التفسير المنير - ج ١٠

الدكتور وهبة الزحيلي

وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (٥٢))

الإعراب :

(أَلا) للتنبيه وافتتاح الكلام.

البلاغة :

(إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ ...) فيها المقابلة بين أمرين.

(إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا) اللام هنا مفيدة معنى الاختصاص ، كأنه قيل : لن يصيبنا إلا ما اختصنا الله بإثباته وإيجابه من النصرة عليكم أو الشهادة.

(وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ) تقديم الجار والمجرور على الفعل لإفادة القصر ، وإظهار لفظ الجلالة مكان الإضمار لتربية المهابة والخوف منه تعالى.

(هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا) اللفظ استفهام ، والمعنى توبيخ.

(فَتَرَبَّصُوا) أمر يراد به التهديد والوعيد.

المفردات اللغوية :

(ائْذَنْ لِي) في التخلف والقعود (وَلا تَفْتِنِّي) ولا توقعني في الفتنة وهي الإثم بأن لا تأذن لي ، فإني إن تخلفت بغير إذنك أثمت. وقيل : ولا تلقني في الهلكة ، فإني إذا خرجت معك ، هلك مالي وعيالي. (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) أي إن الفتنة هي التي وقعوا فيها وهي فتنة التخلف (لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) يعني أنها تحيط بهم يوم القيامة ، أو هي محيطة بهم ؛ لأن أسباب الإحاطة معهم ، فكأنهم في وسطها ، والمعنى : لا محيص ولا مهرب لهم عنها.

٢٤١

(إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ) أي إن تصبك في بعض الغزوات حسنة كنصر وغنيمة (وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ) نكبة وشدة (يَقُولُوا : قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ) أي لقد احتطنا بالحزم حين تخلفنا من قبل هذه المصيبة (فَرِحُونَ) بما أصابك (ما كَتَبَ اللهُ لَنا) إصابته (هُوَ مَوْلانا) ناصرنا ومتولي أمورنا (هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا) أي تنتظرون أن يقع ، والأصل : تتربصون ، فحذفت إحدى التاءين. (إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) إلا إحدى العاقبتين : النصر أو الشهادة ، وهي تثنية حسنة تأنيث أحسن (نَتَرَبَّصُ) ننتظر (بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ) بقارعة من السماء (أَوْ بِأَيْدِينا) بأن يؤذن لنا في القتال (مُتَرَبِّصُونَ) عاقبتكم.

سبب النزول :

نزول الآية (٤٩):

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : ائْذَنْ لِي) : أخرج الطبراني وأبو نعيم وابن مردويه عن ابن عباسرضي‌الله‌عنهما قال : لما أراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخرج إلى غزوة تبوك قال للجدّ بن قيس : يا جدّ بن قيس ، ما تقول في مجاهدة بني الأصفر؟ فقال : يا رسول الله ، إني امرؤ صاحب نساء ، ومتى أرى نساء بني الأصفر أفتتن ، فأذن لي ، ولا تفتني ، فأنزل الله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي) أي لا تفتني بصباحة وجوههن.

وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله مثله ، وعبارته قال للجدّ بن قيس: يا جدّ بن قيس ، ما تقول في مجاهدة بني الأصفر؟ فقال : الأصفر؟ قال جدّ ، وكان من شيوخ المنافقين : أتأذن لي يا رسول الله ، فإني رجل أحبّ النساء ، وإني أخشى إن أنا رأيت نساء بني الأصفر أن أفتتن ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو معرض عنه : قد أذنت لك ، فنزلت الآية.

ولما نزلت قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبني سلمة ـ وكان الجد بن قيس منهم ـ «من سيدكم يا بني سلمة؟» قالوا : جدّ بن قيس ، غير أنه بخيل جبان. فقال النبي

٢٤٢

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وأي داء أدوى (١) من البخل؟ بل سيدكم الفتى الأبيض بشر بن البراء بن معرور.

نزول الآية (٥٠):

(إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ) : أخرج ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله رضي‌الله‌عنه قال : جعل المنافقون الذين تخلفوا بالمدينة ، يخبرون عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبار السوء ، يقولون : إن محمدا وأصحابه قد جهدوا في سفرهم وهلكوا ، فبلغهم تكذيب حديثهم ، وعافية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه ، فساءهم ذلك ، فأنزل : (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ) الآية.

المناسبة :

الآيات السابقة واللاحقة في تعداد قبائح المنافقين ، وبيان نوع آخر من كيدهم ومن خبث بواطنهم ، وشماتتهم بالمؤمنين إذا أصيبوا بمصيبة ، وترحهم إذا تعرضوا لحسنة.

التفسير والبيان :

ومن المنافقين من يقول لك : يا محمد ائذن لي في القعود والتخلف عن القتال ، ولا توقعني في الإثم والهلاك بالخروج معك ، حتى لا أفتتن بنساء الروم ، منتحلين الأعذار الواهية ، مظهرين التمسك بالفضيلة ، فيرد الله عليهم مكذبا دعواهم ، كاشفا حقيقتهم فقال : (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) أي إنهم بهذه المقالة وقعوا فعلا في الفتنة ، حين انتحلوا الأعذار الكاذبة ، وقعدوا عن الجهاد ، فقوله : (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) أي في الإثم والمعصية وقعوا.

__________________

(١) أي : أيّ عيب أقبح منه؟ قال ابن الأثير : والصواب : أدوأ بالهمز ، ولكن هكذا يروى ، إلا أن يجعل من باب دوي : إذا هلك بمرض باطن.

٢٤٣

وإن نار جهنم لمحيطة بهم ، لا يجدون عنها محيدا ولا محيصا ولا مهربا. وهذا وعيد شديد لهم بأنهم أهل جهنم ؛ لكثرة خطاياهم ، كما قال تعالى : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً ، وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ، فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [البقرة ٢ / ٨١].

ثم ذكر الله تعالى نوعا آخر من كيد المنافقين وخبث باطنهم ، معلما نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعداوتهم ، فقال : (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ ...) أي إن عرضت لك في بعض الغزوات حسنة ، أي فتح ونصر وغنيمة ، كيوم بدر ، ساءهم ذلك ؛ وإن أصابتك مصيبة ، أي نكبة وشر وشدة كانهزام وتراجع في معركة ، كما حدث يوم أحد ، قالوا : قد اتخذنا ما يلزم من الحذر والتيقظ والعمل بالحزم ، واحترزنا من متابعته من قبل هذا الذي وقع ، إذ تخلفنا عن القتال ، ولم نتعرض للهلاك ؛ لأنا متوقعون هذه الهزيمة ، وانصرفوا إلى أهاليهم عن موضع التحدث والمفاخرة بآرائهم هذه ، وهم مسرورون للنتيجة.

والحسنة : ما يسرّ النفس حصوله ، والسيئة : ما يسوء النفس وقوعه.

فأرشد الله تعالى رسوله إلى إجابتهم عن هذا الموقف الشامت فقال : قل لهم : لن يصيبنا أبدا إلا ما كتب وخطّ لنا في اللوح المحفوظ ، فنحن تحت مشيئته وقدره ، هو مولانا ، أي ناصرنا ومتولي أمورنا ونتولاه ، كما قال تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا ، وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) [محمد ٤٧ / ١١] فكل ما كتب لنا هو الخير والصلاح.

وعلى الله وحده فليتوكل المؤمنون ، أي ونحن متوكلون عليه ، وهو حسبنا ونعم الوكيل ، وحق المؤمنين ألا يتوكلوا على غير الله ، فليفعلوا ما هو حقهم ، ومن حقهم اتخاذ ما يجب من أسباب النصر المادية والمعنوية ، كإعداد العدة

٢٤٤

اللازمة ، وتوقي كل المنازعات التي تؤدي الى الفشل وتفرق الكلمة. والتوكل : تفويض الأمر إلى الله ، بعد اتخاذ الأسباب المطلوبة عادة.

ثم أرشد الله تعالى إلى جواب ثان عن فرح المنافقين بمصائب المؤمنين ، فقال : (قُلْ : هَلْ تَرَبَّصُونَ) أي قل لهم يا محمد : هل تنتظرون بنا إلا إحدى العاقبتين الحسنتين : إما النصر والظفر ، وإما الشهادة والثواب العظيم ، فإن عشنا عشنا أعزة كراما مؤمنين ، وإن متنا متنا شهداء مأجورين.

أما نحن فننتظر بكم إحدى السوأتين من العواقب : إما (أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ) ، وهو قارعة من السماء ، كما نزلت على عاد وثمود ، أو بعذاب بأيدينا وهو السبي أو القتل على الكفر أو الإذن لنا في قتالكم ، فانتظروا بنا ما ذكرنا من عواقبنا ، إنا معكم منتظرون ما هو عاقبتكم ، فلا بد أن يلقى كلنا ما يتربصه ، لا يتجاوزه ، فنحن على بيّنة من ربنا ، ولا بينة لكم ، لا تشاهدون إلا ما يسرّنا ، ولا نشاهد إلا ما يسوؤكم ، وانتظروا أنتم مواعد الشيطان ، إنا منتظرون مواعد الله.

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى ما يأتي :

١ ـ إن الأعذار الكاذبة لا تخفى على الله المطلع على الغيوب وأسرار النفوس وخفايا ما في الصدور ، فلا يغترن أحد بذكائه وفطنته في تعمية الحقائق ، فإن الله كاشف كل شيء ، ولكن المنافقين قوم أغرار جاهلون لا يعلمون هذه الحقيقة.

٢ ـ المنافقون الذين تخلفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الخروج معه إلى غزوة تبوك هم الواقعون في الإثم والمعصية. قال أهل المعاني في قوله : (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) : فيه تنبيه على أن من عصى الله لغرض ما ، فإنه تعالى يبطل عليه

٢٤٥

ذلك الغرض ، ألا ترى أن القوم إنما اختاروا القعود لئلا يقعوا في الفتنة ، فالله تعالى بين أنهم في عين الفتنة واقعون ساقطون.

٣ ـ المنافقون حصب جهنم وهم لها واردون ، وهي تحيط بهم إحاطة شاملة ، لا يفلت من حرها أحد منهم يوم القيامة. وقد عبر قوله تعالى عن ذلك : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) وأفاد التعبير أنهم كانوا في أشد الخوف على أنفسهم وأموالهم وأولادهم بسبب تزايد دولة الإسلام واستعلائها وامتدادها ، والخوف الشديد مع الجهل الشديد أعظم العقوبات الروحانية ، كما قال الرازي (١).

٤ ـ هناك نوع آخر من كيد المنافقين وخبث بواطنهم ، وهو إساءتهم إن أصاب المؤمنين في بعض المعارك حسنة كظفر أو غنيمة ، وفرحهم إن أصاب المؤمنين سيئة من نكبة وشدة ومصيبة ومكروه ، ثم قولهم : قد أخذنا أمرنا الذي نحن مشهورون به ، وهو الحذر والتيقظ والعمل بالحزم ، من قبل وقوع ما وقع ، ثم توليهم عن مقام التحدث بذلك إلى أهاليهم ، وهم فرحون مسرورون.

٥ ـ كان الرد الحاسم الأول على كل تلك المكائد : أنه لن يصيب الإنسان خير ولا شر ، ولا خوف ولا رجاء ، ولا شدة ولا رخاء ، إلا وهو مقدر عليه مكتوب عند الله ، معلوم لله ، مقضي به عند الله تعالى.

وهذا دليل في رأي أهل السنة على أن قضاء الله شامل لكل المحدثات ، وأن تغير الشيء عما قضي الله به محال.

ويؤكد مضمون الآية قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من علم سر الله في القدر ، هانت عليه المصائب».

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٦ / ٨٤

٢٤٦

٦ ـ التوكل على الله بمعنى تفويض الأمر إليه بعد اتخاذ الأسباب من أصول الإيمان.

٧ ـ الجواب الثاني الحاسم عن فرح المؤمنين بمصائب المؤمنين : أن المؤمنين ينتظرون إحدى الحسنيين : النصر أو الشهادة ، وأما المنافقون فينتظرون إحدى السوأتين : العذاب الإلهي بالإهلاك الشامل في الدنيا كما عذبت الأمم الخالية ، كعاد وثمود ، أو العذاب على أيدي المؤمنين بالقتل أو غيره.

إحباط ثواب المنافقين على نفقاتهم وصلواتهم

وتعذيبهم في الدنيا والآخرة

(قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (٥٣) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (٥٤) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٥٥))

الإعراب :

(طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) نصب على الحال ، أي طائعين أو مكرهين.

(أَنْ تُقْبَلَ) فاعل منع ، والضمير في (مِنْهُمْ) و (أَنْ تُقْبَلَ) : مفعولا منع.

(وَهُمْ كُسالى) مبتدأ وخبر ، والجملة حالية.

٢٤٧

البلاغة :

(أَنْفِقُوا) : أمر في معنى الخبر ، كقوله تبارك وتعالى : (قُلْ : مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا).

(طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(أَنْفِقُوا) في طاعة الله كالجهاد (لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ) ما أنفقتموه (إِنَّكُمْ) تعليل لرد إنفاقهم (فاسِقِينَ) الفسق : التمرد والعتو (كُسالى) متثاقلون (وَهُمْ كارِهُونَ) النفقة ؛ لأنهم يعدونها مغرما (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ) أي لا تستحسن نعمنا عليهم ، فهي استدراج (لِيُعَذِّبَهُمْ) أي أن يعذبهم (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بما يلقون في جمعها من المشقة وما فيها من المصائب (وَتَزْهَقَ) تخرج (وَهُمْ كافِرُونَ) فيعذبهم في الآخرة أشد العذاب.

سبب النزول :

نزول الآية (٥٣):

(قُلْ : أَنْفِقُوا) : أخرج ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال : قال الجدّ بن قيس: إني إذا رأيت النساء لم أصبر حتى أفتتن ، ولكن أعينك بمالي ، قال : ففيه نزلت : (أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ) أي لقوله : أعينك بمالي. فهذه الآية نزلت في الجدّ بن قيس حين تخلف عن غزوة تبوك وقال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هذا مالي أعينك به ، فاتركني.

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى عاقبة المنافقين وهي العذاب في الدنيا والآخرة ، أعقب ذلك ببيان أنهم وإن أتوا بشيء من أعمال البر كالإنفاق على الجهاد ، فإنهم لا ينتفعون به في الآخرة ؛ لأنهم يفعلونه رياء وسترا على نفاقهم من الفضيحة.

والمقصود بيان أن أسباب العذاب في الدنيا والآخرة مجتمعة في حقهم ، وأن

٢٤٨

أسباب الراحة والخير زائلة عنهم في الدنيا والآخرة ، فأموالهم الكثيرة إنما هي عذاب لهم في الدارين.

والآيات من [٤٢] وما بعد هذه الآية إلى الآية [٥٩] كلها في المنافقين ، ثم جاءت آية مصارف الزكاة.

التفسير والبيان :

قل أيها النبي للمنافقين : مهما أنفقتم من نفقة في سبيل الله ووجوه البر طائعين أو مكرهين ، لن يتقبل منكم ؛ لأنكم كفرتم بالله ورسوله ، وما زلتم في شك مما جاء به الرسول من الدين والجزاء على الأعمال في الآخرة ، ولأنكم قوم فاسقون أي عتاة متمردون خارجون عن الإيمان ، والأعمال إنما تصح بالإيمان ، (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة ٥ / ٢٧] وقوله : (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ ..) تعليل لرد إنفاقهم وعدم القبول منهم في الدنيا والآخرة : وهو أن عدم القبول معلل بكونهم فاسقين ، أي كافرين.

وقوله : (طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) معناه : طائعين من غير إلزام من الله ورسوله ، أو ملزمين ، أو طائعين من غير إكراه من رؤسائكم ؛ لأن رؤساء أهل النفاق كانوا يحملون على الإنفاق ، لما يرون من المصلحة فيه ، أو مكرهين من جهتهم.

وعدم القبول غير معلل بعموم كونه فسقا ، بل بخصوص وصفه : وهو كون ذلك الفسق كفرا ، لذا صرح الله تعالى في الآية التالية بذلك فقال : (وَما مَنَعَهُمْ ...) أي وما منع قبول نفقاتهم إلا مجموع هذه الأمور الثلاثة : وهي الكفر بالله ورسوله ، وعدم الإتيان بالصلاة إلا في حال الكسل ، والإنفاق على سبيل الكراهية.

٢٤٩

فهم كفروا بالله ورسوله وبما جاء به ، والأعمال إنما تصح بالإيمان ، كما ذكرت ، ولا يصلون إلا وهم متكاسلون ؛ لأنهم لا يرجون بصلاتهم ثوابا ، ولا يخشون بتركها عقابا ، فهي ثقيلة عليهم ، كقوله تعالى : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) [البقرة ٢ / ٤٥].

ولا ينفقون نفقة في سبيل الجهاد وغيره إلا وهم كارهون لها ، لا تطيب بها أنفسهم ؛ لأنهم لا ينفقون لغرض الطاعة ، بل رعاية للمصلحة الظاهرة ، وسترا للنفاق ، ويعدون الإنفاق مغرما وخسارة بينهم. وقد أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن الله لا يمل حتى تملوا ، وأن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ، فلهذا لا يقبل الله من هؤلاء المنافقين نفقة ولا عملا ؛ لأنه إنما يتقبل من المتقين ، وما طوعهم ذاك إلا عن كراهية واضطرار ، لا عن رغبة واختيار.

فلا تعجبك أيها النبي وأيها السامع أموالهم ولا أولادهم ولا سائر نعم الله عليهم ، فإنما هي من أسباب المحن والآفات عليهم. والإعجاب بالشيء : السرور به مع التعجب والافتخار من حسنه ، والاعتقاد أنه ليس لغيره ما يساويه.

أما أموالهم في الدنيا فهي سبب لتعذيبهم بها حيث يتعبون في جمعها ، ويصحبها الهم والقلق ، ثم ينفقونها كارهين في الجهاد والزكاة وفي سبيل الله وتقوية المسلمين ، وكذلك أولادهم ربما يموتون في الحروب ، فيحزنون عليهم أشد الحزن ، وفي الآخرة يعذبون عذابا شديدا ، حيث يموتون على الكفر الذي يحبط العمل الصالح ، وهذا من قبيل الاستدراج لهم فيما هم فيه ، وتكون النتيجة أنهم خسروا الدنيا والآخرة ، وذلك هو الخسران المبين. والاستدراج بالنعم : الإمداد بها مع البقاء على المعصية ، مثل قوله تعالى : (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) [آل عمران ٣ / ١٧٨].

فما يظنون أنه من منافع الدنيا هو في الحقيقة سبب لعذابهم وبلائهم ، وبه

٢٥٠

يظهر أن النفاق مرض خطير جالب لجميع الآفات في الدين والدنيا ، ومبطل لجميع الخيرات فيهما.

ونظير الآية قوله تعالى : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ، وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى) [طه ٢٠ / ١٣١] وقوله : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ ، نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ ، بَلْ لا يَشْعُرُونَ) [المؤمنون ٢٣ / ٥٦ ـ ٥٥].

فقه الحياة أو الأحكام :

في الآيتين دلالة على ما يأتي :

١ ـ إن أفعال الكافر الخيرية كصلة القرابة وإغاثة الملهوف قد تفيده في الدنيا بدفع ضرر أو سوء ، ولكن لا يثاب عليها ، ولا ينتفع بها في الآخرة. بدليل ما رواه مسلم عن عائشة رضي‌الله‌عنها قالت : «قلت : يا رسول الله ، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ، ويطعم المسكين ، فهل ذلك نافعه؟ قال : لا ينفعه ، إنه لم يقل يوما ربّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين». وروي عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رواه أحمد ومسلم : «إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة ، يعطى بها في الدنيا ، ويجزى بها في الآخرة ، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل لله في الدنيا ، حتى إذا أفضى إلى الآخرة ، لم يكن له حسنة يجزى بها».

والصحيح أن إفادته من حسناته في الدنيا مقيّد بمشيئة الله المذكورة في قوله : (عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) [الإسراء ١٧ / ١٨].

والخلاصة : أن شيئا من أعمال البر لا يكون مقبولا عند الله ، مع الكفر بالله. أما قوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) [الزلزلة ٩٩ / ٧] فيراد به بالنسبة للكافر تأثير الخير في تخفيف العقاب أو العذاب عنه.

٢٥١

٢ ـ لم تكن أعمال الخير في الظاهر ، الصادرة من المنافقين عن إيمان وقناعة وطيب نفس ، وإنما كانت في الواقع عن إكراه نفسي ، سترا على نفاقهم ، فهم لم يؤدوا الصلاة إلا وهم كسالى متثاقلون في أدائها ، ولم ينفقوا نفقة في سبيل الله كالزكاة والجهاد ، لغرض الطاعة ، بل رعاية للمصلحة الظاهرة ؛ لأنهم يعدّون النفقة مغرما ، ومنعها مغنما ، وإذا كان الأمر كذلك فهي غير متقبّلة ولا مثاب عليها ، حسبما تقدم.

٣ ـ الأموال والأولاد قد تكون سببا للعذاب في الدنيا ، وقد تكون سببا للعذاب في الآخرة. أما الأموال في الدنيا فهي عذاب على المنافقين في كسبها وفي إنفاقها ، فكسبها يحتاج إلى عناء شديد ، والحفاظ عليها يتطلب الحذر ، ويصحبها القلق والهم ، والتهديد بالضياع والخسارة ، وقد تؤدي إلى قسوة القلب والطغيان ، كما قال تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) [العلق ٩٦ / ٦] وإنفاقها يكون كرها لا طواعية ، فيعذبون بما ينفقون ، وأما الأولاد فقد يموتون في الجهاد ، فيعقب موتهم الحزن والغم والندم ، وقد يؤمنون فيحترق الآباء غيظا عليهم ، مثل حنظلة بن أبي عامر غسلته الملائكة ، وعبد الله بن عبد الله بن أبي شهد بدرا وكان من الله بمكان. وأما في الآخرة فيعذبون إذا اكتسبوا الأموال من حرام ، وإذا آمن الأولاد وتبرموا من نفاق الآباء نجوا من العذاب الدائم.

٢٥٢

حلف المنافقين الأيمان الكاذبة وانتهازهم الفرصة للطعن بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

(وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ (٥٩))

الإعراب :

(إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) إذا للمفاجاة ، أي وإن لم يعطوا منها فاجؤوا النبي بالسخط.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا) جواب (لَوْ) محذوف ، تقديره : ولو أنهم رضوا لكان خيرا لهم.

البلاغة :

(رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) هنا طباق بين الرضا والسخط.

المفردات اللغوية :

(إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ) أي مؤمنون (يَفْرَقُونَ) يخافون أن تفعلوا بهم كالمشركين ، فيحلفون تقية. والفرق : الخوف الشديد الذي يحجب الإدراك الصحيح (مَلْجَأً) مكانا يلتجئون إليه للاعتصام به ، كالقلعة أو الحصن أو الجزيرة أو نحوها (مَغاراتٍ) سراديب ، جمع مغارة : وهي الكهف أو الغار في الجبل ، سمي بذلك لأنه يستتر فيها (مُدَّخَلاً) موضعا يدخلونه ، أو سربا في الأرض للدخول فيه بمشقة (يَجْمَحُونَ) يسرعون في دخوله إسراعا لا يقاوم (يَلْمِزُكَ) يعيبك ، والهمز : العيب

٢٥٣

في الغيبة ، واللمز : العيب في الوجه ، وأصله : الإشارة بالعين ونحوها ، وقال الزجاج والجوهري : الهمز كاللمز وزنا ومعنى ، أي لا فرق بينهما (حَسْبُنَا) كافينا (راغِبُونَ) محبون أن يغنينا ، يقال : رغب ورغب فيه : أحبه ، ورغب عنه : كرهه ، ورغب إليه : طلبه وتوجه إليه.

سبب النزول :

نزول الآية (٥٨):

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ) : روى البخاري والنسائي عن أبي سعيد الخدري رضي‌الله‌عنه قال : «بينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقسم قسما ، إذ جاءه ذو الخويصرة التميمي ـ وهو حرقوض بن زهير أصل الخوارج ـ فقال : اعدل يا رسول الله ، فقال : ويلك ، ومن يعدل إذا لم أعدل؟ فقال عمر بن الخطاب : ائذن لي أن أضرب عنقه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : دعه ، فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرّميّة ، فنزلت فيهم : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ) الآية.

وأخرج ابن أبي حاتم عن جابر نحوه. وروى ابن جرير عن داود بن أبي عاصم قال : «أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصدقة ، فقسمها هاهنا وهاهنا ، حتى ذهبت ، ورأى ذلك رجل من الأنصار ، فقال: ما هذا بالعدل ، فنزلت هذه الآية» ومجموع الروايات يدل على أن الطاعنين من المنافقين.

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى أن المنافقين جامعون لكل مضار الآخرة والدنيا ، كاستئذانهم كاذبين ، بيّن هنا إقدامهم على الأيمان الكاذبة ، وانتهازهم الفرصة للطعن بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد طعنوا فيه بسبب أخذ الصدقات من الأغنياء ، ويقولون : إنه يؤثر بها من يشاء من أقاربه وأهل مودته ، وينسبونه إلى أنه لا يراعي العدل.

٢٥٤

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى عن فزع المنافقين وهلعهم أنهم يحلفون بالله يمينا مؤكدة : إنهم لمنكم أي لمن جملة المسلمين أهل الملة والدين ، وما هم منكم في نفس الأمر فليسوا على دينكم ، بل هم أهل شك ونفاق ، ولكنهم قوم يخافونكم فيحلفون ، فالخوف من القتل هو الذي حملهم على الحلف ، فأظهروا الإيمان وأسروا النفاق ، وهو كقوله تعالى : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا : آمَنَّا ، وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا : إِنَّا مَعَكُمْ ، إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) [البقرة ٢ / ١٤].

ومن مظاهر خوفهم أنهم يتمنون الفرار منكم والمعيشة بعيدا عنكم ، فلو وجدوا مفرا يتحصنون فيه آمنين على أنفسهم منكم ، لفروا إليه ولفارقوكم.

ولو وجدوا ملجأ ، أي مكانا يتحصن فيه ، أو مغارة أي كهفا في الجبال ، أو مدّخلا أي سربا تحت الأرض كالآبار والقنوات ، لولّوا إليه أي رجعوا إليه من أحد هذه المواضع مع أنها شر الأمكنة ، وهم يجمحون أي يسرعون إسراعا في ذهابهم عنكم على نحو لا يقاوم ؛ لأنهم إنما يعيشون معكم كرها لا محبة وودا ، ولكن للضرورة أحكام. ولهذا لا يزالون في همّ وحزن وغم ؛ لأن الإسلام وأهله في تقدم ورفعة ، وعز ونصر ، وذلك كله يسوؤهم.

ومن المنافقين من يعيب عليك ويطعن بك يا محمد في قسمة الصدقات وهي إما المغانم أو أخذ الصدقات من الأغنياء وهي أموال الزكاة المفروضة ، قيل : هم المؤلفة قلوبهم كان يعطيهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للتأليف ، وقيل : هو ابن ذي الخويصرة رأس الخوارج ، كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقسم غنائم حنين ، فقال : اعدل يا رسول الله ، فقال صلوات الله وسلامه عليه : ويلك إن لم أعدل فمن يعدل؟!.

وقيل : هو أبو الجوّاط من المنافقين قال : ألا ترون إلى صاحبكم؟ إنما يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم ، وهو يزعم أنه يعدل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

٢٥٥

لا أبا لك ، أما كان موسى راعيا ، أما كان داود راعيا؟ فلما ذهب ، قال عليه الصلاة والسّلام : احذروا هذا وأصحابه فإنهم منافقون.

ثم وصفهم الله تعالى بأن رضاهم وسخطهم لأنفسهم ، لا للدين ، وما فيه صلاح أهله ؛ لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استعطف قلوب أهل مكة يومئذ بتوفير الغنائم عليهم ، فضجر المنافقون منه. فقال تعالى : (فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا ..) أي إن أعطوا من الزكاة أو من الغنائم ولو بغير حق رضوا ، وإن لم يعطوا منها فاجؤوك بالسخط ، وإن لم يستحقوا العطاء ، فهم إنما يغضبون لأنفسهم ولمنافعهم ، لا للمصلحة العامة ، فليس طعنهم أو نقدهم بريئا ، ولكن لهدف خاص.

ولو أنهم رضوا ما أعطاهم الرسول من الغنائم وطابت به نفوسهم ، وإن قلّ نصيبهم ، وقالوا: كفانا فضل الله وصنعه ، وحسبنا ما أصبناه ، وسيرزقنا الله غنيمة أخرى ، فيؤتينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكثر مما آتانا اليوم ، إنّا إلى الله في أن يمنحننا من فضله لراغبون ، لا نرغب إلى غيره أبدا.

وقد تضمنت هذه الآية أدبا عظيما حيث إنها ترشدهم وتعلمهم الرضا بما آتاه الله ورسوله ، والتوكل على الله وحده ، وهو قوله : (وَقالُوا : حَسْبُنَا اللهُ).

والمقصود إنما هو التعليم بأن يرضوا بنعمة الله ، وبقسمة الرسول ، فهو لا يفعل إلا العدل وما فيه المصلحة العامة للإسلام وأهله ، وما على المؤمن إلا أن يرضى بما قسمه الله له ، ولا يطمع بأكثر من ذلك.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستفاد من الآيات ما يلي :

١ ـ إن من أخلاق المنافقين الحلف بأنهم مؤمنون ، والإقدام على الأيمان

٢٥٦

الكاذبة ، كما قال تعالى : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا : نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) الآية [المنافقون ٦٣ / ١].

٢ ـ المنافقون جماعة حيارى مضطربون قلقون كارهون العيش في الحقيقة مع المؤمنين ، خوفا من افتضاح أمرهم ، ويخافون أن يظهروا على ما هم عليه فيقتلوا ، لذا يتمنون النجاة بأنفسهم واللجوء إلى شر الأمكنة كالحصون (الملاجئ) والمغارات (الكهوف في الجبال) والمداخل (السراديب المحفورة تحت الأرض).

٣ ـ ومن أسوأ أخلاق المنافقين وقبائحهم وفضائحهم طعنهم في الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسبب أخذ الصدقات المفروضة من الأغنياء ، ويقولون : إنه يؤثر بها من يشاء من أقاربه وأهل مودته ، أو بسبب قسمة غنائم الحرب المغنومة من الأعداء ، كغنائم حنين التي تألف بها النبي المؤلفة قلوبهم من أهل مكة ، وينسبونه إلى أنه لا يراعي العدل.

٤ ـ تدل الآية على أن من طلب الدنيا وحدها آل أمره إلى النفاق ، وأما من طلب الدنيا بقدر ما أذن الله فيه ، وكان غرضه من الدنيا أن يتوسل إلى مصالح الدين ، فهذا هو الطريق الحق. والأصل في هذه الأمور المادية الرضا بقضاء الله وقدره ، بعد اتخاذ الأسباب ، لذا قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ ، وَقالُوا : حَسْبُنَا اللهُ ، سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ ، إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ).

٥ ـ اشتملت هذه الآية : (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا) على مراتب أربع :

الأولى ـ الرضا بما آتاهم الله ورسوله ؛ لأنه تعالى حكيم منزه عن العبث والخطأ ، فحكمه حق وصواب.

الثانية ـ أن تظهر آثار الرضا على اللسان ، وهو قوله : (حَسْبُنَا اللهُ) أي الرضا بحكم الله وقضائه.

٢٥٧

الثالثة ـ أن يقول الإنسان إن لم يقل : (حَسْبُنَا اللهُ : سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ) أي إما في الدنيا أو في الآخرة.

الرابعة ـ أن يقول : (إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ) أي لا نبغي بالإيمان مكاسب الدنيا من مال وجاه ، وإنما نريد الفوز بسعادة الآخرة.

مصارف الزكاة الثمانية

(إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠))

الإعراب :

(فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) منصوب بفعل مقدر ، وهو في معنى المصدر المؤكد لما دلت عليه الآية ، أي فرض الله لهم الصدقات فريضة ، أو حال من الضمير المستكن في (لِلْفُقَراءِ) وقرئ بالرفع على تقدير : تلك فريضة.

البلاغة :

(وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) كلاهما بصيغة فعيل التي هي للمبالغة ، أي واسع العلم ، عالي الحكمة يضع الأشياء في مواضعها.

المفردات اللغوية :

(إِنَّمَا الصَّدَقاتُ) الزكوات المفروضة مصروفة لهؤلاء الثمانية ، أفادت اللام وجوب إعطائها لهم ، وأنها مختصة بهم لا تتجاوزها إلى غيرهم ، فظاهر الآية يقتضي تخصيص استحقاق الزكاة بالأصناف الثمانية ووجوب الصرف إلى كل صنف وجد منهم ، ومراعاة التسوية بينهم بسبب الاشتراك في الحق. وهو مذهب الشافعي رضي‌الله‌عنه. وعن عمر وحذيفة وابن عباس وغيرهم من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين جواز صرفها إلى صنف واحد ، وبه قال الأئمة الثلاثة.

والمعنى : إنما الزكوات مستحقة لهؤلاء المعدودين دون غيرهم ، وهو دليل على أن المراد باللمز في الآية السابقة لمزهم في قسم الزكوات دون الغنائم.

٢٥٨

(لِلْفُقَراءِ) الفقير : من لا مال له ولا كسب يقع موقعا من حاجته ، من الفقار كأنه أصيب فقاره. (وَالْمَساكِينِ) المسكين : من له مال أو كسب لا يكفيه ، من السكون كأن العجز أسكنه ، ويدل عليه قوله تعالى : (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ) [الكهف ١٨ / ٧٩] وأنه عليه الصلاة والسّلام كان يسأل المسكنة ، ويتعوذ من الفقر. وقيل : المسكين : هو عديم المال ، لقوله تعالى : (أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) [البلد ٩٠ / ١٦] والمسألة خلافية بين الشافعية والحنفية. والفقر والمسكنة يتحددان بما دون الحد الأدنى اللازم للمعيشة ، بحسب كل زمان ومكان.

(وَالْعامِلِينَ عَلَيْها) الساعين في تحصيلها وجمعها وهم الجباة. (وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) قوم أسلموا ونيتهم ضعيفة بالإسلام فتستألف قلوبهم ، أو هم أشراف قد يترقب بإعطائهم ومراعاتهم إسلام نظرائهم ، وقد أعطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عيينة بن حصن ، والأقرع بن حابس ، والعباس بن مرداس لذلك. وقيل : أشراف يستألفون على أن يسلموا ، فإنه عليه الصلاة والسّلام يعطيهم ، والأصح أنه كان يعطيهم من خمس الخمس الذي كان خاص ماله من الغنائم.

وقد عدّ منهم من يؤلف قلبه بشيء منها على قتال الكفار ومانعي الزكاة ، فهم أقسام : إما أن يعطوا ليسلموا ، أو يثبت إسلامهم ، أو يسلم نظراؤهم ، أو يدافعوا عن المسلمين. والأول والأخير لا يعطيان اليوم عند الشافعي رضي‌الله‌عنه ؛ لعز الإسلام ، بخلاف الآخرين ، فيعطيان على الأصح.

(وَفِي الرِّقابِ) أي وفي فك المكاتبين ، بأن يعاون المكاتب بشيء من الزكاة على أداء الأقساط (النجوم) أو بأن يبتاع الرقاب فتعتق ، وبه قال مالك وأحمد ، أو بأن يفدى الأسارى. والعدول عن اللام إلى (فِي) للدلالة على أن الاستحقاق للجهة ، لا للرقاب.

(وَالْغارِمِينَ) المديونين إن استدانوا لأنفسهم في غير معصية ولا إسراف ولم يكن لهم وفاء للديون ، أو استدانوا لإصلاح ذات البين ولو أغنياء ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رواه أبو داود وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري : «لا تحل الصدقة إلا لخمسة : لغاز في سبيل الله ، أو لغارم ، أو رجل اشتراها بماله ، أو رجل له جار مسكين فتصدق على المسكين ، فأهدى المسكين للغني ، أو لعامل عليها».

(وَفِي سَبِيلِ اللهِ) أي القائمين بالجهاد ولو أغنياء ، أو للصرف في مصالح الجهاد بالإنفاق على المتطوعة وشراء السلاح. وقيل : وفي بناء القناطر والمصانع.

(وَابْنِ السَّبِيلِ) المسافر المنقطع في سفره عن ماله.

(فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) أي فرض الله ذلك فريضة ، ليس لأحد فيها رأي.

٢٥٩

المناسبة :

لما لمز المنافقون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الصدقات ، بيّن لهم أن مصرف الصدقات هؤلاء الأصناف الثمانية ، فلا يبقى لأحد حق الاعتراض أو النقد والطعن في الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسبب أخذ الصدقات. فهم مخطئون في اعتراضهم ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم محق فيما صنع ، والآية قاضية على أطماعهم.

وورود الآية ضروري أيضا لبيان طريق الحق والعدل في صرف الزكاة ، فلا يجور الأغنياء ، وليس لهم أن يتحايلوا في صرفها إلى غير هؤلاء المستحقين ، كما أن الآية تنبيه وتذكير دائم بهؤلاء المحتاجين ، وحمل للأغنياء على إعطاء حقوق الله في أموالهم دون أن يكون لهم منّة ، وحدّ من أطماعهم وحبهم للمال.

وأما السبب في ذكر هذه الآية بين آيات المنافقين ومكايدهم فللتنبيه على أنهم ليسوا من مستحقي الزكاة ، حسما لأطماعهم ، وإشعارا باستحقاقهم الحرمان ، وأنهم بعداء عنها وعن مصارفها.

التفسير والبيان :

إنما مصارف الزكاة الواجبة لهؤلاء الأصناف الثمانية ، وقد أفادت (إِنَّمَا) حصر الصدقات في هذه الأصناف ، دون غيرهم.

والدليل على أن المراد بالصدقات هنا هو الزكوات الواجبة : أن (أل) في الصدقات للعهد الذكري ، والمعهود هو الصدقات الواجبة المشار إليها في الآية المتقدمة : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ) ؛ ولأن الله أثبت الحق في هذه الصدقات بلام التمليك للأصناف الثمانية ، والمملوك لهم إنما هو الزكاة الواجبة ؛ ولأنه ذكر في الآية سهما للعاملين ، والعمال يوظفون لجباية الصدقات الواجبة لا المندوبة ، ولأن الصدقات المندوبة يجوز صرفها في غير هذه الأصناف. والزكوات الواجبة هي زكاة النقود والأنعام والزروع والتجارة.

٢٦٠