التفسير المنير - ج ١٠

الدكتور وهبة الزحيلي

الثاني وهو تقليل عدد المؤمنين في أعين المشركين لتوضيح مراد الله تعالى الذي فعل ذلك ليكون سببا في قلة مبالاة المشركين بالمؤمنين ، وعدم مبالغتهم في الاستعداد والحذر ، ولإتمام المراد وهو قتل المشركين وإعزاز الدين.

ونبّه تعالى بقوله : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) على أن أحوال الدنيا غير مقصودة لذواتها ، وإنما المراد منها ما يصلح أن يكون زادا ليوم المعاد.

ومن فضل الله ونعمته وهو نوع رابع من النعم أن قوله : (وَيُقَلِّلُكُمْ) كان في ابتداء القتال ، فلما شرعوا في القتال عظم المسلمون في أعينهم فكثروا ؛ كما قال تعالى : (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) [آل عمران ٣ / ١٣].

ذكر الله والثبات أمام العدو والطاعة وعدم التنازع

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥) وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧))

الإعراب :

(فَتَفْشَلُوا) منصوب بإضمار (أن) ، أو مجزوم لدخوله في حكم النهي.

(بَطَراً) منصوب على المصدر في موضع الحال ، أي بطرين مرائين صادّين.

البلاغة :

(وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) أي قوتكم ، وقال الزمخشري : الريح : الدولة ، وفيه استعارة ، شبهت

٢١

القوة أو الدولة في نفوذ أمرها وتمشيه بالريح وهبوبها ، فقيل : هبت رياح فلان : إذا دالت له الدولة ونفذ أمره.

المفردات اللغوية :

(فِئَةً) جماعة ، والمراد هنا جماعة كافرة (فَاثْبُتُوا) لقتالهم ولا تنهزموا (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) ادعوه بالنصر (تُفْلِحُونَ) تفوزون (وَلا تَنازَعُوا) تختلفوا فيما بينكم (فَتَفْشَلُوا) تجبنوا (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) قوتكم ودولتكم (مَعَ الصَّابِرِينَ) بالنصر والعون.

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) ليمنعوا غيرهم ولم يرجعوا بعد نجاتها (بَطَراً) البطر : الأشر ، والمراد بهما التفاخر بالنعمة ، والتكبر والخيلاء. (وَرِئاءَ النَّاسِ) أي رياء ، وهؤلاء هم أهل مكة ، حين خرجوا لحماية العير ، فأتاهم رسول أبي سفيان ، وهم بالجحفة : أن ارجعوا ، فقد سلمت عيركم ، فأبى أبو جهل وقال : حتى تقدم بدرا ، نشرب بها الخمور ، وتعزف علينا القيان ، ونطعم بها من حضرنا من العرب. فلذلك كان بطرهم ورئاؤهم الناس بإطعامهم ، فوافوها فسقوا كؤوس المنايا مكان الخمر ، وناحت عليهم النوائح مكان القيان ، فنهى الله المؤمنين أن يكونوا مثلهم بطرين طربين مرائين بأعمالهم ، وأن يكونوا من أهل التقوى والكآبة والحزن من خشية الله عزوجل ، مخلصين أعمالهم لله.

سبب النزول :

نزول الآية (٤٧):

(وَلا تَكُونُوا) : أخرج ابن جرير الطبري عن محمد بن كعب القرظي قال : لما خرجت قريش من مكة إلى بدر ، خرجوا بالقيان والدفوف ، فأنزل الله : (وَلا تَكُونُوا ...) الآية.

وقال البغوي في تفسيره المطبوع على هامش (الخازن): نزلت في المشركين حين أقبلوا إلى بدر ، ولهم بغي وفخر ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادّك ، وتكذّب رسولك ، اللهم فنصرك الذي وعدتني».

قالوا : ولما رأي أبو سفيان أنه قد أحرز عيره ، أرسل إلى قريش : إنكم إنما

٢٢

خرجتم لتمنعوا عيركم ، فقد نجاها الله فارجعوا ، فقال أبو جهل : والله لا نرجع حتى نرد بدرا ـ وكان موسما من مواسم العرب يجتمع لهم بها سوق كل عام ـ فنقيم ثلاثا ، فننحر الجزور ، ونطعم الطعام ، ونسقي الخمر ، وتعزف علينا القيان ، وتسمع بنا العرب ، فلا يزالون يهابوننا أبدا ، فوافوها فسقوا كؤوس المنايا مكان الخمر ، وناحت عليهم النوائح مكان القيان.

فنهى الله عباده المؤمنين أن يكونوا مثلهم ، وأمرهم بإخلاص النية ، والحسبة في نصر دينه ، ومؤازرة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى أنواع نعمه على رسوله وعلى المؤمنين يوم بدر ، علّمهم إذا التقوا بفئة (أي جماعة) من المحاربين نوعين من الأدب هما : الثبات أمام العدو في اللقاء ، وذكر الله كثيرا ، ثم أمرهم بالتحلي بالطاعة والانقياد ، أي طاعة الله والرسول ، ونهاهم عن التنازع والاختلاف حتى لا يفشلوا (يجبنوا) وتذهب قوتهم ودولتهم.

التفسير والبيان :

هذه الآيات تعليم من الله لعباده المؤمنين آداب اللقاء وطريق الشجاعة عند مواجهة الأعداء ، وهي قواعد ضرورية في الحروب ، وأسس للجندية الحقة الحازمة.

وأول هذه الآداب والقواعد :

الثبات أمام العدو حين اللقاء معه ، بتوطين النفوس على الصمود والصبر على المبارزة ؛ وعدم التحدث بالتولي والفرار ، ونظرا لأن هذا العنصر أهم عناصر المواجهة الحربية ، فقد بدأ الله به ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً

٢٣

فَاثْبُتُوا) أي إذا حاربتم جماعة من أعدائكم الكفار ، فاثبتوا أمامهم في القتال ، وإياكم من الفرار من الزحف وتولي الأدبار ، فالثبات ركيزة الحروب وسبب للانتصار ، والفرار جريمة كبري يعاقب عليها الله تعالى ؛ لأنها خطأ فادح في حق الأمة قاطبة.

ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن أبي أوفى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انتظر في بعض أيامه التي لقي فيها العدو ، حتى إذا مالت الشمس ، قام فيهم فقال : «يا أيها الناس ، لا تتمنوا لقاء العدو ، واسألوا الله العافية ، فإذا لقيتموهم فاصبروا ، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف».

ثم قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : «اللهم منزل الكتاب ، ومجري السحاب ، وهازم الأحزاب ، اهزمهم وانصرنا عليهم».

وروى عبد الرزاق عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تتمنوا لقاء العدو ، واسألوا الله العافية ، فإذا لقيتموهم فاثبتوا ، واذكروا الله ، فإن صخبوا وصاحوا ، فعليكم بالصمت».

وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني عن زيد بن أرقم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرفوعا قال : «إن الله يحب الصمت عند ثلاث : عند تلاوة القرآن ، وعند الزحف ، وعند الجنازة».

والأدب الثاني :

هو ذكر الله كثيرا : بذكره في القلب واللسان ، والتضرع والدعاء بالنصر والظفر ؛ لأن النصر لا يحصل إلا بمعونة الله تعالى ، وذكر الله في أثناء القتال يحقق معنى العبودية لله ، ويشعر بمعنى الإيمان والتفويض لله والتوكل عليه ، ويقوي الروح المعنوية ، فبذكره تطمئن القلوب ، ويؤمّل النصر والفرج ، وبدعائه تتبدد الكروب والمخاوف ، ويحلو الموت في سبيل الله عزوجل.

٢٤

(لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي هذا الثبات وذكر الله من وسائل الفوز بالأجر والثواب ، والنصر على الأعداء. جاء في الحديث المرفوع : يقول الله تعالى : «إن عبدي كل عبدي : الذي يذكرني ، وهو مناجز قرنه» أي لا يشغله ذلك الحال عن ذكري ودعائي واستعانتي ، فذكر الله تعالى ، وعدم نسيانه ، والاستعانة به ، والتوكل عليه ، وسؤاله النصر على الأعداء ، بعد الثبات والصمود والصبر أساس لتحقيق الفوز والغلبة.

وهذا يدل على أن ذكر الله أمر مطلوب في كل أحوال العبد ، سلما وحربا ، صحة ومرضا ، إقامة أو حضرا وسفرا.

والأدب الثالث :

هو الطاعة : طاعة الله والرسول في كل ما أمر العبد به ونهي عنه ، فما أمرنا الله تعالى به ائتمرنا ، وما نهانا عنه انزجرنا ؛ لأن طاعة الله ورسوله من أسباب تحقيق الفوز والنصر في القتال وغيره ، ولأن الطاعة تحقق الانضباط ، وتوفر النظام ، وتقمع الفوضى والتشتت ، وظرف الحرب يقتضي الانضباط واحترام النظام وحبّه في أعلى مستوى وأكمله.

والأدب الرابع :

هو وحدة الصف والكلمة والهدف ، وعدم التنازع والاختلاف ، فإن توحيد الصف والكلمة أمر أساسي عند لقاء العدو ، والتنازع والاختلاف مدعاة للفشل والجبن والخيبة وتغلب العدو.

فإياكم والتنازع ؛ لأنه مهدر للطاقات ، ومقوّض لبنية الجماعات ، وسبيل لإذهاب الحماسة ، وتبديد القوة ، والعصف بوجود الدولة ، وإزالة روح الإقبال والإقدام ، فلقد هلكت الأمم باختلافها وكثرة آرائها واعتراضاتها.

٢٥

والأدب الخامس :

الصبر على الشدائد والمحن ، وتحمل بأس العدو ، فإن الصبر سلاح القوي المقدام ، لذا قيل : الشجاعة : صبر ساعة ، والله مع الصابرين يمدهم بالعون والتأييد والنصر.

والخلاصة : تتضمن الآداب السابقة قواعد حربية ثابتة أساسها الإخلاص في القتال في سبيل الله وكثرة ذكر الله لربط الجيش بربه.

قال ابن كثير : وقد كان للصحابة رضي‌الله‌عنهم في باب الشجاعة ، والائتمار بما أمرهم الله ورسوله به ، وامتثال ما أرشدهم إليه ، ما لم يكن لأحد من الأمم والقرون قبلهم ، ولا يكون لأحد ممن بعدهم ، فإنهم ببركة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطاعته فيما أمرهم ، فتحوا القلوب والأقاليم شرقا وغربا في المدة اليسيرة ، مع قلة عددهم بالنسبة إلى جيوش سائر الأقاليم من الروم والفرس ، والترك ، والصقالبة والبربر ، والحبوش ، وأصناف السودان ، والقبط وطوائف بني آدم. قهروا الجميع حتى علت كلمة الله ، وظهر دينه على سائر الأديان ، وامتدت الممالك الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها في أقل من ثلاثين سنة ، فرضي‌الله‌عنهم وأرضاهم أجمعين ، وحشرنا في زمرتهم ، إنه كريم وهاب(١).

وكما جرت عادة القرآن في الجمع بين الأمر والنهي والتحذير ، أعقب الله تعالى الأمر بالآداب أو القواعد الحربية السابقة ومنها النهي عن التنازع ، بتحذير المؤمنين من التشبه بصنيع المشركين أهل مكة ، فقال : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا ...).

أي لا تتشبهوا بالمشركين أهل مكة حين خرجوا من ديارهم لحماية العير بطرا

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ٣١٦

٢٦

أي دفعا للحق ، وإظهار الفخر والاستعلاء بنعمة القوة أو الغنى أو الزعامة ، ومن أجل مراءاة الناس ، أي المفاخرة والتكبر عليهم ، وعمل ما يحبون أن يراهم الناس عليه ليعجبوا منه ، كما قال أبو جهل لما قيل له : إن العير قد نجت فارجعوا ، فقال : لا والله ، لا نرجع حتى نرد ماء بدر ، وننحر الجزر ، ونشرب الخمر ، وتعزف علينا القيان ، وتتحدث العرب بمكاننا فيها يومنا أبدا.

فامتثلوا ما أمرتم به وانتهوا عما نهيتم عنه ، واحذروا التشبه بأعدائكم المشركين بطرين مترفعين بالنعمة ، مرائين الناس ، فتبدل الحال كله عليهم ، فتجرعوا كأس المنون ، وانقلبوا أذلة صاغرين ، في عذاب سرمدي أبدي.

وأرادوا بخروجهم المنع عن سبيل الله ، أي حجب الناس عن الإسلام والحيلولة بينهم وبين تبليغ الدعوة الإلهية.

وهذه الأفعال التي لا تصدر عادة إلا من أناس امتلأت قلوبهم بالكفر ، والجهل ، والحقد ، هي كلها عوامل دمار وهدم وفناء. لذا تضمنت الآية الزجر والتهديد بخصال الكفار وهي الرياء والبطر والكبر ودفع الحق ومعاداته.

والله بما يعملون محيط ، أي عالم بما جاؤوا به ولأجله ، فيجازيهم عليه شر الجزاء في الدنيا والآخرة ، بمقتضى سنته في ترتيب الجزاء على الأعمال.

وفي هذا حض على إخلاص النية والعمل ، والترغيب في نصرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومؤازرة الدين الذي جاء به من عند الله تعالى.

فقه الحياة أو الأحكام :

تأمر الآيات بقواعد حربية هي عمد ثوابت في نظام الحروب بنحو دائم ، ولا يمكن لجيش قديم أو حديث أن يتخلى عن هذه النصائح التي تكون سببا في إحراز النصر والتقدم والغلبة.

٢٧

وهذه القواعد والنصائح هي الثبات عند اللقاء ، وذكر الله والتضرع إليه واللجوء إلى جنابه ، وطاعة الله والرسول ، أي طاعة التوجيه الإلهي والقائد الحربي الذي لا يأمر عادة إلا بالصواب والحق والمصلحة العامة ، وعدم التنازع والاختلاف ، والصبر عند الشدائد ، وعدم البطر والرياء والكبر والخيلاء.

أما الثبات عند قتال الكفار : فهو كما في الآية المتقدمة التي تنهى عن الفرار عنهم ، فالتقى الأمر والنهي على هدف واحد ، وهو الصمود في المعركة.

وأما ذكر الله في القلب واللسان والدعاء فهو مما يعين على الهدف السابق وهو الثبات على الشدائد ، فيقول المجاهد ما قاله أصحاب طالوت : (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً ، وَثَبِّتْ أَقْدامَنا ، وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) [البقرة ٢ / ٢٥٠]. وهذه الحالة لا تكون ـ كما ذكر القرطبي ـ إلا عن قوة المعرفة ، واتّقاد البصيرة ، وهي الشجاعة المحمودة بين الناس. ثم قال القرطبي : والأظهر أنه ذكر اللسان الموافق للجنان.

وأما طاعة الله ورسوله فهي الواجبة في كل أحوال المسلم ، وبخاصة وقت الحرب والقتال ؛ لأن طاعة القائد الحربي أساس لتماسك الجيش ، وضمان لتقدمه وتوجيهه الوجهة التي يخطط لها القائد تخطيطا سليما. والطاعة العمياء للقائد من أصول الجندية الحديثة المعروفة.

وأما التنازع والاختلاف بين الآراء ووجهات النظر فهو أداة انقسام الجيش ، وإنذار بالهزيمة والتراجع ، وذهاب القوة والنصر والدولة.

وأما الصبر فهو محمود في كل المواطن ، وبخاصة موطن الحرب ؛ كما قال تعالى : (إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا) وقال أيضا : (اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا) [آل عمران ٣ / ٢٠٠] والله مع الصابرين ، والمراد بهذه المعية : النصرة والمعونة.

٢٨

وأما البطر (الفخر والاستعلاء والتكبر) والمراءاة فهما مرض خطير ينخر في تكوين شخصية الإنسان ، ويعجل في تدمير كيان صاحبه.

وأما الصد عن سبيل الله ، أي إضلال الناس فهو أشد إثما من الكفر ؛ لأن كفر الكافر مقصور على نفسه ، والصد يتجاوز الإنسان إلى غيره ، وقد تكرر ذم الصد عن سبيل الله في مواضع كثيرة من القرآن الكريم ، وكان الصدّ ملازما لكفر أهل مكة ، كما قال تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ، أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) [محمّد ٤٧ / ١].

ولما كان أبو جهل وعصبته مجبولين على البطر والمفاخرة والعجب ، وكان صدهم عن سبيل الله حاصلا في زمان نبوة محمد عليه الصلاة والسّلام ، ذكر البطر والرئاء بصيغة الاسم ، وذكر الصد عن سبيل الله بصيغة الفعل.

والخلاصة : أمر الله المؤمنين عند لقاء العدو بالثبات والاشتغال بذكر الله ، ومنعهم أن يكون الباعث لهم على الثبات هو البطر والرئاء ، وإنما الواجب أن يكون الباعث عليه هو طلب عبودية الله تعالى.

وشأن المؤمن إرضاء الرحمن وإظهار العبودية الخالصة لله ، وهو هدف القرآن ، والمعصية مع الحياء والتذلل والانكسار أقرب إلى الإخلاص من الطاعة مع الافتخار.

وضمانا للإخلاص في طلب مرضاة الله ختمت الآية بقوله : (وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) لأن الإنسان ربما أظهر الإخلاص ، والحقيقة بخلافه ، فيكون الله أعلم بما في القلوب. وهذا كالتهديد والزجر عن الرياء والتصنع.

وقد احتج نفاة القياس على عدم مشروعيته بآية (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا ...) لأن القياس يؤدي إلى الاختلاف في الأحكام بسبب اختلاف الأقيسة ، ويردّ عليهم بأنه ليس كل قياس بوجب المنازعة ، والآية في أمور السياسة العامة

٢٩

والمصالح الكبرى التي لا مجال للاختلاف فيها في تقدير المخلصين ، أما القياس في مجال الاجتهاد في الفروع الفقهية ، وجزئيات الأحكام ، فلا عيب فيه ، وهو أمر محمود مطلوب شرعا ، وإن أدى إلى الاختلاف ؛ لأن المجتهد يجب عليه شرعا العمل بما غلب على ظنه.

تبرؤ الشيطان من الكفار وقت أزمة بدر وحين تهكم المنافقين

بالمؤمنين

(وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٨) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٩))

الإعراب :

(لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ لا) : نافية للجنس ، و (غالِبَ) : اسمها المنصوب ، و (لَكُمُ) : في موضع رفع خبر (لا) وتقديره : لا غالب كائن لكم. و (الْيَوْمَ) : منصوب على الظرف ، والعامل فيه (لَكُمُ).

المفردات اللغوية :

(وَإِذْ زَيَّنَ) واذكر إذ زين لهم إبليس أعمالهم بأن وسوس لهم وشجعهم على لقاء المسلمين لما خافوا الخروج من أعدائهم بني بكر. (وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) أي مجير لكم من كنانة ، وكان أتاهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم سيد تلك الناحية. (فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ) التقت واقتربت الجماعة المسلمة والكافرة ، كل منهما من الأخرى (نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) رجع هاربا على عقبيه أي

٣٠

رجع القهقرى وتولى إلى الوراء ، والمراد : أحجم (وَقالَ) لما قالوا له : أتخذلنا على هذه الحال؟ : (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ) من جواركم (إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) من الملائكة (إِنِّي أَخافُ اللهَ) أن يهلكني.

(إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) أي زين لهم الشيطان حين قال المنافقون بالمدينة ، والمنافق : من يظهر الإسلام ويبطن الكفر (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) هم ضعاف الإيمان الذين تملأ قلوبهم الشبهات والشكوك (غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ) يعنون أن المسلمين اغتروا بدينهم وأنهم يتقوون به وينصرون من أجله ، فخرجوا مع قلتهم وهم ثلاثمائة ، وبضعة عشر ، يقاتلون الجمع الكثير وهم زهاء ألف ، توهما أنهم ينصرون بسبب دينهم ، فأجابهم الله بقوله : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي من يثق به يغلب (فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب على أمره ، يسلط القليل الضعيف على الكثير القوي (حَكِيمٌ) في صنعه.

سبب النزول :

نزول الآية (٤٨):

(وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ) : روي أن الشيطان تمثّل لهم يومئذ في صورة سراقة بن مالك بن جعشم ، وهو من بني بكر بن كنانة ، وكانت قريش تخاف من بني بكر أن يأتوهم من ورائهم ؛ لأنهم قتلوا رجلا منهم. وقد وصف الله تعالى ما قال الشيطان لهم. قال الضحاك : جاءهم إبليس يوم بدر برايته وجنوده ، وألقى في قلوبهم أنهم لن يهزموا ، وهم يقاتلون على دين آبائهم.

وذكر البيهقي وغيره عن ابن عباس قال : أمدّ الله نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة ؛ فكان جبريل عليه‌السلام في خمسمائة من الملائكة مجنّبة (١) ، وميكائيل في خمسمائة من الملائكة مجنّبة. وجاء إبليس في جند من الشياطين ومعه راية في صورة رجال من بني مدلج ، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم. فقال الشيطان للمشركين : (لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ ، وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ). فلما اصطفّ القوم قال أبو جهل : اللهم أولانا بالحق فانصره ، ورفع

__________________

(١) مجنبة الجيش : هي التي تكون في الميمنة والميسرة ، وهما مجنبتان.

٣١

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يده فقال : «يا ربّ إنك إن تهلك هذه العصابة ، فلن تعبد في الأرض أبدا» فقال جبريل : «خذ قبضة من التراب» فأخذ قبضة من التراب ، فرمى بها وجوههم ؛ فما من المشركين من أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه. فولوا مدبرين ، وأقبل جبريل عليه‌السلام إلى إبليس ، فلما رآه كانت يده في يد رجل من المشركين ـ قيل : كانت يده في يد الحارث بن هشام ـ ، انتزع إبليس يده ، ثم ولى مدبرا وشيعته ؛ فقال له الرجل : يا سراقة ، ألم تزعم أنك لنا جار؟ قال : (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ ، إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ).

وفي موطأ مالك عن طلحة بن عبيد الله بن كريز أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ما رأى الشيطان نفسه يوما هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة ، وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة ، وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر. قيل : وما رأى يوم بدر يا رسول الله؟ قال : أما إنه رأى جبريل يزع (١) الملائكة».

نزول الآية (٤٩):

(إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) : روي عن مجاهد أنه قال : هم فئة من قريش : قيس بن الوليد بن المغيرة ، والحارث بن زمعة بن الأسود بن المطّلب ، ويعلى بن أمية ، والعاص بن منبّه ، خرجوا مع قريش من مكة ، وهم على الارتياب ، فحبسهم ارتيابهم ، فلما رأوا قلة أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالوا : غرّ هؤلاء دينهم ، حتى أقدموا على ما أقدموا عليه ، مع قلة عددهم ، وكثرة عدد قريش.

المناسبة :

ما تزال الآيات تعرض مواقف وعبرا من مشاهد يوم بدر ، وهنا تذكر

__________________

(١) يزع الملائكة : أي يرتبهم ويسوّيهم ويصفهم للحرب.

٣٢

موقفين : موقف الشيطان كيف تخلص من المشركين وقت اشتداد المحنة ، وموقف المنافقين الذين سخروا من المؤمنين لتهورهم ، قائلين : غرّ هؤلاء دينهم.

التفسير والبيان :

اذكر أيها الرسول حين زين الشيطان للمشركين أعمالهم بوسوسته ، وأوهمهم أنهم لا يغلبون أبدا لكثرة عَددهم وعُددهم ، وأن اتباع خطوات الشيطان وطاعته مما يجيرهم ، وأزال مخاوفهم من إتيان عدوهم بني بكر في ديارهم ، وقال : (إِنِّي جارٌ لَكُمْ) أي مجير لكم من بني كنانة ، وذلك أنه تبدي لهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم سيد بني مدلج كبير تلك الناحية. والجار : المدافع عن صاحبه ، والذائد عنه أنواع الضرر ، كما يدفع الجار عن جاره. وكل ذلك من الشيطان كما قال تعالى عنه : (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) [النساء ٤ / ١٢٠].

فلما تلاقى الفريقان المتقاتلان نكص الشيطان على عقبيه ، أي تراجع مدبرا ، وولّى هاربا ، وتبرأ منهم ، أي بطل كيده حين نزلت جنود الله ، وأيس من حالهم لما رأى إمداد الملائكة للمسلمين ، وأظهر أنه يخاف الله ، والله شديد العقاب في الدنيا والآخرة. وكان خوفه من الملائكة حتى لا تحرق جنوده. وهكذا كان جند الشيطان في مبدأ الأمر مع المشركين يوسوسون لهم ويضللونهم ، وكان الملائكة جند الرحمن مع المؤمنين يثبّتون قلوبهم ويؤيدونهم ويعدونهم بنصر الله تعالى. وقوله : (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) يجوز أن يكون من كلام إبليس ويجوز أن ينقطع كلامه عند قوله : (أَخافُ اللهَ) ثم قال تعالى ذاك.

أما السبب في تغيير صورة إبليس إلى صورة سراقة ، فلإظهار المعجزة العظيمة للرسول عليه الصلاة والسّلام ؛ لأن كفار قريش ، لما رجعوا إلى مكة ، قالوا : هزم الناس سراقة ، فبلغ ذلك سراقة ، فقال : والله ما شعرت بمسيركم ، حتى بلغتني

٣٣

هزيمتكم. فعندئذ تبين للقوم أن ذلك الشخص ما كان سراقة ، بل كان شيطانا (١).

هذا موقف الشيطان ، ثم ذكر الله تعالى موقف المنافقين ، فقال : (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ ...) أي اذكر أيها النبي حين قال المنافقون ومرضى القلوب ، أي ضعفاء الاعتقاد والإيمان ، وقد رأوا قلة المسلمين وكثرة المشركين : (غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ) أي أن المسلمين اغتروا بدينهم ، وتقووا به ، وظنوا أنهم ينصرون من أجله ، فخرجوا وهم ثلاثمائة وبضعة عشر إلى زهاء ألف. وهذا صحيح في موازين القوى العسكرية ، وتقدير مدى تكافؤ الجيشين في أنظار الناس عادة ، ولكنه في ميزان الله وتقديره غير يقيني : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ ، وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة ٢ / ٢٤٩] لذا قال تعالى في ختام الآية : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ...) أي ومن يفوض أمره إلى الله ، ويثق به ، ويلجأ إليه ، فهو حسبه وناصره ومؤيده ، والله عزيز غالب لا يدرك ، حكيم في فعله وصنعه ، عليم بخلقه ، ينصر من يشاء ، وبخاصة اقتضت سنته أن ينصر الحق على الباطل ، ويسلط القليل الضعيف على الكثير القوى. وقوله : (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) يجوز أن يكون من صفات المنافقين ، وأن يراد بهم الذين ليسوا بثابتي الأقدام في الإسلام ، كالمؤلفة قلوبهم ، والأولى أنهما صنف واحد.

فقه الحياة أو الأحكام :

ما أشبه موقف المنافقين بموقف الشيطان ، إنه موقف المتخاذل المتفرج ، المحرّض على الشر ، ثم المتخلي عن المؤازرة وقت الشدة والمحنة.

أما الشيطان : فيوسوس بالباطل لأعوانه ، ثم يحجم عن الشيء الذي زين به ، وحبّب فيه ، وأغرى الناس عليه. فالواجب على العاقل الحذر منه ،

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٥ / ١٧٤ ـ ١٧٥.

٣٤

والتفكير في عواقب الأمور ، وعدم الانسياق في تيار الأهواء والوساوس الشيطانية ، فمن انجرف في سيل الشيطان فإن الله يعاقبه أشد العقاب.

وأما المنافقون (الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر) والذين في قلوبهم مرض (الشاكون ، وهم دون المنافقين ؛ لأنهم حديثو عهد بالإسلام ، وفيهم ضعف النية والاعتقاد) فيصطادون عادة في الماء العكر ، وينتهزون الفرص ، ويوقعون الفتنة ، وينتظرون الانحياز للغالب ويشككون في قوة المؤمنين ، ويتهمونهم بالتهور والطيش ؛ لقلتهم عددا وعددا أمام الكثرة في العدد والعدد.

وقد خيّب الله الفريقين : الشيطان والمنافقين ، فنصر الفئة المؤمنة القليلة على الفئة الكافرة الكثيرة ، والله يؤيد بنصره من يشاء ؛ لأن من يتوكل على الله ، ويفوض أمره إليه ، ويثق به ، ويلجأ إليه ، فإن الله حسبه وناصره ومؤيده.

إهلاك الكفار المشركين لسوء أعمالهم

كإهلاك آل فرعون

(وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٥٠) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٥١) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٥٢) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ

٣٥

وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (٥٤))

الإعراب :

(يَضْرِبُونَ) جملة فعلية في موضع نصب على الحال من (الْمَلائِكَةُ) ولو جعل حالا من (الَّذِينَ كَفَرُوا) لكان جائزا.

(وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) أي يقولون : ذوقوا عذاب الحريق ، وحذف القول كثير في كلام الله تعالى وكلام العرب.

(ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) إنما قال : ذلك ، على خطاب الواحد ، ولم يقل : ذلكم ، على قياس اللغة الأخرى بأن يقال : (ذلكم بما قدمت أيديكم) لأنه أراد به الجمع ، فكأنه قال : ذلك أيها الجمع ، والجمع بلفظ الواحد ، وهما لغتان جيدتان نزل بهما القرآن.

(وَأَنَّ اللهَ ...) إما بالجر عطفا على (بِما) في قوله تعالى : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) وإما بالنصب على تقدير حذف حرف الجر ، وتقديره : وبأن الله ، وإما بالرفع بالعطف على (ذلِكَ) أو على تقدير ذلك.

(كَدَأْبِ) الكاف صفة لمصدر محذوف ، وتقديره : فعلنا ذلك بهم فعلا مثل عادتنا في آل فرعون.

المفردات اللغوية :

(أَدْبارَهُمْ) ظهورهم (الْحَرِيقِ) النار ، وجواب (لَوْ) : لرأيت أمرا عظيما. (ذلِكَ) التعذيب (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) عبر بالأيدي دون غيرها ؛ لأن أكثر الأفعال تزاول بها (لَيْسَ بِظَلَّامٍ) أي بذي ظلم ، فلا يعذب العبيد بغير ذنب. (كَدَأْبِ) كعادة مستمرة ، أي عادة هؤلاء كعادة قوم فرعون. (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ) أي تعذيب الكفرة بسبب أن الله (مُغَيِّراً نِعْمَةً) مبدلا لها بالنقمة (حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) يبدلوا نعمتهم كفرا كتبديل كفار مكة إطعامهم من جوع ، وأمنهم من خوف. (وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ) وكل من الأمم المكذبة.

٣٦

المناسبة :

لما شرح الله تعالى أحوال مشركي مكة من خروجهم إلى قتال المؤمنين بطرا ورياء ، ومن تزيين الشيطان لهم أعمالهم ، وتثبيط المنافقين للمؤمنين ، شرح أحوال موتهم ، والعذاب الذي يلقونه في ذلك الوقت.

التفسير والبيان :

ولو عاينت يا محمد حال الكفار حين تتوفاهم الملائكة ، لرأيت أمرا عظيما هائلا فظيعا لا يكاد يوصف ، فهم يضربون وجوههم وظهورهم بمقامع من حديد ، وينزعون أرواحهم من أجسادهم بشدة وعنف ، قائلين لهم : ذوقوا عذاب الحريق أي عذاب النار في الآخرة ، وهذا إنذار لهم بذلك العذاب.

ذلك العذاب الشديد والضرب الأليم بسبب ما قدمتم من أعمال سيئة ، وارتكبتم من منكرات كالكفر والظلم في حياتكم الدنيا. ونسب ارتكاب المعاصي إلى الأيدي مع أنها تقع بغيرها كالأرجل وسائر الحواس ؛ لأن أكثر الأعمال تقع بها.

جازاكم الله بها هذا الجزاء عدلا لا ظلما ؛ لأن الله لا يظلم أحدا من خلقه ، بل هو الحكم العدل الذي لا يجور أبدا ، ويضع الموازين القسط ليوم القيامة ، ويعطي كل ذي حق حقه ، فلا تظلم نفس شيئا. جاء في الحديث القدسي الصحيح الذي رواه مسلم عن أبي ذررضي‌الله‌عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إن الله تعالى يقول : يا عبادي ، إني حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرما ، فلا تظالموا ... يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه».

ثم عقد الحق تبارك وتعالى مقارنة ، وأعطى شبها ومثلا لعذاب المشركين ،

٣٧

فقال : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ...) أي أنه تعالى فعل بهؤلاء المشركين المكذبين برسالة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكفرهم بها ، كما فعل بالأمم المكذبة قبلهم ، فعادة هؤلاء في كفرهم كعادة آل فرعون (أي قومه) في كفرهم ، فجوزي هؤلاء بالقتل والسبي ، كما جوزي أولئك بالإغراق ، كفر هؤلاء المشركون والكفار بآيات ربهم ، فأهلكهم الله بسبب ذنوبهم ، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر ، فالسنة والعادة في الفريقين واحدة ، والجزاء من جنس العمل.

(إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي إن الله قوي لا يغلبه غالب ، ولا يفوته هارب. روى البخاري ومسلم وابن ماجه عن أبي موسى الأشعري رضي‌الله‌عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته».

ثم أخبر الله تعالى عن تمام عدله وقسطه في حكمه بأنه تعالى لا يغير نعمة أنعمها على أحد إلا بسبب ذنب ارتكبه ، فقال : ذلك العذاب الناجم عن سوء العمل وإهلاك قريش بكفرها بأنعم الله عليها ، بسبب سنته تعالى وحكمته التي اقتضت ألا يغير نعمته على قوم ، حتى يغيروا ما بهم من الحال ، فيكفروا النعمة ، ويبطروا بها ، فاستحقوا تبديل الأوضاع ، كتبديل أهل مكة إطعامهم من جوع ، وأمنهم من خوف ، كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ، وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ ، وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) [الرعد ١٣ / ١١].

وفي هذا دلالة واضحة على أن استحقاق النعم منوط بصلاح العقائد ، وحسن الأعمال ، ورفعة الأخلاق ، وأن زوال النعم يكون بسبب الكفر والفساد وسوء الأخلاق ، إلا أن يكون ذلك استدراجا كما قال تعالى في آية أخرى : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) [القلم ٦٨ / ٤٤].

وكل الناس تحت رقابة الله المتصرف فيهم ، لذا قال : (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ

٣٨

عَلِيمٌ) أي سميع لما يقول مكذبو الرسل ، عليم بما يفعلون.

ثم أكد تعالى الكلام السابق وفصله تفصيلا ، فقال مرة أخرى : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) لترسيخ وجه الشبه ، وبيان المقصود بالكلام الأول من الأخذ وهو الإغراق ، وبيان ما نزل بهم من العقوبة حال الموت ، ثم ما ينزل بهم في القبر في الآخرة ، وتوضيح أن سبب العذاب أولا ـ الكفر بآيات الله ، أي إنكار الدلائل الإلهية ، وثانيا ـ التكذيب بآيات ربهم أي إنكار وجوه التربية والإحسان والنعمة ، مع كثرتها وتواليها عليهم ، فقوله : (بِآياتِ رَبِّهِمْ) زيادة دلالة على كفران النعم وجحود الحق.

والخلاصة : لقد اجتمع في هؤلاء المعذّبين : الكفر بوجود الله ووحدانيته ، وإنكار النعم التي أنعم الله بها عليهم.

وختم تعالى الكلام بقوله : (وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ) أي أن كلا من مشركي قريش وآل فرعون كانوا ظالمي أنفسهم بالكفر والمعصية ، وظالمي سائر الناس بسبب الإيذاء ، وأن الله إنما أهلكهم بسبب ظلمهم وذنوبهم ، وسلبهم تلك النعم التي أسداها إليهم ، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ، أي كانوا هم الظالمين الذي عرّضوا أنفسهم لعذاب الله تعالى ، ولا يظلم ربك أحدا.

وكان عذاب مشركي قريش مقصورا على القتل وسلب النعمة منهم بسبب كفرهم ومعاصيهم. وأما عذاب من قبلهم فكان عذاب استئصال كإغراق آل فرعون وإرسال الريح على عاد ، والصيحة المجاوزة للحد في الشدة (وهي الطاغية) على ثمود.

فقه الحياة أو الأحكام :

ما أتعس حال الكفار ، وإن انغمسوا في الثروة والأموال إلى ما شاء الله!! فإنهم في النتيجة آيلون إلى سوء المصير ، فليست السعادة بالأموال والأولاد كما

٣٩

يتوهم السطحيون ، وإنما السعادة بالإيمان وطمأنينة القلب وتعمير الدنيا بالعمل الصالح للآخرة!!

ما أشقى هؤلاء الكفار قاطبة في كل مكان وزمان ، وليتهم اعتبروا بالعبر والعظات بمن سبقهم في التاريخ!!

لقد اشتد إيذاء المشركين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين ، وقاتلوهم قتالا عنيفا ، وصادروا أموالهم في مكة ، فما ذا كانت النتيجة؟ هل حصدوا خيرا أم جنوا شرا وسوءا؟

إنهم قتلوا في بدر أشد قتلة ، وضربوا قبل نزع أرواحهم بشدة وعنف أشد ضربة. ولو انكشف لنا حالهم أثناء تعذيب الملائكة لهم لرأينا العجب العجاب.

قال الحسن البصري : إن رجلا قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا رسول الله ، إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشّراك (١)؟ قال : ذلك ضرب الملائكة.

ثم إنهم يذوقون في عذاب النار أشد العذاب ، والذوق حسي ومعنوي.

وليس تعذيبهم في الدنيا والآخرة ظلما أو جورا ، فليس الله بظلام للعبيد ، بعد أن أوضح السبيل وبعث الرسل ، وأنعم عليهم بالعقل والقدرة وإزالة الموانع ، فما عليهم إلا أن يشتغلوا بالعبادة والشكر ، ويعدلوا عن الكفر ، فإذا بقوا في الفسق والكفر ، فقد غيروا نعمة الله على أنفسهم ، فاستحقوا تبديل النعمة بالنقمة ، والمنحة بالمحنة. وهذا أدل شيء على أنه تعالى لا يبتدئ أحدا بالعذاب والمضرة ، والذي يفعله لا يكون إلا جزاء على معاص من أنفسهم ، ولو كان تعالى خلقهم وخلق أجسامهم وعقولهم ابتداء للنار ، كما يزعم بعضهم ، لما وافق ذلك عدل الله وحكمته ورحمته.

__________________

(١) الشراك : سير النعل ، جمع أشرك.

٤٠