التفسير المنير - ج ١٠

الدكتور وهبة الزحيلي

وجريا على عادة القرآن في فتح باب الأمل والتوبة أمام الكفار والعصاة ، قال تعالى : (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ ، وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي ثم يتوب الله بعد هذا التعذيب الذي حدث في الحرب على من يشاء من الكفار ، يعني : ومع كل ما جرى عليهم من الخذلان ، فإن الله تعالى قد يتوب على بعضهم ، بأن يزيل عن قلبه الكفر ، ويخلق فيه الإسلام ، كما قال أهل السنة ، أو بأن يسلموا ويتوبوا فيقبل الله توبتهم ، كما قال المعتزلة.

والله غفور لمن تاب ، رحيم بمن آمن وعمل صالحا. وقد تاب الله على بقية هوازن ، فأسلموا ، وقدموا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسلمين ، ولحقوه وقد قارب مكة عند الجعرانة (١) ، بعد الوقعة بقريب من عشرين يوما ، فعند ذلك خيرهم بين سبيهم وبين أموالهم ، فاختاروا سبيهم ، وكانوا ستة آلاف أسير ، ما بين صبي وامرأة ، فرده عليهم ، وقسم الأموال بين الغانمين ، ونفل أناسا من الطلقاء (أهل مكة) لكي يتألف قلوبهم على الإسلام ، فأعطاهم مائة مائة من الإبل ، وكان من جملة من أعطى مائة : مالك بن عوف النصري ، واستعمله على قومه : هوازن ، كما كان.

روى البخاري عن المسور بن مخرمة : «أن ناسا منهم جاؤوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبايعوه على الإسلام ، وقالوا : يا رسول الله ، أنت خير الناس ، وأبر الناس ، وقد سبي أهلونا ، وأولادنا ، وأخذت أموالنا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن عندي من ترون ، إن خير القول أصدقه ، اختاروا إما ذراريكم ونساءكم ، وإما أموالكم» قالوا : ما كنا نعدل بالأحساب شيئا ، فقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «هؤلاء جاءونا مسلمين ، وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال ، فلم يعدلوا بالأحساب شيئا ، فمن كان بيده شيء ، وطابت به نفسه أن يرده فشأنه ، ومن لا فليعطنا ، وليكن قرضا علينا حتى نصيب شيئا فنعطيه مكانه» قالوا : رضينا وسلمنا.

__________________

(١) الجعرانة : موضع على سبعة أميال من مكة إلى الطائف.

١٦١

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنا لا ندري لعل فيكم من لا يرضى ، فمروا عرفاءكم ، فليرفعوا ذلك إلينا» فرفعت إليه العرفاء أنهم قد رضوا.

فقه الحياة أو الأحكام :

١ ـ الآيات تذكر المؤمنين بنعم الله عليهم ، إذ نصرهم في معارك حربية كثيرة ، وأن النصر من عند الله ، فقد تخطئ الحسابات والاحتمالات ، وكثيرا ما تنهزم الكثرة الكاثرة ، وتنتصر القلة القليلة ، والمعول عليه إنما هو عناية الله بعباده المؤمنين وتأييده لهم ، فذلك أقوى تأثيرا من كل القوى العسكرية أو المادية.

٢ ـ ذكر العلماء أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في هذه الغزوة فيما رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أبي قتادة وغيره : «من قتل قتيلا له عليه بينة ، فله سلبه» وهذا في رأي الشافعية والحنابلة صادر عنه بطريق التبليغ والوحي ، فهو حكم دائم لا يحتاج إلى إذن الإمام ، وفي رأي الحنفية والمالكية : هذا الحكم صادر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بطريق الإمامة والسياسة ، فلا يستحق في كلمعركة إلا بإذن الإمام ، ولا يكون ذلك من الإمام إلا على وجه الاجتهاد. ولم ينقل أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ذلك إلا يوم حنين ، وليس في مغازيه كلها.

٣ ـ في قصة هذه الغزوة استعار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من صفوان بن أمية وهو مشرك أدراعا وأسلحة. وهذا يدل على جواز استعارة السلاح ، وجواز الاستمتاع بما أستعير إذا كان على المعهود مما يستعار مثله ، وجواز استلاف الإمام المال عند الحاجة إلى ذلك ورده إلى صاحبه.

وفي هذه الغزوة أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رواه أبو داود وصححه الحاكم عن أبي سعيد الخدري «ألا توطأ حامل حتى تضع ، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة» وهو يدل على أن السبي يقطع العصمة.

١٦٢

وفيها أيضا أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استعان بصفوان في الحرب ، وقد قال أبو حنيفة والشافعي : لا بأس بالاستعانة بالمشركين على المشركين ، إذا كان حكم الإسلام هو الغالب ، وإنما تكره الاستعانة بهم إذا كان حكم الشرك هو الظاهر.

وقال مالك : لم يكن خروج صفوان إلى حنين والطائف بأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا أرى أن يستعان بالمشركين على المشركين ، إلا أن يكونوا خدما أو نواتية (بحارة).

٤ ـ أبان الله عزوجل في هذه الآية أن الغلبة إنما تكون بنصر الله لا بالكثرة ، فلا يغلبون بكثرتهم ، وقد قال : (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ ، فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ) [آل عمران ٣ / ١٦٠]. والنصر عند اشتداد المحنة من أعظم النعم الإلهية ، والمحنة هي ما طرأ عليهم من الخوف ، حتى لكأنهم لا يجدون في الأرض موضعا يصلح لفرارهم من عدوهم.

٥ ـ أنزل الله في هذه المعركة ما يسكن قلوب المؤمنين ويذهب خوفهم ، حتى اجترؤوا على قتال المشركين بعد أن ولوا ، وأنزل ملائكة يقوون المؤمنين بما يلقون في قلوبهم من الخواطر والتثبيت ، ويضعضعون الكافرين بالتجبين لهم من حيث لا يرونهم ومن غير قتال ؛ لأن الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر. وروي ـ كما تقدم ـ أن رجلا من بني نصر قال للمؤمنين بعد القتال : أين الخيل البلق ، والرجال الذين كانوا عليها بيض ، ما كنا فيهم إلا كهيئة الشامة ، وما كان قتلنا إلا بأيديهم؟! فأخبروا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك ، فقال : «تلك الملائكة».

٦ ـ عذب الله الكافرين في هذه المعركة بالقتل بأسياف المسلمين ، وهو جزاؤهم المستحق في دار الدنيا ، ثم تاب الله على من انهزم ، فهداه إلى الإسلام ، كمالك بن عوف النصري رئيس حنين ، ومن أسلم معه من قومه.

والخلاصة : حدثت أمور ثلاثة يوم حنين : إنزال الله السكينة على رسوله

١٦٣

وعلى المؤمنين ، وإنزاله جنودا هم الملائكة ، وتعذيب الكافرين بالقتل والسبي.

٧ ـ لما قسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غنائم حنين بالجعرانة ، أتاه وفد هوازن مسلمين ، راغبين في العطف عليهم والإحسان إليهم ، فخيرهم بين السبي والأموال ، فاختاروا السبي ، فرد عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نساءهم وأولادهم ، واستطاب أنفس الغانمين عما بيدهم من الأموال ، وعوض من لم تطب نفسه بترك نصيبه من الغنائم أعواضا رضوا بها.

وكان من جملة السبي الشيماء أخت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الرضاعة ، وهي بنت الحارث بن عبد العزى من بني سعد بن بكر ، وبنت حليمة السعدية ، فأكرمها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأعطاها وأحسن إليها ، ورجعت مسرورة إلى بلادها بدينها وبما أفاء الله عليها.

وحدثت قصة طريفة عند رد السبي ، أخرج مسلم عن ابن عباس قال : رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم أوطاس امرأة تعدو وتصحيح ولا تستقر ، فسأل عنها فقيل : فقدت بنيا لها ، ثم رآها وقد وجدت ابنها وهي تقبله وتدنيه ، فدعاها وقال لأصحابه : «أطارحة هذه ولدها في النار» قالوا : لا ، قال : لم؟ قالوا : لشفقتها ، قال : «الله أرحم بكم منها».

تحريم دخول المسجد الحرام على المشركين

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨))

١٦٤

البلاغة :

(إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ إِنَّمَا) : تفيد الحصر ، وقوله : (الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) : تشبيه بليغ أي كالنجس في خبث الاعتقاد ، حذفت منه أداة الشبه ووجه الشبه ، مثل : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً) أي كالأرباب في طاعتهم. وقال الزمخشري : (نَجَسٌ) : مصدر ، ومعناه ذوو نجس ؛ لأن معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس ، ولأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات ، فهي ملابسة لهم ، أو جعلوا كأنهم النجاسة بعينها مبالغة في وصفهم بها.

(فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ) عبر عن الدخول بالقرب للمبالغة ، أي إنما نهى عن الاقتراب للمبالغة ، أو للمنع عن دخول الحرم. وذهب أبو حنيفة إلى أن المراد به النهي عن الحج والعمرة ، لا عن الدخول مطلقا. وقاس مالك سائر المساجد على المسجد الحرام في المنع.

المفردات اللغوية :

نجس ونجاسة : قذارة وعدم نظافة ، وإذا وصف به الإنسان كان المراد أنه شرير خبيث النفس ، وإن كان طاهر البدن. والناجس والنجيس : داء خبيث لا دواء له. وفي اصطلاح الفقهاء: ما يجب تطهيره ، سواء كان قذرا كالبول أو غير قذر كالخمر مثلا.

(الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) المراد به في رأي عطاء : الحرم كله وهو مكة. وهو مذهب الشافعية أيضا. ورأى المالكية أن المراد خصوص المسجد الحرام ، أخذا بظاهر اللفظ ، ولكن بقية المساجد تقاس عليه ؛ لأن العلة وهي النجاسة موجودة في المشركين ، والحرمة موجودة في كل مسجد ، فلا يجوز تمكينهم من دخول المسجد الحرام والمساجد كلها. ومذهب الحنفية: ليس المراد النهي عن دخول المسجد الحرام ، وإنما المراد النهي عن أن يحج المشركون ويعتمروا ، كما كانوا يعملون في الجاهلية.

(بَعْدَ عامِهِمْ هذا) العام التاسع من الهجرة (عَيْلَةً) فقرا بانقطاع تجارتهم عنكم ، وفعله : عال يعيل عيلا وعيلة فهو عائل. وأعال : كثر عياله ، ويعول عيالا كثيرين ، أي يمونهم ويكفيهم معاشهم (مِنْ فَضْلِهِ) عطائه وتفضله وقد أغناهم بالفتوح والجزية.

سبب النزول :

نزول (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) : أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان المشركون يجيئون إلى البيت ، ويجيئون معهم بالطعام يتجرون فيه ، فلما منعوا

١٦٥

عن أن يأتوا البيت ، قال المسلمون : من أين لنا الطعام ، فأنزل الله : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ).

وأخرج ابن جرير الطبري وأبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) شق ذلك على المسلمين ، وقالوا : من يأتينا بالطعام والمتاع؟ فأنزل الله : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) الآية.

المناسبة :

لما أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليا رضي‌الله‌عنه أن يقرأ على مشركي مكة أول سورة براءة ، وينبذ إليهم عهدهم ، سنة تسع من الهجرة ، وأن الله بريء من المشركين ورسوله ، قال أناس : يا أهل مكة ، ستعلمون ما تلقونه من الشدة ؛ لانقطاع السبل ، وفقد الحمولات ، فنزلت هذه الآية لدفع هذه الشبهة.

التفسير والبيان :

يا أيها المؤمنون بالله ورسوله ، إن المشركين أنجاس ، فاسدو الاعتقاد ، منغمسون في النجاسة ، فهم أنجاس إما لخبث باطنهم وفساد عقيدتهم لعبادة الأصنام والأوثان ، أو لأن معهم الشرك الذي هو مثل النجس الذي يجب اجتنابه ، أو لأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات الحسية. وإذا كانوا أنجاسا ، فلا يدخلوا المسجد الحرام ، ولا أن يطوفوا به عراة.

فهذا نهي للمؤمنين أن يمكنوا المشركين من دخول المسجد الحرام بعد العام التاسع من الهجرة. وقوله : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) يدل على الحصر ، أي لا نجس إلا المشرك.

والمراد بالمشركين في رأي الأكثرين هم عبدة الأوثان ، وقال قوم : بل يتناول جميع الكفار ، بدليل قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ،

١٦٦

وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء ٤ / ٤٨]. وهذا هو الأرجح الظاهر من الآية.

والمراد بالنجس : النجاسة المعنوية أي نجاسة الاعتقاد. ونقل الزمخشري عن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما أن أعيان المشركين نجسة كالكلاب والخنازير ، تمسكا بظاهر هذه الآية (١). ولكن جمهور الفقهاء اتفقوا على خلاف ذلك وعلى طهارة أبدانهم ، فليس المشرك أو الكافر نجس البدن والذات ؛ لأن الله تعالى أحل طعام أهل الكتاب.

والمقصود بالمسجد الحرام كما تبين في المفردات : الحرم كله في رأي عطاء والشافعية ، وخصوص المسجد الحرام في مذهب المالكية أخذا بظاهر اللفظ ، ورأى الحنفية أن ليس المراد النهي عن دخول المسجد الحرام ، وإنما المراد النهي عن أن يحج المشركون ويعتمروا ، كما كانوا يعملون في الجاهلية ، بدليل قوله تعالى : (بَعْدَ عامِهِمْ هذا) أي لا يحجوا ولا يعتمروا بعد حج عامهم هذا وهو العام التاسع من الهجرة ، ولقول علي رضي‌الله‌عنه حين نادى بسورة براءة : «ألا لا يحج بعد عامنا هذا مشرك» ولأن قوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) يدل على أن خشية العيلة بسبب انقطاع مواسم المشركين ، لمنعهم من الحج والعمرة ، ولإجماع المسلمين على منع المشركين من سائر أعمال الحج وإن لم تكن في المسجد.

ثم ألقى الله الطمأنينة في قلوب المسلمين بشأن توافر موارد الأطعمة وأنواع التجارات ، فقال: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً ...) أي وإن خفتم أيها المسلمون فقرا ، بسبب قلة جلب الأقوات وأنواع التجارات التي كان المشركون يجلبونها ، ومنعوا بعد هذا العام من دخول المسجد الحرام ، فسوف يغنيكم الله من فضله وعطائه بوجه آخر ، وييسر لكم موارد المعيشة والأرزاق والمكاسب.

__________________

(١) وهو قول الهادي من أئمة الزيدية ورأي بعض الظاهرية ، وروى ابن جرير عن الحسن : من صافح مشركا توضأ.

١٦٧

إن الله عليم بأحوالكم وبما يكون في المستقبل من غنى وفقر ، حكيم فيما يشرعه لكم من أمر ونهي ، كالأمر بقتال المشركين بعد انقضاء عهودهم ، والنهي عن قرب المشركين للمسجد الحرام بعد هذا العام ، وهو أيضا حكيم فيما يعطي ويمنع ؛ لأنه الكامل في أفعاله وأقواله ، العادل في خلقه وأمره تعالى.

وهذا إخبار عن غيب في المستقبل ، وقد تحقق الخبر ، وأنجز الله وعده ، فأسلم أهل اليمن وأهل جدة وجرش وغيرهم ، وصاروا يحملون الأطعمة إلى مكة ، وأسلم المشركون أنفسهم ، ولم يبق منهم أحد يمنع من الحرم ، وأتتهم الثروات والخيرات من كل مكان ، وجاءتهم الغنائم وأموال الجزية التي كانوا يأخذونها من أهل الذمة.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآية على ما يأتي :

١ ـ النص صريح في أن المشرك نجس ، وفي أن المؤمن طاهر ليس بنجس. لذا كان مذهب المالكية والحنابلة : إيجاب الغسل على الكافر إذا أسلم ، وقال الشافعي : أحب إلي أن يغتسل. روى أبو حاتم البستي في صحيح مسنده أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مر بثمامة بن أثال يوما ، فأسلم ، فبعث به إلى حائط (بستان) أبي طلحة ، فأمره أن يغتسل ، فاغتسل وصلى ركعتين ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لقد حسن إسلام صاحبكم» وأخرجه مسلم بمعناه. وكذلك أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قيس بن عاصم أن يغتسل بماء وسدر.

٢ ـ المشرك ممنوع من دخول المسجد الحرام ، والمقصود به لدى الشافعية : حرم مكة كله ، سواء مساجدها وغيرها ، فلا يمكن الكافر من دخول حرم مكة (١). قال الشافعي : الآية عامة في سائر المشركين ، وبخاصة في المسجد

__________________

(١) إعلام الساجد بأحكام المساجد للزركشي : ص ١٧٣ وما بعدها.

١٦٨

الحرام ، ولا يمنعون من دخول غيره ، كما دخل في المسجد ثمامة وأبو سفيان ، وهما مشركان.

وقال المالكية : الآية عامة في سائر المشركين وسائر المساجد ، إلا في حالة العذر ، كدخول الذمي المسجد للتقاضي أمام الحاكم المسلم. وبذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله ، واستدل بهذه الآية ، ويؤيدهم قوله تعالى : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) [النور ٢٤ / ٣٦] ودخول الكفار فيها مناقض لترفيعها ، ولأن قوله عزوجل : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) تنبيه على العلة بالشرك والنجاسة (١).

وأباح الحنفية للكافر دخول المساجد كلها في الحرم وغيره لحاجة أو لغير حاجة ؛ لأن المقصود بالآية النهي عن حج المشركين واعتمارهم ، كما تقدم بيانه. فلا يمنع اليهود والنصارى من دخول المسجد الحرام ولا غيره ، ولا يمنع دخول المسجد الحرام إلا المشركون وأهل الأوثان.

٣ ـ قال الرازي : لا شبهة في أن المراد بقوله : (بَعْدَ عامِهِمْ هذا) السنة التي حصل فيها النداء من المشركين ، وهي السنة التاسعة من الهجرة (٢) أي أن المنع يبدأ من السنة العاشرة.

٤ ـ الفضل المذكور في الآية مطلق ، يشمل كل ما أغناهم الله به ، وهو الأصح ، وقيل : المراد به حمل الطعام إلى مكة من البلاد التي أسلم أهلها كجدة وصنعاء وحنين ، فإنه سد حاجتهم وأغناهم عما في أيدي المشركين. وقيل : المراد به الجزية ، وقيل : الفيء.

__________________

(١) أحكام القرآن لابن العربي : ٢ / ٩٠١ ، تفسير القرطبي : ٨ / ١٠٤ وما بعدها.

(٢) تفسير الرازي : ١٦ / ٢٦.

١٦٩

وقوله تعالى : (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) إخبار عن غيب في المستقبل على سبيل الجزم ، وقد وقع الأمر مطابقا لذلك الخبر ، فكان معجزة.

وفي هذه الآية دليل على أن تعلق القلب بأسباب الرزق جائز ، ولا ينافي ذلك التوكل ، وإن كان الرزق مقدرا ، وأمر الله وقسمه مفعولا ، ولكنه علقه بالأسباب ، لحمل الناس على العمل ، والسبب لا ينافي التوكل ، بدليل ما أخرج البخاري من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير ، تغدو خماصا ، وتروح بطانا (١)» فأخبر أن التوكل الحقيقي لا يعارضه الغدو والرواح في طلب الرزق.

وقوله تعالى : (إِنْ شاءَ) يدل على أن الرزق ليس بالاجتهاد ، وإنما هو فضل من الله تعالى تولى قسمته ، وذلك في قوله : (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ...) [الزخرف ٤٣ / ٣٢].

٥ ـ إقامة الكفار في ديار الإسلام :

بلاد الإسلام بالنسبة لدخول الكفار إليها وإقامتهم فيها ثلاثة أقسام :

الأول ـ الحرم المكي : يمنع الكافر من دخول الحرم المكي وهو قول الشافعية والحنابلة ، عملا بظاهر الآية ، فلا يسمح لكافر بدخول الحرم ، ولو كان حاملا رسالة ، وإنما يخرج إليه الإمام أو نائبه خارج الحرم ليسمع رسالته. وأجاز المالكية لغير المسلم دخول حرم مكة دون البيت الحرام بأمان لمدة ثلاثة أيام ، أو بحسب الحاجة في تقدير المصلحة من قبل الإمام.

وأباح أبو حنيفة أيضا للكافر دخول الحرم بإذن الإمام أو نائبه ، ثلاثة أيام بلياليها.

__________________

(١) أي تغدو بكرة وهي جياع ، وتروح عشية وهي ممتلئة الأجواف والبطون.

١٧٠

الثاني ـ الحجاز : وهو ما بين عدن إلى حدود العراق طولا ، وما بين جدّه وما والاها من ساحل البحر إلى حدود الشام عرضا. يجوز للكافر دخولها بالإذن لمدة ثلاثة أيام فقط. روى مسلم عن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «لأخرجنّ اليهود والنصارى من جزيرة العرب ، فلا أترك فيها إلا مسلما» وفي رواية لمسلم : «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب».

والمراد من جزيرة العرب في رأي الشافعية والحنابلة هو الحجاز خاصة ، كما حكى ابن حجر عن الجمهور ، بدليل رواية أحمد : «أخرجوا اليهود من الحجاز» ولفعل عمررضي‌الله‌عنه فيما رواه البخاري والبيهقي ، حيث أجلى اليهود والنصارى من الحجاز فقط دون جزيرة العرب ، وأقرهم في اليمن مع أنها من جزيرة العرب.

ولا يجوز عند المالكية لغير المسلم استيطان جزيرة العرب (الحجاز واليمن) لعموم الحديث السابق عن ابن عمر ، وحديث عائشة عند أحمد : «لا يترك بجزيرة العرب دينان» وما أخرجه مالك في الموطأ عن الزهري مرسلا : «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب».

الثالث ـ سائر بلاد الإسلام : يجوز للكافر أن يقيم فيها بأمان ، ولكن لا يدخل المساجد إلا بإذن المسلم ، فيجوز للكافر دخول المسجد واللبث فيه ، وإن كان جنبا ، فإن الكفار كانوا يدخلون مسجده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا شك أن فيهم الجنب ، وقد ترجم البخاري : دخول المشرك المسجد (١).

__________________

(١) إعلام الساجد بأحكام المساجد للزركشي : ص ٣١٨

١٧١

قتال أهل الكتاب

(قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩))

الإعراب :

(مِنَ الَّذِينَ) بيان للذين الأولى ، وهي بدل.

(عَنْ يَدٍ) في موضع حال.

المفردات اللغوية :

(لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) لا يؤمنون إيمانا صحيحا بالله لأن اليهود جعلوا عزيرا ابن الله ، والنصارى جعلوا عيسى ابن الله ، وهو الله ، ولا يؤمنون باليوم الآخر على نحو صحيح ؛ لأن النصارى يجعلون الدينونة والحساب لعيسى لا لله تعالى ، ثم إنهم جميعا كفروا بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي أمروا في كتبهم بالإيمان به ، فلم يبق لهم إيمان صحيح بأحد من الرسل ولا بما جاؤوا به ، وإنما يتبعون أهواءهم فيما هم فيه ، ولا يتبعون شرع الله ودينه (ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ) كالخمر والربا (وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ) الثابت الناسخ لغيره من الأديان ، وهو دين الإسلام ، يقال : دان بكذا : اتخذه دينا وعقيدة (مِنَ الَّذِينَ) بيان للذين الأولى. (أُوتُوا الْكِتابَ) أي اليهود والنصاري (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) يلتزموا أداء الجزية ، وهي ضريبة مفروضة على الأشخاص القادرين ، لا على الأرض ، كضرائب الدخل اليوم (عَنْ يَدٍ) سعة وقدرة (وَهُمْ صاغِرُونَ) الصغار : التزام أحكام الإسلام وسيادته.

سبب النزول :

روى ابن المنذر عن الزهري قال : أنزلت في كفار قريش والعرب :

١٧٢

(وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) ونزلت في أهل الكتاب : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) الآية ، فكان أول من أعطى الجزية أهل نجران قبل وفاته عليه الصلاة والسّلام.

وروى ابن أبي شيبة وأبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن الحسن البصري قال : قاتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهل هذه الجزيرة من العرب على الإسلام ، لم يقبل منهم غيره ، وكان أفضل الجهاد ، وكان بعده جهاد على هذه الآية في شأن أهل الكتاب : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) الآية.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى حكم المشركين في إظهار البراءة من عهودهم ، وفي وجوب مقاتلتهم ، وإبعادهم عن المسجد الحرام ، أعقبه ببيان حكم أهل الكتاب : وهو أن يقاتلوا إلى أن يعطوا الجزية. وفي ذلك توطئة للكلام عن غزوة تبوك مع الروم من أهل الكتاب ، والخروج إليها في زمن العسرة والقيظ ، حين طابت الثمار واشتد الحر ، وما يتعلق بها من فضيحة المنافقين ، وتمحيص المؤمنين.

التفسير والبيان :

لما كفر اليهود والنصارى بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لم يبق لهم إيمان صحيح ، ولا شرع ولا دين ، وإنما يتبعون أهواءهم ؛ لأنهم لو كانوا مؤمنين بأصل دينهم ، لقادهم ذلك إلى الإيمان برسالة الإسلام وبنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأن جميع الأنبياء بشروا به ، وأمروا باتباعه ، ولم يعد ينفعهم إيمانهم ببقية الأنبياء ؛ لأن الإسلام من عند الله ، وختمت به الديانات ، فلم يكف الإيمان بالبعض دون البعض ، ما داموا قد كفروا بخاتم النبيين وأشرف المرسلين.

لهذا أمر الله بمقاتلة أهل الكتاب ، إذا كانوا موصوفين بصفات أربع وهي :

١٧٣

١ ـ إنهم لا يؤمنون بالله : فإن أكثر اليهود مشبّهة يعتقدون أن الإله جسم ، والله منزه عن الجسمية والشبيه ، فهم لا يؤمنون بوجود الله وتوحيده حقا ، وجودا منزها عن التجسيم. والنصارى يعتقدون بالتثليث ثم التوحيد ، فهم يقولون بوجود الأب والابن وروح القدس ، ثم يعتقدون أن الإله حل في عيسى ، فأصبح هو الرب ، والله منزه عن الاتحاد والحلول في غيره ، وعن الابن والشريك ، فصاروا لا يؤمنون بوجود الإله الحق.

ثم إن اليهود يقولون : عزيز ابن الله ، وكل من اليهود والنصارى (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) ، يشرّعون لهم العبادات ويحرّمون ، ويطيعونهم في ذلك ، فصاروا بمثابة الرب.

٢ ـ إنهم لا يؤمنون باليوم الآخر على النحو الصحيح ، فهم يعتقدون بأن الأرواح هي التي تبعث دون الأجساد ، كالملائكة ، وأن أهل الجنة لا يأكلون ولا يشربون ، وليس هناك متع مادية ، ويرون أن نعيم الجنة وعذاب النار معان روحية فقط كالسرور والهم ، فهم لا يؤمنون بحياة كاملة مادية وروحية في عالم الآخرة ، وهذا مناف لما أخبر به القرآن ، ومن أنكر البعث الجسماني ، فقد أنكر صريح القرآن.

٣ ـ (وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ) : فهم لا يحرمون ما حرمه القرآن وسنة الرسول ، ولا يحرمون ما حرمه موسى وعيسى عليهما‌السلام ، بل حرفوا التوراة والإنجيل ، وشرعوا لأنفسهم أحكاما تخالف أصل دينهم المنسوخ بحكم الإسلام ، فترى اليهود يستحلون أكل أموال الناس بالباطل كالربا وغيره ، والنصارى استباحوا ما حرم عليهم في التوراة كالشحوم والخمور.

٤ ـ ولا يدينون دين الحق : أي لا يعتقدون بصحة دين الإسلام الذي هو الدين الحق ، وإنما يسيرون على وفق ما وضعه رجال الدين بحسب أهوائهم ،

١٧٤

فبدلوا التوراة والإنجيل ، ولم يعد أصل الدين المطابق للإسلام والموحى به إلى موسى وعيسىعليهما‌السلام هو المعمول به.

فقاتلوا هؤلاء الموصوفين بأنهم من أهل الكتاب ، لتمييزهم عن المشركين في الحكم ، فالمشركون يجب في حقهم القتال أو الإسلام ، وأهل الكتاب يجب فيهم أحد خصال ثلاث : القتال أو الإسلام أو الجزية.

وغاية قتالهم حتى يلتزموا الدخول في عهد مصحوب بأداء الجزية ، وهم صاغرون أي ملتزمون الخضوع لأحكام الإسلام.

وكما أن قتال المشركين واجب إذا حاربوا المسلمين ، كما تقدم بيانه عن ابن العربي (١) ، كذلك قتال أهل الكتاب عند وجود مقتضيات القتال ، كالاعتداء على المسلمين أو بلادهم أو أعراضهم أو فتنتهم عن دينهم أو تهديد أمنهم وسلامتهم ، كما حصل من الروم ، فكان ذلك سببا لغزوة تبوك ، أو حسبما يرى الإمام من المصلحة الحربية معتمدا على التحركات المشبوهة ، والاستعدادات الحربية ، والحشود العسكرية على حدود دار الإسلام.

وقد سموا بأهل الكتاب ؛ لأن لهم في الأصل كتابا سماويا ، ويعتقدون في الجملة بالإله وبالبعث والحساب والرسل والشرائع والملل.

ويسمون أيضا «أهل الذمة» أي أهل العهد والميثاق الذي يوجب الإسلام معاملتهم بالعدل والمساواة بمقتضى ذمة الله ورسوله.

ويقال لهم أيضا «المعاهدون» لأنهم يقيمون في دار الإسلام بموجب عهد أو معاهدة معقودة بيننا وبينهم ، ويجب تنفيذ أحكامها واحترامها من الجانبين ، ويحرم ظلمهم وتكليفهم مالا يطيقون.

__________________

(١) أحكام القرآن : ٢ / ٨٨٩

١٧٥

والصغار كما تقدم وذكر بعض الفقهاء كالشافعية وابن القيم : هو التزام الأحكام ، وليس الإذلال والإهانة.

والجزية ليست من مبتدعات الإسلام ، وإنما كانت معروفة لدى الفرس ، وأول من سنّها كسرى أنو شروان ، فعمل بها عمر حينما افتتح بلاد الفرس.

ولم يحدد القرآن مقدارها ، فاختلف الفقهاء في تقديرها ، فقال الشافعي : هي في السنة دينار على الغني والفقير من الأحرار البالغين لا ينقص منه شيء ، لما روى أبو داود وغيره عن معاذ: أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعثه إلى اليمن ، وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا في الجزية. قال الشافعي : وهو أي الرسول المبيّن عن الله تعالى مراده. وإن صولحوا على أكثر من دينار جاز. وتؤخذ في آخر السنة.

وقال المالكية : إنها أربعة دنانير على أهل الذهب ، وأربعون درهما على أهل الورق (الفضة) ، الغني والفقير سواء ، ولو كان مجوسيا ، لا يزاد ولا ينقص على ما فرض عمر ، لا يؤخذ منهم غيره.

وقال الحنفية : مقدار الجزية اثنا عشر درهما على الفقراء ، وأربعة وعشرون درهما على الأوساط ، وأربعون درهما على الأغنياء. وتؤخذ في أول السنة.

ويعامل المجوس في أخذ الجزية معاملة أهل الكتاب ، قال ابن المنذر : لا أعلم خلافا أن الجزية تؤخذ منهم. روى مالك في الموطأ أن عمر بن الخطاب ذكر أمر المجوس فقال : ما أدري كيف أصنع في أمرهم؟ فقال عبد الرحمن بن عوف : أشهد لسمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «سنّوا بهم سنة أهل الكتاب» قال ابن عبد البر : يعني في الجزية خاصّة. وفي هذا القول دليل واضح على أنهم ليسوا أهل كتاب.

أما أهل الأوثان : فقال الشافعي رحمه‌الله وجمهور الفقهاء : لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب على التخصيص ، عربا كانوا أو عجما لهذه الآية ، فإنهم هم الذين

١٧٦

خصّوا بالذكر ، فتوجه الحكم إليهم دون سواهم ؛ لقوله عزوجل : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة ٩ / ٥] ولم يقل : حتى يعطوا الجزية ، كما قال في أهل الكتاب. فلا تؤخذ الجزية من عبدة الأوثان من العرب.

وقال الأوزاعي والمالكية : تؤخذ الجزية من كل عابد وثن أو نار أو جاحد أو مكذّب ، عربيا أو عجميا ، تغلبيا أو قرشيا ، كائنا من كان ؛ إلا المرتد.

والجزية تؤخذ من الرجال المقاتلين ؛ لأنه تعالى قال : (قاتِلُوا الَّذِينَ) إلى قوله : (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) فيقتضي ذلك وجوبها على من يقاتل ، وقد أجمع العلماء على أن الجزية تؤخذ من الرجال الأحرار المقاتلين.

وإذا أعطوا الجزية لم يؤخذ منهم شيء من ثمارهم ولا زروعهم ولا تجارتهم ، إلا أن يتجروا في بلاد غير بلادهم التي أقرّوا فيها وصولحوا عليها ، فحينئذ يؤخذ منهم العشر إذا باعوا أمتعة التجارة ، وحصلوا على أثمانها ، ولو كان ذلك في السنة مرارا ، إلا في حملهم الطعام : الحنطة والزيت إلى المدينة ومكة على التخصيص ، فإنه يؤخذ منهم نصف العشر ، على ما فعل عمر.

ويمنعون من إظهار الخمر والخنزير في أسواق المسلمين ، فإن أظهروا شيئا من ذلك أريقت الخمر عليهم ، وأدّب من أظهر الخنزير. وإن أراقها مسلم من غير إظهارها فقد تعدّى ، ويجب عليه الضمان في مذهبي المالكية والحنفية.

وإن امتنعوا من أداء الجزية وغيرها ، وامتنعوا من حكم الإسلام من غير أن يظلموا ، قوتلوا في رأي الجمهور غير الحنفية.

وإن قطعوا الطريق فهم بمنزلة المحاربين المسلمين إذا لم يمنعوا الجزية ، أي يطبق عليهم حكم آية المحاربة : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) [المائدة ٥ / ٣٣].

١٧٧

وإذا أسلموا سقطت عنهم الجزية باتفاق الفقهاء ، لما رواه أحمد وأبو داود والبيهقي والدارقطني عن ابن عباس من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ليس على مسلم جزية» وفي رواية للطبراني عن ابن عمر : «من أسلم فلا جزية عليه». وكما تسقط الجزية بالإسلام تسقط بالموت. لذا فإنها تجب بدلا عن عصمة الدم ، وسكنى دار الإسلام.

فقه الحياة أو الأحكام :

هذه آية الجزية التي تدخل ضمن معاهدة بين المسلمين وغيرهم ، ليستوطنوا في دار الإسلام بأمان وسلام ، مع إخضاعهم لأحكام الإسلام المدنية والجزائية ، وما عدا ذلك فإنا في عباداتهم أمرنا بتركهم وما يدينون.

وقتالهم مثل قتال المشركين إذا حاربونا واعتدوا علينا ، فإنما القتال لمن قاتلنا كما قال تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ ، وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [البقرة ٢ / ١٩٠].

وربما تكون الإقامة في دار الإسلام من قبل هؤلاء المعقود لهم عقد الذمة سببا في تعرفهم على محاسن الإسلام وقوة دلائله ، فيتركون دينهم ، وينتقلون من الكفر إلى الإيمان.

ومقتضى عقد الذمة : حقن الدماء ، ومنع القتال ، والتزام أحكام الإسلام ، مع تقريرنا البقاء على دينهم ؛ إذ لا إكراه في الدين ، ولكن ليس يراد بذلك الرضا بكفرهم.

ودلت الآية على أن دين الحق هو الإسلام ، قال الله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [آل عمران ٣ / ١٩] والإسلام : هو التسليم لأمر الله وما جاءت به

١٧٨

رسله ، والانقياد له ، والعمل به. والدين : يراد به الطاعة ، أو القهر ، أو الجزاء (١). والكفر : إنكار وجود الله ، أو نسبة الشريك له ، أو عدم الإيمان برسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو تكذيب أحد الأنبياء السابقين.

وأرى أن المراد بالدين هنا : النظام الموضوع من الله لعباده في العقيدة والعبادة والأخلاق والتشريع.

عقيدة أهل الكتاب (اليهود والنّصارى)

(وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣))

الإعراب :

(قالَتِ الْيَهُودُ) هذا لفظ خرج على العموم ، ومعناه الخصوص ؛ لأنه ليس كلّ اليهود قالوا ذلك.

__________________

(١) أحكام القرآن للجصاص : ٣ / ٩٠

١٧٩

(عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) من قرأ بالتّنوين كان (عُزَيْرٌ) مبتدأ ، و (ابْنُ) خبره. ولا تحذف الألف في ابن من الخط ، ويكسر التّنوين لالتقاء السّاكنين. ومن قرأه بغير تنوين ففيه ثلاثة أوجه :

الأول ـ أن يكون (عُزَيْرٌ) مبتدأ ، و (ابْنُ) خبره ، وحذف التّنوين لسكونه وسكون الباء من (ابْنُ) كقراءة من قرأ (أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ) [الإخلاص ١١٢ / ١ ـ ٢] فحذف التّنوين لسكونه وسكون اللام.

الثاني ـ أن يجعل (ابْنُ) صفة لعزيز ، وابن : إذا كان صفة لعلم مضافا إلى علم ، حذف التّنوين من الأول ، مثل : زيد بن عمرو. ويكون خبر المبتدأ محذوفا تقديره : وقالت اليهود عزيز ابن الله معبودهم ، وحذف الخبر للعلم به ، كما يحذف المبتدأ للعلم به.

الثالث ـ أن يكون (عُزَيْرٌ) ممنوعا من الصّرف للعجمة والتّعريف كإبراهيم وإسماعيل ، وهذا أضعف الوجوه ؛ لأنه عند المحققين عربي مشتق من (عزّره) : إذا عظّمه ووقّره.

لبلاغة :

(يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) أراد نور الإسلام ، فيه استعارة ، شبّه الإسلام بوضوح أدلّته وقطعيّتها وإضاءتها بالشّمس السّاطعة في نورها وضيائها.

المفردات اللغوية :

(عُزَيْرٌ) هو المعروف عند اليهود باسم (عزرا) المنسوب إلى العازار بن هارون. (يُضاهِؤُنَ) يشابهون به في الكفر والشّناعة. (قاتَلَهُمُ اللهُ) لعنهم. (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) كيف يصرفون عن الحقّ إلى غيره مع قيام الدّليل؟ (أَحْبارَهُمْ) علماء اليهود ، جمع حبر. (وَرُهْبانَهُمْ) عبّاد اليهود المنقطعين للعبادة ، جمع راهب. (أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) أي يتّبعونهم في تحليل ما حرّم الله وتحريم ما أحلّ. (أَرْباباً) جمع ربّ : وهو الخالق الذي يختصّ بالتّشريع حلاله وحرامه. (وَما أُمِرُوا) في التّوراة والإنجيل. (إِلَّا لِيَعْبُدُوا) أي بأن يعبدوا. (سُبْحانَهُ) تنزيها له. (يُرِيدُونَ) يقصدون إلى الشيء ، أو يفعلون فعلا يفضي إلى المراد ، وإن لم يقصدوه. (نُورَ اللهِ) هو دين الإسلام وشرعه وبراهينه. (بِأَفْواهِهِمْ) بأقوالهم فيه. (أَنْ يُتِمَ) يظهر. (أَرْسَلَ رَسُولَهُ) محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. (لِيُظْهِرَهُ) يعليه. (عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) جميع الأديان المخالفة له.

١٨٠