التفسير المنير - ج ١٠

الدكتور وهبة الزحيلي

١
٢

٣
٤

كيفية قسمة الغنائم

(وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١))

الإعراب :

(وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) ما : اسم موصول بمعنى الذي ، و (غَنِمْتُمْ) : صلته ، والعائد إليه محذوف ، تقديره : غنمتموه. (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) : خبر مبتدأ محذوف تقديره : فحكمه أن لله خمسه.

البلاغة :

(مِنْ شَيْءٍ) التنكير للتقليل.

(عَلى عَبْدِنا) هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ذكر بلفظ العبودية وأضيف إلى الله للتشريف والتكريم.

المفردات اللغوية :

(غَنِمْتُمْ) أخذتم من الكفار قهرا ، والغنيمة : ما أخذ من الكفار في الحرب قهرا وفيه الخمس. أما الفيء : فهو ما أخذ من الأعداء بلا حرب أو صلحا كالجزية وعشر التجارة ، وليس فيه الخمس. وهذه التفرقة مبنية على العرف. وقال بعضهم : الغنيمة : ما أخذ من مال منقول ، والفيء : الأرضون. والنفل : ما يحصل للإنسان من الغنيمة قبل قسمتها. وقال قتادة : الغنيمة والفيء بمعنى واحد ، وزعموا أن هذه الآية ناسخة لآية الحشر التي جعلت الفيء كله لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ، وهذه الآية جعلت لهم الخمس فقط. والظاهر أن الغنيمة والفيء مختلفان ولا نسخ ، إذ لا ضرورة له ، والنسخ يلجأ إليه عند الضرورة.

(فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) يأمر فيه بما يشاء. (وَلِذِي الْقُرْبى) قرابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بني هاشم

٥

وبني المطلب. (وَالْيَتامى) أطفال المسلمين الذين مات آباؤهم ، وهم فقراء. (وَالْمَساكِينِ) ذوي الحاجة من المسلمين. (وَابْنِ السَّبِيلِ) المنقطع في سفره عن بلده من المسلمين ، أي أن الخمس يستحقه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأصناف الأربعة المذكورة ، على ما كان يقسمه من أن لكل خمس الخمس. (يَوْمَ الْفُرْقانِ) يوم بدر ، الذي فرق الله فيه بين الحق والباطل. (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) المسلمون والكفار. (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) صاحب القدرة المطلقة على كل الأشياء ، ومنها نصركم مع قلتكم وكثرتهم.

المناسبة :

لما أمر الله بمقاتلة الكفار في قوله : (وَقاتِلُوهُمْ) وكان القتال عادة مستتبعا إحراز الغنائم منهم ، ذكر تعالى حكم الغنيمة وقد نزلت هذه الآية في غزوة بدر ، وكان ابتداء فرض قسمة الغنائم فيها.

التفسير والبيان :

هذه الآية تفصيل لما أجمل حكمه في بدء سورة الأنفال : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) فأبان تعالى أن حكمها لله ، ويقسمها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما أمره الله به ، وفي هذه الآية تفصيل لحكم الغنائم التي اختص الله هذه الأمة بإحلالها ، وأنها تقسم أخماسا ، فيجعل الخمس لمن ذكرتهم الآية ، والأربعة الأخماس الباقية للغانمين كما أوضحت السنة ، وهي أنها تقسم للجيش المقاتل : للراجل سهم ، وللفارس سهمان أو ثلاثة أسهم ، بدليل بيان هذا الخمس والسكوت عن الباقي في قوله تعالى : (غَنِمْتُمْ) قال القرطبي : أضاف الله الغنيمة للغانمين ، ثم عين الخمس لمن سمّى في كتابه ، وسكت عن الأربعة الأخماس ، فدل على أنها ملك للغانمين ، كما سكت عن الثلثين في قوله : (وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) فكان للأب الثلثان اتفاقا ، وكذا الأربعة الأخماس للغانمين إجماعا (١).

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٨ / ٣ ، ١٣

٦

والغنيمة كما أوضحت : ما دخلت في أيدي المسلمين من أموال المشركين على سبيل القهر.

والأصناف المذكورة في الآية ستة ، قيل عن أبي العالية : إن سهم الله يصرف في الكعبة ، وأجيب بأن تعمير بيوت الله حق على المسلمين ، والراجح المشهور أو المجمع عليه أن خمس الغنائم يقسم على خمسة أصناف ، وقوله : (لِلَّهِ خُمُسَهُ) : افتتاح كلام للتبرك بذكر اسم الله وتعظيمه ، وافتتاح الأمور باسمه وبيان تفويض كل شيء إليه ، فهو يحكم بما يشاء ، ولله الدنيا والآخرة. والأصناف الخمسة هي :

١ ـ سهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يضعه حيث شاء. قال عمر بن عبد العزيز : قوله : (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) يعني في سبيل الله ، قال ابن العربي : وهذا هو الصحيح كله.

٢ ـ سهم ذوي القربى : أي قرابة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهم على الراجح بنو هاشم وبنو المطلب ، وهو رأى الشافعي وأحمد وآخرين ؛ لما أخرجه البخاري والنسائي : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما قسم سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني عبد المطلب قال : «إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام ، إنما بنو هاشم وبنو المطّلب شيء واحد» وشبك بين أصابعه. قال البخاري : قال الليث : حدثني يونس ، وزاد : ولم يقسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل شيئا. قال ابن إسحاق : وعبد شمس وهاشم والمطلب إخوة لأم ، وأمّهم : عاتكة بنت مرّة ، وكان نوفل أخاهم لأبيهم. وقال النسائي : وأسهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لذوي القربى ، وهم بنو هاشم وبنو المطلب ، بينهم الغني والفقير.

وتفصيل القصة فيما أخرج ابن جرير الطبري عن جبير بن مطعم (من بني نوفل) قال : لما قسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سهم ذي القربى من خيبر على بني هاشم

٧

وبني المطلب ، مشيت أنا وعثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه (من بني عبد شمس) ، فقلنا : يا رسول الله ، هؤلاء إخوتك بنو هاشم ، لا ننكر فضلهم ، لمكانك الذي جعلك الله به منهم ، أرأيت إخواننا بني المطلب ، أعطيتهم وتركتنا (١) ، وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة؟ فقال : «إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام ، إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد» ثم شبّك رسول الله يديه ، إحداهما بالأخرى. وذلك أن بني هاشم وبني المطلب دخلوا في مقاطعة في شعب مكة بموجب الصحيفة التي كتبتها قريش ، لحمايتهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يدخل بنو عبد شمس وبنو نوفل. وكان بنو أمية بن عبد شمس في عداوة لبني هاشم في الجاهلية والإسلام.

وأما بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فعند الشافعي رحمه‌الله ، ورأيه مطابق لظاهر الآية : أنه يقسم على خمسة أسهم : سهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يصرف إلى ما كان يصرف إليه من مصالح المسلمين ، كالإعداد للجهاد من شراء السلاح والخيول ونحوها ، وسهم لذوي القربى من أغنيائهم وفقرائهم ، يقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين ، والباقي للأصناف الثلاثة : وهم اليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل.

وقال أبو حنيفة رحمه‌الله : إن سهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد وفاته ساقط بسبب موته ، وكذلك سهم ذوي القربى ، وإنما يعطون لفقرهم ، ولا يعطى أغنياؤهم ، فيقسم الخمس على ثلاثة أسهم ، على اليتامى والمساكين وابن السبيل.

وقال مالك رحمه‌الله : الأمر في الخمس مفوض إلى رأي الإمام ، ويجعل في بيت المال ، إن رأى قسمته على هؤلاء المذكورين في الآية فعل ، وإن رأى إعطاء بعضهم دون بعض ، فله ذلك.

__________________

(١) أي أنهما من بني عبد شمس وبني نوفل.

٨

وكأن مالكا والمالكية رأوا أن ذكر هذه الأصناف على سبيل المثال ، وهو من باب الخاص أريد به العام. وأصحاب الأقوال المتقدمة رأوا أنه من باب الخاص أريد به الخاص.

واستدل المالكية بأخبار وردت في السيرة هي :

أـ روي في الصحيح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث سرية قبل نجد ، فأصابوا في سهمانهم اثني عشر بعيرا ، ونفّلوا بعيرا بعيرا.

ب ـ قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أسارى بدر : لو كان المطعم بن عديّ حيا ، وكلّمني في هؤلاء النتنى ، لتركتهم له.

ج ـ رد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سبي هوازن ، وفيه الخمس.

د ـ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس ، والخمس مردود عليكم».

ه ـ روي في الصحيح عن عبد الله بن مسعود قال : آثر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم حنين أناسا في الغنيمة ، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل ، وأعطى عيينة بن حصن مائة من الإبل ، وأعطى ناسا من أشراف العرب ، وآثرهم يومئذ في القسمة ، فقال رجل : والله ، إن هذه القسمة ما عدل فيها ، أو : ما أريد بها وجه الله ، فقلت : والله لأخبرن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وسلم ، فأخبرته ، فقال : «يرحم الله أخي موسى لقد أوذى بأكثر من هذا ، فصبر»(١).

وذكر النسائي عن عطاء قال : خمس الله وخمس رسوله واحد ، كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحمل منه ، ويعطي منه ، ويضعه حيث شاء ، ويصنع به ما شاء.

__________________

(١) أحكام القرآن لابن العربي : ٢ / ٨٤٦

٩

كل هذه الأدلة تدل على أن توزيع الخمس مفوض للإمام ، وأن بيان المصارف في الآية بيان المصرف والمحل ، لا بيان الاستحقاق والملك ، كما ذكر القرطبي ؛ إذ لو كان استحقاقا وملكا ، لما جعله رسول الله أحيانا في غيرهم.

٣ ـ اليتامى : وهم أطفال المسلمين الذي هلك آباؤهم.

٤ ـ المساكين : وهم أهل الحاجة من المسلمين.

٥ ـ ابن السبيل : وهو المجتاز سفرا قد انقطع به.

ثم قال تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ ...) أي امتثلوا ما شرعنا لكم من الخمس في الغنائم إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وما أنزل على رسوله ، أو اعلموا أن ما غنمتم من شيء ، فخمس الغنيمة مصروف إلى هذه الأصناف الخمسة ، فاقطعوا عنه أطماعكم ، واقنعوا بالأخماس الأربعة إن كنتم صدقتم بالله وبما أنزله على رسوله ، يوم بدر : يوم الفرقان الذي فرقنا فيه بين الحق والباطل ، فنصرنا المؤمنين على الكافرين ، وذلك يوم التقى الجمعان ، أي الفريقان من المسلمين والكافرين ، لسبع عشرة خلت من رمضان ، وهو أول قتال شهده الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والله على ذلك وغيره قدير ، يقدر على نصركم وأنتم قلّة ، ولا يمتنع عليه شيء أراده ، وينجز وعده لرسوله.

والمراد من الآية التحذير من تجاوز حدود الله في أي وقت ، وليس المراد أخذ العلم فقط ، بل العلم المقترن بالعمل والاعتقاد ، والإيمان بالله والرسول والمنزل عليه واليوم الآخر من دواعي العلم بأن لله حق التصرف في الأشياء ، وله تفويض القسمة إلى رسوله ، يقسم الخمس بين هذه الأصناف ؛ لأن النصر من عند الله ، وهو الذي أمدكم بالملائكة. وجواب الشرط دل عليه المذكور وهو : فاعملوا وانقادوا وسلّموا لأمر الله فيما أعلمكم به من القسمة ، وقد عدل عن (اعلموا) لأن

١٠

المراد هو العمل ، وليس العلم والاعتقاد ، فقوله : (وَاعْلَمُوا) يتضمن الأمر بالانقياد والتسليم لأمر الله في الغنائم.

فقه الحياة أو الأحكام :

الآية خطاب للمسلمين من غير خلاف ، لا مدخل فيه للكفار ولا للنساء ، خوطب به المقاتلون من المسلمين.

وقد أرشدت الآية إلى أن خمس الغنيمة يصرف لخمسة أصناف ، ودلت دلالة ضمنية على أن الأربعة الأخماس الباقية ملك للغانمين ، فذلك مفهوم من السكوت عن الأربعة الأخماس ، فتقسم بين الغانمين (١).

وأرشدت الآية أيضا إلى أنه : إن كنتم آمنتم بالله ، فاحكموا بهذه القسمة ، وهو يدل على أنه متى لم يحصل الحكم بهذه القسمة ، لم يحصل الإيمان بالله. وفي الآية تسمية يوم بدر بيوم الفرقان.

وهذه الآية مبيّنة لإجمال أول سورة الأنفال ، وقد ادعى ابن عبد البر الإجماع على أن هذه الآية نزلت بعد قوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) وأن أربعة أخماس الغنيمة مقسومة على الغانمين.

وجمهور العلماء على أن هذه الآية مخصوصة بأمور ثلاثة هي : أن سلب المقتول لقاتله إذا نادى به الإمام ، أي أعلن عنه قبل المعركة ، وكذلك الأسارى ، الاختيار فيهم إلى الإمام بلا خلاف ، وكذلك الأرض غير داخلة في عموم هذه الآية في رأي الجمهور ؛ لما روى أبو داود عن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه أنه قال : «لو لا آخر الناس ، ما فتحت قرية إلا قسمتها ، كما قسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خيبر». وأما الذي يقسم فهو المنقول الذي ينقل من موضع إلى آخر.

__________________

(١) أحكام القرآن للجصاص : ٣ / ٥١

١١

وقال الشافعي : كل ما حصل من الغنائم من أهل دار الحرب من شيء ، قلّ أو كثر من دار أو أرض أو متاع أو غير ذلك ، قسم ؛ إلا الرجال البالغين ، فإن الإمام مخير فيهم بين أن يمنّ أو يقتل أو يسبي ، واستدل بعموم هذه الآية ، وقال : والأرض مغنومة لا محالة ، فوجب أن تقسم كسائر الغنائم ، وقد قسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما افتتح عنوة من خيبر. ولو جاز أن يدّعى الخصوص في الأرض ، جاز أن يدّعى في غير الأرض ، فيبطل حكم الآية. وأما آية (الحشر) فلا حجة فيها ؛ لأن ذلك إنما هو في الفيء لا في الغنيمة. وقوله تعالى :(وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) استئناف كلام بالدعاء لمن سبقهم بالإيمان ، لا لغير ذلك. وفعل عمر في وقف الأرض المفتوحة إما أن يكون ما وقفه فيئا ، فلم يحتج إلى مراضاة أحد ، وإما أن يكون غنيمة استطاب أنفس أهلها ، وطابت بذلك فوقفها ، روى جرير أن عمر استطاب أنفس أهلها ، وكذلك صنع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سبي هوازن ، لما أتوه استطاب أنفس أصحابه عما كان في أيديهم.

وقال الحنفية : يخير الإمام في قسمة الأرض ، أو إقرارها بيد أهلها ، وتوظيف الخراج عليها ، وتصير ملكا لهم كأرض الصلح.

وأما السّلب : فهو في رأي مالك وأبي حنيفة والثوري ، ليس للقاتل ، وحكمه حكم الغنيمة ، إلا أن يقول الأمير : من قتل قتيلا فله سلبه ، فيكون حينئذ له ، أي أن هذا القول تصرف من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بطريق الإمامة والسياسة ، فيحتاج إلى إذن متجدد من الحاكم.

وذهب الليث والأوزاعي والشافعي وآخرون إلى أن السلب للقاتل على كل حال ، سواء قاله الإمام أو لم يقله ، لكن يستحقه القاتل في رأي الشافعي إذا قتل قتيلا مقبلا عليه ، غير مدبر عنه ، أي أن هذا القول صادر من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بطريق التبليغ للوحي أو النبوة ، فلا يحتاج إلى إذن أصلا من الحاكم.

١٢

ولا يخمس السلب في رأي الشافعي ؛ لما رواه أبو داود عن عوف بن مالك الأشجعي وخالد بن الوليد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قضي في السلب للقاتل ، ولم يخمّس السلب.

وذهب جمهور العلماء إلى أن السلب لا يعطى للقاتل ، إلا أن يقيم البيّنة على قتله. وقال أكثرهم : يجزئ شاهد واحد ؛ عملا بحديث أبي قتادة ، وقيل وهو رأي الشافعي : شاهدان أو شاهد ويمين ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعطى السلب لأبي قتادة بشهادة الأسود بن خزاعيّ وعبد الله بن أنيس. وقال الأوزاعي والليث : يعطاه بمجرد دعواه ، وليست البيّنة شرطا في الاستحقاق ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعطى أبا قتادة سلب مقتوله من غير شهادة ولا يمين.

ولا يحتاج في مذهب المالكية إلى بيّنة ؛ لأنه من الإمام ابتداء عطية.

والسلب بالاتفاق يشمل السلاح وكل ما يحتاج للقتال. أما الفرس فقال أحمد : ليس من السلب. وأما ما معه من نقود أو جواهر فلا خلاف في أنه ليس من السلب. وأما ما يتزين به للحرب فهو من السلب في رأي الأوزاعي ، وقال جماعة : ليس من السلب.

وليس في كتاب الله تعالى دلالة على تفضيل الفارس على الراجل ، واختلف العلماء في ذلك ، فذهب الجمهور إلى أنه يسهم للفارس سهمان ، وللراجل سهم وهو الصحيح ؛ وذلك لكثرة العناء وعظم المنفعة ، بدليل ما روى البخاري عن ابن عمر أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعل للفرس سهمين ولصاحبه سهما.

ولا يعطى في رأي مالك والشافعي لأكثر من فرس واحد ، لأن القتال يكون على فرس واحد ، والزائد رفاهية ، وقال أبو حنيفة : يسهم لأكثر من فرس واحد ؛ لأنه أكثر غناء وأعظم منفعة.

١٣

وسبب استحقاق الجندي السهم هو شهود الوقعة ، لنصر المسلمين ، لقول عمر : «إنما الغنيمة لمن شهد الوقعة» فلو شهد آخر الوقعة استحق ، ولو حضر بعد انقضاء القتال فلا. ومن غاب أو حضر مريضا فلا سهم له ؛ لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يسهم لغائب قط إلا يوم خيبر ، فإنه أسهم لأهل الحديبية ، من حضر منهم ومن غاب ، لقوله تعالى : (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها).

وأما المدد الذي يلحق الجيش في دار الحرب قبل إحراز الغنيمة ، فقال الحنفية : إذا غنموا في دار الحرب ، ثم لحقهم جيش آخر قبل إخراجها إلى دار الإسلام ، فهم شركاء فيها. وقال الأئمة الآخرون : لا يشاركونهم (١).

تكثير المؤمنين ببدر في أعين المشركين

وتقليل المشركين في أعين المؤمنين

(إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (٤٢) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤٣) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤٤))

__________________

(١) أحكام القرآن للجصاص : ٣ / ٥٦

١٤

الإعراب :

(إِذْ أَنْتُمْ إِذْ) : بدل من قوله : (يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) و (بِالْعُدْوَةِ) : بضم العين وكسرها ، و (الْقُصْوى) : حقها أن يقال : القصيا مثل الدنيا ، إلا أنه جاء شاذا. والركب : (اسم جمع ، وليس بجمع تكسير لراكب) بدليل تصغيره على ركيب ، إذ لو كان جمع تكسير لقيل : رويكبون ، كما يقال في تكسير شاعر : شويعرون ، يرد إلى الواحد ثم يصغر ، ثم يؤتى بعلامة الجمع. و (الرَّكْبُ) : مبتدأ ، و (أَسْفَلَ) : خبره ، وهو وصف لظرف محذوف ، تقديره : والركب مكانا أسفل منكم.

(لِيَقْضِيَ) متعلق بمحذوف ، أي ليقضي أمرا كان واجبا أن يفعل وهو نصر أوليائه وقهر أعدائه. و (لِيَهْلِكَ) بدل منه.

(حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) حي : فيه إدغام ، أصله حيي وأدغم للزوم الحركة في آخره ، وقرئ بالإظهار أي بفك الإدغام للحمل على المستقبل ، أي لإجراء الماضي على المستقبل ، والمستقبل لا يجوز فيه الإدغام ، فلا يقال : يحيّا.

(إِذْ يُرِيكَهُمُ إِذْ) : في موضع نصب بفعل مقدر ، تقديره : واذكر إذ يريكهم الله.

(وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ) إذ : معطوف على (إِذْ) الأولى ، وردّت الواو ميم الجمع مع الضمير. والضميران مفعولان.

البلاغة :

(إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا) بين الدنيا والقصوى طباق.

(لِيَهْلِكَ) و (يَحْيى) استعار الهلاك والحياة للكفر والإيمان أو الإسلام.

المفردات اللغوية :

(إِذْ) بدل من يوم في قوله (يَوْمَ الْفُرْقانِ). (أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا) أي أنتم كائنون بشط الوادي أو جانبه ، و (الدُّنْيا) : القربى أي القريبة من المدينة. (وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى) أي البعدى من المدينة وهي مؤنث الأقصى. (وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) أي العير كائنون بمكان أسفل منكم أي مما يلي البحر. (وَلَوْ تَواعَدْتُمْ) أنتم والنفير للقتال. (وَلكِنْ لِيَقْضِيَ) جمعكم بغير ميعاد ، ليحقق أمرا كان مفعولا في علمه ، وهو نصر الإسلام ومحق الكفر. (لِيَهْلِكَ) فعل ذلك ليكفر من كفر بعد حجة ظاهرة قامت عليه ، وهي نصر المؤمنين مع قلتهم على الجيش الكثير ، أو ليموت من يموت عن بينة عاينها ، (وَيَحْيى) أي ويعيش من يعيش عن حجة شاهدها ، لئلا

١٥

يكون له حجة ومعذرة ، فإن وقعة بدر من الآيات الواضحة. أي إما أن يستعار الهلاك للكفر ، والحياة للإسلام ، بمعنى ليصدر كفر من كفر وإيمان من آمن عن وضوح بينة ، وإما أن يكون اللفظان على الحقيقة. والمراد بمن هلك ومن حيّ : المشارف للهلاك والحياة أو من هذا حاله في علم الله وقضائه.

(فِي مَنامِكَ) نومك. (قَلِيلاً) أي عددا قليلا ، فأخبرت به أصحابك فسرّوا. (لَفَشِلْتُمْ) جبنتم. (وَلَتَنازَعْتُمْ) اختلفتم. (فِي الْأَمْرِ) أمر القتال. (وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ) أي سلمكم من الفشل والتنازع (بِذاتِ الصُّدُورِ) بما في القلوب.

(وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ) أيها المؤمنون. (قَلِيلاً) نحو سبعين أو مائة ، لتقدموا عليهم. (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) ليقدموا ولا يرجعوا عن القتال. وهذا قبل بدء المعركة ، أما بعد بدئها فأراهم إياكم مثليهم ، كما في آل عمران. (تُرْجَعُ) تصير.

المناسبة :

الحديث ما يزال عن وقعة بدر ، فالله تعالى بعد أن أبان حكم قسمة الغنائم ، وصف مشاهد من يوم الفرقان ومواقع الصفين ، ومعسكر الجيشين ، لتذكير المؤمنين بالنعم العظمى التي أنعم بها عليهم ، وامتنانه عليهم حيث نصرهم على من هو أقوى منهم.

التفسير والبيان :

اذكروا أيها المؤمنون ذلك اللقاء الحاسم بينكم وبين المشركين ، واشكروه على نصره إياكم فيه ، حينما كنتم في مواجهة رهيبة مع الأعداء ، إذ كنتم في جانب الوادي القريبة من المدينة وهي أرض رملية تسيخ فيها الأقدام ، والمشركون نازلون في جانب الوادي الأخرى البعيدة من المدينة إلى ناحية مكة ، وهي قريبة من الماء ، والركب أي العير الذي فيه أبو سفيان بما معه من التجارة أسفل منكم أي مما يلي جانب البحر أو ساحله ، حينما كان أبو سفيان قادما بقافلته من الشام ، في أربعين من قريش ، وهم مع أهل مكة يدافعون عنه دفاع المستميت ، مما يقوي روحهم المعنوية.

١٦

ولو تواعدتم أنتم والمشركون في مكان للقتال ، لاختلفتم في الميعاد ، خوفا من القتال ؛ لقلتكم وقوة عدد أعدائكم ، ولأنهم كانوا يهابون قتال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولكن تلاقيكم عن غير موعد ولا رغبة في القتال ، ليقضي الله ما أراد بقدرته وحكمته وعلمه من إعزاز الإسلام ونصر أهله ، وإذلال الشرك وخذلان أهله ، ولينفذ أو يحقق أمرا كان مبرما وواجبا أن يفعل ، وهو نصر أوليائه المؤمنين ، وقهر أعدائه الكافرين بعد ذلك اللقاء ، فيزداد المؤمنون إيمانا ، وامتثالا لأمر الله ويظهروا الشكر له.

وكان لهذا اللقاء أثر آخر على المدى البعيد ، وهو أن يموت من يموت من الكفار عن حجة بيّنة عاينها بالبصر تثبت حقيقة الإسلام ، ويعيش من يعيش من المؤمنين عن حجة شاهدها بإعزاز الله دينه ، لئلا يكون له حجة ومعذرة ، فإن وقعة بدر من الآيات الواضحة التي ترسخ الإيمان ، وتدفع إلى صالح الأعمال ، وتحقق قوله تعالى : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) [القمر ٥٤ / ٤٥].

ويصح تفسير (لِيَهْلِكَ) و (يَحْيى) بالاستعارة ، وهي استعارة الهلاك والحياة للكفر والإسلام ، والمعنى : ليكفر من كفر بعد قيام الحجة عليه وظهور الآية والعبرة ، ويؤمن من آمن على مثل ذلك ، أي بعد الحجة لما رأي من الآية والعبرة ، وبه حقا كانت موقعة بدر فرقانا بين الحق والباطل ، قامت بها الحجة للمؤمنين بنصرهم كما بشرهم نبيهم ، والحجة على الكافرين بهزيمتهم ؛ لأنهم جند الباطل.

وتوضيح المعنى : أنه تعالى يقول : إنما جمعكم مع عدوكم في مكان واحد على غير ميعاد ، لينصركم عليهم ، ويرفع كلمة الحق على الباطل ، ليصير الأمر ظاهرا ، والحجة قاطعة ، والبراهين ساطعة ، ولا يبقى لأحد حجة ولا شبهة ، فحينئذ يهلك من هلك أي يستمر في الكفر من استمر فيه على بصيرة من أمره :

١٧

بأنه مبطل ، لقيام الحجة عليه. وهذا برهان عملي محسوس ، والمحسوسات أو التجارب أوقع أثرا في الاستدلال من البراهين النظرية أو العقلية المجردة.

وإن الله لسميع عليم ، أي لا يخفى عليه شيء من أقوال الكافرين والمؤمنين ، ولا من عقائدهم وأفعالهم ، فهو سميع لما قاله الكافرون ، وعليم بأحوالهم ، وسميع لدعاء المؤمنين وتضرعهم واستغاثتهم ، وعليم بهم وبأنهم يستحقون النصر على أعدائهم ، ويجازي كلا بما يسمع ويعلم.

واذكر أيها النبي إذ يريك الله الكفار في منامك قليلا أي ضعفاء ، فتخبر أصحابك بذلك ، فتثبت قلوبهم ، وتطمئن نفوسهم.

ولو أراكهم كثيرا أي أقوياء في الواقع لجبنتم عنهم ، واختلفتم فيما بينكم ، وتنازعتم في شأن القتال ؛ إذ منهم قوي الإيمان والعزيمة ، ومنهم الضعيف الذي يحسب للأمر ألف حساب.

ولكن الله سلّم من ذلك الفشل (الجبن) والتنازع ، بأن أراكهم قليلا ، إنه تعالى عليم بذات الصدور أي بما تخفيه الصدور ، وتنطوي عليه النفوس من شعور الضعف والجزع الذي يؤدي إلى الانثناء عن القتال.

واذكروا أيها الرسول والمؤمنون الوقت الذي يريكم الله الكفار قبل القتال عددا قليلا ، في رأي العين المجردة ، حتى تجرأتم وارتفعت معنوياتكم ، ويجعلكم بالفعل قلة في أعين الكفار ، فيغتروا ، ولا يعدوا العدة لكم ، حتى قال أبو جهل : «إنما أصحاب محمد أكلة جزور ، خذوهم أخذا ، واربطوهم بالحبال» أي أنهم عدد قليل يكفيهم جزور واحد في اليوم ، ويشبعهم لحم ناقة.

ليقضي الله أمرا كان مفعولا ، أي فعل كل ذلك ليمهد للحرب ، فتكون سبيلا في علمه تعالى لنصرة المؤمنين وإعزاز الإسلام ، وهزيمة الكافرين وإذلال الكفر والشرك.

١٨

روى ابن أبي حاتم وابن جرير عن ابن مسعود رضي‌الله‌عنه قال : لقد قللوا في أعيننا يوم بدر ، حتى قلت لرجل إلى جنبي ، تراهم سبعين؟ قال : لا ، بل هم مائة ، حتى أخذنا رجلا منهم ، فسألناه ، فقال : كنا ألفا.

وهذا كله قبل القتال ، أما في أثنائه فإنهم رأوا المسلمين مثلي عددهم ، ليعمهم الفزع وتضعف معنوياتهم ، كما قال تعالى : (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا : فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ ، وَأُخْرى كافِرَةٌ ، يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ، وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) [آل عمران ٣ / ١٣].

ثم قال تعالى : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي إن إلى الله مصير الأمور ومردها.

فقه الحياة أو الأحكام :

لقد كانت وقعة بدر أمرا عجبا وقصة مثيرة ، فمما لا شك فيه أن عسكر المسلمين في أول الأمر كانوا في غاية الخوف والضعف ، بسبب القلة وعدم الأهبة ، ونزلوا بعيدين عن الماء ، وكانت الأرض التي نزلوا فيها أرضا رملية تغوص فيها أرجلهم.

وأما الكفار فكانوا في غاية القوة بسبب كثرة العدد والعدد ، وكانوا قريبين من الماء ، والأرض كانت صالحة للمشي ، وكانت العير خلف ظهورهم ، ويتوقعون مجيء المدد من العير إليهم ساعة فساعة.

ثم تغيرت موازين القوى وانعكست القضية ، وجعل الله الغلبة للمسلمين ، والدمار على الكافرين ، فصار ذلك من أعظم المعجزات ، وأقوى البينات على صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيما أخبر عن ربه من وعد النصر والفتح والظفر. فقوله (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ) إشارة إلى هذا المعنى ، وهو أن الذين هلكوا إنما

١٩

هلكوا بعد مشاهدة هذه المعجزة ، والمؤمنون الذين بقوا في الحياة شاهدوا هذه المعجزة القاهرة. والمراد من البينة : هذه المعجزة (١).

وقد أراد الله أيضا من الفريقين كما دل ظاهر قوله : (لِيَهْلِكَ ...) العلم والمعرفة والخير والصلاح.

فإظهار المعجزة وإعلام فريقي المؤمنين والكافرين بالحجة على أحقية الإسلام وبطلان الشرك هو النوع الأول من النعم التي أنعم الله بها على أهل بدر.

والنوع الثاني من النعم يعرف من قوله : (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ) وهو : تقليل الكافرين في أعين المؤمنين ، ليقدموا على القتال بروح معنوية عالية ، وبحماسة تحقق النصر والغلبة.

والنوع الثالث من النعم يوم بدر يتبين من قوله : (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ ...) وهو أن التقليل الذي حصل في النوم تأكد بحصوله في اليقظة ، فهذا في اليقظة ، فقلل الله تعالى عدد المشركين في أعين المؤمنين ، وقلل أيضا عدد المؤمنين في أعين المشركين ، والحكمة في التقليل الأول : تصديق رؤيا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتقوية قلوب المؤمنين ، وازدياد جرأتهم عليهم. والحكمة في التقليل الثاني : أن المشركين لما استقلوا عدد المسلمين ، لم يبالغوا في الاستعداد والتأهب والحذر ، فصار ذلك سببا لاستيلاء المؤمنين عليهم.

والمقصود من ذكر قوله تعالى : (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) في موضعين : في الآية ٤٢ ، وفي الآية ٤٤ : هو أن ذكره في الموضع الأول لبيان أن الله تعالى فعل تلك الأفعال من أجل نصر المؤمنين على المشركين على وجه يكون معجزة دالة على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وللترغيب في اللقاء. وذكره في الموضع

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٥ / ١٦٨.

٢٠