التفسير المنير - ج ١٠

الدكتور وهبة الزحيلي

سبب النّزول :

نزول الآية (٣٠):

(وَقالَتِ الْيَهُودُ) : أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس قال : أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سلّام بن مشكم ، ونعمان بن أبي أوفى ، وشاس بن قيس ، ومالك بن الصّيف ، فقالوا : كيف نتّبعك وقد تركت قبلتنا؟ وأنت لا تزعم أن عزيزا ابن الله ، فأنزل الله في ذلك: (وَقالَتِ الْيَهُودُ) الآية.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى في آية الجزية المتقدمة أن اليهود والنّصارى لا يؤمنون بالله ، أوضح ذلك في هذه الآية ، فنقل عنهم أنهم أثبتوا لله ابنا ، وهذا شرك ، ومن جوّز ذلك فهو في الحقيقة قد أنكر الإله ، وأنهم اتّخذوا علماءهم (أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) في التّحليل والتّحريم ، وأنهم يسعون في إبطال الإسلام وهديه.

وهذه الآيات دليل واضح في بيان سبب قتال المؤمنين لأهل الكتاب.

التفسير والبيان :

قالت اليهود أي بعضهم : عزيز ابن الله ، وعزيز : كاهن يهودي سكن بابل حوالي سنة ٤٥٧ ق. م ، وأسّس المجمع الكبير ، وجمع أسفار الكتاب المقدّس ، وألّف أسفار : الأيام ، وعزرا ، ونحميا ، وهو يعدّ ناشر اليهودية ، بعد أن نسيت ، فقدّسه اليهود ووصفوه بأنه (ابْنُ اللهِ).

والثابت عند المؤرّخين حتى اليهود أنفسهم أن التوراة التي كتبها موسى ، ووضعها في تابوت العهد قد فقدت عند ما تغلّب العمالقة على بني إسرائيل ، أو بختنصّر قبل عهد سليمان عليه‌السلام ، فإنه لما فتح التّابوت ، لم يجد فيه غير لوحي الوصايا العشر ، كما جاء في سفر الملوك الأوّل ، وأنّ عزرا هو الذي كتب

١٨١

التّوراة بعد السّبي بالحروف الكلدانية مع بقايا العبرانية. ويرى النقّاد ـ كما جاء في دائرة المعارف البريطانية ـ أن أسطورة عزرا اختلقها الرّواة اختلاقا.

(وَقالَتِ النَّصارى : الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) ، وكان قدماؤهم يريدون بالنبوّة معنى مجازيا لا حقيقيا ، يعنون به أنه المحبوب المكرّم عند الله ، ثم تأثروا بوثنية الهنود ، فصاروا يعنون بالبنوّة معنى حقيقيا ، وأن ابن الله هو الله ، وهو روح القدس ، إذ اندمجت هذه الأقانيم الثلاثة وصارت واحدا حقيقة ، وكان أول من أعلن ذلك مجمع نيقية ٣٢٥ م أي بعد المسيح بثلاثة قرون ، وصارت كلمة (الثّالوث) وهي الأب والابن وروح القدس تطلق على هذه الأقانيم الثّلاثة ، التي حلّت في اللّاهوت. وكتبت الأناجيل بعد المسيح عليه‌السلام في مدّة تتراوح بين قرن وثلاثة قرون ، وقد تأثّرت بوثنية الرّومان ، بعد أن فقد الإنجيل الأصلي الذي نزل على عيسى عليه‌السلام.

وبما أنّ كلّا من اليهود والنّصارى لا يعتمدون على أصل صحيح لديانتهم ، وأن المكتوب لديهم مخترع موضوع من قبل علمائهم ، لذا كذّبهم الله تعالى بقوله : (ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) أي لا مستند لهم فيما ادّعوه سوى افترائهم واختلاقهم ، كما قال تعالى : (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا : اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً ، ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ ، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ ، إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) [الكهف ١٨ / ٤ ـ ٥].

(يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) أي يشابهون في كفرهم قول من قبلهم من الأمم ، ضلّوا كما ضلّ هؤلاء ، وهم الوثنيّون البراهمة والبوذيون في الهند والصين واليابان ، وقدماء الفرس والمصريين واليونان والرّومان. كما أن مشركي العرب كانوا يقولون : الملائكة بنات الله.

(قاتَلَهُمُ اللهُ) أي لعنهم الله ، كيف يصرفون عن الحق وهو توحيد الله

١٨٢

وتنزيهه إلى غيره وهو الشّرك الباطل ، فما المسيح وعزير إلا مخلوقان عبدان لله ، ولا يعقل أن يجعل المخلوق خالقا ، مع أنه يأكل ويشرب ويتعب ويألم ، لذا قال تعالى : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ، وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ، كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ ...) [المائدة ٥ / ٧٥] ، وقال تعالى عن المسيح : (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ ، وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) [الزّخرف ٤٣ / ٥٩] ، وقوله تعالى : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ) [النساء ٤ / ١٧٢].

ثم أوضح تعالى وجه مضاهاة من كفروا قبلهم ، فقال : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ) أي اتّخذوا اليهود والنصارى رؤساء الدّين فيهم (أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) ، يقومون بحقّ التّشريع ، فيحلّون الحرام ، ويحرّمون الحلال ، ويطيعونهم في ذلك ، تاركين حكم الله.

أما اليهود فقد أضافوا لأحكام التّوراة ما شرعه رؤساؤهم ، وأما النّصارى فقد غيّروا أحكام التّوراة وأوجدوا شرائع أخرى في العبادات والمعاملات.

ويوضح ذلك قصة إسلام عدي بن حاتم ، روى الإمام أحمد والتّرمذي وابن جرير الطّبري عن عدي بن حاتم رضي‌الله‌عنه أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرّ إلى الشّام ، وكان قد تنصّر في الجاهلية ، فأسرت أخته وجماعة من قومه ، ثم منّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أخته ، وأعطاها ، فرجعت إلى أخيها ، فرغّبته في الإسلام ، وفي القدوم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقدم عدي إلى المدينة ، وكان رئيسا في قومه طيء ، وأبوه حاتم الطّائي المشهور بالكرم ، فتحدّث الناس بقدومه ، فدخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وفي عنق عدي صليب من فضة ـ وهو يقرأ هذه الآية : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ).

قال : فقلت : إنهم لم يعبدوهم ، فقال : بلى ، إنّهم حرّموا عليهم الحلال ، وأحلّوا لهم الحرام ، فاتّبعوهم ، فذلك عبادتهم إيّاهم.

١٨٣

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا عدي ما تقول؟ أيضرّك أن يقال : الله أكبر؟ فهل تعلم شيئا أكبر من الله؟ ما يضرّك؟ أيضرّك أن يقال : لا إله إلا الله ، فهل تعلم إلها غير الله؟».

ثم دعاه إلى الإسلام ، فأسلم وشهد شهادة الحق ، قال : فلقد رأيت وجهه استبشر ، ثم قال : «إن اليهود مغضوب عليهم ، والنّصارى ضالّون».

ثم أبان الله تعالى ترك أولئك الرؤساء دينهم ، فقال : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً) أي والحال أنهم ما أمروا على لسان موسى وعيسى إلا أن يعبدوا إلها واحدا ، وهو الله الذي شرّع لهم أحكام الدّين ، وهو ربّهم وربّ كلّ شيء ، فهو الذي إذا حرّم الشيء فهو الحرام ، وما حلّله فهو الحلال ، وما شرعه اتّبع ، وما حكم به نفذ.

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي أنه تعالى شرعا وعقلا لا يوجد إله غيره ، وأنه تعالى تنزّه وتقدّس عن الشّركاء والنّظراء والأعوان والأضداد والأولاد ، لا إله إلا هو ، ولا ربّ سواه.

ولكن هؤلاء الكفار من المشركين وأهل الكتاب يريدون أن يطفئوا نور الإسلام الذي بعث به رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويطفئوا شعلة الحقّ ومصباح الهداية ، فيضلّ الناس أجمعون.

(وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) بتثبيته وحفظه والعناية به وإكماله وإتمامه ، ولو كره الكافرون ذلك بعد تمامه ، كما كرهوه حين بدء ظهوره. والكافر : هو الذي يستر الشيء ويغطيه. أما اليهود فكانوا أشدّ الناس عداوة للمؤمنين ، فهم كمشركي العرب.

وأما النّصارى الرّوم فبدؤوا عدوانهم على المسلمين ، ثم استمرّ الأوربيون في عدوانهم على الشرق الإسلامي ، ثم جاءت الحروب الصّليبيّة التي مثّلت قمّة

١٨٤

العدوان على المسلمين ، وما زالت السّياسة الاستعمارية والتّبشيرية تحتضن المخططات الرّهيبة لتفريق المسلمين وإبعادهم عن دينهم بمختلف الوسائل الإعلامية والمواقف الحاقدة المتحيّزة ضدّ مصالحهم في أي مكان.

وأما النّور الإسلامي فهو الذي أرسل الله به (رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِ) الذي لا يغيّره ولا يبطله شيء آخر. والهدى : هو ما جاء به من الإخبارات الصادقة والإيمان الصحيح والعلم النافع. ودين الحق : هو الأعمال الصحيحة النافعة في الدّنيا والآخرة.

والهدف من ذلك أن يعلي تعالى هذا الدّين على جميع الأديان ، ولو كره المشركون ذلك الإظهار. وقد وصفوا بالشّرك بعد الوصف بالكفر للدّلالة على أنهم جمعوا بين الكفر بالرّسول والشّرك.

وقد تحقّق وعد الله ونصره ، كما ثبت في الصّحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «إن الله زوي لي الأرض مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها».

وروى الإمام أحمد عن المقداد بن الأسود يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلا دخلته كلمة الإسلام ، يعزّ عزيزا ، ويذلّ ذليلا ، إما يعزّهم الله ، فيجعلهم من أهلها ، وإما يذلّهم فيدينون لها».

وفي مسند أحمد أيضا عن عدي بن حاتم قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «فوالذي نفسي بيده ليتمنّ الله هذا الدّين حتى تخرج الظّعينة من الحيرة ، حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد ، ولتفتحنّ كنوز كسرى بن هرمز ، قلت : كسرى بن هرمز؟ قال : نعم كسرى بن هرمز ، وليبذلنّ المال حتى لا يقبله أحد».

١٨٥

فقه الحياة أو الأحكام :

أثبتت الآيات أن أكثر اليهود وأكثر النّصارى مشركون ؛ لأنهم نسبوا الابن لله ، مقلّدين في ذلك من سبقهم من الكفار كمشركي العرب الذين كانوا يقولون : الملائكة بنات الله ، ولا عبرة بإنكار اليهود ذلك ، فإن حكاية الله عنهم أصدق ، ولعلّ هذا المذهب كان فاشيا فيهم ، ثم انتهى.

وقال ابن العربي : في هذا دليل من قول ربّنا تبارك وتعالى على أن من أخبر عن كفر غيره ـ الذي لا يجوز لأحد أن يبتدئ به ـ لا حرج عليه ؛ لأنه إنما ينطق به على معنى الاستعظام له ، والردّ عليه ، فلا يمنع ذلك منه ، ولو شاء ربّنا ما تكلّم به أحد ، فإذا مكّن من إطلاق الألسن به ، فقد أذن بالإخبار عنه ؛ على معنى إنكاره بالقلب واللسان ، والرّدّ عليه بالحجّة والبرهان (١).

وقد كذّبهم الله تعالى بقوله : (ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) أي أنه قول ساقط باطل لا يتجاوز الفم ، ولعنهم بقوله : (قاتَلَهُمُ اللهُ) قال ابن عباس : كلّ شيء في القرآن قتل فهو لعن.

ثم وصفهم تعالى بنوع آخر من الشّرك بقوله : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم والمسيح ابن مريم أربابا من دون الله والأكثرون من المفسّرين قالوا : ليس المراد من الأرباب أنهم اعتقدوا فيهم أنهم آلهة العالم ، بل المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم ، مع أن التّوراة والإنجيل والكتب الإلهية ناطقة بألا يعبدوا إلا إلها واحدا ، وأنه لا إله إلا هو ، تنزّه من أن يكون له شريك في الأمر والتّكليف أو التّشريع ، وأن يكون له شريك في كونه مسجودا له أو معبودا ، وأن يكون له شريك يستحقّ التّعظيم والإجلال.

__________________

(١) أحكام القرآن : ٢ / ٩١٣

١٨٦

ثم أخبر الله تعالى عن نوع ثالث من الأفعال القبيحة الصادرة عن رؤساء اليهود والنّصارى ، وهو سعيهم في إبطال دعوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإمعانهم في إخفاء أدلّة صحّة شرعه وقوّة دينه.

والمراد من النّور : الدّلائل الدّالّة على صحّة نبوّته.

أوّلها ـ المعجزات القاهرة التي ظهرت على يده.

وثانيها ـ القرآن العظيم الذي ظهر على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أنه كان أميّا.

وثالثها ـ أنّ حاصل شريعته تعظيم الله والثّناء عليه ، والانقياد لطاعته ، وصرف النّفس عن حبّ الدّنيا أي الحرص عليها دون الآخرة ، والتّرغيب في سعادات الآخرة ، والعقل يدلّ على أنه لا طريق إلى الله إلا من هذا الوجه.

ورابعها ـ أن شرعه كان خاليا عن جميع العيوب ، فليس فيه دعوة إلى غير الله ، وإلى إصلاح حياة البشر (١).

ثم إنه تعالى وعد محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مزيد النّصر والقوة وإعلاء المنزلة ، فقال : (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ).

ثم بيّن الله تعالى بعد خيبتهم في إبطال دعوة الإسلام كيف يتمّ أمره بقوله : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِ).

وفي هذه الآية الأخيرة دلالة على أن رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تمتاز بكثرة الدّلائل والمعجزات على صحّتها ، وهو الهدى ، وأنها دين الحقّ المشتمل على الصّواب والصّلاح ومطابقة الحكمة وموافقة المنفعة في الدّنيا والآخرة ، وأن دينه يعلو على كلّ الأديان ، ويغلب كلّ الأديان ، فلا دين يصمد أمام النّقاش العلمي والعقلي غير دين الإسلام. والتّاريخ على ممرّ الزّمان يؤكّد إنجاز هذه الوعود علانية في

__________________

(١) تفسير الرّازي : ١٦ / ٣٨ ـ ٣٩

١٨٧

اقتناع كبار العلماء في كلّ اختصاص إنساني أو علمي بأحقيّته في التّديّن والاعتقاد وإصلاح الحياة البشرية ، وظهر الإسلام على كلّ الأديان في الماضي ، فاندحر اليهود وأخرجوا من جزيرة العرب ، وغلب المسلمون النّصارى في بلاد الشّام وغيرها ، وغلبوا المجوس ، وعبّاد الأصنام في كثير من بلاد التّرك والهند.

والخلاصة : تضمّنت الآيات أوصافا قبيحة لليهود والنّصارى : نسبة البنوّة لله ، إطاعة الرؤساء دون إطاعة الله ، محاولتهم إبطال دعوة الإسلام وإخفات صوت الحقّ.

سيرة الأحبار والرهبان في معاملاتهم مع الناس

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥))

الإعراب :

(وَالَّذِينَ) مبتدأ ، والخبر : (فَبَشِّرْهُمْ لَيَأْكُلُونَ) دخلت اللام على يفعل ، ولا تدخل على فعل ، لأن يفعل تشبه الأسماء. (وَلا يُنْفِقُونَها) : إنما قال : (يُنْفِقُونَها) ولم يقل: ينفقونهما ؛ لأن عادة العرب أن يخبروا عن أحد الشيئين إذا كان هناك دليل يدل على اشتراك بينهما ، كقوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) ولم يقل إليهما وإنما أريد التجارة لأنها أعم ، وكقوله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ، وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ) أريد الصلاة ؛ لأنها أهم ، وكقوله

١٨٨

تعالى : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) أريد الرسول لتأكيد الاهتمام بسنته. وقيل : الضمير في «ينفقونها» يعود على الكنوز لدلالة يكنزون عليها ، وقيل : يعود على الأموال ؛ لأن الذهب والفضة أموال. والخلاصة : أن الضمير يعود إلى الفضة ؛ لأنه قصد الأغلب والأعم.

(يَوْمَ يُحْمى يَوْمَ) : منصوب من ثلاثة أوجه : إما بفعل مقدر تقديره : اذكر يوم يحمى ، أو بفعل يقال : أي يقال لهم : هذا في يوم يحمى ، أو يكون بدلا من (بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي عذاب يوم يحمى ، فحذف المضاف ، فانتصب على الموضع ، لا على اللفظ ، كما انتصب قوله تعالى : (دِيناً قِيَماً) بالبدل على موضع (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

البلاغة :

(لَيَأْكُلُونَ) عبر تعالى عن أخذ الأموال بالأكل على سبيل الاستعارة ؛ لأن المقصود الأعظم من جمع الأموال هو الأكل ، فسمي الشيء باسم ما هو أعظم مقاصده.

المفردات اللغوية :

(الْأَحْبارِ) علماء اليهود. (وَالرُّهْبانِ) عبّاد النصارى ، والقسيسون علماؤهم. (لَيَأْكُلُونَ) المراد التصرف فيها بكل أوجه الانتفاع ، وعبر عن ذلك بالأكل ، والمراد به الأخذ والانتفاع ؛ لأنه أهم حالات الانتفاع. (بِالْباطِلِ) بغير حق كالرشاوى في الحكم. (وَيَصُدُّونَ) يمنعون. (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) دينه وطريق معرفته الصحيحة وعبادته القويمة. (وَلا يُنْفِقُونَها) الكنوز ، والكنز : خزن الأموال في الصناديق دون إعطاء حق الله فيها. (فِي سَبِيلِ اللهِ) أي لا يؤدون منها حق الزكاة. (فَبَشِّرْهُمْ) أخبرهم. (بِعَذابٍ أَلِيمٍ) مؤلم ، وهو تهكم بهم ؛ لأن البشارة تكون في الخير لا في الشر. (فَتُكْوى) تحرق. (فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) أي نالوا جزاءه.

سبب النزول :

نزول الآية (٣٤):

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً ...) : قال الواحدي : نزلت في العلماء والقرّاء من أهل الكتاب كانوا يأخذون الرشا من سفلتهم ، وهي المأكل الذي كانوا يصيبونه من عوامهم(١).

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ص ١٤٠.

١٨٩

نزول الآية : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ...) :

روى البخاري عن زيد بن وهب قال : مررت بالرّبذة (موضع قريب من المدينة) فإذا أنا بأبي ذرّ ، فقلت له : ما أنزلك منزلك هذا؟ قال : كنت بالشام ، فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ، وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) فقال معاوية : نزلت في أهل الكتاب ، فقلت : نزلت فينا وفيهم ، وكان بيني وبينه كلام في ذلك ، وكتب إلى عثمان يشكو مني ، وكتب إليّ عثمان أن : أقدم المدينة ، فقدمتها ، وكثر الناس علي حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك ، فذكرت ذلك لعثمان ، فقال : إن شئت تنحيت وكنت قريبا ، فذلك الذي أنزلني هذا المنزل ، ولو أمّروا علي حبشيا لسمعت وأطعت.

والمفسرون أيضا مختلفون ، فعند بعضهم أنها في أهل الكتاب خاصة. وقال السدّي : هي في أهل القبلة. وقال الضحاك : هي عامة في أهل الكتاب والمسلمين (١) ، وهو الأصح.

المناسبة :

بعد أن وصف الله تعالى رؤساء اليهود والنصارى بالتكبر والتجبر وادعاء الربوبية ، لادعائهم حق التشريع للناس ، وصفهم في هذه الآية بالطمع والحرص على أخذ أموال الناس تحقيرا لشأنهم ، فهم ذوو أطماع وحرص شديد على أخذ أموال الناس بالباطل ، وما قاوموا الإسلام إلا خوفا من ضياع مصالحهم المادية ، فهم يتخذون الدين مطية لنيل الدنيا.

ووصفهم تعالى أيضا بالبخل الشديد ، وحب كنز المال في صناديقهم ، والامتناع عن أداء الواجبات في أموالهم.

__________________

(١) أسباب النزول ، المرجع السابق.

١٩٠

والوعيد على الكنز لا يقتصر عليهم في الحقيقة ، وإنما يشمل المسلمين أيضا ، فبعد أن وصفهم الله تعالى بالحرص على أخذ أموال الناس بالباطل ، أردفه بوعيد كل من امتنع عن إخراج الحقوق الواجبة من ماله.

التفسير والبيان :

هذه الآيات بيان لسيرة الأحبار (علماء اليهود) والرهبان (عبّاد النصارى) وكشف لقبائحهم ، حتى يعرف أهل الكتاب حقيقتهم ، ويتبينوا خطأهم في الاقتداء بهم والثقة فيهم ، وليعلم المسلمون سبب عنادهم وبقائهم على كفرهم ، ويكون الهدف من الآيات التحذير من التشبه بهم في أقوالهم وأحوالهم.

يا أيها المؤمنون بالله ورسوله ، اعلموا (إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ) ليأخذون أموال الناس بالباطل ، لا بحق شرعي ، ونسب ذلك لكثير منهم لا لكلهم إحقاقا للحق ، وإنصافا للقلة الصالحة منهم.

وأمثلة أخذهم الأموال بالباطل كثيرة منها : قبول الرشاوى في الأحكام القضائية ، وأخذ الربا وهو محرم عليهم ، وأخذ الهدايا والنذور والأوقاف المخصصة لقبور الأنبياء والصالحين ، وأخذ الأرثوذكس والكاثوليك مقابل صكوك الغفران التي شاعت في القرون الوسطى ، أو في مقابل الدعاء والشفاعة للمخطئين عند الله. وبيع الفتاوى بالمال لتحليل الحرام وتحريم الحلال ، بقصد إرضاء الملوك والأمراء والحكام ، كما قال تعالى في حق اليهود : (قُلْ : مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ ، تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ ، تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً ، وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ : اللهُ) [الأنعام ٦ / ٩١].

ومنها : استباحة اليهود أخذ أموال كل من عداهم ولو بالخيانة أو السرقة ، كما قال تعالى : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ، ذلِكَ) بأنهم (قالُوا : لَيْسَ عَلَيْنا

١٩١

فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ، وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران ٣ / ٧٥].

ثم ذكر الله تعالى نوعا آخر من قبائح رؤساء الدين اليهودي والنصراني ، وهو صدهم عن سبيل الله ، أي وهم مع أكلهم الحرام يصدون الناس ويمنعونهم عن اتباع الحق ، إما بتكذيب رسالة الإسلام ، أو التشكيك في مبادئها وأحكامها في العبادة والعقيدة والمعاملة ، أو الطعن في النبي المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو في القرآن الكريم.

وبه يتبين أن ما يحرص عليه الناس في الدنيا وهو المال والجاه ، شغف به الأحبار والرهبان ، فأخذوا المال بالباطل ، ومنعوا الناس من معرفة الله معرفة صحيحة ، وعبادته عبادة قويمة ، وأمعنوا في المنع من متابعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حفاظا على مراكزهم الأدبية ومكاسبهم المادية.

ثم وصفهم الله بصفة أخرى هي البخل الشديد ومنع أداء حقوق الله في أموالهم ، فقال : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ ...) أي والذين يجمعون المال ويدخرونه في بيوتهم ولا يخرجون منه الحقوق الواجبة شرعا كالزكاة ، ولا ينفقون منه في سبيل الله ، فيستحقون العذاب الشديد المؤلم في نار جهنم. وهذا الوعيد كما هو موجه للأحبار يشمل المسلمين أيضا ، فكان المراد به الكل. كما وأن المراد بالنفقة : الواجب ؛ لقوله تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) ولا يتوجه العذاب إلا على تارك الواجب.

ولا يكون الكنز حراما إلا إذا لم تؤد زكاته ، فإن أديت الزكاة فلا يحرم. قال مالك عن ابن عمر رضي‌الله‌عنه في الكنز : هو المال الذي لا تؤدى زكاته. وروى الثوري والشافعي وغيرهما عن ابن عمر قال : ما أدّي زكاته ، فليس بكنز ، وإن تحت سبع أرضين ؛ وما كان ظاهرا لا تؤدى زكاته فهو كنز. وهذا مروي أيضا عن عمر وابن عباس وجابر وأبي هريرة موقوفا ومرفوعا. أخرج ابن عدي

١٩٢

والخطيب عن جابر رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أيّ مال أدّيت زكاته فليس بكنز».

وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والحاكم عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) كبر ذلك على المسلمين ، وقالوا : ما يستطيع أحد منا ألا يبقي لولده مالا بعده ، فقال عمر : أنا أفرّج عنكم ، فانطلق وتبعه ثوبان ، فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا نبي الله ، إنه قد كبر على أصحابك هذه الآية ، فقال :

«إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيّب بها ما بقي من أموالكم ، وإنما فرض المواريث عن أموال تبقى بعدكم» فكبّر عمر رضي‌الله‌عنه ، ثم قال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ألا أخبرك بخير ما يكنز؟ المرأة الصالحة التي إذا نظر إليها الرجل سرّته ، وإذا أمرها أطاعته ، وإذا غاب عنها حفظته».

وورد في مدح التقلل من الذهب والفضة وذم التكثر منها أحاديث كثيرة منها ما رواه عبد الرزاق عن علي رضي‌الله‌عنه في قوله : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تبّا للذهب والفضة» فقال الصحابة : يا رسول الله ، فأي المال نتخذ؟ قال : «لسانا ذاكرا ، وقلبا شاكرا ، وزوجة تعين أحدكم على دينه».

ثم أخبر الله تعالى عن نوع العذاب الذي يطبق على أصحاب الكنوز ، وهو أنه يحمى على ما جمعوه من الأموال المكنوزة في النار ، أي توضع ويوقد عليها في النار حتى تحمى ، ثم يحرق بها جباههم وجنوبهم وظهورهم ، وخصت هذه الأعضاء بالذكر ؛ لأنهم بالوجوه يستقبلون الناس مغتبطين بالثروة ، ويعبسون في وجوه الفقراء كيلا يعطوهم شيئا ، ويتنعمون على جوانبهم وظهورهم في أوساط النعمة ، ثم إن الكي على الوجه أشهر وأشنع ، وعلى الجنب والظهر آلم وأوجع ، ويقال لهم

١٩٣

من قبل الملائكة : هذا جزاء ما كنزتم ، فذوقوا وبال ما كنزتم لأنفسكم ، أي أن ما توهمتم فيه منفعة أصبح ضررا ووبالا عليكم ، وهذه آفة المسلمين اليوم حيث إنهم اكتنزوا الأموال الضخمة ولم ينفقوا بعضا منها في سبيل الله ، أي في صالح الأمة والجماعة المسلمة.

روى مسلم في صحيحة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل له يوم القيامة صفائح من نار ، فيكوى بها جنبه وجبهته وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، حتى يقضى بين العباد ، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة ، وإما إلى النار».

وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من آتاه الله مالا ، فلم يؤدّ زكاته ، مثّل له يوم القيامة شجاعا (حنشا) أقرع له زبيبتان (نقطتان منتفختان في شدقيه) يطوّقه يوم القيامة ، ثم يأخذ بلهزمتيه ـ يعني شدقيه ـ ثم يقول له : أنا مالك ، أنا كنزك. ثم تلا : (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) الآية [آل عمران ٣ / ١٨٠].

فقه الحياة أو الأحكام :

تضمنت الآيات أحكاما ثلاثة :

١ ـ تحريم أكل أموال الناس بالباطل ، والصد عن سبيل الله تعالى : وهو المبالغة في منع الناس بجميع وجوه المكر والخداع من اتباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومتابعة الأخيار من العلماء والناس.

٢ ـ تحريم اكتناز المال دون إنفاقه في سبيل الله ، والكنز : المال الذي لا تؤدى زكاته.

١٩٤

٣ ـ استحقاق الكانز العقاب الشديد في الآخرة في نار جهنم ، مع التوبيخ والتهكم والهم.

أما الحكم الأول : فهو عام للأحبار والرهبان وغيرهم ، إلا أنه كان مستقبحا منهم ؛ لأنهم يتاجرون في الدين ، ويدعون أنهم مقربون إلى الله ، وهم أشد الناس حرصا على جمع المال وطمعا فيه ، وبخلا به ، فجمعوا بين حب المال والجاه. وقد سبق بيان مظاهر أكل أموال الناس بالباطل.

وأما الحكم الثاني : فالمراد به على الصحيح أهل الكتاب وغيرهم من المسلمين ؛ لأنه لو أراد أهل الكتاب على التخصيص لقال : ويكنزون ، بغير : (وَالَّذِينَ) فلما قال : (وَالَّذِينَ) فقد استأنف معنى آخر يبيّن أنه عطف جملة على جملة ، فالذين يكنزون كلام مستأنف ، مرفوع على الابتداء ، وهذا قول أبي ذرّ وغيره ، وعلى هذا القول يكون في الآية دليل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة.

أما القولان الآخران فضعيفان ، أحدهما ـ ما نقل عن معاوية أن المراد بالآية أهل الكتاب ، والثاني ـ ما قاله السدّي وهو أن المراد مانعو الزكاة من المسلمين.

قال ابن خويز منداد : تضمنت الآية زكاة العين (أي النقود) وهي تجب بأربعة شروط : حرية ، وإسلام ، وحول ، ونصاب سليم من الدين. والنصاب مائتا درهم أو عشرون دينارا (١). أو يكمل نصاب أحدهما من الآخر ، وأخرج ربع العشر (٥ ، ٢%) من هذا ، وربع العشر من هذا (٢). أما اشتراط الحرية ، فلأن العبد ناقص الملك ، وأما اشتراط الإسلام فلأن الزكاة تطهير للمال والكافر ليس أهلا للتطهير ، وأما اشتراط الحول فلأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال فيما رواه الدارقطني عن أنس بن مالك : «ليس في المال زكاة حتى يحول عليه الحول» وأما اشتراط النصاب فلأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ما معناه فيما رواه

__________________

(١) الدرهم العربي ٩٧٥ ، ٢ غم ، والدينار هو المثقال وهو ٤٥٧ ، ٤ غم.

(٢) تفسير القرطبي : ٨ / ١٢٤

١٩٥

أبو داود عن علي رضي‌الله‌عنه : «ليس في أقل من مائتي درهم زكاة ، وليس في أقل من عشرين دينارا زكاة» ويراعى كمال النصاب عند آخر الحول ؛ لاتفاق العلماء على أن الربح في حكم الأصل ، فيه الزكاة.

والصحيح ما نقل عن جماعة من الصحابة السابق ذكرهم : أن ما أدّي زكاته فليس بكنز ، وكل ما لم تؤد زكاته فهو كنز. ولا يصح ما نقل عن علي رضي‌الله‌عنه : أربعة آلاف فما دونها نفقة ، وما كثر فهو كنز وإن أدّيت زكاته ، فهو خبر غريب.

وأما ما نقل عن أبي ذرّ : «الكنز : ما فضل عن الحاجة» فهو رأي خاص به ، ومن شدائده ، ومما انفرد به رضي‌الله‌عنه ، ويحتمل أن يكون ذلك في وقت شدة الحاجة ، ولم يكن في بيت المال ما يكفي المحتاجين ، ولا يجوز ادّخار الذهب والفضة في مثل تلك الحال.

وأما زكاة الحلي فلم يوجبها الجمهور ؛ لأنها غير مقصودة للنّماء لكن بشرط عدم قصد الكنز ، وعدم تجاوز القدر المعتاد بين الناس وهو الوسط الذي لا إسراف فيه ، كأن يكون دون الكيلوغرام ، كما ذكر الشافعية. وأوجبها أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي عملا بعموم الألفاظ في إيجاب الزكاة في النقدين (الذهب والفضة) ولم يفرّق بين حليّ وغيره. قال الرازي : وهو الصحيح عندنا ، لظاهر الآية : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ ...).

وأما الحكم الثالث : وهو تعذيب الكانز بعذاب أليم ، فقد فسر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا العذاب ـ فيما يرويه مسلم ـ بقوله : «بشّر الكنّازين بكيّ في ظهورهم يخرج من جنوبهم ، وبكيّ من قبل أقفائهم يخرج من جباههم».

ثم إن ظاهر الآية تعليق الوعيد بمن كنز ، ولم ينفق في سبيل الله ، وهذا أي عدم الإنفاق هو الغالب عرفا ، فلذلك خص الوعيد به ، أما الصحيح فهو أنه لا بد من توافر صفة الكنز واعتبارها : وهو المال الذي لم تؤدّ زكاته ، كما تبين ، فمن

١٩٦

أدّى زكاة المال لا يعد كانزا ، ويعد كانزا أيضا في رأي المالكية من لم يكنز ومنع الإنفاق الواجب في سبيل الله ، فما فضل عن الحاجة ليس بكنز إذا كان معدا لسبيل الله.

وقد رتب الله سوء العقوبة والجزاء بقوله : (يَوْمَ يُحْمى) على حال المعصية الحاصلة من الكانز المسلم والكافر بتعطيله خاصية المال ، وهي إنفاقه في سبيل الله ، فإن كان المكتنز كافرا فهذه بعض عقوباته ، وإن كان مؤمنا ، فهذه عقوبته إن لم يغفر له ، ويجوز أن يعفى عنه.

وتمثيل صورة العذاب في الآية والحديث حقيقة ، ففي حال يمثّل المال فيه ثعبانا ، وفي حال يكون صفائح من نار ، وفي حال يكون رضفا (حجارة محماة) فتتغير الصفات والجسمية واحدة ، فالشجاع الأقرع (الحنش) الذي يمثل به المال جسم ، والمال جسم. وخص الشجاع بالذكر ؛ لأنه العدو الثاني للناس ، والشجاع من الحيات : هو الحية الذكر الذي يواثب الفارس والراجل ، ويقوم على ذنبه وربما بلغ الفارس ، ويكون في الصحاري.

والأولى لطالب الدّين ألا يجمع المال الكثير ، وإن لم يمنع عنه في ظاهر الشرع ؛ لأنه أقرب للتقوى ، ولأن تكثير المال سبب لتكثير الحرص في الطلب ، والحرص متعب للروح والنفس والقلب وضرره شديد على النفس ، ولأن كسب المال شاق شديد ، وحفظه بعد حصوله أشد وأشق وأصعب ، ولأن كثرة المال والجاه تورث الطغيان ، كما قال تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) [العلق ٦٨ / ٦ ـ ٧] ولأنه تعالى أوجب الزكاة بقصد تنقيص المال ، ولو كان تكثيره فضيلة لما سعى الشرع في تنقيصه. وكذلك خيرية اليد العليا ؛ لأنها تؤدي إلى نقصان المال.

١٩٧

عدد الشهور في حكم الله وقتال المشركين كافة وتحريم النسيء

(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٣٧))

الإعراب :

(اثْنا عَشَرَ شَهْراً) اثنا عشر : خبر (إِنَ) ، و (شَهْراً) : منصوب على التمييز. (فِي كِتابِ اللهِ فِي) : متعلقة بمحذوف ، وهي صفة لاثني عشر ، وتقديره : إن عدة الشهور اثنا عشر شهرا كائنة في كتاب الله. ولا يجوز أن تكون متعلقة ب (عِدَّةَ) لأنه يؤدي إلى الفصل بين الصلة والموصول بالخبر ، وهو (اثْنا عَشَرَ).

و (كِتابِ) : مصدر ، أي كتابة الله ، ولا يجوز أن يكون اسما للقرآن ولا لغيره من الكتب ؛ لأن الأسماء التي تدل على الأعيان لا تعمل في الظروف ؛ لأنها ليس فيها معنى الفعل. و (يَوْمَ) : منصوب ب (كِتابِ) والتقدير : فيما كتب الله يوم خلق السموات والأرض ، ولا يجوز تعلقه ب (عِدَّةَ) لما قدمنا في (فِي كِتابِ اللهِ).

والضمير في (مِنْها) يعود إلى الاثني عشر. والضمير في (فِيهِنَ) يعود إلى الأربعة ؛ لأن (ها) تكون لجمع الكثرة ، وهن : لجمع القلة.

(وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَافَّةً) : منصوب على المصدر في موضع الجار ، كقولهم :

١٩٨

عافاه الله عافية ، ورأيتهم عامة وخاصة. و (كَافَّةً) : إما حال من الفاعل أي قاتلوا المشركين حال كونكم جميعا متعاونين غير متخاذلين كما يفعلون ذلك معكم تماما ، وإما من المفعول ، أي قاتلوا المشركين حال كونهم جميعا دون تفرقة بين فئة وأخرى.

(لِيُواطِؤُا) اللام متعلقة بالفعل الثاني ، وهو : (وَيُحَرِّمُونَهُ) أو بما دلّ عليه مجموع الفعلين السابقين.

البلاغة :

(يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً) : بين يحلون ويحرمون طباق. (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) وضع الظاهر وهو (الْمُتَّقِينَ) موضع المضمر (أي معكم) للثناء عليهم بالتقوى ولحث القاصرين عليها ، وتبيان أنها سبب الفوز والفلاح.

المفردات اللغوية :

(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ) أي عددها المكون للسنة ، والشهور : جمع شهر : وهو اسم للهلال سميت به الأيام. (فِي كِتابِ اللهِ) مصدر ، وليس اسما للقرآن ولا للوح المحفوظ ؛ لأنه نصب كلمة (يَوْمَ). (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) أي من الشهور أربعة محرمة وهي : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ، والحرم : جمع حرام : من الحرمة بمعنى التعظيم. (ذلِكَ) أي تحريمها. (الدِّينُ الْقَيِّمُ الدِّينُ) : الشرع ، و (الْقَيِّمُ) : المستقيم الذي لا عوج فيه. (فِيهِنَ) أي في الأشهر الحرم. (أَنْفُسَكُمْ) أي لا تظلموا في الأشهر الحرم أنفسكم بالمعاصي فإنها فيها أعظم وزرا.

(كَافَّةً) أي جميعا ، في كل الشهور ، (مَعَ الْمُتَّقِينَ) بالعون والنصر. (النَّسِيءُ) أي تأخير حرمة شهر إلى آخر ، كما كانت الجاهلية تفعله من تأخير حرمة المحرم إذا هل ، وهم في القتال ، إلى صفر. و (النَّسِيءُ) : من نسأ الشيء ينسؤه نسأ ومنسأة : إذا أخره عن موضعه. (زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) أي زيادة لكفرهم بحكم الله فيه. (يُحِلُّونَهُ) أي النسيء. (لِيُواطِؤُا) يوافقوا بتحليل شهر وتحريم آخر بدله. (عِدَّةَ) عدد. (ما حَرَّمَ اللهُ) من الأشهر ، فلا يزيدوا على تحريم أربعة ، ولا ينقصوا ، ولا ينظروا إلى أعيانها. (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ) فظنوه حسنا.

سبب النزول : نزول الآية (٣٧):

(إِنَّمَا النَّسِيءُ) : أخرج ابن جرير الطبري عن أبي مالك قال : كانوا

١٩٩

يجعلون السنة ثلاثة عشر شهرا ، فيجعلون المحرم صفر ، فيستحلون فيه المحرمات ، فأنزل الله : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ).

المناسبة :

الآيات عود للكلام عن المشركين في تعداد قبائحهم : وهو إقدامهم على السعي في تغييرهم أحكام الله ، وذلك مثل فعل اليهود والنصارى الذين غيّروا حكم الله ، فكان الكلام مناسبا عن حكم قتالهم ومعاملتهم ، ثم العود إلى أحكام المشركين ، فصار هناك تشابه بين المشركين وبين اليهود والنصارى في تعاطي أسباب القتال ، وفي إيجاب القتال.

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى عن أشهر السنة ، فيقول : إن عدة الشهور في علمه تعالى وحكمه ، وفيما كتبه الله وأوجب الأخذ به ، وأثبته في نظام دورة القمر ، وفي اليوم الذي خلق الله فيه السموات والأرض اثنا عشر شهرا ، على هذا النحو المألوف اليوم.

والمراد : الأشهر القمرية ؛ لأن الحساب بها يسير ، يعتمد على رؤية القمر ، من كل الناس المتعلمين والعوام.

والمراد بقوله : (فِي كِتابِ اللهِ) ، أي في كتابته ونظامه وحكمه التشريعي على وفق السنن الإلهية في نظام الكون ، أو فيما أثبته وأوجبه من حكمه ورآه حكمة وصوابا. وقيل : في اللوح المحفوظ.

والمراد بقوله : (يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) : الوقت الذي تمّ فيه خلقهما ، وهو ستة أيام من أيام التكوين والإيجاد.

(مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) : ثلاثة سرد : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، وواحد

٢٠٠