التفسير المنير - ج ١٠

الدكتور وهبة الزحيلي

قبلهم كالأمر بالمنكر والنّهي عن المعروف. جاء في الصّحيح عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم: «لتتّبعنّ سنن من قبلكم ، شبرا بشبر ، وذراعا بذراع ، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه ، قالوا : يا رسول الله ، اليهود والنّصارى؟ قال : فمن؟».

وقال ابن عباس ونحوه عن ابن مسعود : ما أشبه الليلة بالبارحة ، هؤلاء بنو إسرائيل ، شبّهنا بهم.

٥ ـ آية (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) دلّت على مشروعية القياس ، وإلحاق النظائر والأشباه ببعضها ، ويؤيّدها قوله تعالى : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) [الحشر ٥٩ / ٢].

٦ ـ لا ثواب على أعمال الكفار في الآخرة : (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) أي بطلت حسناتهم (وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) فلم يحصلوا على الثواب.

٧ ـ إن إهلاك الأمم والأقوام الغابرة بسبب كفرهم وتكذيبهم الأنبياء فيه عظة وعبرة للمعتبر من العقلاء.

٨ ـ لا عقوبة إلا بذنب : (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) أي ليهلكهم حتى يبعث إليهم الأنبياء ، ويصدر منهم ما يستحقون به العذاب (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) أي ولكن ظلموا أنفسهم بعد قيام الحجة عليهم.

٣٠١

أوصاف المؤمنين وجزاؤهم الأخروي

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٧١) وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢))

البلاغة :

في هذه الآيات مقابلة لطيفة بين صفات المؤمنين وصفات المنافقين ، ومقابلة أيضا في الجزاء بين نار جهنم والجنة ، فهي مقابلة في الصفات وفي الجزاء.

المفردات اللغوية :

(أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي يتناصرون ويتعاضدون ، من الولاية : وهي النصرة في الشدائد ، والأخوة والمحبة ، وهي ضد العداوة (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) لا يعجزه شيء عن إنجاز وعده ووعيده ، فيعز من أطاعه ، فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين (حَكِيمٌ) لا يضع شيئا إلا في محله (جَنَّاتٍ) هي البساتين ، الكثيرة الأشجار ، الملتفة الأغصان ، التي تستر ما حولها من الأرض (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً) أي حسنة البناء طيبة القرار (جَنَّاتِ عَدْنٍ) عدن : اسم مكان خاص في الجنة كالفردوس ، بدليل قوله تعالى : (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ) [مريم ١٩ / ٦١] ويدل عليه ما روى أبو الدرداء رضي‌الله‌عنه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عدن : دار الله التي لم ترها عين ، ولم تخطر على قلب بشر ، لا يسكنها غير ثلاثة : النبيون ، والصدّيقون ، والشهداء ، يقول الله تعالى : طوبى لمن دخلك».

(وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) أي وشيء من رضوان الله أكبر وأعظم من ذلك كله ؛ لأن رضاه هو

٣٠٢

سبب كل فوز وسعادة ، ولأنهم ينالون برضاه عنهم تعظيمه وكرامته ، والكرامة أكبر أصناف الثواب (ذلِكَ) إشارة إلى ما وعد الله ، أو إلى الرضوان (هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) وحده دون ما يعدّه الناس فوزا.

المناسبة :

لما ذكر الله تعالى صفات المنافقين الذميمة وما أعده لهم من العذاب ، أعقبه بذكر صفات المؤمنين المحمودة وما أعده لهم من الثواب الدائم والنعيم المقيم.

وهكذا الشأن في الأسلوب القرآني يذكر المتقابلات والأضداد ، للعبرة والعظة ، وبيان الفروق ، لاختيار الإنسان ما فيه المصلحة. وهنا يتجلى الفرق الواضح بين أفعال المنافقين الخبيثة وما يستحقونه من العذاب ، وبين أفعال المؤمنين الحميدة وما يلاقونه من ثواب ، ليعلم المنافقون أنهم غير مؤمنين في الحقيقة ، وأن ما يظهرونه من إيمان نفاق وخداع ، سرعان ما ينكشف ، ولا يفيدهم مطلقا.

وأما السبب في ذكر لفظ (مِنْ) في المنافقين : (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) وفي المؤمنين لفظ (أَوْلِياءُ) : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) : فهو أن تجمع المنافقين على النفاق إنما هو بسبب التقليد والميل والعادة ، وأما تجمع المؤمنين على الإيمان فهو بسبب المشاركة في القناعة والاستدلال والتوفيق والهداية.

التفسير والبيان :

إن أهل الإيمان من الذكور والإناث متناصرون متعاضدون ، كما جاء في الحديث الصحيح: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» وشبك بين أصابعه ، وفي الصحيح أيضا : «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو ، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر».

٣٠٣

وقد كان التعاون بين المسلمين والمسلمات قائما في الميادين والمواقف الحاسمة كلها كالهجرة والجهاد ، مع اعتصام الرجال بالعفة وغض البصر ، واعتصام النساء بالأدب الجم والحياء والتعفف وغض البصر والاحتشام في الحديث واللباس والعمل. فقد كان للمرأة دور بارز في إنجاح الهجرة كأسماء ذات النطاقين ، وكانت النسوة في المعارك والحروب مع الأعداء يسقين الماء ، ويجهزن الطعام ، ويحرضن على القتال ، ويرددن المنهزم من الرجال ، ويواسين الجرحى ، ويعالجن المرضى.

وقوله في أهل الإيمان : (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) في مقابلة قوله في المنافقين : بعضهم من بعض ؛ لأن المؤمنين إخوة تسودهم المحبة والمودة والتعاون والتعاطف ، وأما المنافقون فلا رابطة قوية بينهم ولا عقيدة تجمعهم ، وإنما هم أتباع بعضهم بعضا في الشكوك والجبن والبخل والانهزام والتردد ؛ لأن قلوبهم مختلفة.

وقد ذكر الله تعالى هنا للمؤمنين أوصافا خمسة غير الولاية مع بعضهم يتميز بها المؤمن عن المنافق ، وهي في قوله : (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ، وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ ، وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ).

فالمؤمنون يأمرون بالمعروف ، والمنافقون يأمرون بالمنكر كما في الآية المتقدمة.

والمؤمنون ينهون عن المنكر ، والمنافقون ينهون عن المعروف كما تقدم.

والمؤمنون يقيمون الصلاة على أكمل وجه وفي خشوع لله ، والمنافقون لا يقومون إلى الصلاة إلا وهم كسالى ، يراءون الناس.

والمؤمنون يؤتون الزكاة المفروضة عليهم مع التطوع بالصدقات ، والمنافقون يبخلون ويقبضون أيديهم عن الإنفاق في سبيل الله ، كما في الآية السابقة.

٣٠٤

والمؤمنون يطيعون الله ورسوله ، بفعل ما أمرا به ، وترك ما نهيا عنه ، والمنافقون فاسقون متمردون خارجون عن الطاعة.

وبسبب هذه الصفات التي يتصف بها أهل الإيمان استحقوا الرحمة : (أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ) أي سيرحم الله من اتصف بهذه الصفات ، ويتعهدهم برحمته في الدنيا والآخرة ، وذكر حرف السين في قوله (سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ) للتوكيد والمبالغة ، ويقابل هذا نسيانه تعالى المنافقين من رحمته : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) فهو تعالى كما وعد المنافقين نار جهنم ، فقد وعد المؤمنين الرحمة المستقبلة وهي ثواب الآخرة.

إن الله عزيز لا يمتنع عليه شيء من وعد ولا وعيد ، حكيم لا يضع شيئا في غير موضعه ، فلا حائل يحول بينه وبين عباده من رحمة أو عقوبة ، وهو الحكيم المدبر أمر عباده على وفق العدل والحكمة والصواب ، فيخص المؤمنين بالجنة والرضوان ، ويخص المنافقين بالنار والعذاب والغضب.

ثم فصل الله تعالى ما وعد به المؤمنين من الرحمة ، فأبان أن تلك الرحمة تشمل خيرات كثيرة ونعيما مقيما في جنات : بساتين مشجرة تغطي ما تحتها ، تجري الأنهار من تحت أشجارها ، فتزيدها جمالا ، وهم خالدون ماكثون فيها أبدا ، ولهم فيها مساكن طيبة أي حسنة البناء طيبة القرار ، كما جاء في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال : «جنتان : من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه ، في جنة عدن» ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة ، طولها ستون ميلا في السماء ، للمؤمن فيها أهلون ، يطوف عليهم ، لا يرى بعضهم بعضا».

وفي الصحيحين أيضا عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه : «إن في الجنة مائة

٣٠٥

درجة ، أعدها الله للمجاهدين في سبيله ، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، فإذا سألتم الله ، فاسألوه الفردوس ، فإنه أعلى الجنة ، وأوسط الجنة ، ومنه تفجّر أنهار الجنة ، وفوقه عرش الرحمن».

وجنات عدن : اسم مكان ومنزل من منازل الجنة كالفردوس ، بدليل قوله تعالى : (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ) [مريم ١٩ / ٦١] وبدليل حديث أبي الدرداء المتقدم في شرح المفردات. وقيل : العدن : الإقامة والاستقرار ، فجنات عدن : هي جنات الإقامة والخلود ، كقوله تعالى : (جَنَّةُ الْخُلْدِ) [الفرقان ٢٥ / ١٥] و (جَنَّةُ الْمَأْوى) [النجم ٥٣ / ١٥] فالجنات كلها جنات عدن.

وللمؤمنين أيضا رضوان من الله أكبر وأعظم من الجنان ، أي رضا الله عنهم أجل مما هم فيه من النعيم ، وذلك دليل قاطع على أن السعادة الروحية أكمل وأشرف من السعادة الجسدية. ويؤيده ما رواه الإمام مالك والشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي‌الله‌عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إن الله عزوجل يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة ، فيقولون : لبّيك ربنا وسعديك ، والخير في يديك. فيقول : هل رضيتم؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى يا رب ، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك ، فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون : يا رب ، وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحلّ عليكم رضواني ، فلا أسخط عليكم بعده أبدا».

وقيل : إن الرضوان هو رؤية الله يوم القيامة ، كما قال تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس ١٠ / ٢٦].

ولما ذكر تعالى هذه الأمور الثلاثة (الجنات ، والمساكن الطيبة في جنات عدن ، والرضوان الإلهي الأكبر) قال : (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي ذلك

٣٠٦

الوعد الصادر من الله ، أو ذلك الرضوان أو هما معا أي النعيم الجسدي والروحي هو الفوز العظيم وحده ، دون ما يعده الناس فوزا ، وهو الذي يجزى به المؤمنون الخلّص ، لا غيره من طيبات الدنيا الفانية التي يحرص عليها المنافقون والكفار ويطلبونها دائما.

فقه الحياة أو الأحكام :

موضوع الآيات في صفات المؤمنين لتمييزهم عن المنافقين ، وما وعدهم به ربهم في الآخرة ، أما الصفات فهي ست ، وأما الوعود فهي ثلاثة ، والصفات الست هي ما يأتي :

١ ـ إن أهل الإيمان رجالا ونساء أمة واحدة مترابطة متعاونة متناصرة ، قلوبهم متحدة في التوادّ والتحابّ والتعاطف. أما المنافقون بعضهم من بعض ؛ لأن قلوبهم مختلفة ، لا رابطة تربطهم غير الاتصاف بالنفاق وضم بعضهم إلى بعض في الحكم.

٢ ـ يأمر أهل الإيمان بالمعروف أي بعبادة الله تعالى وتوحيده وما يتبع ذلك من أوامر الشرع ومحاسنه وآدابه. والمنافقون يأمرون بالمنكر.

٣ ـ ينهي أهل الإيمان عن المنكر من عبادة الأوثان وما تبع ذلك مما منعه الشرع ، والمنافقون ينهون عن المعروف.

٤ ـ أهل الإيمان يقيمون الصلوات المفروضة الخمس ، والمنافقون إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس.

٥ ـ أهل الإيمان يؤدون الزكاة المفروضة عليهم ، والمنافقون كانوا يزكون خوفا أو رياء ، لا طاعة لله تعالى ، ويقبضون أيديهم عن الإنفاق في سبيل الله.

٣٠٧

٦ ـ أهل الإيمان يطيعون الله في الفرائض ورسوله فيما سنّ لهم ، والمنافقون متنكرون للطاعة.

وأما وعد الله تعالى للمؤمنين فيشمل ثلاثة أشياء مفسّرة للرحمة التي وعدهم بها في الآية المتقدمة :

١ ـ الجنات التي تجري من تحتها الأنهار ، أي البساتين التي ينعم بها الناظر ، وتجري من تحت أشجارها وغرفها الأنهار ، وهي تجري منضبطة بالقدرة الإلهية في غير أخدود (شقّ).

٢ ـ المساكن الطيبة في جنات عدن ، أي القصور من الزبرجد (جوهر معروف هو الزمرّد الأخضر) والدّرّ والياقوت (ذي اللون الأحمر) يفوح طيبها من مسيرة خمس مائة عام ، في جنات عدن (اسم موضع معين في الجنة ، أو دار إقامة). قال مقاتل والكلبي : عدن : أعلى درجة في الجنة ، وفيها عين التسنيم ، والجنان حولها محفوفة بها ، وهي مغطاة من يوم خلقها الله حتى ينزلها الأنبياء والصدّيقون والشهداء والصالحون ومن يشاء الله.

٣ ـ رضوان من الله أكبر وأعظم وأجل من كل ما ذكر. وفي هذا دلالة واضحة على أن السعادة الروحانية أفضل من الجسمانية.

جهاد الكفار والمنافقين وأسبابه

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣) يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما

٣٠٨

نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٧٤))

الإعراب :

(وَلَقَدْ قالُوا) اللام لام القسم.

(إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ ...) الاستثناء مفرّغ.

البلاغة :

(وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ) فيه تأكيد المدح بما يشبه الذّم ، كما قال الشاعر :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

المفردات اللغوية :

(جاهِدِ الْكُفَّارَ) بالسّلاح. والجهاد : استفراغ الجهد والوسع في مدافعة العدوّ. (وَالْمُنافِقِينَ) باللسان والحجّة. (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) بالانتهار والمقت ، والغلظة : الخشونة والقسوة في المعاملة وهي ضدّ اللين. (الْمَصِيرُ) المرجع.

(يَحْلِفُونَ بِاللهِ) أي المنافقون. (ما قالُوا) وهو ما بلغك عنهم من السّبّ والطّعن. (وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) أظهروا الكفر بعد إظهار الإسلام. (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) من الفتك بالنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة العقبة ، عند عوده من تبوك ، وهم بضعة عشر رجلا ، فضرب عمار بن ياسر وجوه الرّواحل لما غشوه ، فردّوا. (وَما نَقَمُوا) أنكروا وكرهوا وعابوا عليه. (إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) أي أثراهم بالغنائم بعد شدّة حاجتهم. (فَإِنْ يَتُوبُوا) عن النّفاق ويؤمنوا بك. (وَإِنْ يَتَوَلَّوْا) عن الإيمان. (عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا) بالقتل. (وَالْآخِرَةِ) بالنّار. (وَلِيٍ) يحفظهم منه. (وَلا نَصِيرٍ) يمنعهم منه.

سبب النزول :

نزول الآية (يَحْلِفُونَ بِاللهِ) :

قال الضّحّاك : خرج المنافقون مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى تبوك ، وكانوا إذا خلا بعضهم ببعض سبّوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه ، وطعنوا في الدّين ، فنقل

٣٠٩

ما قالوا حذيفة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا أهل النّفاق ، ما هذا الذي بلغني عنكم؟» ، فحلفوا ما قالوا شيئا من ذلك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية كذّابا لهم (١).

وقال قتادة فيما أخرجه عنه ابن جرير : ذكر لنا أن رجلين اقتتلا ، أحدهما من جهينة ، والآخر من غفار ، فظهر الغفاري على الجهني ، فنادى عبد الله بن أبيّ ، يا بني الأوس انصروا أخاكم ، فوالله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل : سمّن كلبك يأكلك ، فوالله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، فسمع بها رجل من المسلمين ، فجاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأخبره ، فأرسل إليه ، فجعل يحلف بالله ما قال ، وأنزل الله تعالى هذه الآية (٢).

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن الجلاس بن سويد أحد المتخلّفين عن غزوة تبوك قال : لئن كان هذا الرّجل صادقا (يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على إخواننا الذين هم سادتنا وخيارنا ، لنحن شرّ من الحمير (يقصد الآيات التي نزلت فيمن تخلّف من المنافقين) فرفع عمير بن سعيد ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فحلف بالله : ما قلت ، فأنزل الله تعالى : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا) الآية. فزعموا أنه تاب وحسنت توبته.

ولعل أصحّ ما ذكر في سبب نزول هذه الآية :ما رواه ابن جرير والطّبراني وأبو الشيخ ابن حيان وابن مردويه عن ابن عباس رضي‌الله‌عنه قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جالسا في ظلّ شجرة ، فقال : إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان ، فإذا جاء فلا تكلموا ، فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق ، فدعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال له : علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فانطلق الرّجل ، فجاء

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ص ١٤٤

(٢) أسباب النزول ، المرجع السابق ، تفسير الرازي : ١٦ / ١٣٦ ، تفسير ابن كثير : ٢ / ٣٧١

٣١٠

بأصحابه ، فحلفوا بالله ما قالوا ، فتجاوز عنهم ، فأنزل الله : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا) الآية».

والخلاصة : إنه عليه الصّلاة والسّلام أقام في غزوة تبوك شهرين ، ينزل عليه القرآن ، ويعيب المتخلّفين ، فنطق بعضهم بكلمة الكفر التي لم تذكر في القرآن ، لئلا يتعبّد المسلمون بتلاوتها ، فاختلف الرّواة فيها ، كما ذكر ، ولا مانع من تعدّد أسباب النّزول.

نزول : (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) :

قال الضّحّاك : همّوا أن يدفعوا ليلة العقبة ، وكانوا قوما قد أجمعوا على أن يقتلوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهم معه يلتمسون غرّته حتى أخذ في عقبة ، فتقدّم بعضهم وتأخّر بعضهم ، وذلك كان ليلا ، قالوا : إذا أخذ في العقبة دفعناه عن راحلته في الوادي ، وكان قائده في تلك الليلة عمار بن ياسر ، وسائقه حذيفة ، فسمع حذيفة وقع أخفاف الإبل ، فالتفت فإذا هو بقوم متلثّمين ، فقال : إليكم يا أعداء الله فأمسكوا ، ومضى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى نزل منزله الذي أراد ، فأنزل الله تعالى : (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا)(١).

المناسبة :

بعد أن قارن الله تعالى صفات المؤمنين مع صفات المنافقين ، وقابل بين جزاء كل من الفريقين ، عاد مرة أخرى إلى تهديد الكفار والمنافقين وإنذارهم بالجهاد ، وأبان أسبابه من إظهار الكفر ، وحلف الأيمان الكاذبة ، وقول كلمات فاسدة ، ثم فتح لهم باب الأمل وهو التوبة ، وهددهم بالعذاب الأليم إن أصروا على الكفر.

__________________

(١) أسباب النزول ، المرجع السابق : ص ١٤٥ ، تفسير الرّازي ، المرجع السابق.

٣١١

التفسير والبيان :

الجهاد ثلاثة أنواع : جهاد العدو الظاهر ، وجهاد الشيطان ، وجهاد النفس والهوى. ويشملها كلها قوله تعالى : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) [الحج ٢٢ / ٧٨] وقوله : (وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) [التوبة ٩ / ٤١]. وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم عن أنس بن مالك : «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم» والجهاد باللسان : إقامة الحجة والبرهان.

وروى ابن كثير عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأربعة أسياف : سيف للمشركين : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) [التوبة ٩ / ٥] وسيف للكفار : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ ، وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ ، مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ ، وَهُمْ صاغِرُونَ) [التوبة ٩ / ٢٩] وسيف للمنافقين : (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) [التوبة ٩ / ٧٣] وسيف للبغاة : (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) [الحجرات ٤٩ / ٩].

وهذا يقتضي أنهم يجاهدون بالسيوف إذا أظهروا النفاق ، كما اختار ابن جرير الطبري. فإن لم يظهروا النفاق يعاملون باتفاق الأئمة معاملة المسلمين إلا إذا ارتدوا ، أو بغوا على جماعة المسلمين بالقوة ، أو امتنعوا من إقامة شعائر الإسلام وأركانه. قال ابن عباس رضي‌الله‌عنه : جهاد الكفار بالسيف ، وجهاد المنافقين باللسان ، أي بالحجة والبرهان.

والكافر : هو كل من لم يؤمن بالإسلام ، أو من لم ينطق بالشهادتين ، والكفر : ستر نعمة الله تعالى وجحود الإسلام. والمنافق : هو الذي يستر كفره وينكره بلسانه.

٣١٢

ومعنى الآية : يا أيها النبي جاهد كلّا من الكفار والمنافقين ، واغلظ عليهم أي عاملهم بالخشونة والشدة ، ولا تحابهم ولا تلن لهم واعلم أن مقرهم جهنم لا مقر لهم سواه ، وبئس المصير مصيرهم : (إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) [الفرقان ٢٥ / ٦٦]. أي أن لهم عذابين : عذاب الدنيا بالجهاد ، وعذاب الآخرة في جهنم.

والجهاد : عبارة عن بذل الجهد ، وليس في الآية ما يدل على أن ذلك الجهاد بالسيف أو باللسان ، أو بطريق آخر ، وإنما تدل على وجوب الجهاد مع الفريقين ، فأما كيفية تلك المجاهدة فلفظ الآية لا يدل عليها ، بل إنما يعرف من دليل آخر ، وهذا هو الرأي الصحيح الذي اختاره الرازي.

وقد دلت الدلائل الأخرى من غير الآية على أن جهاد الكفار بالسيف ، وجهاد المنافقين تارة بإقامة الحجة والبرهان ، وبترك الرفق أحيانا ، وبالانتهار أحيانا أخرى. قال ابن مسعود في قوله: (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) : تارة باليد (أي بالسلاح الحربي) وتارة باللسان ، فمن لم يستطع فليكشر في وجهه ، فمن لم يستطع فبالقلب.

وقد أدت سياسة الإسلام الحكيمة بأمر الله وحكمة رسوله ، ومعاملة المنافقين معاملة المسلمين في الظاهر ، إلى توبة أكثرهم وإسلام الألوف منهم.

ثم ذكر الله تعالى أسباب جهاد الكفار والمنافقين ، وهي إظهار الكفر بالقول ، والهمّ بالفتك برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والاستهزاء بآيات الله وبالنبي والمؤمنين ، فقال : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ...).

أي إن القرآن يثبت للمنافقين الكذب الصريح واليمين الفاجرة ، فهم يحلفون بالله ، إنهم ما قالوا كلمة الكفر التي رويت عنهم ، ولم يذكر القرآن تلك الكلمة ، ترفعا من ذكرها ، ولئلا يردد المسلمون تلاوتها ، ولكنهم قالوها ، وهي كما ذكر

٣١٣

في سبب النزول : إنهم لما اجتمعوا إثر رجوع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تبوك ، وكانوا خمسة عشر ، بقصد الفتك به ، ودفعه عن راحلته ، فقد طعنوا في نبوته ، ونسبوه إلى الكذب ، والتصنع في ادعاء الرسالة ، وذلك هو قول كلمة الكفر ، كما اختار الزجاج والرازي.

وكفروا بعد إسلامهم : معناه أظهروا الكفر بعد أن أظهروا الإسلام.

وهمّهم بما لم ينالوا : هو اغتيال الرسول في العقبة ، بعد رجوعه من تبوك. والصحيح أن عددهم كما جاء في رواية مسلم اثنا عشر منافقا.

وما أنكر هؤلاء المنافقون وما عابوا من أمر الإسلام أو الدين وبعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئا ، (إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ) تعالى من فضله ورسوله ، بالغنائم الحربية ، وكانوا كسائر الأنصار في المدينة فقراء ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للأنصار : «كنتم عالة ، فأغناكم الله بي» أي أن أكثر أهل المدينة كانوا بحاجة وضنك من العيش ، فلما قدمهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أثروا بالغنائم.

وروي أنه قتل للجلاس بن سويد (أحد المتخلفين عن تبوك) مولى ، فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بديته اثني عشر ألفا ، فاستغنى.

فليس هناك شيء ينقمون منه إلا أن الإسلام كان سببا في غناهم. وهذا مدح بما يشبه الذم.

فإن ينوبوا من النفاق ومساوئ أقوالهم وأفعالهم ، يكن ذلك خيرا لهم وأصلح ، ويفوزوا بالخير ، ويقبل الله توبتهم. وفي هذا ترغيب لهم بالتوبة ، وفتح باب الأمل والرجاء بالرحمة أمامهم.

وإن يتولوا عن التوبة بالإصرار على النفاق ، يعذبهم الله عذابا مؤلما في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فهو قتلهم وسبي أولادهم ونسائهم واغتنام أموالهم ،

٣١٤

وعيشهم في قلق وهمّ وخوف ، كما قال تعالى عنهم : (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً ، لَوَلَّوْا إِلَيْهِ ، وَهُمْ يَجْمَحُونَ) [التوبة ٩ / ٥٧] وقال : (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) [المنافقون ٦٣ / ٤]. وأما عذابهم في الآخرة فهو معروف ، وهو إلقاؤهم (فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ).

وما لهم في الأرض كلها من ولي يتولى أمورهم ويدافع عنهم ، ولا نصير ينصرهم وينجّيهم من العذاب ، إذ أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض ، وأما المنافقون فلا ولاية لهم ولا نصرة بينهم ، فليس لهم أحد يجلب لهم خيرا أو يدفع عنهم شرا.

فقه الحياة أو الأحكام :

موضوع الآيات جهاد الكفار والمنافقين وأسباب ذلك ، وقد دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ وجوب مجاهدة الكفار والمنافقين ، والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولأمته من بعده.

وجهاد الكفار بالسيف وسائر أنواع الأسلحة الحربية ، وجهاد المنافقين باللسان ، وشدة الزجر والتغليط ، أي بإقامة الحجة والبرهان تارة ، وبالانتهار والكهر تارة أخرى. ويلاحظ أن إقامة الحجة باللسان دائمة.

٢ ـ أسباب جهادهم : إعلان الكفر ، وسبّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والطعن في الإسلام ، وتآمرهم على اغتيال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واستهزاؤهم بآيات الله وبالرسول والمؤمنين.

٣ ـ حلفهم الأيمان الفاجرة الكاذبة. والصحيح أن هذه الأقوال والأفعال لخبيثة هي ظاهرة عامة بين المنافقين ؛ لعموم القول ، ووجود المعنى في

٣١٥

عبد الله بن أبي والجلاس بن سويد ، ووديعة بن ثابت وفي غيرهم. وأساس اعتقادهم في النبي أنه ليس بنبي.

٤ ـ كلمة الكفر التي قالوها قيل : هي تكذيبهم بما وعد الله من الفتح ، أو قول الجلاس : إن كان ما جاء به محمد حقا لنحن أشرّ من الحمير ، أو قول عبد الله بن أبي : (لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) [المنافقون ٦٣ / ٨] ، وقيل : هي سبّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والطعن في الإسلام. والظاهر هو المعنى الأخير.

٥ ـ دل قوله : (وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) أي بعد الحكم بإسلامهم ، على أن المنافقين كفار ، ويدل عليه دلالة قاطعة قوله تعالى في آية أخرى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) [المنافقون ٦٣ / ٣].

ودلّ هذا القول أيضا على أن الكفر يكون بكل ما يناقض التصديق بالله وبالنبوة ، والمعرفة لله عزوجل ، وإن كان الإيمان لا يكون إلا بلا إله إلا الله ، دون غيره من الأقوال والأفعال إلا في الصلاة. فمن شوهد يصلي الصلاة في وقتها ، حتى صلّى صلوات كثيرة حكم عليه بالإيمان.

٦ ـ دلّ قوله : (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) على مؤامرة جماعية من المنافقين ، وكانوا في الأصح اثني عشر منافقا ، لقتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة العقبة في غزوة تبوك. تشبه مؤامرة كفار قريش ليلة الهجرة.

٧ ـ المنافقون من شرّ الناس ؛ لأنهم كما ذكر تعالى : (وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ ...) غادرون ، يقابلون الإحسان بالإساءة ، فقد استغنوا بالغنائم ، ومع ذلك هموا بقتل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فانطبق عليهم المثل المشهور : «اتق شرّ من أحسنت إليه».

٣١٦

٨ ـ أرشد قوله : (فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ) على توبة الكافر الذي يسرّ الكفر ، ويظهر الإيمان ، وهو الذي يسميه الفقهاء : الزنديق. وقد اختلف العلماء في شأن توبته ، فقال الشافعي والجمهور : تقبل توبته ، وقال مالك : توبة الزنديق لا تعرف ؛ لأنه كان يظهر الإيمان ويسرّ الكفر ، ولا يعلم إيمانه إلا بقوله. فإذا عثر عليه وقال : تبت ، لم يقبل قوله ، وإذا جاءنا تائبا من قبل نفسه قبل أن يعثر عليه ، قبلت توبته. وهو المراد بالآية.

٩ ـ المنافقون خسروا الدنيا والآخرة ، فإن هم أصروا على النفاق يعذبهم الله عذابين : في الدنيا بالقتل ، وفي الآخرة بالنار ، وما لهم في الأرض كلها وليّ أي مانع يمنعهم ، ولا نصير أي معين ينصرهم.

كذب المنافقين وإخلافهم العهد والوعد

قصة ثعلبة بن حاطب المزعومة

(وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٧٨))

الإعراب :

(وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ مَنْ) : مبتدأ (وَمِنْهُمْ) متعلق بالخبر المحذوف ، وتقديره كائن منهم. وهي صيغة قسم في المعنى ، بدليل اللام في قوله : (لَئِنْ) وهي لام القسم ، وأما لام : (لَنَصَّدَّقَنَ) فهي لام الجواب. وكلاهما للتأكيد.

٣١٧

البلاغة :

(يَعْلَمُ سِرَّهُمْ) و (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) فيهما جناس اشتقاق.

(أَلَمْ يَعْلَمُوا) الاستفهام للتوبيخ والتقريع.

المفردات اللغوية :

(وَمِنْهُمْ) أي ومن المنافقين. (وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) قال ابن عباس رضي‌الله‌عنه : يريد الحج. (وَتَوَلَّوْا) عن طاعة الله. (فَأَعْقَبَهُمْ) فأورثهم البخل ، والضمير يعود للبخل ، في رأي الحسن وقتادة رحمهما‌الله ، والظاهر أن الضمير لله عزوجل. (نِفاقاً) ثابتا متمكنا. (فِي قُلُوبِهِمْ) لأنه كان سببا فيه وداعيا إليه ، وبما أن الضمير يعود لله تعالى في الراجح فالمعنى : فخذلهم حتى نافقوا ، وتمكن في قلوبهم نفاقهم ، فلا ينفك عنها إلى أن يموتوا بسبب إخلافهم ما وعدوا الله من التصدق والصلاح. (إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) إلى يوم لقاء الله وهو يوم القيامة.

سبب النزول :

هناك قصة مشهورة بين الناس تروي سبب نزول هذه الآيات رددتها كتب التفسير ، لكنها لم تصح لدى المحدثين ، وهي ما أخرجه الطبراني وابن مردويه وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل بسند ضعيف عن أبي أمامة : أن ثعلبة بن أبي حاطب قال : يا رسول الله ، ادع الله أن يرزقني مالا ، قال : ويحك يا ثعلبة ، قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه ، قال : والله ، لئن آتاني الله مالا ، لأوتين كل ذي حقّ حقه ، فدعا له ، فاتخذ غنما ، فنمت ، حتى ضاقت عليه أزقّة المدينة ، فتنحّى بها ، وكان يشهد الصلاة ، ثم يخرج إليها ، ثم نمت حتى تعذرت عليه مراعي المدينة ، فتنحى بها ، فكان يشهد الجمعة ، ثم يخرج إليها ، ثم نمت فتنحى بها ، فترك الجمعة والجماعة ، ثم أنزل الله على رسوله : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) فاستعمل على الصدقات رجلين ، وكتب لهما كتابا ، فأتيا ثعلبة ، فأقرآه كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : انطلقا إلى الناس ، فإذا فرغتما ، فمرا بي ، ففعلا ، فقال : ما هذه إلا أخت الجزية! فانطلقا ، فأنزل

٣١٨

الله : (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ ، لَئِنْ آتانا) الله (مِنْ فَضْلِهِ) إلى قوله : (يَكْذِبُونَ).

وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس نحوه.

فجاء ثعلبة بالصدقة ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك. فجعل يحثو التراب على رأسه ، فقال : هذا جزاء عملك ، قد أمرتك ، فلم تطعني ، فقبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فجاء بها إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه ، فلم يقبلها ، ثم جاء بها إلى عمر في خلافته فلم يقبلها ، وهلك في زمان عثمان رضي‌الله‌عنه.

والحقيقة أن ما روي عن ثعلبة هذا غير صحيح لدى المحدثين ، وثعلبة بدري أنصاري ، وممن شهد الله له ورسوله بالإيمان. قال ابن عبد البر : ولعلّ قول من قال في ثعلبة أنه مانع الزكاة الذي نزلت فيه الآية غير صحيح ، والله أعلم.

وقال الضحاك : إن الآية نزلت في رجال من المنافقين : نبتل بن الحارث ، وجدّ بن قيس ، ومعتّب بن قشير. قال القرطبي : وهذا أشبه بنزول الآية فيهم ، إلا أن قوله : (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً) يدل على أن الذي عاهد الله تعالى لم يكن منافقا من قبل ، إلا أن يكون المعنى : زادهم نفاقا ثبتوا عليه إلى الممات ، وهو قوله تعالى : (إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ)(١).

وذكر عن ابن عباس في سبب نزول الآية أن ثعلبة بن أبي حاطب أبطأ عنه

ماله بالشام ، فحلف في مجلس من مجالس الأنصار : إن سلم ذلك لأتصدقن منه ، ولأصلنّ منه ، فلما سلم بخل بذلك ، فنزلت. وهذا أيضا غير صحيح.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٨ / ٢١٠

٣١٩

المناسبة :

لا تزال الآيات الكريمة تتحدث عن المنافقين ، وتفضح أسرارهم ، وتكشف أحوالهم للناس ، وبما أنهم أقسام وأصناف ذكرهم تعالى على التفصيل ، فقال : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَ) [التوبة ٩ / ٦١](وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ) [التوبة ٩ / ٥٨](وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي) [التوبة ٩ / ٤٩](وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ).

التفسير والبيان :

وبعض المنافقين عاهد الله ورسوله : لئن أغناه الله من فضله ، ليصدّقن وليكونن من الصالحين الذين ينفقون أموالهم في مرضاة الله ، كصلة الرحم والجهاد. فقوله : (لَنَصَّدَّقَنَ) إشارة إلى إخراج الزكاة الواجبة ، وقوله : (وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) إشارة إلى إخراج كل مال يجب إخراجه على الإطلاق.

فلما رزقهم الله تعالى ، وأعطاهم من فضله ما طلبوا ، لم يوفوا بما قالوا ، ولم يصدقوا فيما وعدوا ، وإنما بخلوا به وأمسكوه ، فلم يتصدقوا منه بشيء ، ولم ينفقوا منه في مصالح الأمة كما عاهدوا الله عليه ، بل تولوا بكل ما أوتوا من قوة عن العهد وطاعة الله ، وأعرضوا إعراضا جازما عن النفقة وعن الإسلام ، بسبب تأصل طبع النفاق في نفوسهم.

وبخلوا به أي بإعطاء الصدقة وبإنفاق المال في الخير ، وبالوفاء بما ضمنوا والتزموا. وهم معرضون أي عن الإسلام. وهذا يدل على أنه تعالى وصفهم بصفات ثلاث : الأولى : البخل : وهو عبارة عن منع الحق ، والثانية : التولي عن العهد ، والثالثة : الإعراض عن تكاليف الله وأوامره.

٣٢٠