التفسير المنير - ج ٦

الدكتور وهبة الزحيلي

١
٢

٣
٤

الجهر بالسوء والعفو عنه وإبداء الخير وإخفاؤه

(لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً (١٤٨) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (١٤٩))

الإعراب :

(بِالسُّوءِ) في موضع نصب : لأنه يتعلق بالجهر ، وإعمال المصدر الذي فيه الألف واللام قليل ، وليس في التنزيل إعماله إلا في هذا الموضع ، ولم يعمل في اللفظ وإنما عمل في الموضع.

(إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) : من : في موضع نصب ، لأن الاستثناء منقطع.

البلاغة :

(تُبْدُوا .. أَوْ تُخْفُوهُ) طباق.

المفردات اللغوية :

(لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) أي لا يحب من أحد ذلك بمعنى أنه يعاقبه عليه ، والجهر : الإعلان (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) أي فلا يؤاخذه بالجهر به ، بأن يخبر عن ظلم ظالمة ، ويدعو عليه. (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً) لما يقال (عَلِيماً) بما يفعل.

سبب النزول :

أخرج هناد بن السري عن مجاهد قال : أنزلت (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) في رجل أضاف رجلا بالمدينة ، فأساء قراه ، فتحول عنه ، فجعل يثني عليه بما أولاه ، فرخص له أن يثني عليه بما أولاه ، أي نزلت هذه الآية رخصة في أن يشكو. وهذا مروي أيضا عن ابن جريج.

٥

المناسبة :

الآيتان متصلتان بما قبلهما في الكلام عن المنافقين وكفار أهل الكتاب ، فبعد أن حذر الله المؤمنين من عيوبهم وأعمالهم وصفاتهم وأوضح أنهم في الدرك الأسفل من النار ، أبان حكم الجهر بالسوء من القول وإبداء الخير وإخفائه ، حتى لا يفهم المؤمنين مشروعية الجهر بالسوء من القول على الإطلاق ، وفي ذلك إشاعة الفواحش والعيوب ، وإضرار الأمة ، وإنما المشروعية مقيدة في حال الظلم ، كما أن الإسرار بالخير والجهر به سواء.

التفسير والبيان :

يعاقب الله تعالى المجاهر بسوء القول ، أي بذكر عيوب الناس وتعداد سيئاتهم ، لأنه يؤدي إلى إثارة العداوة ، والكراهة والبغضاء ، ويزرع الأحقاد في النفوس ، ويسيء أيضا إلى السامعين ، فيجرئهم على اقتراف المنكر ، وتقليد المسيء ، ويوقعهم في الإثم ، لأن سماع السوء كعمل السوء.

وكذلك الإسرار بسوء القول محرّم ومعاقب عليه ، إلا أن الآية نصت على حالة الجهر ، لأن ضرره أشد ، وفساده أعم وأخطر ، لذا قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ، وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النور ٢٤ / ١٩].

ثم استثنى الله تعالى حالة يجوز فيها إعلان السوء من القول : وهي حالة الشكوى من ظلم الظالم لحاكم أو قاض أو غيره ممن يرجى منه رفع ظلامته وإغاثته ومساعدته في إزالة الظلم. والشكوى على الظالم أمر مطلوب شرعا ، إذ لا يحب الله لعباده أن يسكتوا على الظلم ، أو أن يخضعوا للضيم أو أن يقبلوا المهانة ويسكتوا على الذل ، روى الإمام أحمد : «إن لصاحب الحق مقالا». وهذا من قبيل ارتكاب أخف الضررين ودفع أعظم الشرين.

٦

وكل من حالتي جواز الجهر بالسوء من القول وعدم الجواز في ظل رقابة دقيقة من الله تعالى ، فهو سميع لكل ما يقال ، مطلع على البواعث والنيات المؤدية للأقوال ، عليم بكل ما يصدر عن الخلق من أفعال وتصرفات ، فيثيب المحق ، ويعاقب المبطل ، ويعين على دفع الظلم ، ويجازي كل ظالم على ظلمه.

وإبداء الخير من قول أو فعل ، أو إخفاؤه ، أو العفو عمن أساء يجازي الله تعالى عليه خيرا ، بل يرغب فيه ، فالله تعالى يحبّ فعل الخير ، ويعفو عن السّيئات ، وهو مع ذلك قادر تمام القدرة على معاقبة المسيء ، والتّخلّق بأخلاق الله تعالى أمر حسن مرغّب فيه.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت الآيتان على ما يأتي :

١ ـ الجهر بالسوء من القول بإشاعة عيوب الناس أمر منكر يعاقب الله تعالى عليه.

٢ ـ يباح للمظلوم اللجوء إلى القضاء والشكوى لرفع الظلم ووصف فعل الظالم ، كما أنه يجوز الدّعاء على الظالم ، ودعوة المظلوم مستجابة ، روى الحاكم عن ابن عمر : «اتّقوا دعوة المظلوم ، فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة» وروى الطبراني والضياء عن خزيمة بن ثابت : «اتّقوا دعوة المظلوم ، فإنها تحمل على الغمام ، يقول الله : وعزتي وجلالي لأنصرنّك ولو بعد حين».

وقال ابن عباس وغيره : المباح لمن ظلم أن يدعو على من ظلمه ، وإن صبر فهو خير له.

وقال الحسن البصري : لا يدع عليه ، وليقل : اللهم أعنّي عليه ، واستخرج حقّي منه. والذي يقتضيه ظاهر الآية أن للمظلوم أن ينتصر من ظالمة ، ولكن

٧

مع اقتصاد إن كان مؤمنا ، كما قال الحسن في رواية أخرى عنه. لكن لا يجوز مقابلة الشتم أو القذف بمثله ، وإنما يلجأ إلى القضاء.

٣ ـ استدلّ من أوجب الضيافة بهذه الآية ، قالوا : لأن الظلم ممنوع منه ، فدلّ على وجوبها. وهو قول الليث بن سعد.

وذهب الجمهور إلى أن الضيافة من مكارم الأخلاق.

٤ ـ الاعتدال في طلب الحقّ أمر مطلوب شرعا ، لأن قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً) تحذير للظالم حتى لا يظلم ، وللمظلوم حتى لا يتعدى الحدّ في الانتصار.

٥ ـ التعاون في إزالة الظلم من أصول الإسلام ، قال عليه الصّلاة والسّلام فيما رواه الطبراني عن النعمان بن بشير ، وهو ضعيف : «خذوا على أيدي سفهائكم» وقال فيما رواه أحمد والبخاري والترمذي عن أنس : «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» قالوا : هذا ننصره مظلوما ، فكيف ننصره ظالما؟ قال : «تجزه عن الظلم فإن ذلك نصره».

٦ ـ إبداء الخير حسن لمن عمر قلبه بالإيمان والإخلاص ، أو قصد ترغيب الناس وحضّهم على فعل الخير. وإخفاء الخير أفضل إن خيف شيء من الرياء المحبط للأجر والثواب. وهذا بيان وجه الأفضلية ، أما الأصل الذي نصّت عليه الآية لإحراز الثواب على فعل الخير غير المصحوب بالرياء : فهو أن إبداء الخير وإخفاءه سواء.

٧ ـ العفو عن المسيء مندوب إليه ومرغّب فيه ، لأن العفو من صفة الله تعالى ، مع القدرة على الانتقام. روى ابن المبارك عن الحسن يقول : إذا جثت الأمم بين يدي ربّ العالمين يوم القيامة نودي : ليقم من أجره على الله ، فلا يقوم إلا من عفا في الدّنيا ، يصدق هذا الحديث قوله تعالى : (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ). [الشورى ٤٢ / ٤٠] وروى أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة أن

٨

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما نقصت صدقة من مال ، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزّا ، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله».

الكفر والإيمان وجزاء كلّ

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١٥٠) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٥١) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٥٢))

الإعراب :

(حَقًّا) مصدر مؤكّد لمضمون الجملة قبله.

(وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ) للكافرين يقوم مقام المفعول الثاني لأعتدنا.

البلاغة :

(نُؤْمِنُ ... وَنَكْفُرُ) طباق.

المفردات اللغوية :

(نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ) من الرّسل. (وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) منهم. (وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ) الكفر والإيمان. (سَبِيلاً) طريقا يذهبون إليه. (وَأَعْتَدْنا) هيأنا وأعددنا. (عَذاباً مُهِيناً) ذا إهانة وهو عذاب النار. (أُجُورَهُمْ) ثواب أعمالهم. (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) للطائعين. (رَحِيماً) بأهل طاعته.

٩

المناسبة :

بعد أن حذّر الله تعالى من مصاحبة الكفار ومصادقتهم ومناصحتهم ، وندّد بخصال المنافقين ، ونبّه المؤمنين إلى ما يباح إعلانه من سوء القول ، أوضح سبب كفر أهل الكتاب ، من طريق بيان ركني الإيمان وهما : الإيمان بالله تعالى ، والإيمان بجميع الرّسل دون تفرقة بين رسول وآخر ، فمن آمن ببعض الرّسل وكفر ببعض آخر ، فهو من الكافرين الذين استحقّوا العقاب في نار جهنم. أي أنه تعالى لما ذكر المشركين والمنافقين ذكر الكفار من أهل الكتاب: اليهود والنصارى.

التفسير والبيان :

يتوعّد الله تعالى في هذه الآيات الكافرين به وبرسله ، من اليهود والنصارى ، حيث فرّقوا بين الله ورسله في الإيمان ، فآمنوا ببعض الأنبياء ، وكفروا ببعض ، تعصّبا وتمسّكا بالموروث ، واعتصاما بالأهواء والشهوات ، فاليهود آمنوا بالأنبياء إلا عيسى ومحمدا عليهما الصّلاة والسّلام ، والنصارى آمنوا بالأنبياء وكفروا بخاتمهم وأشرفهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فمن كفر بنبيّ من الأنبياء فقد كفر بسائر الأنبياء ، لأن الإيمان بسائر الأنبياء واجب ، فمن ردّ نبوّة نبيّ للحسد أو العصبيّة أو التّشهي ، تبيّن أن إيمانه بمن آمن به من الأنبياء ليس إيمانا شرعيا ، إنما هو عن غرض وهوى وعصبيّة.

ولهذا قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ) فوسمهم بأنهم كفار بالله ورسله ، (وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ) أي في الإيمان (وَيَقُولُونَ : نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ ، وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) أي طريقا ومسلكا وسطا بين الإيمان والكفر ، ودينا مبتدعا بين الإسلام واليهودية ، هؤلاء أخبر تعالى عنهم فقال : (أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا) أي كفرهم محقّق لا محالة بمن ادّعوا الإيمان به ، لأنه ليس شرعيّا ، إذ لو كانوا مؤمنين به

١٠

لكونه رسول الله ، لآمنوا بنظيره ، وبمن هو أوضح دليلا وأقوى برهانا منه ، والله تعالى أعدّ وهيّأ لكلّ كافر مطلقا بالدّين ، أو لمن كفر بسبب إيمانه ببعض الرّسل وعدم إيمانه برسل آخرين ، أعدّ للكافرين عذابا فيه ذلّ وإهانة لهم ، جزاء كفرهم.

وبه يتبيّن أن الكفر بالرّسل نوعان : كفر بجميع الرّسل ، وكفر ببعض الرّسل ، وأصحاب الكفر الأول لا يؤمنون بأحد من الأنبياء ، لإنكارهم النّبوات ، وأهل الكفر الثاني يؤمنون ببعض الأنبياء ولا يؤمنون ببعض آخر ، مثل اليهود الذين يؤمنون بموسى عليه‌السلام ويكفرون بعيسى ومحمد عليهما‌السلام ، والنصارى الذين يؤمنون بموسى وعيسى ويكفرون بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والفريقان سواء في استحقاق العذاب ، لأن الإيمان بالله ورسله لا يتجزأ ، فمن آمن حقيقة بالله ، آمن بجميع رسله الذين أرسلهم لهداية الناس ، فهو مصدر الإرسال ، والرّسل سفراء بين الله وخلقه ، فلا يتصور إيمان بالله وكفر ببعض رسله. وحينئذ لا يقبل إيمان بموسى وكفر بعيسى ، وإيمان بجميع الرّسل وكفر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهو مذكور في كتبهم ، ومبشّر به عندهم ، ومصدّق لما معهم ، والقرآن مهيمن على ما سبقه من الكتب السماوية ، والله أعلم حيث يجعل رسالته ، وهو سبحانه القائل : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) [المائدة ٥ / ٤٨].

ثم قرن الله تعالى بالفريقين السابقين الكلام عن فريق ثالث : وهم المسلمون ، للمقارنة والعظة والعبرة ، وهم الذين آمنوا بالله وجميع رسله ، فإنهم يؤمنون بكلّ كتاب أنزله الله تعالى ، وبكلّ نبيّ بعثه الله ، كما قال تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ، كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ، لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ...) [البقرة ٢ / ٢٨٥].

هؤلاء أعدّ الله لهم الجزاء الجزيل ، والثواب الجليل : (أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ

١١

أُجُورَهُمْ) على ما آمنوا بالله ورسله (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي غفورا لذنوبهم إن كان لبعضهم ذنوب ، رحيما بهم يعاملهم بالإحسان ويضاعف حسناتهم ، كما أنه تعالى رحيم بجميع عباده حيث أرسل لهم الرّسل لهدايتهم ، وبيان المنهج الأسلم ، والطريق المستقيم الأفضل.

فقه الحياة أو الأحكام :

الإيمان والكفر ضدّان لا يجتمعان ، والإيمان لا يتجزّأ ، وجزاء الكفر واحد ، وإن تعددت أشكاله ، فمن أنكر الأديان والنّبوّات ، ومن ألحد فلم يؤمن بوجود الله ووحدانيته ، ومن كفر بجميع الرّسل ، أو آمن ببعضهم وكفر ببعضهم الآخر ، فهو كافر ، ويكون أهل الكتاب من اليهود والنصارى من الكفار ، لأنهم كفروا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والآية بيّنت أن الكفر به ، كفر بالكلّ ، لأنه ما من نبيّ إلا وقد أمر قومه بالإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبجميع الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام ، ونصّ سبحانه على أنّ التفريق بين الله ورسله كفر ، وإنما كان كفرا لأن الله سبحانه فرض على الناس أن يعبدوه بما شرع لهم على ألسنة الرّسل ، فإذا جحدوا الرّسل ، ردّوا عليهم شرائعهم ولم يقبلوها منهم ، وكأن ردّ الشرائع كجحد الصانع سبحانه ، وجحد الصانع كفر.

ونصّ سبحانه أيضا على أن الإيمان ببعض الرّسل والكفر ببعض كفر بالكلّ. واتّخاذ طريق وسط بين الإيمان والكفر أو دين مبتدع بين الإسلام واليهودية مرفوض في شرعة القرآن.

وأكّد تعالى أن ذلك لا ينفعهم إذا كفروا برسوله بقوله : (أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا) وإذا كفروا برسوله فقد كفروا به عزوجل ، وكفروا بكلّ رسول مبشّر بذلك الرّسول ، فلذلك صاروا الكافرين حقّا.

١٢

وجزاء الكفر ما صرحت به الآية : (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) أي أعتدنا وهيأنا لجميع أصناف الكفار عذابا مذلّا.

أما المسلمون وهم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته ، الذين صدقوا بوجود الله ووحدانيته ، وآمنوا بجميع الرّسل ، فلم يفرّقوا بين أحد منهم ، فسوف يؤتيهم الله ثواب أعمالهم ، والله غفور للعصاة منهم ، رحيم بالعباد فلا يعجل لهم العذاب ، وإنما يترك لهم فرصة للتوبة والإنابة ، ويهديهم بالقرآن والرّسل والعقل والحواس والتّجارب المتكرّرة والأحداث التي توقظ مشاعر الإيمان ، يهديهم صراطا مستقيما.

مواقف اليهود المتعنتة

(يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (١٥٣) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (١٥٤) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها

١٣

بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥٥) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (١٥٦) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٥٨) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (١٥٩))

الإعراب :

(جَهْرَةً) نعت لمصدر محذوف أي رؤية جهرة. (لا تَعْدُوا) فيه ثلاث قراءات : لا تعدوا : بسكون العين مع تخفيف الدّال ، وبسكون العين مع تشديد الدّال ، وبفتح العين مع تشديد الدّال. والقراءة الثانية ضعيفة في القياس ، لما أدت إليه من الاجتماع بين الساكنين على غير حدّه.

(فَبِما نَقْضِهِمْ) ما : زائدة للتوكيد ، وهو رأي الأكثرين ، والباء للسببية متعلقة بمحذوف أي لعنّاهم بسبب نقضهم.

(بُهْتاناً) منصوب بالمصدر على حدّ قولهم : قلت شعرا وخطبة ، لأن القول يعمل فيما كان من جنسه. (عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) عيسى : منصوب على البدل. وفي نصب ابن مريم وجهان : إما على الوصف أو على البدل. (إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ) منصوب ، لأنه استثناء منقطع من غير الجنس أي لكن ، ويجوز رفعه على البدل من محل إعراب من (عِلْمٍ) ومحله الرفع ، لأن تقديره : ما لهم به علم ، مثل : (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) [الأعراف ٧ / ٥٩ ومواضع أخرى] وتقديره : ما لكم إله غيره.

(يَقِيناً) إما منصوب على الحال من واو (قَتَلُوهُ) أي متيقنين ، أو على الحال من هاء (قَتَلُوهُ) أي ما قتلوه متيقنا بل مشكوكا فيه ، أو لأنه صفة مصدر محذوف وتقديره : وما قتلوه قتلا متيقنا. والهاء في قتلوه يجوز أن تكون لعيسى كما في قوله : (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ) ويجوز أن تكون الهاء للعلم ، والمعنى : وما قتلوه علمهم به يقينا. (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) إن هنا للنفي ، ومعناه : وما من أهل الكتاب أحد إلّا ليؤمنن به أي بعيسى. وأما هاء (قَبْلَ مَوْتِهِ) ففيه وجهان : أن يكون المراد به كل واحد من الكفار من أهل الكتاب وغيرهم لظهور الحقيقة له عند موته ، أو تكون الهاء لعيسى لأنه ينزل في آخر الزمان إلى الأرض ، فيؤمن به من كان مكذبا له من اليهود وغيرهم ، وهذا الوجه مخالف لظاهر الآية ، والوجه الأول أصح.

١٤

البلاغة :

(عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ) وصفوه بالرسالة على سبيل التهكم والاستهزاء ؛ لأنهم لا يؤمنون برسالته.

(فَبِما نَقْضِهِمْ) زيادة الحرف للتأكيد ، أي فبنقضهم.

(وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ) مجاز مرسل حيث أطلق الكل وأريد البعض. وكذلك في قوله : (وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ) مجاز مرسل ؛ لأنهم كفروا بالقرآن والإنجيل دون غيرهما (قُلُوبُنا غُلْفٌ) استعارة ، استعار الغلاف لعدم الفهم.

(وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ) مجاز مرسل حيث أطلق الكل وأريد البعض.

المفردات اللغوية :

(يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ) أي اليهود إنزال كتاب جملة واحدة من السماء ، كما أنزل على موسى تعنتا. (فَقَدْ سَأَلُوا) أي آباؤهم. (جَهْرَةً) أي رؤية جهرة عيانا. (الصَّاعِقَةُ) النار النازلة من السماء التي أدت بهم إلى الموت عقابا على التعنت في السؤال والظلم. (الْبَيِّناتُ) المعجزات الدّالة على وحدانية الله ، والدلائل الواضحة على نبوّة موسى كفلق البحر واليد البيضاء والعصا. (فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ) ولم نستأصلهم. (وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً) تسلّطا بيّنا ظاهرا عليهم ، حيث أمرهم بقتل أنفسهم توبة ، فأطاعوه.

(الطُّورَ) الجبل الذي كانوا مقيمين أسفله ، رفعه فوقهم ليخافوا فيقبلوا الميثاق.

(بِمِيثاقِهِمْ) بسبب أخذ الميثاق عليهم ، فلا ينقضوه. (ادْخُلُوا الْبابَ) باب القرية.

(سُجَّداً) سجود انحناء ، أي خاضعين متذللين. (لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ) لا تتجاوزوا ما أبيح لكم ولا تنتهكوا حرمة السبت باحتيال اصطياد الحيتان فيه.

(غُلْفٌ) جمع غلاف ، أي مغطاة بأغطية تجعلها لا تعي ما تقول.

(طَبَعَ) ختم عليها بالخاتم بسبب كفرهم ، فلا تعي وعظا. (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه. (بُهْتاناً) كذبا مفترى يبهت صاحبه ويدهشه ، حيث رموا السيدة مريم بالزنى. (إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) أي في زعمهم ، فبمجموع ذلك عذبناهم.

سبب النزول :

أخرج ابن جرير الطبري عن محمد بن كعب القرظي قال : جاء ناس من

١٥

اليهود إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : إن موسى جاءنا بالألواح من عند الله ، فأتنا بالألواح حتى نصدقك ، فأنزل الله : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ) إلى قوله : (بُهْتاناً عَظِيماً) فجثى رجل من اليهود فقال : ما أنزل الله عليك ولا على موسى ولا على عيسى ولا على أحد شيئا ، فأنزل الله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ).

وروي أن كعب بن الأشرف وفنحاص بن عازوراء وغيرهما قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن كنت نبيّا صادقا ، فأتنا بكتاب من السماء جملة ، كما أتى به موسى ، فنزلت. وقال ابن جريج : سألوه أن ينزل عليهم صحفا من الله مكتوبة إلى فلان وفلان وفلان بتصديقه فيما جاءهم به.

ومن المعلوم عند المفسّرين أن اليهود سألت محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يصعد إلى السماء ، وهم يرونه ، فينزل عليهم كتابا مكتوبا فيما يدّعيه على صدقه دفعة واحدة ، كما أتى موسى بالتوراة ؛ تعنّتا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأعلم الله عزوجل أن آباءهم قد عنتوا موسى عليه‌السلام بأكبر وأعظم من هذا ، فقالوا : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) أي عيانا.

وهذا إنما قالوه على سبيل التّعنّت والعناد والكفر والإلحاد ، كما سأل كفار قريش قبلهم نظير ذلك ، كما هو مذكور في سورة الإسراء : (وَقالُوا : لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) [١٧ / ٩٠].

المناسبة :

الآيات مرتبطة بما قبلها ، فموضوعها أهل الكتاب ، وكانت الآيات السابقة تبيانا لكفرهم إذ قالوا : نؤمن ببعض الرّسل ونكفر ببعض ، وهذه الآيات تدلّ على تعنّتهم وتصلّبهم ومطالبتهم بأشياء على سبيل العناد والإلحاد.

التفسير والبيان :

يطلب منك أهل الكتاب من اليهود أن تنزل عليهم كتابا مكتوبا بخطّ

١٦

سماوي يشهد أنك رسول الله إليهم. وهذا دليل على جهلهم بحقيقة الدّين ومعنى النّبوّة والرّسالة ، وعدم إدراكهم معنى المشيئة الإلهية والحكمة الرّبّانية : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ ، فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ ، لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا : إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) [الأنعام ٦ / ٧] ، وسبب الجهل أنهم لا يميزون بين الآيات الصحيحة التي يؤيد الله بها رسله وبين الشعوذة وحيل السحرة المثيرة للدهشة والعجب.

وسؤالهم ذلك ليس بنيّة حسنة ، فهو لا من أجل الإقناع وطلب الحجّة والبرهان بصدق ويقين ، وإنما هو من قبيل التعنّت والتّعجيز والإحراج. قال الحسن البصري : لو سألوه ذلك استرشادا لأعطاهم ما سألوا.

ولا تعجب يا محمد من سؤالهم ، فقد سألوا موسى أعظم من هذا ، فقالوا : أرنا الله رؤية جهرة عيانا ، بلا حواجز ولا حجب ، وذلك دليل على الجهل بالله تعالى ؛ إذ هم ظنّوا أن الله جسم محدود تدركه الأبصار.

ونسب السؤال إلى اليهود المعاصرين للنّبوّة ، مع أن السؤال من آبائهم ؛ لأنهم ورثتهم المقلّدون لهم الرّاضون بفعلهم ، وهو مظهر من مظاهر تكافل الأمة الواحدة حال الرّضا بفعل بعض أفرادها.

وكان عقابهم على هذا الطلب المصحوب بالتعجيز والمراوغة نزول الصاعقة التي أماتتهم ، ثم أحياهم الله. والصواعق : شرارات كهربائية تنشأ بسبب اصطكاك الأجرام السماوية.

والإحياء مفسّر في سورة البقرة حيث يقول تعالى : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ، ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة ٢ / ٥٥ ـ ٥٦].

١٧

وبعد الإحياء اتّخذوا العجل إلها من بعد ما رأوا من الآيات الباهرة ، والأدلّة القاهرة على يد موسى عليه‌السلام في بلاد مصر ، وما كان من إهلاك عدوّهم فرعون وجميع جنوده في اليمّ ، فما جاوزوه إلا يسيرا حتى أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم ، فقالوا لموسى : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ). وذكر تعالى قصة اتّخاذهم العجل في سورة الأعراف الآية (١٥٢) ، وفي سورة طه (٨٨) بعد ذهاب موسى إلى مناجاة الله عزوجل ، ولما رجع إليهم تابوا مما صنعوا ، فقتل بعضهم بعضا ، قتل من لم يعبد العجل منهم من عبده ، ثم أحياهم الله عزوجل ، فعفا عنهم حين تابوا ، وآتى الله موسى سلطانا مبينا ، أي سلطة ظاهرة وحجّة قويّة بيّنة واضحة ، كالعصا وفلق البحر واليد البيضاء. وسمّيت سلطانا ؛ لأن من جاء بها قاهر بالحجّة ، وهي قاهرة القلوب ، بأن تعلم أنه ليس في قوى البشر أن يأتوا بمثلها.

وكانت توبتهم بقتل بعضهم بعضا حتى قيل لهم : كفّوا ، فكان ذلك شهادة للمقتول وتوبة للحيّ ، كما قال تعالى في سورة البقرة : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة ٢ / ٥٤].

وكان من عجائب أحوالهم وأساليب تأديبهم أن الله تعالى رفع فوقهم جبل الطور ، كأنه ظلّة ، وقد كانوا في واديه ، وذلك حين امتنعوا من الالتزام بأحكام التوراة ، وأبوا إطاعة ما جاء به موسى عليه‌السلام ، فكان عقابهم بسبب ميثاقهم الذي أخذه الله عليهم أن يعملوا بما أنزل إليهم بقوّة وإخلاص.

ثم ألزموا بالطاعة فالتزموا وسجدوا ، وجعلوا ينظرون إلى فوق رؤوسهم خشية أن يسقط عليهم ، كما قال تعالى : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ ، خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) [الأعراف ٧ / ١٧١].

١٨

وأمروا أن يدخلوا باب القرية أي بيت المقدس سجّدا أي خاضعين متذللين ، وهم يقولون : حطّة ، أي اللهم حطّ عنّا ذنوبنا في تركنا الجهاد ، ونكولنا عنه حتى تهنا في التيه أربعين سنة ، فخالفوا ما أمروا به من القول والفعل ، ودخلوا يزحفون على أستاههم وهم يقولون : حنطة في شعرة.

وأوصاهم الله تعالى بحفظ السبت والتزام ما حرم الله عليهم ما دام مشروعا لهم ، فقال لهم على لسان داود عليه‌السلام : لا تعدوا في السبت ، أي لا تتجاوزوا حدود الله فيه بالعمل الدّنيوي ، فخالفوا واحتالوا بحيلتهم المعروفة باصطياد الحيتان فيه : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) [البقرة ٢ / ٦٥].

وأخذ الله منهم ميثاقا غليظا ، أي عهدا مؤكّدا شديدا على الأخذ بالتوراة بجدّ وقوّة ، والعمل بها ، وعدم كتمان البشارة بعيسى ومحمد عليهما الصّلاة والسّلام ، فخالفوا وعصوا وتحايلوا على ارتكاب ما حرّم الله عزوجل ، كما ورد في سورة الأعراف : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) [الأعراف ٧ / ١٦٣].

ثم ذكر تعالى بعد هذا الميثاق أسباب ما حلّ بهم من عقاب وغضب الله ، مما يعدّ أقبح المخالفات : وهي نقض الميثاق الذي أخذه الله عليهم ، فأحلّوا حرامه ، وحرّموا حلاله : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) أي فبسبب نقض اليهود الميثاق ، وكفرهم بآيات الله الدّالة على صدق أنبيائه ، وقتلهم الأنبياء كزكريا ويحيى عليهما‌السلام بغير ذنب ، وقولهم : قلوبنا مغلفة بغلاف ، فلا يصل إليها شيء مما تدعو إليه : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ) [فصلت ٤١ / ٥] فردّ الله عليهم بأن ذلك

١٩

ليس هو الواقع ، وإنما ختم الله عليها بسبب كفرهم بعيسى ومحمد عليهما‌السلام ، فلا يصل إليها نور الهداية كالنّقود المسكوكة لا تقبل نقشا آخر ، فهم لا يؤمنون إلا إيمانا قليلا من بعضهم مثل عبد الله بن سلام وأصحابه.

وكفرهم بعيسى عليه‌السلام والإنجيل واتهام مريم البتول العذراء بالفاحشة ، ورميهم لها برجل صالح فيهم هو يوسف النجار ، وهذا بهتان عظيم وكذب مفترى يدهش البريء ، وزعمهم أنهم قتلوا عيسى ابن مريم ، ووصفوه بأنه رسول الله تهكما واستهزاء بدعوته ، ووصفه القرآن بأنه : ابن مريم للرد على النصارى القائلين بأنه ابن الله. ورد الله عليهم : والحال أنهم ما قتلوه وما صلبوه كما ادعوا ، ولكن ألقى الله الشبه على رجل آخر فصلبوه ، وما قتلوه يقينا أي متيقنين أنه عيسى ذاته بعينه ؛ لأن الجند الذين قتلوه وصلبوه ما كانوا يعرفونه ، والمعروف في الأناجيل أن الذي أسلمه إلى الجند هو يهوذا الأسخريوطي.

وإن اختلفوا في صلب المسيح ، أهو المصلوب أم غيره؟ لفي شك وتردد من حقيقة أمره ، وليس لهم علم يقيني مقطوع به ، وإنما هم يتبعون الظن والقرائن والأمارات غير المؤدية إلى الحق.

وإنما أنجاه الله من أيدي اليهود ورفعه إليه ، كما قال تعالى في سورة آل عمران : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [آل عمران ٣ / ٥٥] قال ابن عباس : إني متوفيك أي مميتك. وقال وهب : أماته الله ثلاثة أيام ثم بعثه ثم رفعه. وقال ابن جرير : توفيه هو رفعه (١) ، وقال الأكثرون : المراد بالوفاة هاهنا النوم ، كما قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) [الأنعام ٦ / ٦٠] وقال تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) [الزمر ٣٩ / ٤٢]. قال الحسن البصري : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) تفسير الطبري : ٣ / ٢٠٣ وما بعدها.

٢٠