقر الإنسان نفسه إذ يسجد لصنم أو وثن ، أو يستوعب مثل هذه الخرافات والأباطيل.

مطاعن المشركين في القرآن

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦))

الإعراب :

(وَقالُوا : أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أساطير : خبر مبتدأ محذوف ، أي هذه أساطير الأولين ، والأساطير : جمع أسطورة ، أو أسطار : وهو ما سطره المتقدمون.

المفردات اللغوية :

(إِنْ هَذا) ما القرآن. (إِلَّا إِفْكٌ) كذب واختلاق. (افْتَراهُ) اختلقه محمد. (قَوْمٌ آخَرُونَ) جماعة من اليهود ، فإنهم يلقون إليه أخبار الأمم ، وهو يعبر عنه بعبارته ، وقيل : هم جبر ويسار وعدّاس. (ظُلْماً) الظلم : وضع الشيء في غير موضعه ، وهو هنا جعل الكلام المعجز إفكا مختلفا متلقفا من اليهود. (وَزُوراً) الزور : الكذب والقول الباطل البعيد عن الحق ، وهو هنا نسبة ما هو بريء منه إليه. والمعنى : جاؤوا بالأمرين : الظلم والزور ، أي الكفر والكذب.

(وَقالُوا) أيضا : هو (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أكاذيب المتقدمين التي سطروها وهو جمع أسطورة أو أسطار. (اكْتَتَبَها) انتسخها من ذلك القوم ، بأن كتبها بنفسه أو استكتبها وأمر بكتابتها. (تُمْلى عَلَيْهِ) تقرأ عليه ليحفظها. (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) غدوة وعشية ، أو صباحا ومساء ، والمراد : دائما.

١٤

(قُلْ : أَنْزَلَهُ) رد عليهم. (السِّرَّ) الغيب ، أي أعجزكم جميعا بفصاحته وتضمنه أخبارا عن مغيبات مستقبلة ، وأشياء خفية لا يعلمها إلا عالم الأسرار ، فكيف تجعلونه أساطير الأولين؟! (إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) أي إنه تعالى كان وما يزال غفورا للمؤمنين رحيما بهم ، ولا يعجّل أيضا في عقوبتكم على ما تقولون مع كمال قدرته على العقاب ، واستحقاقكم إنزال العذاب.

سبب النزول :

قال الكلبي ومقاتل : نزلت في النضر بن الحارث ، فهو الذي قال هذا القول. وعنى بقوله تعالى : (وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) عدّاس مولى حويطب بن عبد العزّى ، ويسار غلام عامر بن الحضرمي ، وجبر مولى عامر أو أبو فكيهة الرومي ، وكان هؤلاء الثلاثة من أهل الكتاب ، وكانوا يقرءون التوراة ويحدثون أحاديث منها ، فلما أسلموا ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتعهدهم ، قال النضر ما قال. فرد الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله : (فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً).

المناسبة :

بعد أن تكلم سبحانه أولا في التوحيد ، وثانيا في الرد على عبدة الأوثان ، تكلم ثالثا في النبوة ، وذكر مطاعن المشركين : طعنهم في القرآن ، وطعنهم في نبوة النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي نزل عليه القرآن.

التفسير والبيان :

ذكر الله تعالى في هذه الآيات شبهتين من شبهات المشركين الواهية التي تدل على سخافة عقولهم وجهلهم ، فقال :

الشبهة الأولى :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا : إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ ، وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) أي وقال هؤلاء الجهلة من الكفار : ما هذا القرآن إلا كذب واختلاق ، اختلقه

١٥

محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واستعان على جمعه بقوم آخرين من أهل الكتاب الذين أسلموا فيما بعد ، كما ذكر في سبب النزول.

فأجابهم تعالى عن هذه الشبهة بقوله :

(فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً) أي فقد افتروا هم قولا باطلا ، وهم يعلمون أنه باطل ، ويعرفون كذب أنفسهم فيما زعموه ، فكان قولهم كفرا وظلما بيّنا في غير موضعه ، وكذبا مفترى على ربهم ، إذ جعلوا الكلام المعجز وهو هذا القرآن إفكا مفترى من قبل البشر. وهذه غاية حجة الضعيف ، فإنه إذا لم يجد جوابا مقنعا ، بادر إلى الإنكار الذي لا دليل عليه ، والتكذيب الذي لا مستند له ، فلو صح ما قالوا فلم لم يأتوا بمثله ، واستعانوا كما استعان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغيره على وفق زعمهم ، فإعجاز القرآن دليل كاف وحده للرد عليهم وإبطال مفترياتهم ، وهم أهل الفصاحة والبيان.

الشبهة الثانية :

(وَقالُوا : أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها ، فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أي وقال الكفار المشركون أيضا : إن هذا القرآن أساطير الأولين أي أكاذيب المتقدمين ، وأحاديث السابقين الذين سطروها في كتبهم كأحاديث رستم واسفنديار ، انتسخها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوساطة أهل الكتاب يعني عامرا ويسارا ، وجبرا أو أبا فكيهة مولى ابن الحضرمي ، فهي تقرأ عليه صباح مساء ، أي دائما ، وخفية ليحفظها ، إذ هو أمي لا يقرأ ولا يكتب. وهذا محض افتراء آخر ، وتضليل وبعد عن الحق ومكابرة ، فقد عرفوا صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمانته وسلوكه ، وبعده عن الكذب ، مدة أربعين عاما قبل البعثة ، حتى لقّبوه بالأمين ، لما يعلمون من صدقه واستقامته ، وكان أميا لا يعرف شيئا من الكتابة ، لا في أول عمره ولا في آخره ، فلما أكرمه الله بالرسالة عادوه واتهموه بما هو بريء منه ، ووصفوا القرآن

١٦

المنزل عليه بالأساطير ، مع أنه دستور الحكمة والمدنية والحضارة والعلم والتشريع الأمثل للحياة الإنسانية.

ثم أجابهم الله تعالى بقوله :

(قُلْ : أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي قل لهم يا محمد النبي : أنزل القرآن المشتمل على أخبار الأولين والآخرين بصدق مطابق للواقع الله الذي يعلم غيب السموات والأرض ، ويعلم السرائر كعلمه بالظواهر.

(إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) أي إن هذا القرآن إنما نزل رحمة بالعباد ، فلا يكون سببا لتعجيل العقاب ، لذا لم يعاجلكم بالعقوبة رحمة بكم ؛ لأنه تعالى غفور رحيم ، يمهل ولا يعجل ، لتتوبوا وتقلعوا عن الكفر والشرك. فهذه دعوة لهم إلى التوبة والإنابة والإقبال على ساحة الإسلام والهدى ، وإخبار لهم بأن رحمته واسعة ، وأن حلمه عظيم ، فمن تاب تاب الله عليه ، بالرغم مما صدر منهم من افتراء وكذب ، وكفر وعناد ، كما قال تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا : إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ ، وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ ، وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المائدة ٥ / ٧٣ ـ ٧٤] وقال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا ، فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ ، وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) [البروج ٨٥ / ١٠] قال الحسن البصري : انظروا إلى هذا الكرم والجود قتلوا أولياءه ، وهو يدعوهم إلى التوبة والرحمة.

وهذا دليل على أن التوبة الصادقة تسقط الإثم والذنب وتجبّ ما قبلها من الذنوب ، فهي مغفورة كرما من الله تعالى ، وفضلا ورحمة.

١٧

فقه الحياة أو الأحكام :

تضمنت الآيات حكاية شبهتين للمشركين وجوابين عنهما ، أما الشبهتان فهما : أن القرآن كذب مختلق اختلقه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأعانه عليه قوم من اليهود وأن القرآن أساطير أي أكاذيب وحكايات المتقدمين ، فهي تلقى على محمد ، وتقرأ في أول النهار وآخره ، أي دائما ، حتى تحفظ.

والرد على الشبهة الأولى : أنهم هم الذين افتروا هذا القول الباطل وهم يعلمون بطلانه ، لا أن القرآن مفترى. والرد على الشبهة الثانية أن منزل القرآن هو الله الذي يعلم السر والغيب والجهر ، فلا يحتاج إلى معلّم ، ولو كان القرآن مأخوذا من أهل الكتاب وغيرهم لما زاد عليها ، وقد جاء بفنون تخرج عنها ، فليس مأخوذا منها ، وأيضا لو كان مأخوذا من هؤلاء ، لتمكّن المشركون منه أيضا ، كما تمكن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهلا عارضوه؟ فبطل اعتراضهم من كل وجه.

وبيان هذا الجواب : إن الله تحداهم بالمعارضة ، وظهر عجزهم عنها ولو كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى بالقرآن مستعينا بأحد ، لسهل عليهم الاستعانة بآخرين ، فيأتون بمثل هذا القرآن ، فلما عجزوا عنه ، ثبت أنه وحي الله وكلامه ، لهذا قال : (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ) أي أن تلك الفصاحة القرآنية لا تتأتى إلا من العالم بكل المعلومات ، وأن القرآن مشتمل على الإخبار عن المغيبات ، وذلك لا يتأتى إلا من كامل العلم ، وأن القرآن مبرأ عن النقص والتعارض ، وذلك لا يتأتى إلا من العالم بكل المعلومات ، كما قال سبحانه : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء ٤ / ٨٢] والقرآن مشتمل على أحكام منسجمة مع مصالح العالم ونظام الناس ، وهو لا يكون إلا من العالم الواسع العلم ، وكذلك القرآن مشتمل على أنواع العلوم ، وهو لا يتأتى إلا من العليم الخبير.

١٨

طعن المشركين في النبي المنزل عليه القرآن

(وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠))

الإعراب :

(فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً فَيَكُونَ) منصوب لأنه جواب التحضيض بالفاء ، بتقدير «أن».

(أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ) معطوف على (يُلْقى) وكلاهما داخل في التحضيض ، وليس بجواب له.

(وَيَجْعَلْ) معطوف على جواب الشرط وهو «جعل» وموضعه الجزم ، وحسن أن يعطف المستقبل على الماضي لفظا ؛ لأنه في معنى المستقبل ؛ لأن «إن» الشرطية تنقل الفعل الماضي إلى الاستقبال. وقرئ بالرفع على أنه مستأنف ، تقديره : وهو يجعل لك.

البلاغة :

(ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ) استفهام يراد به التهكم والتحقير.

(وَقالَ الظَّالِمُونَ) وضع الظاهر موضع الضمير تسجيلا عليهم ظلم ما قالوه.

المفردات اللغوية :

(ما لِهذَا الرَّسُولِ) أي ما لهذا يزعم الرسالة؟ وفيه استهانة وتهكم. (يَأْكُلُ الطَّعامَ) كما

١٩

نأكل (وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) لطلب المعاش كما نمشي ، والمعنى : إن صح ادعاؤه ، فما باله يخالف حاله حالنا ، وذلك لقصور نظرهم على المحسوسات ، فإن تميز الرسل عمن عداهم ليس بأمور جسمانية ، وإنما بالأمور المعنوية ، كما أشار تعالى : (قُلْ : إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) [الكهف ١٨ / ١١٠ ، وفصلت ٤١ / ٦].

(لَوْ لا) هلا. (أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ ، فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) يصدقه ، فنعلم صدقه بتصديق الملك. (أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ) من السماء ينفقه ويستغني به عن طلب المعاش. (أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ) بستان ، أي إن لم يلق إليه كنز ، فلا أقل من أن يكون له بستان ، كما للدهاقين والمياسير ، فيعيش من ريعه وغلته ، وهذا منهم على سبيل التنزل. (يَأْكُلُ مِنْها) أي من أثمارها ، فيكتفي بها ويتميز علينا بها. وقرئ نأكل أي نحن ، وهذا كله تفكير الماديين. (وَقالَ الظَّالِمُونَ) الكافرون. (إِنْ تَتَّبِعُونَ) أي ما تتبعون. (إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) أي سحر فغلب على عقله واختل تفكيره. (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) أي قالوا فيك الأقوال العجيبة الشاذة التي جرت مجرى الأمثال ، واخترعوا لك الأحوال النادرة ، كالمسحور والمحتاج إلى ما ينفقه ، وإلى ملك يعاونه في الأمر. (فَضَلُّوا) بذلك عن الهدى وعن الطريق الموصل إلى معرفة خواص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمميز بينه وبين المتنبئ ، فخبطوا خبط عشواء وقوله : ضلوا : أي بقوا متحيرين في ضلالهم. (فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) طريقا إلى الرشد والهدى ، أو إلى القدح في نبوتك. (قُصُوراً) جمع قصر وهو كل بيت مشيد بالحجارة ونحوها ، أما ما يتخذ من الصوف أو الشعر فهو البيت في عرف العرب.

سبب النزول :

أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه وابن جرير وابن أبي حاتم عن خيثمة قال : قيل للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن شئت أعطيناك مفاتيح الأرض وخزائنها ، لا ينقصك ذلك عندنا شيئا في الآخرة ، وإن شئت جمعتهما لك في الآخرة ، فقال : لا ، بل اجمعها لي في الآخرة ، فنزلت: (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ) الآية. أي أن عرض الخزائن من الله. وجاء في السيرة النبوية أن عروض الإغراء بالمال والغنى ، والسيادة والجاه ، والملك والسلطان كانت من زعماء قريش.

٢٠