التفسير المنير - ج ١٠

الدكتور وهبة الزحيلي

٣ ـ قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن الله خيرني» يعارض صريح الآية بأن الله لن يغفر لهم بسبب كفرهم ، فأو فيها للتسوية ، لا للتخيير.

وأما محاولة الجمع بين الآية والحديث فلا تخلو من تكلف غير مقنع.

استئذان زعماء المنافقين للتخلف عن الجهاد

وإقدام المؤمنين عليه

(وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (٨٦) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٨٧) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩))

الإعراب :

(مَعَ الْخَوالِفِ) عاطف ومعطوف ، و (الْخَوالِفِ) : جمع خالفة ، فإن فاعلة يجمع على فواعل ، كقاتلة وقواتل ، وضاربة وضوارب ، و (الْخَوالِفِ) : النساء.

البلاغة :

(مَعَ الْخَوالِفِ) فيها استعارة ، إذ شبه النساء المقيمات في البيوت بعد رحيل الرجال بالخوالف ، وهي الأعمدة التي تكون في أواخر البيوت ؛ لكثرة لزوم الخوالف للبيوت.

٣٤١

المفردات اللغوية :

(سُورَةٌ) طائفة من القرآن. (أَنْ) أي بأن. (أُولُوا الطَّوْلِ) أولو الغنى والثروة ، والمقدرة على الجهاد. (ذَرْنا) اتركنا ودعنا. (الْقاعِدِينَ) المتخلفين.

(الْخَوالِفِ) جمع خالفة ، أي النساء اللاتي تخلفن في البيوت. (وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) ختم عليها ، فلم تعد قابلة لشيء جديد. (لا يَفْقَهُونَ) لا يعقلون الخير. (وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ) في الدنيا والآخرة. (الْمُفْلِحُونَ) الفائزون.

المناسبة :

بعد أن بين الله تعالى أن المنافقين احتالوا في التخلف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقعود عن الجهاد ، أوضح أمرا آخر : وهو أنه متى نزلت آية مشتملة على الأمر بالإيمان وعلى الأمر بالجهاد ، استأذن أولو الثروة والقدرة منهم في التخلف عن الجهاد ، وقالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ) ، أي مع الضعفاء والعاجزين عن القتال.

التفسير والبيان :

يذم الله تعالى في هذه الآيات فريقا ويمدح فريقا آخر ، فيذم المتخلفين عن الجهاد ، مع القدرة عليه ، ووجود الثروة والغنى (أو السعة والطول) واستأذنوا الرسول في القعود.

فكلما أنزلت سورة ـ والمراد بالسورة إما تمامها وإما بعضها ، كما يقع القرآن والكتاب على كله وبعضه ـ فيها الأمر بالإيمان والدعوة إلى الجهاد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، استأذنك أولو الطول ، أي ذوو الفضل والسعة ، وأولو المقدرة على الجهاد بالمال والنفس ، في التخلف قائلين : اتركنا مع القاعدين في بيوتهم من النساء والصبيان والعجزة والضعفاء ، وقوله تعالى : (أَنْ آمِنُوا) الأمر للمؤمنين باستدامة الإيمان ، وللمنافقين بابتداء الإيمان. ونظير الآية قوله تعالى :

٣٤٢

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا : لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ؟ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ ، وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ ، رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ، فَأَوْلى لَهُمْ) [محمد ٤٧ / ٢٠].

وهذا دليل على الجبن والذل والهوان. وفي تخصيص (أُولُوا الطَّوْلِ) بالذكر فائدتان : الأولى : أن الذم لهم ألزم لكونهم قادرين على السفر والجهاد ، والثانية : أن من لا مال له ولا قدرة على السفر لا يحتاج إلى الاستئذان ؛ لأنه معذور.

هؤلاء رضوا لأنفسهم (بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) من النساء ، وفي هذا طعن برجولتهم ، وتشبيه لهم بالنساء.

وعلة ذلك أن الله ختم على قلوبهم ، بسبب نكولهم عن الجهاد والخروج مع الرسول في سبيل الله ، فلم تعد قابلة لنور العلم والهداية ، حتى كأنها قد ختم عليها ، فأصبحوا لا يفقهون أي لا يفهمون ما فيه صلاح لهم فيفعلوه ، ولا ما فيه مضرة لهم فيجتنبوه ، ولا يدركون أسرار حكمة الله في الأمر بالجهاد.

ثم قارن الله تعالى وضعهم بوضع المؤمنين ، وبين ثناءه عليهم ومآلهم في الآخرة ، فقال : (لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ...) أي بين تعالى حالهم ومآلهم ، وهو أن الرسول والمؤمنين معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ، وأدوا واجبهم ، فنالوا الخيرات العظمى في الدنيا كالنصر وهزيمة الكفر ، وفي الآخرة بالاستمتاع في جنات الفردوس والدرجات العلى ، وأولئك هم الفائزون بالسعادتين : سعادة الدنيا وسعادة الآخرة ، خلافا للمنافقين الذين حرموا منهما.

وقوله : (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ ...) إما تفسير للخيرات والفلاح ، وإما أن الخيرات والفلاح هي منافع الدنيا كالعزة والكرامة والنصر والثروة ، والجنات ثواب الآخرة. والفوز العظيم : هو المرتبة الرفيعة والدرجة العالية.

٣٤٣

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على أن رؤساء المنافقين القادرين على الجهاد بالمال والنفس تخلفوا عن الجهاد مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ورضوا لأنفسهم المذلة والمهانة بالقعود مع العاجزين عن الخروج للجهاد. وقد أدى ذلك إلى الطبع على قلوبهم ، فأصبحوا لا يميزون بين الخير والشر ، ولا بين المصلحة والضرر ، أي أن حالهم التخلف ومآلهم انعدام الخير فيهم.

قال الحسن البصري : الطبع : عبارة عن بلوغ القلب في الميل في الكفر إلى الحد الذي كأنه مات عن الإيمان. وعند المعتزلة : عبارة عن علامة تحصل في القلب.

ودلت الآيات أيضا على حال المؤمنين ومآلهم ، فحالهم أنهم بذلوا المال والنفس في طلب رضوان الله والتقرب إليه ، ومآلهم تحصيل الخيرات أي منافع الدارين ، والفوز بالجنة والتخلص من العقاب والعذاب. و (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الذي لا فوز غيره ، وهو المرتبة الرفيعة والدرجة العالية.

نفاق الأعراب واستئذانهم للتخلف عن الجهاد

(وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٠))

المفردات اللغوية :

(الْمُعَذِّرُونَ) المعذر : هو المجتهد البالغ في العذر ، وهو المحق ، أو المقصر من عذر في الأمر : إذا قصر فيه وتوانى ولم يجد ، أو من اعتذر : إذا مهد العذر ، أي أن في تفسيره قولين :

٣٤٤

أحدهما ـ أنه يكون المحق ، فهو بمعنى المعتذر أو المعذور ؛ لأن له عذرا.

والثاني ـ أنه غير المحق وهو الذي يعتذر ولا عذر له. وسياق الكلام يدل على أنهم مذمومون لا عذر لهم ؛ لأنهم جاؤوا ليؤذن لهم ، ولو كانوا من الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون لم يحتاجوا أن يستأذنوا. فهم الذين يعتذرون بالباطل ، كقوله تعالى : (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ) [التوبة ٩ / ٩٤].

(الْأَعْرابِ) هم سكان البادية وهم أسد وغطفان ، استأذنوا في التخلف معتذرين بالجهد وكثرة العيال. (كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) أظهروا الإيمان بهما كذبا أو ادعوا الإيمان ، يقال : كذبته عينه : إذا رأى ما لا حقيقة له.

سبب النزول :

قال الضحاك : هم رهط عامر بن الطفيل جاؤوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقالوا : يا رسول الله إنا إن غزونا معك ، أغارت أعراب طي على أهالينا ومواشينا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سيغنيني الله عنكم». وعن مجاهد : هم نفر من غفار أو من غطفان اعتذروا ، فلم يعذرهم الله تعالى. وعن قتادة : اعتذروا بالكذب.

المناسبة :

بعد أن بين الله تعالى أحوال المنافقين من سكان المدينة ، قفى على ذلك ببيان أحوال المنافقين من الأعراب البدو.

التفسير والبيان :

وجاء المعتذرون من الأعراب يطلبون الإذن من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التخلف عن غزوة تبوك ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قد أنبأني الله من أخباركم ، وسيغني الله عنكم».

٣٤٥

وقعد عن الجهاد (الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) بادعائهم الإيمان ، وهم منافقو الأعراب الذين جاؤوا وما اعتذروا ، وظهر بذلك أنهم كاذبون.

ثم أوعدهم بالعذاب ، فقال : (سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الدنيا بالقتل ، وفي الآخرة بالنار ؛ لاعتذار الأولين بغير حق ، وقعود الآخرين عن القتال وعن المجيء للاعتذار الذين كذبوا الله ورسوله من منافقي الأعراب ، فالآية بشقيها في منافقي الأعراب ، سواء من انتحل العذر بالباطل ، ومن لم ينتحل وتخلف عن الجهاد ، وعاقبتهم العقاب الشديد الأليم في الدنيا والآخرة بالقتل والنار. وإنما قال : (مِنْهُمْ) الدال على التبعيض ؛ لأنه تعالى كان عالما بأن بعضهم سيؤمن ويتخلص من هذا العقاب.

ومن المفسرين من جعل القسم الأول معذورين صادقين ، وهم من أحياء العرب ممن حول المدينة ، أو هم أسد وغطفان جاؤوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعتذرون إليه بسبب الضعف وعدم القدرة على الخروج ، بدليل أنه تعالى لما ذكرهم قال بعدهم : (وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) فلما ميز أولئك عن الكاذبين ، دل ذلك على أنهم ليسوا بكاذبين. ورجح ابن كثير هذا القول لما ذكر ، ورجح الرازي والزمخشري القول الأول بدلالة سياق الكلام ؛ لأنهم جاؤوا ليؤذن لهم ، ولو كانوا معذورين بحق لم يحتاجوا إلى الاستئذان.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآية على أن مصير المنافقين (الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) بادعائهم الإيمان ، والكاذبين من المعتذرين هو العقاب في نار جهنم ، بسبب عدم إيمانهم ، وبسبب كذبهم ، وكل من الكفر أو ادعاء الإيمان في الظاهر ، والكذب التابع له أمر عظيم يستحق فاعله العقوبة عليه.

٣٤٦

وأما المعتذر بحق فيقبل عذره ، وهم ذوو الأعذار في ترك الجهاد الذين أعفاهم الله ، وتتحدث عنهم الآية التالية : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ ...).

أصحاب الأعذار المقبولة لعدم الجهاد

(لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (٩٢))

الإعراب :

(تَوَلَّوْا) جواب (إِذا قُلْتَ : لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) حال من كاف (أَتَوْكَ) بإضمار : وقد. (وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) الجملة في موضع نصب على الحال.

(مِنَ الدَّمْعِ) من للبيان ، وهي مع المجرور في محل نصب على التمييز ، وهو أبلغ من يفيض دمعها ؛ لأنه يدل على أن العين صارت دمعا فياضا (حَزَناً) نصب على أنه مفعول لأجله ، أو على الحال ، أو المصدر لفعل دل عليه ما قبله. (أَلَّا يَجِدُوا) أي لئلا يجدوا ، متعلق ب (حَزَناً) أو ب (تَفِيضُ).

البلاغة :

(وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ) عطف على (الضُّعَفاءِ) ، أو على (الْمُحْسِنِينَ). وهو من عطف الخاص على العام اعتناء بشأنهم. وهو مبتدأ معطوف على ما قبله بغير واو.

(ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) وضع الظاهر موضع الضمير ، للدلالة على أنهم من جملة المحسنين غير المعاتبين بالتخلف.

٣٤٧

المفردات اللغوية :

(الضُّعَفاءِ) كالشيوخ أو الهرمى جمع ضعيف وهو غير القوي ، والمرضى جمع مريض ، كالزمنى والعمي (ما يُنْفِقُونَ) في الجهاد (حَرَجٌ) ذنب أو إثم في التخلف عن الجهاد (إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) في حال قعودهم بعدم الإرجاف والتثبيط ، وبالطاعة (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) ما عليهم بذلك من طريق بالمؤاخذة (غَفُورٌ) لهم (رَحِيمٌ) بهم في التوسعة عليهم (حَزَناً) الحزن والحزن : ضد السرور. والحزن : الصعب وما غلظ من الأرض ، وفيها حزونة.

(وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ) معك إلى الجهاد وهم البكاؤون سبعة من الأنصار : معقل بن يسار ، وصخر بن خنساء ، وعبد الله بن كعب ، وسالم بن عمير ، وثعلبة بن عتمة ، وعبد الله بن مغفل ، وعلية بن زيد ، أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقالوا : نذرنا الخروج ، فاحملنا على الخفاف المرفوعة ، والنعال المخصوفة ، نغز معك ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا أجد ما أحملكم ، فتولوا وهم يبكون.

وقيل : هم بنو مقرن من مزينة : معقل وسويد والنعمان وعقيل وسنان ، وسابع لم يسم ، وعلى هذا جمهور المفسرين. وقيل : أبو موسى وأصحابه.

سبب النزول :

أخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن ثابت قال : كنت أكتب براءة فإني لواضع القلم في أذني ، إذ أمرنا بالقتال ، فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينظر ما ينزل عليه ، إذ جاءه أعمى ، فقال : كيف بي يا رسول الله ، وأنا أعمى؟ فنزلت : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ) الآية.

وأما آية : (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ) فذكر في سبب نزولها ثلاث روايات :

الأولى ـ أخرج ابن أبي حاتم أيضا عن ابن عباس قال : أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس أن ينبعثوا غازين معه ، فجاءت عصابة من أصحابه ، فيهم عبد الله بن مغفل المزني ، فقالوا : يا رسول الله ، احملنا ، فقال : والله ما أجد ما أحملكم عليه ، فتولوا ولهم بكاء ، وعز عليهم أن يحبسوا عن الجهاد ، ولا يجدوا نفقة ولا محملا ،

٣٤٨

فأنزل الله عذرهم : (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ) الآية. وقد ذكرت أسماؤهم في المبهمات ، وكانوا يسمون البكائين.

الثانية : قال مجاهد : هم ثلاثة إخوة : معقل ، وسويد ، والنعمان بن مقرن ، سألوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يحملهم على الخفاف المدبوغة ، والنعال المخصوفة ، فقال : (لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) وهذا رأي الجمهور.

والثالثة : قال الحسن البصري : نزلت في أبي موسى الأشعري وأصحابه ، أتوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستحملونه ، ووافق ذلك منه غضبا ، فقال : «والله ما أحملكم ولا أجد ما أحملكم عليه».

المناسبة :

هناك ارتباط واضح بين هذه الآيات وما قبلها ، فبعد أن ذكر تعالى الوعيد لمن يوهم العذر أو ينتحل الأعذار ، مع أنه لا عذر له ، ذكر أصحاب الأعذار الحقيقية ، وبين إسقاط فريضة الجهاد عنهم.

التفسير والبيان :

أبان الله تعالى في هذه الآيات الأعذار التي يقبل بها القعود عن القتال ، وذكر أصنافا ثلاثة من ذوي الأعذار المقبولة : وهم الضعفاء ، والمرضى ، والفقراء.

فقال : ليس على الضعفاء والمرضى والفقراء العاجزين عن الإنفاق في الجهاد إثم أو ذنب أو عتاب في عدم الجهاد (إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) ، بأن أخلصوا الإيمان لله ، وللرسول في الطاعة في السر والعلن ، وعرفوا الحق وأحبوا أولياءه وأبغضوا أعداءه ، وللأمة بالحفاظ على مصلحتها العامة العليا من كتمان السر ، والحث على البر ، وعدم الإرجاف والتثبيط والقضاء على الإشاعات الكاذبة أو المغرضة ، روى مسلم عن تميم الداري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «الدين النصيحة ، قالوا لمن

٣٤٩

يا رسول الله؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم».

والنصيحة لله وللرسول : إخلاص الإيمان بهما وطاعتهما والحب والبغض فيهما ، والنصيحة لكتابه : تلاوته وتدبر معانيه والعمل بما فيه ، والنصيحة لأئمة المسلمين : مؤازرتهم وترك الخروج عليهم ، وإرشادهم إن أخطئوا ، والنصيحة لعامة المسلمين : إرشادهم إلى طريق الحق ، والعمل على تقويتهم. والنصح : إخلاص العمل من الغش.

والضعفاء : كل من لا قدرة لهم على القتال كالشيوخ والعجزة والنساء والصبيان.

والمرضى : من طرأ لهم مرض مزمن أو مؤقت لا يتمكنون معه من الجهاد ، كالزمنى والعمي والعرج ، والمحمومين.

والفقراء : الذين عدموا النفقة على أنفسهم في أثناء الجهاد ، وعلى عيالهم.

(ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) أي ليس عليهم جناح ولا مؤاخذة ، ولا إلى معاتبتهم طريق ، ولا إثم عليهم بسبب القعود عن الجهاد.

وهذا نص عام يشمل كل من أحسن عملا من أعمال البر والخير ، وهو أصل معتبر في الشريعة ، في تقرير أن الأصل براءة الذمة أو البراءة الأصلية ، وعدم مطالبة الغير له في نفسه وماله ، فالأصل في نفسه حرمة القتل ، والأصل في ماله حرمة الأخذ إلا لدليل ثابت ، والأصل عدم مطالبته بشيء من التكاليف إلا بدليل مستقل.

فما دام هؤلاء المعذرون عذرا شرعيا ناصحين لله ورسوله ، مخلصين أعمالهم لله ، فلا مؤاخذة عليهم.

والله غفور ، كثير المغفرة لهم ولأمثالهم ، رحيم بهم ، فلا يكلفهم ما لا طاقة

٣٥٠

لهم به. أما العصاة والمنافقون فلا يغفر لهم إلا إذا تابوا وأقلعوا عن العصيان والنفاق الذي كان سببا في الإثم.

وكذلك لا حرج ولا إثم على من استعد للقتال بنفسه ، ولكنه لا يجد مركبا أو نفقة ينفقها في أثناء الجهاد على نفسه وعياله ، بسبب فقره ، ومن أخصهم أولئك النفر من الأنصار البكاؤون ، أو من بني مقرن من مزينة الذين جاؤوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ليحملهم على الرواحل ، أو ليمدهم بالزاد والماء والنفقة في غزوهم ، فيخرجوا معه ، فلم يجد ما يحملهم عليه ، فانصرفوا من مجلسه ، وهم يبكون بكاء شديدا بسبب حزنهم على ما فاتهم من شرف المشاركة في الجهاد ، وبسبب فقدهم النفقة التي تساعدهم على الجهاد.

والتعبير بقوله : (لِتَحْمِلَهُمْ) يفيد عموم سائر وسائل النقل والحرب والقتال القديمة والحديثة. قال ابن عباس : سألوه أن يحملهم على الدواب.

قال محمد بن إسحاق في سياق غزوة تبوك : ثم إن رجالا من المسلمين أتوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهم البكاؤون ، وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم من بني عمرو بن عوف : سالم بن عمير ، وعلي بن زيد أخو بنى حارثة ، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب أخو بني مازن بن النجار ، وعمرو بن الحمام بن الجموح أخو بني سلمة ، وعبد الله بن المغفل المزني. وبعض الناس يقول : بل هو عبد الله بن عمرو المزني ، وحرمي بن عبد الله أخو بني واقف ، وعياض بن سارية الفزاري ، فاستحملوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكانوا أهل حاجة ، فقال : (لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ ، تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ).

وروى ابن أبي حاتم عن الحسن البصري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لقد خلفتم بالمدينة أقواما ، ما أنفقتم من نفقة ، ولا قطعتم واديا ، ولا نلتم من عدو نيلا

٣٥١

إلا وقد شركوكم في الأجر» ثم قرأ : (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ : لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) الآية.

وأصل الحديث في الصحيحين من حديث أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إن بالمدينة أقواما ما قطعتم واديا ، ولا سرتم سيرا إلا وهم معكم ، قالوا : وهم بالمدينة؟ قال : نعم ، حبسهم العذر» وفي رواية أحمد : «حبسهم المرض».

فقه الحياة أو الأحكام :

أوضحت الآيات إسقاط فرضية الجهاد بسبب العذر عن أصناف ثلاثة من ذوي الأعذار وهم الضعفاء والمرضى والفقراء ، وأنه لا حرج ولا إثم على المعذورين بسبب القعود عن الجهاد ، وهم قوم عرف عذرهم ، كأرباب الزمانة والهرم والعمى والعرج ، وأقوام لم يجدوا ما ينفقون.

والجمهور من العلماء على أن من لا يجد ما ينفقه في غزوة : لا يجب عليه الجهاد. وقال المالكية : إذا كانت عادته المسألة ، لزمه كالحج ، وخرج على العادة ؛ لأن حاله إذا لم تتغير ، يتوجه الفرض عليه كتوجهه على الواجد المليء.

ودلت الآيات على أصلين عظيمين من أصول الشريعة وهما :

الأصل الأول ـ سقوط التكليف عن العاجز ، لقوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ) فكل من عجز عن شيء سقط عنه ، فتارة إلى بدل هو فعل ، وتارة إلى بدل هو غرم ، ولا فرق بين العجز من جهة القوة البدنية ، أو العجز من جهة المال. ونظير هذه الآية قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة ٢ / ٢٨٦] وقوله : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ ، وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ ، وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) [النور ٢٤ / ٦١].

الأصل الثاني ـ الأصل في الإنسان براءة الذمة ، أو براءة المتهم حتى تثبت

٣٥٢

إدانته ، ويعبر عنه بعبارة : الأصل براءة الذمة ، وهذا مبدأ البراءة الأصلية. وذلك لقوله تعالى : (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) فالأصل في النفس حرمة القتل ، والأصل في المال حرمة الأخذ ، إلا لدليل ثابت أو لدليل منفصل مستقل.

ولا تكرار بين هؤلاء وبين قوله تعالى سابقا : (وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ) لأن الذين لا يجدون ما ينفقون : هم الفقراء الذين ليس معهم نفقة ، وهؤلاء في الآية الأخيرة هم الذين ملكوا قدر النفقة ، إلا أنهم لا يجدون المركوب.

٣٥٣

فهرس

الجزء العاشر

 الموضوع

 الصفحة

كيفية قسمة الغنائم.............................................................. ٥

تكثير المؤمنين ببدر في أعين المشركين وتقليل المشركين في أعين المؤمنين................. ١٤

ذكر الله والثيات أمام العدو والطاعة وعدم التنازع................................... ٢١

تبرؤ الشيطان من الكفار وقت أزمة بدر وحين تهكم النافقين بالمؤمنين................. ٣٠

إهلاك الكفار المشركين لسوء أعمالهم كإهلاك آل فرعون............................. ٣٥

معاملة ن نقض العهد ومن ظهرت منه بوادر النقض................................. ٤١

الإعداد الحربي لقتال الأعداء بحسب الطاقة والاستطاعة............................. ٤٩

إيثار السلام وتوحيد الأمة وتحريضها على القتال.................................... ٥٢

شرط اتخاذ الأسرى وقبول الفداء منهم وإباحة الانتفاع به............................ ٦٥

أصناف المؤمنين في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمقتضى الإيمان والهجرة......................... ٦٥

سورة التوبة.................................................................... ٩١

تسميتها....................................................................... ٩١

السبب في إسقاط التسمية من أولها ومناسبتها لما قبلها............................... ٩٢

تاريخ نزولها.................................................................... ٩٣

ما اشتملت عليه السورة......................................................... ٩٤

أضواء من التاريخ على صلح الحديبية.............................................. ٩٥

نقض عهود المشركين وإعلان الحرب عليهم والبراءة منهم............................. ٩٨

فرضية قتال مشركي العرب في أي مكان وجدوا.................................... ١٠٦

٣٥٤

مشروعية الأمان.............................................................. ١١١

أسباب البراءة من عهود المشركين وقتالهم......................................... ١١٧

مصير المشركين إما التوبة وإما القتال............................................. ١٢١

التحريض على قتال المشركين الناكثين أيمانهم وعهودهم............................ ١٢٦

اختبار المسلمين واتخاذ البطانة.................................................. ١٣٢

عمارة المساجد................................................................ ١٣٥

فضل الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل الله................................ ١٤٢

ولاية الآباء والإخوان الكافرين وتفضيل الايمان والجهاد على ثمانية أشياء.............. ١٤٧

نصر المؤمنين في مواطن كثيرة................................................... ١٥٥

أضواء من التاريخ على فتح مكة................................................ ١٥٧

تحريم دخول المسجد الحرام على المشركين......................................... ١٦٤

قتال أهل الكتاب............................................................. ١٧٢

عقيدة أهل الكتاب (اليهود والنصارى).......................................... ١٧٩

سيرة الأحبار والرهبان في معاملاتهم مع الناس..................................... ١٨٨

عدد الشهور في حكم الله وقتال المشركين كافة وتحريم النسيء....................... ١٩٨

التحريض على الجهاد والتحذير من تركه ومعجزة الغار في الهجرة..................... ٢١١

النفر للجهاد في سبيل الله...................................................... ٢٢٣

تخلف المنافقين من غزوة تبوك وقضية الإذن لهم................................... ٢٢٧

الدليل على تخلف المنافقين بغير عذر وخطر خروجهم للقتال........................ ٢٣٥

انتحال المنافقين أعذارا أخرى للتخلف عن غزوة تبوك.............................. ٢٤٠

فرحهم عند السيئة التي تصيب المؤمنين وترحهم عند الحسنة........................ ٢٤٠

إحباط ثواب المنافقين على نفقاتهم وصلواتهم وتعذبيهم في الدنيا والآخرة.............. ٢٤٧

٣٥٥

حلف المنافقين الأيمان الكاذبة وانتهازهم الفرصة للطعن بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم................ ٢٥٣

مصارف الزكاة الثمانية......................................................... ٢٥٨

حكمة الزكاة................................................................. ٢٧٨

إيذاء المنافقين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتصحح مفاههم..................... ٢٨١

بان أحوال المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك................................... ٢٨٥

الأقدام على اليمين الكاذبة وتخوفهم من نزول القرآن فاضحا لهم............... ٢٨٥

واستهزاءهم بآبات الله

أوصاف المنافقين وجزاؤهم الأخروي............................................. ٢٩٢

أوصاف المؤمنين وجزاؤهم الأخروي.............................................. ٣٠٢

جهاد الكفار والمنافقين وأسبابه.................................................. ٣٠٨

كذب المنافقين وإخلافهم العهد والوعد ـ قصة ثعلبة بن حاطب المزعومة.............. ٣١٧

طعن المنافقين بالمؤمنين وعدم المغفرة لهم.......................................... ٣٢٤

فرح المنافقين المتخلفين عن الجهاد في غزوة تبوك................................... ٣٢٩

منع المنافقين من الجهاد والمنع من الصلاة على موتاهم والتحذير من.................. ٣٣٣

الاغترار بأموالهم وأولادهم

استئذان زعماء المنافقين للتخلف عن الجهاد وإقدام المؤمنين عليه..................... ٣٤١

نفاق الأعراب واستئذانهم للتخلف عن الجهاد..................................... ٣٤٤

أصحاب الأعذار المقبولة لعدم الجهاد............................................ ٣٤٧

٣٥٦