التفسير المنير - ج ٢٦

الدكتور وهبة الزحيلي

١
٢

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الأحقاف

مكيّة ، وهي خمس وثلاثون آية.

تسميتها :

سميت (سورة الأحقاف) للحديث فيها عن الأحقاف : وهي مساكن عاد في اليمن الذين أهلكهم الله بريح صرصر عاتية بسبب كفرهم وطغيانهم ، في قوله تعالى : (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ ..) [٢١].

مناسبتها لما قبلها :

تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجوه ثلاثة هي :

١ ـ تطابق مطلع السورتين في : (حم ، تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ).

٢ ـ تشابه موضوع السورتين وهو إثبات التوحيد والنبوة والوحي والبعث والمعاد.

٣ ـ ختمت السورة السابقة بتوبيخ المشركين على الشرك ، وبدئت هذه السورة بتوبيخهم على شركهم ، ومطالبتهم بالدليل عليه ، وبيان عظمة الإله الخالق المجيب من دعاه ، على عكس تلك الأصنام التي لا تستجيب لدعاتها إلى يوم القيامة.

٥

ما اشتملت عليه السورة :

موضوع هذه السورة كسائر موضوعات السور المكية وهو إثبات أصول العقيدة الإسلامية الثلاثة : وهي التوحيد ، والرسالة والوحي ، والبعث والجزاء.

بدأت السورة بالحديث عن تنزيل الكتاب وهو القرآن من الله تعالى ، وإنما كرر لأنه بمنزلة عنوان الكتب (الكتابة) ثم أقامت الأدلة على وجود الإله والتوحيد والحشر ، وذمّت المشركين عبدة الأصنام ، وردّت عليهم ردا دامغا مقنعا ، وأجابت عن شبهاتهم حول الوحي والنبوة.

ثم ذكرت حال فريقين : فريق أهل الاستقامة الذين أقروا بتوحيد الله واستقاموا على ملّته ، وأطاعوا والديهم وأحسنوا إليهم ، فكانوا أصحاب الجنة ، وفريق الكافرين الخارجين عن هدي الفطرة ، المنهمكين في شهوات الدنيا ، المنكرين البعث والحساب ، العاقين لوالديهم ، بالتنكر للإيمان والمعاد ، فكانوا أصحاب النار.

ثم ضربت المثل بقصة هود عليه‌السلام مع قومه «عاد» الطغاة الذين اغتروا بقوتهم ، وأصروا على عبادة الأصنام ، فأهلكهم الله بريح عاتية ، تدمّر كل شيء بأمر ربها ، إرهابا لكفار قريش ، وتحذيرا من استبدادهم وتكذيبهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنذارا بعذاب مماثل جزاء استهزائهم.

كما ذكّرتهم بإهلاك القرى المجاورة ، وبمبادرة الجن إلى الإيمان بما سمعوه من آيات القرآن ، ودعوة قومهم إلى إجابة نبي الله والإيمان برسالته ، فإن من عاند وأعرض عن إجابة داعي الله ، فهو في ضلال مبين.

ثم ختمت السورة بالتأكيد على قدرة الله على البعث ، لأنه خالق السموات والأرض ، وبأن تعذيب الكافرين بالنار حق كائن لا محالة ، وبالتهديد بأهوال القيامة ، وبأن العذاب أو الهلاك لا يكون إلا للقوم الفاسقين الخارجين عن حدود

٦

الله وطاعته ، فما على الرسول إلا الصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ، وعدم استعجال العذاب.

إثبات وجود الله تعالى ووحدانيته ووقوع الحشر والرد على عبدة الأوثان

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦))

الإعراب :

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ) مبتدأ وخبر.

(ما ذا خَلَقُوا) مفعول به ثان ل (أَرُونِي).

البلاغة :

(الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) صيغة مبالغة.

(أَرَأَيْتُمْ) فيه مجازان ، حيث أطلق الرؤيا وأراد الإخبار ، والعلاقة السببية ، واستعمل

٧

همزة الاستفهام في الأمر ، لأن كلّا من الاستفهام والأمر يدل على الطلب ، و (أَرُونِي) توكيد لأرأيتم.

(ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا) أمر يراد به التعجيز.

(يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ) بينهما جناس اشتقاق.

(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ) استفهام على سبيل الإنكار ، أي لا أحد أبعد عن الحق وأقرب إلى الجهل ممن يدعو الأصنام من دون الله ، فيتخذها آلهة ويعبدها ، وهي إذا دعيت لا تسمع.

المفردات اللغوية :

(حم) هذه الحروف المقطعة للدلالة على إعجاز القرآن وتحدي العرب في أنه منظوم من حروفهم الهجائية ، وللتنبيه على خطورة ما يتلى في السورة (الْكِتابِ) القرآن الكامل في كل شيء ، وإنما كرر مع بداية السورة السابقة لتأكيد مدلول الكتابة (الْعَزِيزِ) القوي القاهر في ملكه (الْحَكِيمِ) في تدبيره وصنعه ، يضع كل أمر في موضعه (إِلَّا بِالْحَقِ) أي إلا خلقا ملازما للحق : وهو ما تقتضيه الحكمة والعدل ، للدلالة على قدرة الله ووحدانيته ، وفيه دلالة على وجود الصانع الحكيم والبعث للجزاء والحساب (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) أي بتقدير أجل مسمى ينتهي إليه الكل ، وهو يوم القيامة (أُنْذِرُوا) خوّفوا به من العذاب (مُعْرِضُونَ) مدبرون ، لا يتفكرون فيه ولا يستعدون له.

(أَرَأَيْتُمْ) أخبروني عن حال آلهتكم بعد تأمل فيها (ما تَدْعُونَ) تعبدون (مِنْ دُونِ اللهِ) الأصنام (أَرُونِي) أخبروني ، وهو تأكيد لما سبق من طلب الإخبار (أَمْ) همزة الإنكار (شِرْكٌ) نصيب ومشاركة (فِي السَّماواتِ) مشاركة مع الله في خلق السموات (ائْتُونِي بِكِتابٍ) منزّل (مِنْ قَبْلِ هذا) أي القرآن (أَوْ أَثارَةٍ) بقية (مِنْ عِلْمٍ) يؤثر ويروى عن الأولين بصحة دعواكم في عبادة الأصنام أنها تقرّبكم إلى الله (صادِقِينَ) في دعواكم.

(وَمَنْ أَضَلُ) استفهام بمعنى النفي ، أي لا أحد (يَدْعُوا) يعبد (مِنْ دُونِ اللهِ) غيره ، وهم الأصنام ، لا يجيبون عابديهم إلى شيء يسألونه أبدا (وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ) عبادتهم (غافِلُونَ) لأنهم جماد لا يعقلون أو عباد مشتغلون بأحوالهم.

(حُشِرَ النَّاسُ) جمعوا يوم القيامة (كانُوا) أي الأصنام (لَهُمْ) لعابديهم (بِعِبادَتِهِمْ) بعبادة عابديهم (كافِرِينَ) جاحدين.

٨

التفسير والبيان :

(حم ، تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) أي إنه تعالى كما بدأ سورة الجاثية هو الذي أنزل القرآن على عبده ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وليس من عند محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما يزعم المشركون ، وهو مع هذا التنزيل موصوف بالعزة التي لا يفوقها شيء ، فهو القوي القاهر الذي لا يغلب ، وهو الحكيم في تدبيره وصنعه وأقواله وأفعاله ، يضع كل أمر في موضعه. وإذا كان الأمر كذلك ، فما على الناس إلا الإيمان بالقرآن والتصديق بما جاء فيه ، والإيمان بصدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نبوته ، وفيما دعا إليه من التوحيد الخالص ، وإثبات البعث والجزاء ، ودعوة الناس إلى سعادة الدنيا والآخرة ، والأخلاق الكاملة النافعة.

(ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) أي ما أوجدنا وأبدعنا السموات العلا ، والأراضي السفلى وما بينهما من سائر المخلوقات إلا خلقا ملتبسا بالحق الذي تقتضيه المشيئة الإلهية ، وليس على وجه العبث والباطل ، فليس خلقها عبثا ولا باطلا.

وقد خلقناها إلى مدة معينة محددة لا تزيد ولا تنقص ، وهي يوم القيامة ، فإن السموات والأرضين والمخلوقات تنتهي ، وتتبدل السموات والأرض بغيرها.

أما الذين جحدوا بالله ، بالرغم من هذه الأدلة ، ومن إنزال الكتب ، وإرسال الرسل ، فهم لا هون عما يراد بهم ، مولّون عما خوّفوا به في القرآن من البعث والحساب والجزاء ، غير مستعدين له ، وسيعلمون غب ذلك وعاقبته.

وبعد إثبات وجود الإله ووقوع الحشر والبعث يوم القيامة ، ردّ الله تعالى على عبدة الأوثان بقوله :

(قُلْ : أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ، أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ

٩

شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) أي قل أيها النبي لهؤلاء المشركين العابدين مع الله غيره : أخبروني وأرشدوني عن حال آلهتكم من الأصنام وأصحاب القبور ، بعد التأمل في خلق السموات والأرض وما بينهما ، هل استطاعوا الاستقلال بخلق شيء في الأرض ، وهل لهم مشاركة في ملك السموات والتصرف فيها؟

الواقع أنهم لم يخلقوا شيئا ولا شركة لهم في السموات والأرض ، فكيف تعبدون مع الله الخالق لكل شيء غيره وتشركون به؟

(ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي أحضروا لي دليلا مكتوبا قبل القرآن مما نزل على الأنبياء كالتوراة والإنجيل يدل على صحة عبادتكم لآلهتكم ، أو بقية من علم الأولين والأنبياء السابقين يرشد إلى صحة هذا المنهج الذي نهجتموه ، إن كنتم صادقين في ادعائكم ألوهية الأصنام. والمعنى : لا دليل لكم نقليا ولا عقليا على ذلك.

وبعد أن نفى الله تعالى القدرة عن الأصنام في الخلق وغيره ، أتبعه بنفي العلم عنهم من كل الوجوه ، فقال :

(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ، وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ) أي لا أحد أضل وأجهل ممن يعبد من دون الله أصناما ، ويطلب منها ما لا تستطيعه إلى يوم القيامة ، فإنه دعا من لا يسمع ، فكيف يطمع في الإجابة؟ والأصنام التي يدعونها غافلون عمن دعاها ، لا يسمعون ولا يعقلون ، لكونهم جمادات.

والمعنى : أن الأصنام لا قدرة لها على شيء ، ولا علم لديها بشيء ، فما هي إلا جماد ، وعبادة الجماد محض الضلال ، وهذا يستدعي التوبيخ والتهكم.

وقوله : (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) تأبيد على عادة العرب ، أي ما دامت الدنيا.

١٠

ثم أكد الله تعالى نفي العلم بعبادة الناس لها بقوله :

(وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً ، وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) أي وإذا جمع الناس العابدون للأصنام في موقف الحساب ، كانت الأصنام لهم أعداء ، تتبرأ منهم وتلعنهم ، وكانوا جاحدين مكذبين منكرين لعبادتهم ، فيخلق الله الحياة في الأصنام فتكذبهم ، وتتبرأ الملائكة والمسيح وعزير والشياطين ممن عبدوهم يوم القيامة.

ونظير الآية قوله سبحانه : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ، كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ ، وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) [مريم ١٩ / ٨١ ـ ٨٢] أي سيكذبونهم ويعادونهم في وقت أحوج ما يكونون إليهم. وقال تعالى حكاية عن إبراهيم الخليل عليه‌السلام : (وَقالَ : إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً ، مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ ، وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ، وَمَأْواكُمُ النَّارُ ، وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) [العنكبوت ٢٩ / ٢٥].

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات البينات إلى ما يأتي :

١ ـ تأكيد مطلع سورة الجاثية : وهو كون مصدر القرآن من الله العزيز الحكيم ، لا من عند محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا غيره من العرب أو العجم.

٢ ـ دلت آية : (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ ..) على أمور ثلاثة : هي إثبات الإله بخلق هذا العالم ، وإثبات أن إله العالم عادل رحيم ، لقوله تعالى : (إِلَّا بِالْحَقِ) أي إلا لأجل الفضل والرحمة والإحسان ، وإثبات البعث والقيامة ، إذ لو لم توجد القيامة لتعطل استيفاء حقوق المظلومين من الظالمين ، ولتعطل إيفاء الثواب للمطيعين ، وإقامة العقاب على الكافرين ، وذلك ينافي كون خلق السموات والأرض وما بينهما بالحق.

١١

٣ ـ دل قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) على أن الكفار معرضون عن هذه الدلائل ، غير ملتفتين إليها ، وهذا كما ذكر الرازي يدل على وجوب النظر والاستدلال ، أي لتكوين العقيدة وتصحيحها ، وعلى أن الإعراض عن الدليل مذموم في الدين والدنيا.

٤ ـ بعد إثبات أصول العقيدة الثلاثة المتقدمة ، فرّع الله تعالى عنها التفاريع ، فرد على عبدة الأصنام بأنها عديمة القدرة على خلق الأشياء ، وغير عالمة أصلا بعبادة الوثنيين لها ، وكل من الأمرين ينفي صلاحيتها للعبادة ، فهي لا قدرة لها أصلا على الخلق والفعل ، والإيجاد والإعدام ، والنفع والضر ، وهي جمادات لا تسمع دعاء الداعين ، ولا تعلم حاجات المحتاجين ، وإذا انتفى العلم والقدرة من كل الوجوه ، لم يبق مسوغ للعبادة ببديهة العقل ، فهي لا تضر ولا تنفع.

ثم وبخ الله تعالى عبدة الأصنام ، وأبان لهم أنه لا أحد أضل وأجهل ممن يعبد الأوثان ، وهي إذا دعيت لا تسمع ، ولا يتصوّر منها الإجابة لا في الحال ، ولا بعد ذلك إلى يوم القيامة.

٥ ـ أرشد قوله تعالى : (أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) إلى جواز الاعتماد على الخط المكتوب ، وكان الإمام مالك رحمه‌الله يحكم بالخط إذا عرف الشاهد خطه ، أو عرف الحاكم خطه أو خط من كتب إليه ، فيحكم به ، ثم رجع عن ذلك حين ظهر في الناس ما ظهر من الحيل والتزوير ، وقد روي عنه أنه قال : «يحدث الناس فجورا ، فتحدث لهم أقضية».

ولكن أجاز مالك الأخذ بشهادة الشهود على أن هذا خط الحاكم وكتابه ، وكذلك الوصية ، أو خط الرجل باعترافه بمال لغيره يشهدون أنه خطه ، ونحو ذلك.

٦ ـ قال ابن العربي : إن الله تعالى لم يبق من الأسباب الدالة على الغيب

١٢

التي أذن في التعلق بها والاستدلال منها إلا الرؤيا ، فإنه أذن فيها وأخبر أنها جزء من النبوة ، وكذلك الفأل ، فأما الطّيرة والزّجر فإنه نهى عنهما. والفأل : هو الاستدلال بما يستمع من الكلام على ما يريد من الأمر إذا كان حسنا ، فإن سمع مكروها فهو تطيّر ، وأمر الشرع بأن يفرح بالفأل ، ويمضي على أمره مسرورا به. وإذا سمع المكروه أعرض عنه ولم يرجع لأجله ، وقال ـ كما علّمه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم لا طير إلا طيرك ، ولا خير إلا خيرك ، ولا إله غيرك»(١).

شبهات المشركين حول الوحي والنبوة والقرآن

ـ ١ ـ

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠))

الإعراب :

(بَيِّناتٍ) حال.

(كَفى بِهِ شَهِيداً) تمييز منصوب.

__________________

(١) أحكام القرآن : ٤ / ١٦٨٥

١٣

(ما يُفْعَلُ بِي ما) : إما موصولة منصوبة أو استفهامية مرفوعة.

(وَكَفَرْتُمْ بِهِ) جملة حالية.

(وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ ..) أدغمت الدال من (شَهِدَ) في الشين من (شاهِدٌ) لقرب الدال من الشين ، كما يجوز إدغام الثاء والسين والضاد في الشين ، فالثاء كقوله تعالى: (حَيْثُ شِئْتُمْ) والسين كقوله تعالى : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) والضاد كقوله تعالى : (لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ). وإنما أدغمت هذه الأحرف في الشين ، ولم يدغم الشين في هذه الأحرف ، لأنها أزيد صوتا منها ، لما فيها من التفشي.

البلاغة :

(أَمْ يَقُولُونَ أَمْ) : بمعنى «بل» الإضرابية ، والإضراب : الانتقال من معنى لآخر ، والهمزة للإنكار.

(بِما تُفِيضُونَ فِيهِ) استعارة تبعية ، استعمل الإفاضة في الأخذ في الشيء والاندفاع فيه.

(وَشَهِدَ شاهِدٌ) بينهما جناس الاشتقاق.

المفردات اللغوية :

(عَلَيْهِمْ) أي على أهل مكة (آياتُنا) القرآن (بَيِّناتٍ) واضحات ظاهرات (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) من أهل مكة (لِلْحَقِ) أي آيات القرآن والمعنى في شأن الحق ولأجله (لَمَّا جاءَهُمْ) حينما جاءهم من غير نظر وتأمل (هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) ظاهر بطلانه.

(أَمْ يَقُولُونَ) أي بل أيقولون ، والهمزة الاستفهامية للإنكار ، والمراد : الإضراب عن تسميتهم إياه سحرا إلى ذكر ما هو أشنع منه وإنكار له وتعجيب (افْتَراهُ) أي اختلقه وهو القرآن (قُلْ : إِنِ افْتَرَيْتُهُ) على سبيل الافتراض (مِنَ اللهِ) من عذابه (شَيْئاً) أي إن عاجلني الله بالعقوبة ، فلا تقدرون على دفع شيء منها ، فكيف أجترئ عليه ، وأعرّض نفسي للعقاب من غير توقع نفع ، ولا دفع ضرّ من قبلكم (تُفِيضُونَ) تندفعون وتقولون في القرآن من القدح والطعن والتكذيب (كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) يشهد لي بالصدق والبلاغ ، وعليكم بالكذب والإنكار ، وهو وعيد بالجزاء على إفاضتهم في آيات القرآن (الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) الكثير المغفرة والرحمة ، وهو وعد بالمغفرة والرحمة لمن تاب وآمن ، وإشعار بحلم الله ، فلم يعاجلهم بالعقوبة.

(بِدْعاً) أو بديعا ، أي مبتدعا ليس له مثال أو سابقة ، وقرئ : بدعا جمع بدعة (مِنَ الرُّسُلِ) أي لست أول مرسل ، فقد سبق قبلي كثيرون منهم ، فكيف تكذبونني؟ (وَما أَدْرِي

١٤

ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) في الدارين ، إذ لا علم لي بالغيب ، و (لا) لتأكيد النفي ، و (ما) إما موصولة منصوبة ، أو استفهامية مرفوعة (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) أي ما أتبع إلا القرآن الموحى به ، ولا أبتدع شيئا من عندي ، وهو جواب عن اقتراحهم الإخبار عما لم يوح إليه من الغيوب (وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) منذر بيّن الإنذار بالشواهد والمعجزات عن عقاب الله.

(أَرَأَيْتُمْ) أخبروني عن حالكم (إِنْ كانَ) القرآن (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) هو عبد الله بن سلام ، وشهادته بما في التوراة من نعت الرسول (عَلى مِثْلِهِ) مثل القرآن ، أي شهد على مثل ما في القرآن من التوراة من المعاني المصدّقة للقرآن المطابقة لها ، أو شهد على مثل ذلك وهو كون القرآن من عند الله (فَآمَنَ) الشاهد (وَاسْتَكْبَرْتُمْ) تكبرتم عن الإيمان (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) هذا دليل على جواب الشرط المحذوف ، تقديره : ألستم ظالمين؟.

سبب النزول :

نزول الآية (١٠):

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ..) : أخرج الطبراني بسند صحيح عن ابن عوف بن مالك الأشجعي قال : انطلق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا معه ، دخلنا كنيسة اليهود يوم عيدهم ، فكرهوا دخولنا عليهم ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا معشر اليهود ، أروني اثني عشر رجلا منكم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، يحطّ الله عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي عليه ، فسكتوا ، فما أجابه منهم أحد ، ثم انصرف ، فإذا رجل من خلفه ، فقال : كما أنت يا محمد ، فأقبل ، فقال : أي رجل تعلموني يا معشر اليهود؟

قالوا : والله ما نعلم فينا رجلا كان أعلم بكتاب الله ، ولا أفقه منك ، ولا من أبيك قبلك ، ولا من جدك قبل أبيك ، قال : فإني أشهد أنه النبي الذي تجدون في التوراة ، قالوا : كذبت ، ثم ردوا عليه ، وقالوا فيه شرا ، فأنزل الله : (قُلْ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ ..) الآية.

وأخرج الشيخان (البخاري ومسلم) عن سعد بن أبي وقاص قال : في

١٥

عبد الله بن سلام نزلت ، وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله. وأخرج ابن جرير والترمذي وابن مردويه عن عبد الله بن سلام قال : «فيّ نزلت» ونزل فيّ : (قُلْ : كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) [الرعد ١٣ / ٤٣].

المناسبة :

بعد تقرير التوحيد ونفي الأضداد والأنداد ، ذكر الله تعالى أمر النبوة وشبهات المشركين حولها وحول القرآن ، فأبان أنهم يسمون معجزة القرآن بالسحر ، وأنهم متى سمعوا القرآن قالوا : إن محمدا افتراه واختلقه من عند نفسه ، ثم أبطل تعالى شبهتهم ، فقال : إن افتريته على سبيل الفرض ، فإن الله تعالى يعاجلني بالعقوبة ، وأنتم لا تقدرون على دفع العذاب عني ، فكيف أقدم على هذه الفرية ، وأعرّض نفسي لعقابه؟!

ثم حكى عنهم نوعا آخر من الشبهات ، وهو أنهم كانوا يقترحون عليه معجزات عجيبة ، ويطالبونه بأن يخبرهم عن المغيبات ، فأجابهم الله تعالى بأن يقول لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لست بأول رسول أرسله الله ، حتى تنكروا إخباري بأني رسول الله إليكم ، وتنكروا دعوتي لكم إلى التوحيد ، ونهي عن عبادة الأصنام ، فإن كل الرسل إنما بعثوا لهذه الأهداف والغايات ، وأنا من جنس الرسل وواحد منهم لا أستطيع ولا أقدر على الإتيان بالمعجزات والإخبار عن المغيبات ، فذلك ليس في وسع البشر ، وإنما هو بقدرة الله تعالى.

التفسير والبيان :

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ : هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي إذا تليت على المشركين آيات القرآن حال كونها بيّنة واضحة

١٦

جلية ، قالوا في شأن الحق الذي أتاهم وهو القرآن : هذا سحر واضح وتمويه خادع ، فكذبوا به وافتروا ، وكفروا وضلوا.

ثم ذكر الله تعالى ما هو أشنع من وصف القرآن بالسحر ورد عليهم ، فقال :

(أَمْ يَقُولُونَ : افْتَراهُ ، قُلْ : إِنِ افْتَرَيْتُهُ ، فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي بل أيقولون : افترى محمد هذا القرآن واختلقه من عند نفسه ، كذبا على الله؟ فرد الله تعالى عليهم : قل لهم أيها الرسول : لو افتريته وكذبت على الله على سبيل الفرض والتقدير كما تدّعون ، وزعمت أنه أرسلني رسولا إليكم ، ولم يكن الأمر كذلك ، لعاقبني أشد العقوبة ، ولم يقدر أحد من أهل الأرض ، لا أنتم ولا غيركم أن يدفع عقابه عني ، فكيف أقدم على هذه الفرية ، وأعرّض نفسي لعقابه؟

وقوله : (أَمْ) للإنكار والتعجيب كما تقدم ، كأنه قيل : دع هذا واسمع القول المنكر العجيب.

ونظير الآية قوله تعالى : (قُلْ : إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ ، وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً ، إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ) [الجن ٧٢ / ٢٣]. وقوله سبحانه : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ ، فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) [الحاقة ٦٩ / ٤٤ ـ ٤٧] وذكر هنا :

(هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ ، كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ، وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) أي الله أعلم بما تقولون في القرآن ، وتخوضون فيه ، من التكذيب له ، والقول بأنه سحر وكهانة ، كفى بالله شاهدا صادقا يشهد لي بأن القرآن من عنده ، وبالبلاغ لكم ، وبالتكذيب والجحود منكم ، ومع كل هذا الذي صدر منكم فالله هو الغفور لمن تاب وآمن ، وصدّق بالقرآن ، وعمل بما فيه.

وهذا جمع بين الوعيد والتهديد والترهيب وبين الترغيب لهم في التوبة

١٧

والإنابة ، وذلك كقوله تعالى : (وَقالُوا : أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ، قُلْ : أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) [الفرقان ٢٥ / ٥ ـ ٦].

ثم رد الله على المشركين شبهة أخرى هي اقتراح الإتيان بمعجزات ، والإخبار عن مغيبات فقال :

(قُلْ : ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ ، وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) أي لست بأول رسول جاء إلى العالم ، بل قد بعث الله قبلي كثيرا من الرسل ، فما أنا بالأمر المبتدع الذي لا نظير له ، حتى تستنكروني وتستبعدوا بعثتي إليكم ، ولست أعلم ما يفعل بي ولا بكم في مستقبل الزمان في الدنيا وكذا يوم القيامة ، هل أبقى في مكة أو أخرج منها؟ وهل أموت أو أقتل ، وهل تعجل لكم العقوبة أيها المكذبون أم تمهلون؟ والمعنى : إني لا أعلم بما لي بالغيب ، فأفعاله تعالى وما يقدره لي ولكم من قضاياه لا أعلمها (١).

(إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ ، وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي إنما أتبع الوحي الذي ينزله الله علي في القرآن والسنة ، ولا أبتدع من عندي شيئا ، ولست إلا نذيرا لكم أنذركم عقاب الله وأخوفكم عذابه على نحو واضح ظاهر لكل عاقل.

وهذا دليل على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يدري ما يؤول إليه أمره وأمر المشركين في دار الدنيا ، أما في الآخرة فهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم جازم أنه يصير إلى الجنة هو ومن اتبعه ، وذلك في الجملة ، ولا يقطع لشخص معين بالجنة إلا الذي نص الشارع على تعيينهم كالعشرة المبشرين بالجنة (٢) ، وابن سلام ، والعميصاء ، وبلال ، وسراقة ،

__________________

(١) البحر المحيط : ٨ / ٥٦

(٢) وهم الخلفاء الراشدون الأربعة : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وسعد بن أبي وقاص ، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ، وطلحة بن عبد الله ، والزبير بن العوام ، وأبو عبيدة بن الجراح ، وعبد الرحمن بن عوف رضي‌الله‌عنهم.

١٨

وعبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر ، والقرّاء السبعين الذين قتلوا ببئر معونة ، وزيد بن حارثة ، وجعفر بن أبي طالب ، وعبد الله بن رواحة ، وما أشبه هؤلاء رضي‌الله‌عنهم ، والدليل على ذلك الحديث التالي :

أخرج أحمد والبخاري عن أم العلاء ـ وهي امرأة من نساء الأنصار ـ قالت : «لما مات عثمان بن مظعون ، قلت : رحمك الله أبا السائب ، شهادتي عليك ، لقد أكرمك الله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وما يدريك أن الله أكرمه؟ أما هو فقد جاءه اليقين من ربه ، وإني لأرجو له الخير ، والله ما أدري ـ وأنا رسول الله ـ ما يفعل بي ولا بكم ، قالت أمّ العلاء : فو الله لا أزكي بعده أحدا».

وفي رواية الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس : «أنه لما مات قالت امرأته أو امرأة : هنيئا لك ابن مظعون الجنة ، فنظر إليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نظر مغضب ، وقال : وما يدريك؟ والله ، إني لرسول الله ، وما أدري ما يفعل الله بي ، فقالت : يا رسول الله ، صاحبك وفارسك وأنت أعلم ، فقال : أرجو له رحمة ربه تعالى ، وأخاف عليه ذنبه».

ثم أكد الله تعالى خسارة المشركين قائلا :

(قُلْ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَكَفَرْتُمْ بِهِ ، وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ ، فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ ، إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين الكافرين بالقرآن : أخبروني إن كان هذا القرآن من عند الله في الحقيقة ، والحال أنكم قد كفرتم به ، وشهد شاهد من بني إسرائيل العالمين بما أنزل الله في التوراة على صحته وعلى مثله وهو القرآن ، أو على مثل ما قلت ، فآمن الشاهد بالقرآن لما تبيّن له أنه من كلام الله ، وهذا الشاهد هو عبد الله بن سلام الذي أسلم بعد الهجرة ، ثم تكبرتم عن الإيمان به ، فقد ظلمتم أنفسكم (١) وكنتم

__________________

(١) هذا جواب الشرط المحذوف لقوله : إِنْ المفهوم من قوله : إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي ... والمفعول الثاني لقوله (أَرَأَيْتُمْ) مقدر ، أي ألستم ظالمين؟

١٩

من الخاسرين. وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) معناه لا يوفقهم إلى الخير ، وهو استئناف بياني ، تعليل لاستكبارهم.

وبعبارة أخرى : ما ظنكم أن الله صانع بكم إن كان هذا الكتاب الذي قد جئتكم به قد أنزله الله علي لإبلاغكم به ، وقد كفرتم به وكذبتموه ، ألستم تكونون أضل الناس وأظلمهم؟! أو ألستم كنتم ظالمين لأنفسكم؟ يدل على هذا الجواب المحذوف قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

والشاهد في رأي أكثر المفسرين هو عبد الله بن سلام ، بدليل ما ذكر صاحب الكشاف : «لما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة نظر ـ أي ابن سلام ـ إلى وجهه ، فعلم أنه ليس بوجه كذاب ، وتأمله فتحقق أنه هو النبي المنتظر ، وقال له : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي : ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب ، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت ، وأما الولد ، فإذا سبق ماء الرجل نزعه ، وإن سبق ماء المرأة نزعته ، فقال : أشهد أنك رسول الله حقا ، ثم قال : يا رسول الله ، إن اليهود قوم بهت ، وإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك ، فجاءت اليهود ، فقال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أيّ رجل عبد الله فيكم؟ فقالوا : خيرنا وابن خيرنا ، وسيدنا وابن سيدنا ، وأعلمنا وابن أعلمنا ، قال : أرأيتم إن أسلم عبد الله؟ قالوا : أعاذه الله من ذلك ، فخرج إليهم عبد الله ، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا رسول الله ، فقالوا : شرنا وابن شرنا ، وانتقصوه ، قال : هذا ما كنت أخاف يا رسول الله ، وأحذر» (١).

أما إنكار أن يكون الشاهد هو عبد الله بن سلام ، لأن إسلامه كان بالمدينة

__________________

(١) الكشاف : ٣ / ١١٩

٢٠