التفسير المنير - ج ١٠

الدكتور وهبة الزحيلي

إيذاء المنافقين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتصحيح مفاهيمهم

(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦١))

الإعراب :

(أُذُنُ خَيْرٍ) خبر مبتدأ مقدر ، أي هو أذن خير ، أي هو مستمع خير وصلاح ، لا مستمع شر وفساد ، والمراد بالأذن : صاحب الأذن. (وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) اللام زائدة للفرق بين إيمان التسليم وغيره.

(وَرَحْمَةٌ) مرفوعا معطوف على (أُذُنٌ) وقرئت بالجر عطفا على (خَيْرٍ) أي وهو أذن رحمة ، فكما أضاف أذنا إلى الخير أضافه إلى الرحمة ؛ لأن الرحمة من الخير ، والخير من الرحمة. وعدى فعل الإيمان بالباء لأنه قصد التصديق بالله الذي هو نقيض الكفر به ، وعدّى المؤمنين باللام ؛ لأنه قصد السماع من المؤمنين ، وأن يسلم لهم ما يقولونه ويصدقهم ؛ لكونهم صادقين عنده.

البلاغة :

(هُوَ أُذُنٌ) تشبيه بليغ ، حذف منه أداة التشبيه أي هو كالأذن يسمع كل ما يقال له ، كأن جملته أذن سامعة ، مثل قولهم للربيئة : عين.

(يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ) أظهر كلمة رسول مقام الإضمار ، تعظيما لشأنه عليه الصلاة والسّلام ، وجمعا بين رتبتي النبوة والرسالة. وأضافها إلى الله زيادة في التكريم.

المفردات اللغوية :

(وَمِنْهُمُ) من المنافقين. (يُؤْذُونَ) الإيذاء : ما يؤلم الإنسان في نفسه أو بدنه أو ماله ، قليلا كان أو كثيرا ، والمراد هنا : عيبه ونقل حديثه. (هُوَ أُذُنٌ) أي يسمع من كل واحد ما يقول ، ويصدق كل ما يسمع ، ويقبل قول كل أحد ، وهذا من باب تسمية الإنسان باسم جزء منه

٢٨١

وهو آلة السماع للمبالغة في وصفه ، وكأن جملته أذن سامعة ، كما يقال للجاسوس : عين. وإيذاؤهم له : هو قولهم فيه : هو أذن. و (أُذُنُ خَيْرٍ) مثل قولك : رجل صدق وشاهد عدل ، تريد الجودة والصلاح ، كأنه قيل : نعم هو أذن ، ولكن نعم الأذن (يُؤْمِنُ بِاللهِ) أي يصدق بالله ، لما قام عنده من الأدلة (وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) يقبل من المؤمنين الخلّص من المهاجرين والأنصار لا من غيرهم ، ويصدقهم بسبب إيمانهم (وَرَحْمَةٌ) أي وهو رحمة لمن آمن منكم ، أي أظهر الإيمان أيها المنافقون حيث يسمع منكم ، ويقبل إيمانكم الظاهر ، ولا يفضح أسراركم ، ولا يفعل بكم ما يفعل بالمشركين ، فهو أذن كما قلتم ، إلا أنه أذن خير لكم ، لا أذن سوء ، ومستمع خير لا مستمع شر.

سبب النزول :

أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان نبتل بن الحارث (١) يأتي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيجلس إليه ، فيسمع منه ، وينقل حديثه إلى المنافقين ، فأنزل الله : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَ) الآية.

وذكر القرطبي : أن الآية نزلت في عتّاب بن قشير قال : إنما محمد أذن ، يقبل كل ما قيل له.

وقال ابن عباس رضي‌الله‌عنه : إن جماعة من المنافقين ذكروا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما لا ينبغي من القول ، فقال بعضهم : لا تفعلوا ، فإنا نخاف أن يبلغه ما نقول ، فقال الجلاس بن سويد بن الصامت : بل نقول ما شئنا ، ثم نذهب إليه ، ونحلف أنا ما قلنا ، فيقبل قولنا ، إنما محمد أذن سامعة ، فنزلت هذه الآية.

والغرض من كلامهم أنه ليس له ذكاء ولا تعمق في الأمور ، بل هو سليم القلب ، سريع الاغترار بكل ما يسمع ، فلهذا سموه بأنه أذن ، كما أن الجاسوس يسمى بالعين.

__________________

(١) كان نبتل رجلا جسيما ثائر شعر الرأس واللحية ، آدم أحمر العينين ، أسفع الخدين ، مشوّه الخلقة ، وهو الذي قال فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أراد أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث» والسّفعة : سواد مشرب بحمرة.

٢٨٢

المناسبة :

هذا نوع آخر من جهالات المنافقين ، وهو أنهم كانوا يقولون في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنه أذن على وجه الطعن والذم ، وإنه يصدق كل من حلف له. وقد ذكر تعالى في الآيات السابقة أنهم طعنوا في أفعاله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولمزوه في قسمة الصدقات.

التفسير والبيان :

ومن المنافقين قوم يؤذون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالكلام فيه ، ويعيبونه ، فيقولون : هو أذن سامعة ، يسمع كل ما يقال له ، ويصدقه ، فمن قال له شيئا صدقه ، ومن حدثه صدقه ، فإذا جئناه وحلفنا له صدقنا. يقصدون بقولهم أنه سليم القلب ، سريع الاغترار بكل ما يسمع ، دون أن يتدبر فيه ويميز بين الأمور ، وذلك لأنه عليه الصلاة والسّلام كان يعاملهم بالظاهر ، ولا يكشف أسرارهم.

فرد الله عليهم بأنه أذن خير لا أذن شر ، أي مستمع خير ، لا مستمع شر أي هو مستمع ما يحب استماعه ، كما يقال : فلان رجل صدق وشاهد عدل ، فهو يعرف الصادق من الكاذب ، لكنه يعامل المنافقين بأحكام الشريعة وآدابها ، فلا يفتضح أحدا منهم ، وهو صاحب الخلق الكامل والإنسان المثالي.

وهو يصدق بالله لما قام عنده من الدلائل ، وبما أوحي إليه مما فيه خيركم وخير غيركم ، ويصدق المؤمنين الخلص من المهاجرين والأنصار ، لا غيرهم ، وهو رحمة لمن آمن منكم أي أظهر الإيمان أيها المنافقون ، ويقبل إيمانكم الظاهر ، ولا يكشف أسراركم ولا يفضحكم ، ولا يفعل بكم ما يفعل بالمشركين ، مراعاة لما رأى الله من المصلحة في الإبقاء عليكم ، فهو أذن خير ورحمة ، لا يسمع غيرهما ولا يقبله ، ويصدق ما أخبره به المؤمنون ، ولا يصدق خبر المنافقين ، وهو رحمة للناس بهدايتهم إلى ما فيه سعادة الدنيا والآخرة.

٢٨٣

والذين يؤذون الرسول بالقول أو بالفعل كوصفه بالسحر أو الكذب ، وعدم الفطنة ، والطعن في عدالته ، فلهم عذاب شديد مؤلم في الآخرة بسبب إيذائه.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآية على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صاحب الخلق الكامل ، والفهم الشامل العميق ، والذكاء الخارق ، فسكوته عن المنافقين ليس عن غباء واغترار ، وإنما لحكمة هي أن يترك الفرصة للمنافقين بالعدول التلقائي عن قبائحهم ، وكيلا يعطي الفرصة للمشركين باستغلال حال المنافقين ، والقول بأن هذا النبي يقتل من آمن به.

ودلت الآية أيضا على أن هذا النبي أذن خير لا أذن شر ، يستمع ما فيه الصلاح والخير ، ويعرض ترفعا وإباء عن سماع الشر والفساد ، وهو أيضا رحمة للمؤمنين ، لأنه هداهم إلى سعادة الدنيا والآخرة.

وأرشدت الآية إلى أن النبي لا يؤمن بأخبار المنافقين إيمان تسليم ، ولا يصدقهم فيما يقولون ، وإن أكدوا القول بالأيمان ، لأن أدبه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمنعه من مواجهة الناس بما يكرهون ، فهو يجري أمر المنافقين على الظاهر ، ولا يبالغ في التفتيش عن بواطنهم.

وقد وصفه الله بأوصاف ثلاثة هي أنه يؤمن بالله ، ويؤمن للمؤمنين أي يسلم لهم قولهم ، ورحمة لمن آمن ، وهذه الأوصاف توجب كونه أذن خير.

ويستنبط من الآية أيضا أن إيذاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما يتعلق برسالته كفر ، يترتب عليه العقاب الشديد. أما الإيذاء الخفيف المتعلق بشخصه وشؤونه الشرية وعاداته الدنيوية ، وكذا إيذاء أهل بيته ، فحرام ، لا كفر ، مثل إيذائه في إطالة المكث عنده ، كما قال تعالى : (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ ، فَيَسْتَحْيِي

٢٨٤

مِنْكُمْ) [الأحزاب ٣٣ / ٥٣] ومثل رفع الصوت في ندائه وتسميته باسمه ، كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ، وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) [الحجرات ٤٩ / ٢].

بيان أحوال المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك

الإقدام على اليمين الكاذبة ، وتخوفهم من نزول القرآن فاضحا لهم ،

واستهزاؤهم بآيات الله

(يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣) يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (٦٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (٦٥) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦))

الإعراب :

(وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُ) أحق : خبر (رَسُولُهُ) وحذف خبر الأول لدلالة خبر الثاني عليه ، في مذهب سيبويه ، وتقديره : والله أحق أن يرضوه ، ورسوله أحق أن يرضوه. وفي مذهب المبرد : لا حذف في الكلام ، ولكن فيه تقديم وتأخير ، وتقديره : والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك. وإنما وحّد الضمير ؛ لأنه لا تفاوت بين رضا الله ورضا رسوله ، فكانا في حكم مرضيّ واحد.

٢٨٥

(فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) فيه أربعة أوجه : إما خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : فالواجب أن له نار جهنم ، أو بتقدير محذوف بين الفاء وأن ، أي فله أن له نار ، أو بدل من (فَأَنَ) الأولى المنصوبة بيعلموا ، أو مؤكّدة للأولى في موضع نصب ، والفاء زائدة.

(أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ ...) أن وصلتها في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر ، وتقديره : من أن تنزل ، ويجوز أن تكون في موضع جر على إرادة حرف الجر ؛ لأن حرف الجر يكثر حذفه معها دون غيرها.

(وَلَئِنْ) اللام لام القسم.

البلاغة :

(ذلِكَ الْخِزْيُ) الإشارة بالبعيد عن القريب للإشعار ببعد درجته في الهول والشناعة.

المفردات اللغوية :

(يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) الخطاب للمؤمنين ، أي لترضوا عنهم (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) أحق بالإرضاء بالطاعة والوفاق ، وتوحيد الضمير لتلازم الإرضاءين (إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ) حقا (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ) أي الشأن (مَنْ يُحادِدِ) يشاقق ، والمحادّة مفاعلة من الحد ، كالمشاقة من الشّق ، والحد : طرف الشيء ، والشق : الجانب ، أي يصبح كلّ في ناحية وشق بالنسبة لخصمه وعدوه ، وهما بمعنى المعاداة من العدوة : وهي جانب الوادي.

(يَحْذَرُ) يخاف في المستقبل أو يتحرّز (أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ) أي على المؤمنين (سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) من النفاق ، وهم مع ذلك يستهزئون (اسْتَهْزِؤُا) أمر تهديد (إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ) مظهر الشيء الخفي المستتر ، ويشمل إظهار مكنون الصدور ، وإخراج الحب من الأرض ، والنفي من الوطن (ما تَحْذَرُونَ) إخراجه من نفاقكم.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) عن استهزائهم بك والقرآن ، وهم سائرون معك إلى تبوك (لَيَقُولُنَ) معتذرين (إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) في الحديث ، لنقطع به الطريق ، ولم نقصد ذلك. والخوض في الأصل : الدخول في الماء أو في الوحل ، كثر استعماله في الباطل ، لما فيه من التعرض للأخطار ، والمراد : الإكثار من العمل الذي لا ينفع لا تعتذروا عنه ، والاعتذار: الإدلاء بالعذر : أي لمحو أثر الذنب (قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) أي ظهر كفركم بعد إظهار الإيمان (إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ) بإخلاصها وتوبتها كمخشّ بن حمير (نُعَذِّبْ طائِفَةً) الطائفة : الجماعة من الناس ، والقطعة من الشيء (بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) مصرّين على النفاق والاستهزاء.

٢٨٦

سبب النزول :

نزول الآية (٦٢):

(يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ) : روى ابن المنذر عن قتادة قال : ذكر لنا أن رجلا من المنافقين قال في شأن المتخلّفين في غزوة تبوك الذين نزل فيهم ما نزل : والله ، إن هؤلاء لخيارنا وأشرافنا ، وإن كان ما يقول محمد حقا ، لهم (١) شر من الحمير ، فسمعها رجل من المسلمين فقال : والله ، إن ما يقول محمد لحق ، ولأنت شر من الحمار ، وسعى بها الرجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره ، فأرسل إلى الرجل فدعاه فقال : ما الذي حملك على الذي قلت؟ فجعل يتلعن (يلعن نفسه) ويحلف بالله ما قال ذلك ، وجعل الرجل المسلم يقول : اللهم صدّق الصادق ، وكذّب الكاذب ، فأنزل الله : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) الآية. وروي ذلك أيضا عن السدّي.

نزول الآية (٦٥):

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) : أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر قال : قال رجل من المنافقين في غزوة تبوك في مجلس يوما : ما رأينا مثل قرآن هؤلاء ، ولا أرغب بطونا ، ولا أكذب ألسنة ، ولا أجبن عند اللقاء! فقال له رجل : كذبت ، ولكنك منافق ، لأخبرن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونزل القرآن.

وسمي الرجل في رواية أخرى : عبد الله بن أبي ، والأصح أنه وديعة بن ثابت لأن عبد الله لم يشهد تبوك.

وأخرج ابن أبي حاتم أيضا عن كعب بن مالك : قال مخشّ بن حمير : لوددت أني أقاضى على أن يضرب كل رجل منكم مائة ، على أن ننجو من أن ينزل فينا قرآن ، فبلغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فجاءوا يعتذرون ، فأنزل الله : (لا تَعْتَذِرُوا)

__________________

(١) وفي عبارة السدّي : لنحن أشرّ من الحمر.

٢٨٧

الآية ، فكان الذي عفا الله عنه مخشّ بن حمير ، فسمي عبد الرحمن ، وسأل الله أن يقتل شهيدا لا يعلم بمقتله ، فقتل يوم اليمامة ، لا يعلم مقتله إلا من قتله.

وقال السّدّيّ : قال بعض المنافقين : والله وددت لو أني قدّمت ، فجلدت مائة ، ولا ينزل فينا شيء يفضحنا ؛ فنزلت الآية.

وأخرج ابن جرير الطبري وابن المنذر وأبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن قتادة أن ناسا من المنافقين قالوا : في غزوة تبوك : يرجو هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها ، هيهات له ذلك ، فأطلع الله نبيه على ذلك ، فأتاهم فقال : قلتم كذا وكذا ، قالوا : إنما كنا نخوض ونلعب ، فنزلت.

المناسبة :

هذا نوع آخر من قبائح المنافقين وهو إقدامهم على اليمين الكاذبة ، ومشاقة (معاداة) الله ورسوله ، وتحرزهم من نزول القرآن فاضحا لهم ، واستهزاؤهم بآيات الله (القرآن) وهي آيات في الجملة لشرح أحوال المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك.

أخرج أبو الشيخ ابن حيان عن قتادة قال : كانت هذه السورة تسمى الفاضحة فاضحة المنافقين ، وكان يقال لها المنبئة ؛ لأنها أنبأت بمثالبهم وعوراتهم.

التفسير والبيان :

يخاطب الله المؤمنين مبينا لهم أن المنافقين يقدمون على حلف الأيمان الكاذبة لترضوا عنهم والله يعلم إنهم لكاذبون ، وذلك يدل على أنهم شعروا بموقفهم الحرج ، وظهور نفاقهم ، وافتضاح أمرهم.

يحلفون لكم معتذرين عما صدر منهم من قول أو فعل ليرضوكم ، والحال أن

٢٨٨

الله ورسوله أحق بالإرضاء من المؤمنين ، وذلك يكون بالطاعة والوفاق والإيمان الصادق والعمل الصالح.

والتعبير بإفراد ضمير (يُرْضُوهُ) للإعلام بأن إرضاء الرسول إرضاء لله ، كما قال تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النساء ٤ / ٨٠] لأن مصدر الرسالة واحد ، والأوامر والنواهي واحدة.

هذا إذا كانوا مؤمنين حقا كما يدّعون ويحلفون ، فمن كان مؤمنا فليرض الله ورسوله ، وإلا كان كاذبا.

ثم وبخهم الله تعالى مبينا خطورة الأمر والشأن الذي أقدموا عليه وفي ذلك مزيد تعظيم وتهويل ، فقال : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ) أي ألم يعلم هؤلاء المنافقون ويتحققوا أن من يعاد الله ورسوله ويخالفه ، بتجاوز حدوده ، أو يلمز رسوله في أعماله كقسمة الصدقات ، أو في أخلاقه كقولهم : هو أذن يسمع كل ما يقال له ، وكان في حد ، والله ورسوله في حد ، فجزاؤه جهنم خالدا فيها أبدا ، أي مهانا معذبا ، وذلك العذاب هو الخزي العظيم أي هو الذل العظيم ، والشقاء الكبير.

والحقيقة أن المنافقين يعرفون حقيقة أمرهم ، فهم غير مؤمنين بالله والرسول ، وهم شاكّون مرتابون في الوحي ، قلقون مضطربون ، والشك والقلق يدعوهم إلى الحذر والخوف ، لذا وصفهم تعالى بقوله : (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ) أي يخاف المنافقون ويتحرزون أن تنزل على المؤمنين سورة تكشف أحوالهم ، وتفضح أسرارهم ، وتبين نفاقهم ، كهذه السورة التي سميت : الكاشفة والفاضحة والمنبئة ، التي تنبئ المؤمنين بما في قلوب المنافقين ، وتخبرهم بحقيقة وضعهم ، فيفتضح أمرهم ، وتنكشف أسرارهم.

وقوله : (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ) خبر وليس بأمر بدليل ما بعده : (إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) لأنهم كفروا عنادا. وقوله : (مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) أي أن

٢٨٩

الله مظهر ما كنتم تحذرونه من إظهار نفاقكم.

وهم مع ذلك كانوا دائما يستهزئون بالقرآن وبالنبي والمؤمنين : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) [البقرة ٢ / ١٤] ، فهددهم الله وأوعدهم بقوله : (قُلِ : اسْتَهْزِؤُا ...) أي قل لهم يا محمد : استهزءوا بآيات الله كما تشاؤون ، وهو أمر يقصد به التهديد والوعيد ، إن الله مظهر ما تخافون حصوله ، وسينزل على رسوله ما يفضحكم به ، ويبين له أمركم ، مثل قوله تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ) ـ إلى قوله ـ و (لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) [محمد ٤٧ / ٢٩ ـ ٣٠].

ثم يقسم الله بأنه إن سألتهم أيها الرسول عن أقوالهم هذه وهزئهم ، لاعتذروا عنها بأنهم لم يكونوا جادّين فيها ، بل هازلين لاعبين خائضين في اللغو بقصد التسلي واللهو ، فوبخهم الله وأنكر عليهم بقوله : (أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ) أي إن هذا ليس مجال استهزاء ، ألم تجدوا ما تستهزئون به غير ذلك؟ فإن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر محض ، وشر مستطير. والمراد بالاستهزاء بالله : الاستهزاء بذكر الله وصفاته ، وتكاليف الله تعالى. والمراد بآيات الله : القرآن وسائر أحكام الدين ، والاستهزاء بالرسول معلوم كالطعن برسالته وتطلعاته وأخلاقه وأعماله.

فليس قولكم عذرا مقبولا ، ولا تعتذروا أبدا بهذا أو بغيره ، للتخلص من هذا الجرم العظيم ، فإنكم قد كفرتم وظهر كفركم ، كما أظهرتم إيمانكم ، وتبين أمركم للناس قاطبة. وقوله : (لا تَعْتَذِرُوا) على جهة التوبيخ ، كأنه يقول : لا تفعلوا ما لا ينفع.

فإن نعف عن بعضكم لتوبتهم الخالصة كمخشّ بن حميّر ، نعذّب طائفة أي جماعة أخرى لبقائهم على النفاق ، وارتكابهم الآثام ، وإجرامهم في حق أنفسهم وغيرهم ، فتعذيبكم بسبب إجرامكم.

٢٩٠

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ تعداد قبائح المنافقين وهي الإقدام على الأيمان الكاذبة ، ومعاداة الله ورسوله ، والاستهزاء بالقرآن والنبي والمؤمنين ، والتخوف من نزول سورة في القرآن تفضح شأنهم ، واعتذارهم بأنهم هازلون لاعبون ، وهو إقرار بالذنب ، بل هو عذر أقبح من الذنب.

٢ ـ لا يقبل الهزل في الدين وأحكامه ، ويعتبر الخوض في كتاب الله ورسله وصفاته كفرا ، ولا خلاف بين الأمة في أن الهزل بالكفر كفر ، لأن الهزل أخو الباطل والجهل ، كما قال ابن العربي.

٣ ـ دل قوله تعالى : (قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) على أربعة أحكام هي :

أولا ـ الاستهزاء بالدين كفر بالله تعالى ، لمنافاته مقتضى الإيمان وهو تعظيم الله تعالى.

ثانيا ـ لا يقتصر الكفر على القلب ، وإنما يشمل الأقوال والأفعال المكفرة.

ثالثا ـ قولهم الذي صدر منهم كفر حقيقي ، وإن كانوا منافقين من قبل ، وأن الكفر يتجدد.

رابعا ـ حدث الكفر بعد أن كانوا مؤمنين في الظاهر.

والخلاصة : إنه تعالى حكم عليهم بالكفر وعدم قبول الاعتذار من الذنب ، ما لم يتوبوا من النفاق.

٤ ـ التوبة عن النفاق أو الكفر مقبولة ، فمن تاب عفي عنه ، ومن أصر على الكفر أو النفاق عوقب في جهنم.

٢٩١

هذا في أساسيات العقيدة ، أما حكم الهزل في العقود كالبيع والزواج ، والفسوخ كالطلاق ، فمختلف فيه بين العلماء على ثلاثة أقوال :

لا يلزم مطلقا ، يلزم مطلقا ، التفرقة بين البيع وغيره ، فيلزم في الزواج والطلاق ، ولا يلزم في البيع. والقول الثالث هو المشهور في المذاهب ، لما روى أبو داود والترمذي والدارقطني عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ثلاث جدّهن جدّ ، وهزلهن جدّ : النكاح ، والطلاق ، والرجعة» وفي موطأ مالك عن سعيد بن المسيّب قال : ثلاث ليس فيهن لعب : النكاح ، والطلاق ، والعتق. وذكر ابن المسيب عن عمر قال : أربع جائزات على كل أحد : العتق ، والطلاق ، والنكاح ، والنذور.

٥ ـ تضمنت آية (يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ) قبول يمين الحالف ، وإن لم يلزم المحلوف له الرضا. واليمين حق للمدّعي. وتضمنت أن يكون اليمين بالله عزوجل. وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديث المتفق عليه عن ابن عمر : «من حلف فليحلف بالله أو ليصمت ، ومن حلف له فليصدّق».

أوصاف المنافقين وجزاؤهم الأخروي

(الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٦٧) وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٦٨) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ

٢٩٢

كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٩) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠))

الإعراب :

(خالِدِينَ فِيها) حال ، والعامل فيه محذوف أي يصلونها خالدين (هِيَ حَسْبُهُمْ) مبتدأ وخبر.

(كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) الكاف في موضع نصب ، لأنها صفة مصدر محذوف ، وتقديره: وعدا كما وعد الذين من قبلكم ، بدليل قوله : (وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ).

(كَمَا اسْتَمْتَعَ ...) الكاف في موضع نصب أيضا صفة لمصدر محذوف ، وتقديره : استمتاعا كاستمتاع الذين من قبلكم. وكذلك كاف (كَالَّذِي خاضُوا) في موضع نصب أيضا صفة محذوف دل عليه الفعل ، وتقديره : وخضتم خوضا كالخوض الذي خاضوا.

البلاغة :

(وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) قبض اليد : كناية عن الشح والبخل ، كما أن بسط اليد كناية عن الجود.

(نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) من باب المشاكلة ، لأن الله لا ينسى ، أي تركوا طاعته ، فتركهم تعالى من رحمته.

(كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) و (خُضْتُمْ) : فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب لزيادة التقريع والذم.

(فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ ...) فيه إطناب ، قصد منه الذم والتوبيخ ، لاشتغالهم بشهواتهم الفانية عن النظر في العاقبة وطلب الفلاح في الآخرة.

٢٩٣

المفردات اللغوية :

(بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) أي متشابهون في صفة النفاق والبعد عن الإيمان كأبعاض الشيء الواحد كما يقال : أنت مني وأنا منك ، أي أمرنا واحد لا مباينة فيه. وقال الزمخشري : المراد به نفي أن يكونوا من المؤمنين وتكذيبهم في حلفهم بالله : (إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ) ، وتقرير لقوله : (وَما هُمْ مِنْكُمْ) [التوبة ٩ / ٥٦] وما بعده كالدليل عليه ، فإنه يدل على مضادّة حالهم لحال المؤمنين ، وهو قوله : (يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ) أي بالكفر والمعاصي. والمنكر : إما شرعي : وهو ما يستقبحه الشرع ويمنعه ، وإما عقلي : وهو ما تستنكره العقول السليمة والفطر النقية ، لمنافاته الأخلاق والمصالح العامة. وضده المعروف. (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ) أي الإيمان والطاعة ، والمعروف : كل ما أمر به الشرع ، أو استحسنه العقل والعرف الصحيح غير المصادم للشرائع والأخلاق.

(وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) عن الإنفاق في الطاعة ، ويراد به الكف عن البذل فيما يرضي الله ، وضده : بسط اليد (نَسُوا اللهَ) تركوا طاعته وأوامره حتى صارت بمنزلة المنسيّ (فَنَسِيَهُمْ) فتركهم من فضله ولطفه ورحمته ، وجازاهم على نسيانهم وإغفالهم ذكر الله (الْفاسِقُونَ) الخارجون عن الطاعة ، المنسلخون عن أصول الإيمان ، الكاملون في التمرد والتنكر للخير.

(وَعَدَ اللهُ) الوعد : يستعمل في منح الخير والشر ، والوعيد خاص بالشر (خالِدِينَ فِيها) مقدّرين الخلود (هِيَ حَسْبُهُمْ) كفايتهم عقابا وجزاء ، وفيه دلالة على عظم عذابها (وَلَعَنَهُمُ اللهُ) أبعدهم من رحمته وأهانهم مع التعذيب ، وجعلهم مذمومين ملحقين بالشياطين الملاعين ، كما عظم أهل الجنة وألحقهم بالملائكة المكرّمين. واللعن : الطرد أو الإبعاد من الرحمة والإهانة والإذلال (وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) دائم ثابت لا ينقطع ، والمراد أن لهم نوعا من العذاب غير الصلي بالنار ، أو لهم عذاب ملازم لهم في الدنيا وهو ما يقاسونه من تعب النفاق.

(كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي أنتم أيها المنافقون مثل الذين من قبلكم من الكفار ، أو فعلتم مثل ما فعل الذين من قبلكم ، وهو أنكم استمتعتم وخضتم كما استمتعوا وخاضوا (فَاسْتَمْتَعُوا) تمتعوا (بِخَلاقِهِمْ) نصيبهم من ملاذ الدنيا (فَاسْتَمْتَعْتُمْ) أيها المنافقون (وَخُضْتُمْ) دخلتم في الباطل والطعن بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (كَالَّذِي خاضُوا) أي كخوضهم. وفائدة ذكر (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ) وقوله : (كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ) : أن يذم الأولين بالاستمتاع بحظوظ الدنيا ورضاهم بها ، والتهائهم بشهواتهم الفانية عن النظر في العاقبة والسعي في تحصيل الفلاح في الآخرة ، تمهيدا لذم المخاطبين بمشابهتهم واقتفاء أثرهم.

(حَبِطَتْ) بطلت وفسدت أعمالهم وذهبت فائدتها في الدنيا والآخرة ، ولم يستحقوا عليها ثوابا في الدارين (وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) الذين خسروا الدنيا والآخرة.

٢٩٤

(أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ) خبر (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ) أغرقوا بالطوفان (وَعادٍ) قوم هود أهلكوا بالريح (وَثَمُودَ) قوم صالح أهلكوا بالرجفة (وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ) أهلك نمرود ببعوض ، وأهلك أصحابه (وَأَصْحابِ مَدْيَنَ) هم قوم شعيب أهلكوا بالنار يوم الظلة (وَالْمُؤْتَفِكاتِ) قرى قوم لوط ، أي أهلها ، ائتفكت بهم ، أي انقلبت ، فصار عاليها سافلها ، وأمطروا حجارة من سجّيل (أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أتتهم يعني الكل بالمعجزات ، فكذبوهم فأهلكوا (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) أي لم يكن من عادته أن يعذبهم من غير ذنب (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بارتكاب الذنب وتعريضها للعقاب بالكفر والتكذيب.

المناسبة :

تستمر الآيات في بيان فضائح المنافقين وقبائحهم ، وهذا نوع آخر قصد به بيان الفرق بينهم وبين المؤمنين ، وتشبيههم بمن قبلهم من المنافقين والكفار ، وتمثيل حالهم بحال من سبقهم ، وعقد قياس أو موازنة بينهم وبين أناس غابرين ، لهم شبه بهم ، كما قصد به بيان أن إناثهم كذكورهم في تلك الأعمال المنكرة ، والأفعال الخبيثة.

التفسير والبيان :

تبيّن هذه الآيات وما بعدها الفروق الواضحة بين صفات المؤمنين وصفات المنافقين ، ولما كان المؤمنون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، كان المنافقون عكسهم.

المنافقون والمنافقات أي الرّجال والنّساء يشبه بعضهم بعضا في صفة النفاق والبعد عن الإيمان وفي الأخلاق والأعمال ، فهم يأمرون بالمنكر : وهو ما أنكره الشّرع ونهى عنه ، ولم يقرّه الطّبع السليم والعقل الصحيح ، كالكذب والخيانة وخلف الوعد ونقض العهد ، كما جاء في الحديث الصّحيح الذي أخرجه الشّيخان والتّرمذي والنّسائي عن أبي هريرة : «آية المنافق ثلاث : إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان». (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ) :

٢٩٥

وهو ما أمر به الشرع وأقرّه العقل والطّبع كالجهاد وبذل المال في سبيل الله ، كما قال تعالى عنهم : (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ : لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) [المنافقون ٦٣ / ٧].

ونسوا ذكر الله ، وأغفلوا تكاليف الشرع مما أمر به الله ونهى عنه ، فنسيهم أي جازاهم بمثل فعلهم ، وعاملهم معاملة من نسيهم ، بحرمانهم من لطفه ورحمته ، وفضله وتوفيقه في الدّنيا ، ومن الثواب في الآخرة ، كقوله تعالى : (الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) [الجاثية ٤٥ / ٣٤] ، وذلك لتركهم التّمسك بطاعة الله.

(إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) ، أي الخارجون عن طريق الحقّ والاستقامة ، الدّاخلون في طريق الضّلالة ، المتمرّدون في الكفر ، المنسلخون عن كلّ خير.

ثم بيّن الله تعالى جزاءهم فقال : (وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ).

أي أنه تعالى أكّد وعيده السابق بمجازاتهم وضمّهم إلى الكفار ، فأوعدهم جميعا نار جهنم يدخلونها ، ماكثين فيها أبدا ، مخلدين هم والكفار فيها ، هي كفايتهم في العذاب ووفاء الجزاء أعمالهم ، ولعنهم أي طردهم وأبعدهم من رحمته ، ولهم عذاب دائم مستمر غير عذاب جهنم والخلود فيها ، أو لهم عذاب ملازم في الدّنيا وهو ما يقاسونه من مرض النفاق ، والخوف من اطّلاع الرّسول والمسلمين على بواطنهم ، وحذرهم من أنواع الفضائح.

وفي ذكر النساء مع الرّجال دليل على عموم الوصف وتأصّل الدّاء ، وأما تأخير ذكر الكفار عن المنافقين فهو دليل على أنهم شرّ من الكفار ، وأن النّفاق أخطر من الكفر الصريح.

ثم بيّن الله تعالى أن ما أصاب هؤلاء المنافقين من العذاب في الدّنيا والآخرة ،

٢٩٦

له شبه بعذاب أولئك المنافقين والكفار السابقين مع أنبيائهم ، فأنتم مثلهم مغرورون بالدّنيا ومتاعها الفاني ، لكنهم (كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً ، وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً) ، فتمتعتم وخضتم كما تمتعوا وخاضوا ، وانصرفتم مثلهم إلى الاستمتاع بنصيبكم من المال والولد ، وبلذائذ الدّنيا وحظوظها الزائلة ، وشغلتم عن التّمتع بكلام الله وهدي رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم تنظروا في عواقب الأمور ، ولم تعملوا على طلب الفلاح في الآخرة ، وتوافرت دواعي الخير عندكم ، كما توافرت دواعي الشّرّ عندهم ، فكنتم أسوأ حالا منهم ، وأحقّ بالعقاب منهم. فقوله : (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ) أي بنصيبهم من ملاذ الدّنيا ، أو بنصيبهم من الدّين ، كما فعل الذين من قبلهم.

وخضتم كالذي خاضوا ، أي دخلتم في الباطل كما دخلوا ، أو خضتم خوضا كالذي خاضوا.

وفائدة ذكر الاستمتاع بالخلاق (النصيب) في حقّ المتقدمين أولا ، ثم ذكره في حق المنافقين ثانيا ، ثم العود إلى ذكره مرة أخرى في حق المتقدمين ثالثا : هو ذمّ الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدّنيا ، وحرمانهم عن سعادة الآخرة ، بسبب استغراقهم في تلك الحظوظ العاجلة ، ثم شبّه منافقي العهد الإسلامي بأولئك ، نهاية في المبالغة ، وزيادة في قبح وجه الشّبه ، كمن أراد أن ينبّه بعض الظّلمة على قبح ظلمه ، فيقول له : أنت مثل فرعون ، كان يقتل بغير جرم ، ويعذّب من غير موجب ، وأنت تفعل مثل فعله. وبالجملة فالتّكرار هاهنا للتّأكيد.

وبعد أن بيّن الله تعالى مشابهة هؤلاء المنافقين لأولئك الكفار المتقدّمين في طلب الدّنيا ، وفي الإعراض عن طلب الآخرة ، بيّن شبها آخر بين الفريقين : وهو تكذيب الأنبياء ، والاتّصاف بالمكر والخديعة والغدر بهم ، فقال : (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) أي كخوضهم الذي خاضوا ، وقد خاضوا في الكذب والباطل.

٢٩٧

ثم بيّن الله تعالى مصير أعمال جميع المنافقين والكفار المتقدّمين واللاحقين ، فقال : (أُولئِكَ حَبِطَتْ ...) أي إن أولئك المنافقين والكفار بطلت مساعيهم وحسناتهم وفسدت أعمالهم في الدّنيا ، لأنها أعمال رياء وسمعة ، وفي الآخرة ، فلم يكن لهم أجر أو ثواب ، لأنهم لم يقصدوا وجه الله ، ولأن شرط الثواب عليها الإيمان ، وهم لم يؤمنوا حقّا ، بل أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر ، فكانوا منافقين. وأولئك هم الخاسرون الذين خسروا في مظنة الرّبح والمنفعة ، لأنهم لم يحصلوا على الثّواب ، وأتعبوا أنفسهم في الرّدّ على الأنبياء والرّسل ، فما وجدوا إلّا فوات الخيرات في الدّنيا والآخرة ، وإلّا حصول العقاب في الدّنيا والآخرة.

وذلك مثل قوله تعالى : (قُلْ : هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) [الكهف ١٨ / ١٠٣ ـ ١٠٤] ، وقوله تعالى : (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ ...) نقيض فعل الصّالحين المشار إليه في قوله تعالى : (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا ، وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) [العنكبوت ٢٩ / ٢٧].

والمقصود : أنه تعالى بعد أن شبّه حال هؤلاء المنافقين بأولئك الكفار ، بيّن أن أولئك الكفار لم يحصل لهم إلا حبوط الأعمال ، وإلّا الخزي والخسار ، مع أنهم كانوا أقوى من هؤلاء المنافقين وأكثر أموالا وأولادا منهم ، مما جعل هؤلاء المنافقين أولى بالوقوع في عذاب الدّنيا والآخرة ، والحرمان من خيرات الدّنيا والآخرة (١).

ثم وعظ الله تعالى هؤلاء المنافقين المكذّبين للرّسل وأنذرهم بقوله : (أَلَمْ يَأْتِهِمْ ...) أي ألم تخبروا خبر من كان قبلكم من الأمم المكذّبة للرّسل ، وذكر طوائف ستّة ، وهم قوم نوح الذين أغرقوا بالطّوفان الذي عمّ جميع أهل الأرض القديمة إلا من آمن بنوح عليه‌السلام ، وعاد قوم هود الذين أهلكوا بالرّيح العقيم

__________________

(١) تفسير الرّازي : ١٦ / ١٢٩

٢٩٨

لما كذّبوا هودا عليه‌السلام ، وثمود قوم صالح الذين أخذتهم الصّيحة لما كذّبوا صالحا عليه‌السلام وعقروا النّاقة ، وقوم إبراهيم الذين أهلكهم الله بسلب النعمة عنهم ، وبتسليط البعوضة على ملكهم نمروذ بن كنعان بن كوش الكنعاني ، ونصر الله إبراهيم عليه‌السلام عليهم ، وأيّده بالمعجزات الظاهرة وأنقذه من النار ، وأصحاب مدين قوم شعيب عليه‌السلام الذين أصابتهم الرّجفة وعذاب يوم الظّلّة ، والمؤتفكات (١) قوم لوط الذين كانوا يسكنون في مدائن ، فأهلكهم الله بالخسف ، وجعل عالي أرضهم سافلها ، وأمطر عليهم الحجارة ، قال تعالى في آية أخرى : (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى) [النجم ٥٣ / ٥٣] أي الأمة المؤتفكة ، وأمّ قراهم : سدوم ، أهلكهم الله عن آخرهم ، بتكذيبهم نبي الله لوطا عليه‌السلام ، وإتيانهم الفاحشة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين.

ذكر الله تعالى هؤلاء الطوائف السّتّة ، لأنه أتاهم نبأ هؤلاء تارة ، بأن سمعوا أخبارهم في التاريخ المنقول من الناس ، وتارة لأجل أن بلاد هؤلاء ، وهي بلاد الشام ، قريبة من بلاد العرب ، وقد بقيت آثارهم مشاهدة.

وقوله تعالى : (أَلَمْ يَأْتِهِمْ) استفهام للتقرير والتوبيخ ، أي أتاهم نبأ هؤلاء الأقوام ، فلم يعتبروا.

هؤلاء أتتهم رسلهم بالبينات ، أي بالمعجزات والحجج والدلائل القاطعات ، وهنا لا بدّ من إضمار محذوف في الكلام ، تقديره : فكذّبوا ، فعجّل الله هلاكهم.

(فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) بإهلاكه إياهم ، لأنه أقام عليهم الحجّة بإرسال الرّسل ، (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بسبب أفعالهم القبيحة ، وتكذيبهم

__________________

(١) قال الواحدي : المؤتفكات : جمع مؤتفكة ، ومعنى الائتفاك في اللغة : الانقلاب ، وتلك القرى ائتفكت بأهلها ، أي انقلبت فصار أعلاها أسفلها ، فالمؤتفكات صفة القرى.

٢٩٩

الرّسل ، ومخالفتهم الحقّ ، فالظّلم كان من أنفسهم لا من الله تعالى ، فاستحقّوا ذلك العذاب.

والهدف من التذكير بهؤلاء الأقوام أن يعرف المنافقون والكفار أنّ سنّة الله في عباده واحدة لا تتغير ولا تتبدل ، فإذا ما أصرّوا على كفرهم ، فإن العذاب سينزل بهم ، لأن ما جرى على النّظير يجري على نظيره ، قال تعالى : (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ ، أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) [القمر ٥٤ / ٤٣].

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت الآيات على ما يأتي :

١ ـ النّفاق : مرض عضال متأصّل في البشر ، وأصحاب ذلك المرض متشابهون في كل عصر وزمان في الأمر بالمنكر والنّهي عن المعروف ، وقبض أيديهم وإمساكهم عن الإنفاق في سبيل الله للجهاد ، وفيما يجب عليهم من حق.

٢ ـ للمنافقين عذابان : عذاب في نار جهنم ، ونوع آخر من العذاب المقيم الدائم ، غير العذاب بالنار والخلود فيها.

٣ ـ الجزاء من جنس العمل ، فقوله تعالى : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) معناه أنهم تركوا أمره وطاعته حتى صار ذلك بمنزلة المنسي ، فتركهم من رحمته ، وسمّاه باسم الذّنب لمقابلته ، لأنه جزاء وعقوبة على الفعل ، وهو مجاز كقولهم : الجزاء بالجزاء ، وقوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى ٤٢ / ٤٠] ونحو ذلك.

٤ ـ سبب العذاب للكفار والمنافقين واحد في كل العصور : وهو إيثار الدّنيا على الآخرة والاستمتاع بها ، وتكذيب الأنبياء والمكر والخديعة والغدر بهم. وقد وعد الله الكفار نار جهنم وعدا كما وعد الذين من قبلهم ، لفعلهم أفعال الذين من

٣٠٠