التفسير المنير - ج ١٢

الدكتور وهبة الزحيلي

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سورة هود عليه‌السلام

مكية وهي مائة وثلاث وعشرون آية.

تسميتها :

سميت سورة هود لاشتمالها على قصة هود عليه‌السلام مع قومه : «عاد» في الآيات [٥٠ ـ ٦٠] وهي كغيرها من قصص القرآن تمثل صراعا حادا عنيفا بين هود عليه‌السلام وبين قومه الذين دعاهم إلى عبادة الله تعالى ، وهجر عبادة الأصنام والأوثان ، فلما أصروا على كفرهم وتكذيبه ، عذبهم الله بعذاب غليظ شامل وهو الريح العقيم الصرصر ، التي سلطها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما : (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا ، وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) [هود ١١ / ٥٨] (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ. سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً ، فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى ، كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ. فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) [الحاقة ٦٩ / ٦ ـ ٨].

نزولها وشأنها ومناسبتها لما قبلها :

هذه السورة مكية أي نزلت في مكة إلا الآيات الثلاث التالية وهي : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ ..) [١٢] كما قال ابن عباس ومقاتل ، وقوله : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ .. أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ..) [١٧] فإنها

٥

نزلت في ابن سلام وأصحابه ، وقوله : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ ، إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ..) [١١٤] فإنها نزلت في نبهان التمار.

وقد نزلت بعد سورة يونس ، وهي منفقة معها في معناها وموضوعها وافتتاحها ب (الر) واختتامها بوصف الإسلام والقرآن والنبي الذي جاء بالحق من الله ، والدعوة إلى الإيمان بما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتفصيلها ما أجمل في سورة يونس من أمور الاعتقاد من إثبات الوحي والتوحيد والبعث والمعاد والثواب والعقاب والحساب ، وإعجاز القرآن وإحكام آياته ، ومحاجّة المشركين في ذلك وتحديهم بالقرآن ، وذكر قصص بعض الأنبياء كنوح وإبراهيم وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم‌السلام.

وتمتاز هذه السورة بما فيها من القوارع والزواجر التي اشتملت عليها قصص هؤلاء الأنبياء ، والدعوة الشديدة إلى الاستقامة ، مبتدأة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، روى أبو عيسى الترمذي عن ابن عباس قال : قال أبو بكر : يا رسول الله ، قد شبت ، قال : «شيبتني هود ، والواقعة ، والمرسلات ، وعمّ يتساءلون ، وإذا الشمس كورت».

وسئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما شيبة من سورة هود ، فقال : قوله تعالى : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ).

ومن فضائلها : ما أسنده أبو محمد الدارمي في مسنده عن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اقرؤوا سورة هود يوم الجمعة» وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة هود ، أعطي من الأجر عشر حسنات ..».

ما اشتملت عليه السورة :

تضمنت هذه السورة كسورة يونس أصول الدين العامة وهي التوحيد ، والرسالة ، والبعث والجزاء ، وتوضيح هذه العناصر إجمالا فيما يأتي :

٦

١ ـ إثبات كون القرآن من عند الله ، من طريق إحكام آياته وإتقانها بنظمها نظما رصينا محكما لا نقص فيه ولا خلل ، كالبناء المحكم ، ثم تفصيلها في الحال دون تراخ ، ببيان دلائل التوحيد والنبوة والأحكام والمواعظ والقصص والتفرقة بين الحق والباطل ، ومن طريق إعجاز القرآن وتحديه العرب بأن يأتوا بعشر سورة مثله : (أَمْ يَقُولُونَ : افْتَراهُ ، قُلْ : فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ ، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ ، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [هود ١١ / ١٣] وبعد أن عجزوا عن محاكاته والإتيان بمثله أو بمثل أقصر سورة منه ، أعلن الله تعالى إفلاسهم وعجزهم فقال : (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ ، فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) [هود ١١ / ١٤].

٢ ـ توحيد الله : وهو نوعان :

أ ـ توحيد الألوهية : وهو عبادة الله وحده وعدم عبادة أحد سواه ، كما قال تعالى في مطلع هذه السورة : (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ..) فعبادة كل من سواه كفر وضلال.

ب ـ توحيد الربوبية : أي الاعتقاد بأن الله وحده هو الخالق المدبر لهذا الكون ، والمتصرف فيه على مقتضى حكمته ونظام سنته. وكان عرب الجاهلية يؤمنون بأن الله هو الرب الخالق : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ، لَيَقُولُنَّ اللهُ ..) [العنكبوت ٢٩ / ٦١] ولكنهم كانوا يقولون بتعدد الآلهة. وورد في القرآن الكريم آيات كثيرة تثبت توحيد الربوبية ، مثل المذكور في هذه السورة : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ..) [٧] والخلق : التقدير المحكم الذي تكون فيه الأشياء على مقادير متناسبة ، ثم أريد به الإيجاد التقديري.

٣ ـ إثبات البعث والجزاء : للإيمان بهما وللترغيب والترهيب ، كما في قوله

٧

تعالى : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [٤] وقوله : (وَلَئِنْ قُلْتَ : إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا : إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) [٧].

٤ ـ اختبار البشر لمعرفة إحسان أعمالهم : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [٧].

٥ ـ الموازنة بين طبع المؤمن والكافر في أحوال الشدة والرخاء ، فالمؤمن صابر وقت الشدة ، شاكر وقت الرخاء ، والكافر فرح فخور حال النعمة ، يئوس كفور حال المصيبة [الآيات ٩ ـ ١١].

٦ ـ استعجال البشر الخير والنفع ، والعذاب الذي ينذر به الرسل : (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ : ما يَحْبِسُهُ ..) [٨] وقال تعالى في سورة يونس المتقدمة : (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ ، لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) [١١].

٧ ـ طبائع البشر مختلفة حتى في قبول الدين إلا من رحم ربك : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ، وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ ..) [١١٨ ـ ١١٩] أي أن لهذا الاختلاف فوائد علمية وعلمية ، كما أن فيه مضارّ إذا أدى إلى التفرق في الدين والاختلاف في أصول الحياة والمصالح العامة.

٨ ـ إيراد قصص الأنبياء بالتفصيل تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما يتعرض له. من أذى قريش وصدودهم عن دعوته : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ ..) [١٢٠] ، وفي كل قصة عبرة وعظة أيضا للمؤمنين. وقد ذكر الله قصة نوح أب البشر الثاني وأمره له بصناعة الفلك ، لنجاته ومن معه من المؤمنين ، وإغراق قومه بالطوفان الذي عم الأرض ، ونوح أطول الأنبياء عمرا ، وأكثرهم بلاء وصبرا [الآيات : ٢٥ ـ ٤٩] وتبين من قصته أن أتباع الرسل عادة هم

٨

الفقراء ، كما حكى تعالى عن قوم نوح : (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ) [هود ١١ / ٢٧].

ثم ذكر الله تعالى قصة هود الذي سميت السورة باسمه ، ودعوته قومه «عاد» الأشداء العتاة المتجبرين إلى عبادة الله تعالى ، فاعترفوا بقوتهم وقالوا : (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟) فأهلكهم الله بريح صرصر عاتية في بحر أسبوع : (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) [الحاقة ٦٩ / ٧] وعبر عن ذلك بأنه عذاب غليظ ، بسبب الكفر والجحود بالآيات الإلهية : (وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ ، وَعَصَوْا رُسُلَهُ ، وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ..) [الآيات : ٥٠ ـ ٦٠].

ثم ذكر سبحانه قصة صالح مع قومه ثمود [الآيات : ٦١ ـ ٦٨]. وأشار إلى قصة ضيوف إبراهيم من الملائكة [الآيتان : ٦٩ ـ ٧٠] ثم قصة «لوط» [الآيات : ٧٠ ـ ٨٣] ثم قصة شعيب [الآيات : ٨٤ ـ ٩٥] ثم قصة موسى مع فرعون [الآيات : ٩٦ ـ ٩٩].

٩ ـ التعقيب المباشر على ما في تلك القصص من عبر وعظات ، بإهلاك الظالمين ، كما قال تعالى : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ ، مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ ، وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ، فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) [الآيات : ١٠٠ ـ ١١١].

١٠ ـ الأمر بالاستقامة في الدين [الآية : ١١٢] وهو أمر ثقيل شديد على النفس ، يتطلب جهاد النفس ، والصبر على أداء الواجبات ، وحمايتها من الموبقات المهلكات.

١١ ـ الطغيان سبيل الدمار ، والركون إلى الظلم موجب عذاب النار : (وَلا تَطْغَوْا ، إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) [الآية : ١١٣].

١٢ ـ الأمر بإقامة الصلاة في أوقاتها ليلا ونهارا ؛ لأن الحسنات يذهبن

٩

السيئات [الآية : ١١١] والصبر على الطاعة ، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين [الآية : ١١٥].

١٣ ـ محاربة الفساد في الأرض من أجل حفظ الأمة والأفراد من الهلاك : (فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ) [الآية : ١١٦].

١٤ ـ لا إهلاك ولا عذاب للأمم في حال الإصلاح [الآية : ١١٧].

١٥ ـ تهديد المعرضين عن دعوة الحق بالعذاب ، وجعل العاقبة للمتقين. ويلاحظ أن التهديد والترغيب أمران متلازمان مفيدان في إصلاح الأفراد والجماعات ، وبناء الأمة وتحقيق غلبتها على خصومها ، لذا اقترنا غالبا في القرآن.

١٦ ـ ختمت السورة بما بدئت به من الأمر بعبادة الله وحده والاتكال عليه ، والتحذير من عقابه : (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) ، ليتناسق البدء مع الختام.

إحكام القرآن ودعوته إلى عبادة الله والتوبة إليه

والإيمان بالبعث

(الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤))

١٠

الإعراب :

(كِتابٌ أُحْكِمَتْ) كتاب : كتاب : خبر مبتدأ محذوف ، و (أُحْكِمَتْ) صفة له ، وقال الرازي :(الر) اسم للسورة وهو مبتدأ ، و (كِتابٌ) خبره ، وذكر البيضاوي الوجهين.

(مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) صفة ثانية ، ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر ، وأن يكون صلة لأحكمت وفصلت ، أي من عنده إحكامها وتفصيلها.

(أَلَّا تَعْبُدُوا) إما أن تكون «أن» مفسرة بمعنى أي ؛ لأنّ في تفصيل الآيات معنى القول ؛ كأنه قيل : قال : ألا تعبدوا إلا الله ، أو آمركم ألا تعبدوا إلا الله ، مثل قوله تعالى : (أَنِ امْشُوا) [ص ٣٨ / ٦] أي امشوا. وإما أن تكون مفعولا لأجله ، على معنى : لئلا تعبدوا إلا الله.

(وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا) معطوف على (أَلَّا تَعْبُدُوا) على الوجهين السابقين.

(إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) اعتراض وقع بين المعطوف والمعطوف عليه.

(يُمَتِّعْكُمْ) مجزوم ؛ لأنه جواب الأمر ، وهو قوله : (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) وجزم جواب الأمر ؛ لأنه جواب لشرط مقدّر.

(وَإِنْ تَوَلَّوْا) أصله : تتولّوا ، فحذفت إحدى التاءين ، لاجتماع حرفين متحركين من جنس واحد ، فاستثقلوا اجتماعهما ، فحذفوا إحداهما تخفيفا.

البلاغة :

(أُحْكِمَتْ .. وفُصِّلَتْ) بينهما طباق حسن ؛ لأن المعنى : أحكمها حكيم ، وفصلها أي بينها وشرحها خبير عالم بكيفيات الأمور. وكذلك بين (نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) طباق أيضا.

(عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) إضافة العذاب إلى اليوم الكبير وهو يوم القيامة للتهويل.

المفردات اللغوية :

(الر) تقرأ بأسمائها ساكنة ، كما ذكر في أول سورة يونس ، فيقال : ألف ، لام ، را ، وهي للتحدي والإلزام للعرب الفصحاء ، لإثبات إعجاز القرآن وكونه من عند الله ، أو هي حروف تنبيه مثل : ألا ، لما سيلقى بعدها. والسور المفتتحة بمثل تلك الحروف مكية إلا سورتي البقرة وآل عمران. والسور المكية تعنى بإثبات التوحيد والبعث والوحي وإعجاز القرآن ، وفيها غالبا قصص الأنبياء.

١١

(أُحْكِمَتْ آياتُهُ) نظمت نظما محكما لا خلل فيه من جهة اللفظ والمعنى (ثُمَّ فُصِّلَتْ) بينت الأحكام والقصص والمواعظ ، وبالإحكام والتفصيل يصبح القرآن كامل الصورة والمعنى. وقال الزمخشري : (ثُمَّ فُصِّلَتْ) كما تفصل القلائد (أي عقود النساء) بالفرائد من دلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص ، أو جعلت فصولا سورة سورة ، وآية آية ، أو فرقت في التنزيل ولم تنزل جملة واحدة ، أو فصل بها ما يحتاج إليه العباد ، أي بيّن ولخص (١).

وقوله : (ثُمَّ فُصِّلَتْ) ليس معناها التراخي في الوقت ، ولكن في الحال ، كما تقول: هي محكمة أحسن الإحكام ، ثم مفصلة أحسن التفصيل ، وفلان كريم الأصل ثم كريم الفعل (٢).

(مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) أي من عند الله الحكيم الصنع في أقواله وأفعاله وأحكامه ، العليم بأحوال الناس والكون ، في الظاهر والباطن ، الخبير بعواقب الأمور.

(نَذِيرٌ) بالعذاب إن كفرتم أو أشركتم (وَبَشِيرٌ) بالثواب إن آمنتم أو التزمتم عقيدة التوحيد (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) من الشرك والمعاصي (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) ارجعوا بالطاعة (يُمَتِّعْكُمْ) في الدنيا (مَتاعاً حَسَناً) بطيب عيش وسعة رزق. والمتاع : كل ما ينتفع به في المعيشة.

(إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) هو الموت أو العمر المقدّر (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) أي يعط كل محسن ذي فضل في العمل جزاءه (وَإِنْ تَوَلَّوْا) أصله : تتولوا ، فحذفت إحدى التاءين ، أي تعرضوا (عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) هو يوم القيامة أو يوم الشدائد ، وقد ابتلي مشركو مكة بالقحط حتى أكلوا الجيف.

(إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) رجوعكم في ذلك اليوم (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) القادر على كل شيء ، ومنه الثواب والعذاب ، وكأنه تقرير لكبر ذلك اليوم.

التفسير والبيان :

موضوع هذه الآيات تقرير أصول الدين وهي إحكام القرآن وتفصيله ، والدعوة إلى عبادة الله وتوحيده والإنابة إليه ، والإيمان بالبعث والجزاء في عالم الآخرة.

والمعنى : هذا كتاب عظيم الشأن جليل القدر ، محكم النظم والمعنى ، لا خلل

__________________

(١) الكشاف : ٢ / ٨٩

(٢) الكشاف : ٢ / ٩٠

١٢

فيه ولا نقص ، فهو كامل الصورة والمعنى ؛ لأنه صادر من عند الله الحكيم في أقواله وأحكامه ، الخبير بحوائج عباده وبعواقب الأمور.

ففي هذه السورة كغيرها من السور تبيان حقائق الاعتقاد وتفنيد أباطيل الكافرين ، وتوضيح أسلم الأحكام التشريعية للحياة ، وأقوم المناهج والفضائل والمواعظ من خلال القصص القرآني والتنبيه إلى غرر الشمائل والأخلاق.

(أَلَّا تَعْبُدُوا ..) أي أن هذا الكتاب المحكم نزل بألا تعبدوا غير الله ولا تشركوا به شيئا ، أو أنه نزل هذا القرآن المحكم المفصل لعبادة الله وحده لا شريك له ، أو لئلا تعبدوا إلا الله ، وهذا كقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء ٢١ / ٢٥] وقوله : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل ١٦ / ٣٦].

(إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) أي ، وقل للناس : إنني كائن لكم من جهة الله ، نذير من العذاب ، إن خالفتموه ، وبشير بالثواب إن أطعتموه ، كما جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صعد الصفا ، فدعا بطون قريش الأقرب ثم الأقرب ، فاجتمعوا ، فقال : «يا معشر قريش ، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا تصبحكم ، ألستم مصدّقي؟» فقالوا : ما جربنا عليك كذبا ، قال : «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد».

وهذا بيان مهمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووظيفته وهي الإنذار لمن عصاه بالنار ، والتبشير لمن أطاعه بالجنة.

(وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ...) أي : وآمركم بالاستغفار من الذنوب السالفة ، أي أن تطلبوا المغفرة من الشرك والكفر والمعاصي ، وأن تتوبوا منها إلى الله عزوجل بالندم على ما مضى ، والعزم على عدم العودة إلى الذنوب في المستقبل ،

١٣

والاستمرار على ذلك ، فإن استغفرتم وتبتم من الذنوب ، يمتعكم متاعا حسنا في الدنيا ، أي يطوّل نفعكم في الدنيا بمنافع حسنة مرضية ، من عيشة طيبة ورزق واسع ونعمة متتابعة (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي إلى أن يتوفاكم ، كقوله تعالى : (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) [النحل ١٦ / ٩٧]. والجمع بين الاستغفار والتوبة للدلالة على أنه لا سبيل إلى طلب المغفرة من عند الله إلا بإظهار التوبة ، والاستغفار مطلوب بالذات ، والتوبة مطلوبة لكونها من متممات الاستغفار ، هذا على أساس أنهما معنيان متباينان ؛ لأن الاستغفار طلب المغفرة وهي الستر ، والتوبة : الانسلاخ من المعاصي ، والندم على ما سلف منها ، والعزم على عدم العود إليها ، والمعنى : استغفروا من الشرك ، ثم ارجعوا إليه بالطاعة. ومن قال : الاستغفار توبة ، جعل قوله : (ثُمَّ تُوبُوا) بمعنى أخلصوا التوبة واستقيموا عليها بالطاعة والعبادة.

(وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) أي ويعط في الآخرة كل من كان له فضل في العمل جزاء فضله لا يبخس منه.

والتمتيع في الدنيا والثواب في الآخرة جمع بين الجزاءين ، إلا أن جزاء الدنيا موقوت محدود ، وجزاء الآخرة دائم مطلق غير مقيد بشيء. وفي هذا دلالة على أن جميع خيرات الدنيا والآخرة ليس إلا منه تعالى ، وليس إلا بإيجاده وتكوينه وإعطائه ، كما أن فيه إشارة إلى أن ثواب الدنيا لمجموع الناس ، لا لكل فرد فرد ، وأما جزاء الآخرة فمخصوص بكل فرد على حدة.

ومن عادة القرآن أن يذكر الشيء وفائدته للترغيب فيه ، ثم يذكر مقابله للترهيب والتهديد ، والتنفير ، فقال تعالى : (وَإِنْ تَوَلَّوْا ..) أي وإن أعرضتم عما دعوتكم إليه من عبادة الله وحده لا شريك له ، فإني أخشى عليكم عذاب يوم كبير هو يوم القيامة ، وصف بالكبر لما فيه من الأهوال ، كما وصف بالعظم والثقل والشدة والألم ، لما فيه من العظائم والشدائد والأثقال والآلام.

١٤

ثم بيّن عذاب اليوم الكبير بأن مرجعهم إلى من هو قادر على كل شيء ، ومنه العذاب والثواب ، أي أن معادهم يوم القيامة ، إلى الله القادر على ما يشاء من إحسانه إلى أوليائه ، وانتقامه من أعدائه ، وإعادة الخلائق يوم القيامة. ولفظ (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) يفيد الحصر ، يعني أن مرجعنا إلى الله لا إلى غيره.

وهذا تهديد شديد لمن تولى عن أوامر الله تعالى ، وكذّب رسله ، فإن العذاب يناله يوم القيامة ، لا محالة. وهو ترهيب يقابل الترغيب السابق.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ آي القرآن الكريم محكمة كلها لا خلل فيها ولا باطل ، منظمة بنظم محكم اللفظ والمعنى ، لا تناقض فيها ولا اضطراب ، مفصلة تفصيلا تاما شاملا جميع الدلائل الدالة على التوحيد والنبوة والبعث وغيرها ، فهي كاملة الصورة والمعنى ، محققة للمصالح البشرية في الدنيا والآخرة. وقوله : (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) دليل على وجود الصانع الخالق.

٢ ـ دعوة القرآن صريحة تتجه نحو تحقيق العبودية للخالق المنعم المتفضل ، وتخصيصه وإفراده بالعبادة ، دون أي أحد سواه ، فالآية مشتملة على الأمر بعبادة الله ، ومنع عبادة غير الله.

٣ ـ وظيفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هي الإنذار والتخويف لمن عصاه بالعذاب ، والتبشير بالرضوان والجنة لمن أطاعه.

٤ ـ واجب الإنسان الاستغفار ، أي طلب المغفرة من الشرك والذنوب ، والتوبة والإنابة إلى الله بالطاعة والعبادة ، فمعنى قوله (تُوبُوا) ارجعوا إليه بالطاعة والعبادة. قال بعض الصلحاء : الاستغفار بلا إقلاع عن الذنب توبة الكذابين.

١٥

٥ ـ إن ثمرة الاستغفار والتوبة وهو الفضل الإلهي على الإنسان المؤمن الطائع أمر عظيم واسع شامل الدنيا والآخرة ، ففي الدنيا تمتيع إلى نهاية العمر المقدر بالمنافع من سعة الرزق ورغد العيش ، وعدم الاستئصال بالعذاب كما فعل بمن أهلك من الأمم السابقة ، فالمتاع الحسن : وقاية من كل مكروه وأمر مخوف ، واستمتاع بطيبات الحياة. وفي الآخرة إيتاء كل ذي عمل من الأعمال الصالحة جزاء عمله. ودلت الآية على أن لكل إنسان أجلا واحدا فقط.

٦ ـ مرجع أو معاد الخلائق جميعا بعد الموت إلى الله تعالى القادر على كل شيء من ثواب وعقاب. وهذا ترهيب بعد الترغيب السابق.

إعراض الكفار عن الحق

(أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٥))

البلاغة :

(ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) يعرضون عن الحق ، ويطوون صدورهم على ما فيها من حقد وحسد وعداوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) أي يحاولوا الخفاء من الله أو ليتواروا عن محمد (يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ) يتغطون بها (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ) في قلوبهم (وَما يُعْلِنُونَ) في أفواههم ، فالله تعالى يستوي في علمه سرهم وعلنهم ، فكيف يخفى عليه ما عسى يظهرونه (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بالأسرار ذات الصدور ، أو بالقلوب وأحوالها.

١٦

سبب النزول :

روى البخاري عن ابن عباس في قوله : (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) قال : كان أناس يستحيون أن يتخلوا ، فيفضوا بفروجهم إلى السماء ، وأن يجامعوا نساءهم ، فيفضوا إلى السماء ، فنزل ذلك فيهم. أي كانوا يكرهون أن يستقبلوا السماء بفروجهم وحال وقاعهم ، فأنزل الله هذه الآية ، أي في المسلمين.

وأخرج ابن جرير وغيره عن عبد الله بن شداد قال : كان أحدهم إذا مرّ بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ثنى صدره لكيلا يراه ، فنزلت.

وقيل : إنها نزلت في طائفة من المشركين قالوا : إذا أرخينا ستورنا ، واستغشينا ثيابنا ، وطوينا صدورنا على عداوة محمد ، كيف يعلم؟

وذكر الواحدي والقرطبي : أنها نزلت في الأخنس بن شريق ، وكان رجلا حلو المنطق ، يلقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما يحب ، وينطوي له بقلبه على ما يسوء.

والظاهر لي أن الآية في إعراض الكفار عن الحق ، بدليل ما قبلها وما بعدها.

المناسبة :

بعد وصف حالة الكفار وبيان أنهم إن أعرضوا عن عبادة الله وطاعته ، تعرضوا لعذاب يوم كبير ، بيّن الله تعالى أن التولي عن ذلك باطنا أو سرا كالتولي عنه ظاهرا ، وأن إعراضهم متصف بالحيرة والجهل.

التفسير والبيان :

ألا إن الكفار أو المشركين حين يسمعون الدعوة إلى الله ، يعرضون عن

١٧

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصدورهم ، كيلا يراهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يراهم أحد ، إمعانا في العناد والكفر. وقوله : (أَلا) للتنبيه.

ألا حين يستغشون ثيابهم ويغطون بها رؤوسهم ، ليستخفوا أو يتواروا من محمد أو من الله ، يظنون أن الله لا يراهم ، مع أن الله يعلم ما يسرون في قلوبهم ، وما يعلنون بأفواههم ، ويعلم ما يسرون ليلا ، وما يظهرون نهارا.

وكرر (أَلا) للتنبيه على وقت استخفائهم. وعود الضمير إلى الله أولى ، لقوله تعالى : (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ).

إن الله عليم بالأسرار ذات الصدور ، وبخواطر القلوب ، فليحذر من يظن أن أسراره خفية على الله ، وليعلم أن الله مطلع على كل شيء في الوجود ، وما تنطوي عليه النفوس من شكوك وأوهام ، ويجازي كل إنسان بما أسر وأعلن.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآية على تصميم الكفار في إعراضهم عن سماع القرآن ، ودعوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الإيمان برسالته ، وأنهم بهذا الإعراض أغبياء جاهلون.

ودلت أيضا على أنه لا فائدة في استخفائهم وتواريهم عن الله أو عن محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأن الله مطلع على كل شيء في الوجود من النيات والضمائر والسرائر ، ومن الأقوال والأفعال العلنية ، يستوي علمه بالسر مع علمه بالجهر ، ولا تفاوت في علمه بين إسرارهم وإعلانهم.

١٨

فضل الله وعلمه وقدرته

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧))

المفردات اللغوية :

(وَما مِنْ دَابَّةٍ) : (مِنْ) : زائدة ، والدّابة في اللغة : كل ما يدبّ على الأرض ، زحفا على بطنه أو مشيا على قوائمه ، وإطلاق الدّابة على الخيل والبغال والحمير إطلاق عرفي. (رِزْقُها) غذاؤها ومعاشها ، لتكفله إياها تفضّلا ورحمة. وإنما أتى بلفظ الوجوب بهذا التّعبير تحقيقا لوصوله وضمانه وحملا على التّوكل فيه. (مُسْتَقَرَّها) مكانها من الأرض ومسكنها. (وَمُسْتَوْدَعَها) ما كانت مودعة فيه قبل الاستقرار من صلب أو رحم أو بيضة ، والمراد بالمستقر والمستودع : أماكن الحياة والممات ، أو الأصلاب والأرحام. (كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) كلّ مما ذكر ، أي كلّ واحد من الدواب وأحوالها ورزقها ومستقرّها ومستودعها مذكور في اللوح المحفوظ ، مكتوب فيه مبيّن ، والمراد بالآية كونه عالما بالمعلومات كلها ، وكونه قادرا على الممكنات بأسرها ، لتقرير التوحيد ولما سبق من الوعد والوعيد.

(وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) أي وكان عرشه قبل خلق السموات والأرض على الماء ، وفيه دليل على أن العرش والماء كانا مخلوقين قبل السّموات والأرض. وليس المعنى على سبيل كون أحدهما ملتصقا بالآخر ، وإنما كقوله : السماء على الأرض. والماء أول حادث بعد العرش من أجرام هذا العالم. والعرش : مركز التنظيم للملك ومصدر التدبير ، وهو أعظم من السموات والأرض.

(لِيَبْلُوَكُمْ) متعلّق بخلق ، أي خلق ذلك لحكمة بالغة هي أن يعاملكم معاملة المبتلي لأحوالكم المختبر لأوضاعكم كيف تعملون. والابتلاء : الاختبار والامتحان. (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) أي أطوع لله ، وأعمال المؤمنين هي التي تتفاوت إلى حسن وأحسن ، وأما أعمال الكافرين فتتفاوت إلى حسن

١٩

وقبيح. (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي ما هذا القرآن الناطق بالبعث ، والذي تقوله يا محمد إلا سحر ، أي تخييل وتمويه ، (مُبِينٌ) أي بيّن ظاهر البطلان. ويجوز تضمين (قُلْتَ) معنى ذكرت. ومعنى قولهم : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أن السحر أمر باطل ، وأن بطلانه كبطلان السحر ، تشبيها له به.

المناسبة :

لما بيّن الله تعالى في الآية السابقة أنه (يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) أردفه بما يدلّ على كونه تعالى عالما بجميع المعلومات ، قادرا على كل شيء ، فهو الخالق والرّازق والعالم بأحوال البشر ، والباعث لهم بعد الموت ، فالبعث واقع لا محالة.

التفسير والبيان :

ما من نوع من أنواع دواب الأرض أو البحر أو الجوّ إلا على الله رزقها ومعيشتها وغذاؤها المناسب لها ، المعدّ لطعامها بعد البحث والحركة والعمل ، ويعلم مستقرّها ومستودعها ، أي يعلم منتهى سيرها في الأرض حيث تأوي إليه وهو مستقرّها ، والموضع الذي تأوي إليه من وكرها ، ومكان موتها ودفنها ، وهو مستودعها ، وهذا يشمل بداية تكوينها ووجودها في الأصلاب والأرحام وأيام الحياة والممات.

وكل ما ذكر من كلّ الدّواب وأرزاقها ومستقرّها ومستودعها ثابت مكتوب في اللوح المحفوظ الذي كتب فيه جميع مقادير الخلق.

وهذا دليل على أن الله تعالى متكفل بأرزاق المخلوقات كلها ، وقد أوجب ذلك على نفسه بكلمة (عَلَى) المفيدة للوجوب تفضّلا منه ورحمة ، إلا أن الرّزق بمقتضى سنّته تعالى في الكون خاضع لمبدأ ارتباط الأسباب بالمسببات ، أي أن الحصول على الرّزق مرتبط بالسّعي والعمل ، بعد توافر الإلهام المودع في الخلائق ، وهدايتهم إلى الطّلب والتّحصيل ، كما قال تعالى : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) [طه ٢٠ / ٥٠].

٢٠