التفسير المنير - ج ٩

الدكتور وهبة الزحيلي

١
٢

٣
٤

بقية قصة شعيب مع قومه

محاورته الملأ وعقابهم بالزلزلة

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (٨٩) وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (٩٣))

الإعراب :

(أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) الهمزة للاستفهام ، والاستفهام هنا للإنكار ، والواو واو الحال ، تقديره : أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهتنا؟.

(إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) : أن وصلتها في موضع نصب على الاستثناء المنقطع ، تقديره: وما يكون لنا أن نعود فيها إلا بمشيئة الله. وقوله : نعود فيها : أي نصير ، ولا يريد به أن يرجع ؛ لأنه لم يكن في ملة الكفر ، فخرج منها حتى يعود (عِلْماً) تمييز منصوب (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ) اللام لام القسم.

٥

(الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً) الذين : في موضع رفع ؛ لأنه صفة أو بدل من الذين كفروا في قوله تعالى : (وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) ويجوز أن يكون في موضع مبتدأ مرفوع ، وخبره جملة (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا) واسمها محذوف أي كأنهم ويجوز أن يكون خبره جملة (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ) و (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) في موضع نصب على الحال.

البلاغة :

(عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) : تقديم الجار والمجرور لإفادة الحصر ، وإظهار الاسم الجليل للمبالغة في التضرع.

المفردات اللغوية :

(أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) ترجعن إلى ديننا ، وغلبوا في الخطاب الجمع على الواحد ؛ لأن شعيبا لم يكن في ملتهم قط. وعلى نحوه أجاب بقوله : أنعود فيها ولو كنا كارهين؟ والاستفهام للإنكار.

وما يكون لنا ينبغي (وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) أي وسع علمه كل شيء ، ومنه حالي وحالكم (رَبَّنَا افْتَحْ) احكم ، والفاتح : الحاكم (الْفاتِحِينَ) الحاكمين. والفتاح : الحاكم ، بطريق المبالغة. (وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) أي قال بعضهم لبعض.

(الرَّجْفَةُ) الزلزلة الشديدة ، وأصل معنى الرجفة : الحركة والاضطراب (جاثِمِينَ) باركين على الركب ، ميتين لم يغنوا فيها يقيموا في ديارهم.

(الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ) التأكيد بإعادة الموصول وغيره للرد عليهم في قولهم السابق : (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ).

(فَتَوَلَّى) أعرض (وَنَصَحْتُ لَكُمْ) فلم تؤمنوا (فَكَيْفَ آسى) أحزن (عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) استفهام بمعنى النفي.

التفسير والبيان :

هذه تتمة قصة شعيب مع قومه تضمنت موضوعين : الأول ـ محاورة شعيب لأشراف قومه ، وبيان عاقبة الكافرين بإنزال العذاب العام عليهم.

أما المحاورة : فقال زعماء القوم الذين تكبروا عن الإيمان وعن اتباع ما أمرهم

٦

به وما نهاهم عنه من عبادة الله وحده ، وإيفاء الكيل والميزان ، وعدم الفساد في الأرض ، وإنذارهم بالعذاب بقوله : فاصبروا ، قالوا في توعدهم شعيبا ومن معه من المؤمنين : قسما (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ) ومن آمن معك من بلادنا كلها ، أو لترجعن إلى ملتنا وديننا الموروث عن الآباء.

وهذا تهديد منهم بأحد أمرين : إما النفي والطرد من القرية ، وإما الإكراه والقهر على الرجوع في ملتهم. وهذا الخطاب مع الرسول شعيب ، والمراد أتباعه الذين كانوا معه على الملة.

قال شعيب مستفهما استفهاما إنكاريا ومتعجبا : أتفعلون ذلك وتأمروننا بالعود في ملتكم ، ولو كنا كارهين ما تدعونا إليه من أحد الأمرين؟.

إنكم تجهلون ما نحن عليه من ثبات العقيدة في القلب ، فلا ينزعها أحد ، وتجهلون أن حب الوطن لا يزعزع العقيدة ، ولا يجعلنا نؤثر الإقامة في بلادنا على مرضاة الله بتوحيده وعبادته واتباع أوامره.

ثم أعلن رفضه التام العودة إلى ملة الكفر قائلا : إنا إذا رجعنا إلى ملتكم واتبعنا دينكم القائم على الشرك ، فقد أعظمنا الفرية على الله في جعل الشركاء معه أندادا ، بعد أن نجانا الله من تلك الملة الباطلة ، وهدانا إلى ملة التوحيد واتباع الصراط المستقيم. إن هذا لأمر عجيب. وهذا تنفير من شعيب عن اتباعهم.

وقوله : (إِذْ نَجَّانَا) أي نجّى أصحابنا منها ، من طريق التغليب بإدخال نفسه في زمرتهم ، مع أن الأنبياء معصومون من الكفر.

(وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها ...) أي ما ينبغي لنا وليس من شأننا أن نعود في ملتكم أبدا ، ولن يحوّلنا أحد عما نحن فيه من الاستقامة ، لاعتقادنا الجازم أننا على الحق الأبلج ، وأنتم على الملة الباطلة ـ ملة الكفر والشرك. لكن إيمانا منا بمشيئة الله يجعلنا نفوض الأمر لله ، فإن شاء الله الذي يعلم كل شيء ، وله

٧

الحكمة البالغة في كل شيء ، أن يفعل شيئا ، فذلك مرجعه إلى الله ؛ لأنه المتصرف في أمورنا كلها. وهذا تأكيد لرفض العود إلى ملتهم بأبلغ التأكيد. ولا طمع لكم في مشيئة الله الذي يثبّت عباده المخلصين على الإيمان والقول الثابت في الحياة الدنيا أن يعيدنا إلى الضلال ؛ لأن الله متعال عن أن يشاء ردة المؤمنين وعودهم إلى الكفر ، فذلك خارج عن الحكمة.

إن الله تعالى أحاط علمه بكل شيء ، فهو واسع العلم ، كثير الفضل ، يتصرف بحكمة ، ومشيئته تكون بحسب الحكمة ، ولا يشاء إلا الخير للناس. ومعنى الآية : أنه عالم بكل شيء مما كان ومما يكون ، فهو يعلم أحوال عباده كيف تتحول ، وقلوبهم كيف تتقلب ، وكيف تقسو بعد الرقة ، وتمرض بعد الصحة ، وترجع إلى الكفر بعد الإيمان.

و (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) في أمورنا ، مع القيام بما يجب علينا من الحفاظ على شرعه ودينه ، وتوكلنا في أن يثبتنا على الإيمان ، ويوفقنا لازدياد اليقين : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق ٦٥ / ٣] ومن شروط التوكل الصحيح تنفيذ الأحكام الشرعية ومراعاة السنن المطلوبة في الحياة من اتخاذ الأسباب ثم تفويض الأمر إلى الله تعالى. سأل أعرابي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيعقل ناقته أم يتركها سائبة ويتوكل على الله؟ فأجابه فيما روى الترمذي : «اعقلها وتوكل».

وهذا رفض آخر للمساومة ومحاولة إعادتهم إلى ملتهم بالدليل.

ثم دعا شعيب على قومه لما يئس منهم فقال : ربنا احكم بيننا وبين قومنا بالحق ، وانصرنا عليهم ، (وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) مثل قوله : (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) [الأعراف ٧ / ٨٧] أي إنك العادل الذي لا يجور أبدا ، تحكم بالحق في النزاع بين المرسلين والكافرين ، وبين المحقين والمبطلين.

ثم بعد أن يئس الكفار من عودة المؤمنين برسالة شعيب إلى ملتهم ، لجؤوا إلى

٨

استخدام التهديد والوعيد ، فقال أشرافهم لمن دونهم من المستضعفين المؤمنين ، لتثبيطهم عن الإيمان : تالله لئن اتبعتم شعيبا فيما يقول وآمنتم به إنكم لخاسرون خسارة معنوية في فعلكم بترككم ملة الآباء والأجداد العريقين إلى دين جديد يدعوكم إليه ، لم تألفوه ، ولم تعرفوا مصداقيته ، وخاسرون خسارة مادية إذ لم تزيدوا ثروتكم بتطفيف الكيل والميزان وأخذ أموال الآخرين ؛ وتخسرون باتباع شعيب فوائد البخس والتطفيف ؛ لأنه ينهاكم عنهما ، ويحملكم على الإيفاء والتسوية.

ويلاحظ أن القرآن وصف الأشراف والسادة أولا بالاستكبار عن الإيمان بالله وبرسالة شعيب عليه‌السلام ، ثم وصفهم بالإغواء والإضلال ومحاولة تكفير المؤمنين بشعيب ، ثم وصفهم بالكفر والإرهاب ثم أعقب ذلك ببيان عاقبة أمرهم وتعذيبهم فقال : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ...) أي إنهم أبيدوا وأهلكوا بالزلزلة الشديدة ، والصيحة المرعبة ، كما أرجفوا شعيبا وأصحابه وتوعدوهم بالطرد والإجلاء ، فأصبحوا منكبين على وجوههم ميتين. وقد عبر عن عذابهم هنا بالرجفة ، وفي سورة هود بالصيحة كعذاب ثمود ؛ لأن الرجفة أي الزلزلة لا تنفك عن الصيحة العظيمة الهائلة : (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) [هود ١١ / ٩٥].

وفي سورة الشعراء بيّن سبحانه أنه أرسل شعيبا إلى أصحاب الأيكة وهم إخوة مدين في النسب ، والأيكة : الغيضة بين ساحل البحر ومدين ، وكان عذاب مدين بالصيحة والرجفة المصاحبة لها. وعذاب أصحاب الأيكة بالسّموم والحر الشديد بعد أن تجمعوا تحت ظلّة من السحاب يتفيئون بظلها من وهج الشمس ، فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا. فالظلة : هي سحابة أظلتهم فيها شرر من نار ولهب ووهج عظيم. والخلاصة : لقد اجتمع على قوم شعيب ذلك كله ، أصابهم عذاب يوم الظلة ، ثم جاءتهم صيحة من السماء ، ورجفة من الأرض شديدة من

٩

أسفل منهم ، فزهقت أرواحهم وجمدت أجسامهم (١).

فمن الخاسر إذن؟ الحقيقة أن الذين كذبوا شعيبا هم الخاسرون على سبيل الحصر ، وهم المخصوصون بأن أهلكوا واستؤصلوا ، كأن لم يقيموا في دارهم ، وهو رد على قولهم السابق : (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) والمراد من هذا الرد : المبالغة في الذم والتوبيخ ، وأما الإعادة فهي لتعظيم الأمر وتفخيمه وتهويل ما يستحقون من الجزاء على جهلهم ، لذا كرر قوله : (الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً).

الحق أن الكافرين هم الذين خسروا خسرانا عظيما في الدنيا والآخرة ، دون المؤمنين ؛ لأن الذين اتبعوا شعيبا قد أنجاهم الله ، فهم الرابحون. كما قال تعالى : (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا ، وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ ، فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ) [هود ١١ / ٩٤].

وفي هذا دلالة واضحة على أن العاقبة للمتقين ، والربح الحقيقي لمن يأكل الحلال ، ويترفع عن الحرام ، وأن الدمار والهلاك والإفلاس للكافرين الذين ينغمسون في الحرام ، ويأكلون أموال الناس بالباطل.

وأما شعيب فقد أدبر عنهم وتولى عنهم بعد ما أصابهم من العذاب والنقمة والنكال ، وقال موبخا لهم ومقرعا : (يا قَوْمِ ، لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي ، وَنَصَحْتُ لَكُمْ) أي قد أديت إليكم ما أرسلت به ، فلا آسف عليكم ، وقد كفرتم بما جئتكم به ، كما قال : (فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ)؟! أي فكيف أحزن على قوم أنكروا وحدانية الله ، وكذبوا رسوله ، ولقد أعذر من أنذر. قال الكلبي : خرج من بين أظهرهم ، ولم يعذب قوم نبي حتى أخرج من بينهم.

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ٢٣٢.

١٠

فقه الحياة أو الأحكام :

كان من أثر دعوة شعيب خطيب الأنبياء قومه إلى عبادة الله وترك أكل أموال الناس بالباطل ، أنهم واجهوه بالتخيير بين أمرين خطيرين : إما الطرد والجلاء ، وإما الصيرورة إلى ملتهم ، وهذا هو المقصود بقولهم : (أَوْ لَتَعُودُنَ) أي لتصيرن إلى ملتنا ، فوقع العود بمعنى الابتداء ، تقول العرب : قد عاد إليّ من فلان مكروه ، يريدون قد صار إلي منه المكروه ، ولا يعني ذلك أن شعيبا كان قبل النبوة على ملتهم ، فهو معصوم من الكفر ، وكذلك كان خطاب شعيب من قبيل التغليب ، فإنهم خاطبوه بخطاب أتباعه ، وأجروا عليه أحكامهم.

والحزم يقابله الحزم والإصرار ، فكان رد شعيب حاسما وقاطعا بأنه لن يفعل ما يريدون ، ولن يعود أي يصير إلى ملتهم ، فإنه إن فعل ذلك بعد أن تبين له الحق ، فقد افترى على الله ، وكذلك كان أتباعه صريحين صارمين ، وجوابه جوابهم. وهذا نابع من أصل النبوة والرسالة ، فإنها تتميز بصدق اللهجة ، والبراءة عن الكذب ، فالعود في ملتهم يبطل النبوة ، ويزيل الرسالة.

وقد نظم شعيب نفسه مع قومه بقوله : (إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها) أي من الملة ، وإن كان بريئا منها ، إجراء للكلام على حكم التغليب ، كما ذكروا في كلامهم : (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا).

وتمسك الأشاعرة بقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) على أنه تعالى قد يشاء الكفر ؛ لأن المعنى : إلا أن يشاء الله أن يعيدنا إلى ملتكم ، وكانت تلك الملة كفرا. وقال المعتزلة : لا يشاء تعالى إلا الخير والصلاح ؛ لأن هذا الاستثناء وهو : إلا أن يشاء الله أن يعيدنا إلى ملتكم قضية شرطية ، وليس فيها بيان أنه تعالى شاء ذلك أو ما شاء ، وهذا أيضا مذكور على سبيل التبعيد ، كما يقال : لا أفعل ذلك إلا إذا ابيضّ القار (الزفت) وشاب الغراب.

١١

ووجه تعلق قوله تعالى : (وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) بما قبله : أنه ربما كان في علمه تعالى حصول أمر ثالث غير الإخراج والعود إلى الملة ، وهو البقاء في هذه القرية من غير أن نعود إلى ملتكم ، ويجعلكم مقهورين تحت أمرنا ، خاضعين تحت حكمنا.

ودل قوله تعالى : (وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) على أنه تعالى كان عالما في الأزل بجميع الأشياء ؛ لأن قوله : وسع فعل ماض ، فيتناول كل ماض ، بل إنه يتناول علم الحاضر والمستقبل وعلم المعدوم ؛ لأن التعبير بالماضي يفيد الجزم بحصول العلم بكل الأشياء.

ودل قوله تعالى : (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا ، رَبَّنَا افْتَحْ ...) على أن النبي وكل مؤمن ينبغي أن يظل على صلة بالله وتفويض كامل في أموره له ، فقوله : (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) يفيد الحصر ، أي عليه توكلنا لا على غيره ، وقوله : (رَبَّنَا افْتَحْ ...) يراد به تفويض الحكم إلى الله والدعاء له واللجوء إليه ، وقوله : و (أَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) يراد به الثناء على الله تعالى.

واستدل الأشاعرة بقوله : (وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) على أنه تعالى هو الذي يخلق الإيمان في العبد.

ودلت آية (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً) على أن قوم شعيب استحقوا عذاب الإهلاك أو الاستئصال بأمرين : الكفر أو الضلال ، والإضلال لغيرهم أو الإغواء.

وتعذيبهم كان بالرجفة (وهي الزلزلة الشديدة المهلكة) وبالصيحة (وهي الصوت الشديد المهلك) معا التي تلازم الرجفة ولا تنفك عنها. وذلك العذاب كان مختصا بأولئك المكذبين ، ونجّى الله المؤمنين ، وذلك يدل على ثلاثة أمور : أن ذلك العذاب إنما حدث بخلق فاعل مختار ، وليس أثر الكواكب والطبيعة ، وإلا لعم أتباع شعيب ، وذلك الفاعل المختار عالم بجميع الجزئيات ، حتى يمكنه

١٢

التمييز بين المطيع والعاصي ، واختصاص العذاب بقوم دون قوم من أعظم المعجزات لشعيب عليه‌السلام.

سنة الله في التضييق والتوسعة قبل إهلاك الأمم

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩٥))

البلاغة :

(مِنْ نَبِيٍ) فيه حذف وإضمار ، والتقدير : من نبي فكذّب أو كذبه أهلها.

(مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ) و (بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) بينهما طباق.

المفردات اللغوية :

(قَرْيَةٍ) مدينة جامعة تجمع الزعماء كالعاصمة ، وإنما ذكر القرية ؛ لأنها مجتمع القوم الذين يبعث الرسل إليهم ، ويدخل تحت هذا اللفظ المدينة ؛ لأنها مجتمع الأقوام من نبي أي فكذبوه (أَخَذْنا) عاقبنا (أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) البأساء : الشدة والمشقة كالحرب والجدب وشدة الفقر ، والضراء : ما يضر الإنسان في نفسه أو معيشته كالمرض ، وقيل : في كل بالعكس. (لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) يتذللون فيؤمنوا. وقوله لعلهم لا يمكن حمله على الشك في حق الله تعالى ، فيحمل على أن المراد أنه تعالى فعل هذا الفعل لكي يتضرعوا. والتضرع : إظهار الضراعة أي الضعف والخضوع.

(ثُمَّ بَدَّلْنا) أعطيناهم (مَكانَ السَّيِّئَةِ) العذاب (الْحَسَنَةَ) الغنى والصحة (حَتَّى عَفَوْا) كثروا ونموا ، من قولهم : عفا النبات والشعر : إذا كثر (وَقالُوا) كفرا للنعمة (قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ) كما مسنا ، وهذه عادة الدهر ، وليست بعقوبة من الله ، فكونوا على ما أنتم عليه (فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) أخذناهم بالعذاب فجأة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بوقت مجيئه قبله.

١٣

المناسبة :

لما ذكر الله تعالى أحوال الأنبياء مع أقوامهم ، وما حلّ بهم من العذاب ، بيّن في هذه الآية أن جنس هذا الهلاك أو الاستئصال لم يقتصر على زمن هؤلاء الأنبياء فقط ، وإنما قد فعله بغيرهم ، وبيّن أيضا سنته الإلهية في الانتقام ممن كذّب الأنبياء ، وهي التدرج بهم من التضييق عليهم بالبأساء (شدة الفقر) والضراء (المرض ونحوه) ثم إلى السعة والرخاء والرفاه ، ثم يأتي إنزال العذاب فجأة من غير شعور بمجيئه. وفي ذلك تحذير لقريش وأمثالهم وتخويفهم ، وحمل لهم على الإيمان برسالة المصطفى عليه الصلاة والسلام.

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى عن سنته المتبعة في تعذيب الأمم والشعوب الضالة ، سواء في زمن الأنبياء أو في غير زمنهم ، وتلك السنة فيها إنذار وإعذار ، ومقدمات توحي بضرورة تغيير الأوضاع ، والانتقال من الكفر والضلال إلى الإيمان والهدى.

والمعنى : إننا إذا أرسلنا نبيا إلى قوم ، فكذبوه ، فلا نعاجلهم بالعذاب ، وإنما نتدرج في إمهالهم وتذكيرهم بتقليب الأحوال ، فنبدؤهم بالعقاب بإنزال شيء من الشدة والمكروه ، بتعريضهم لسوء الحال المادية وإفقارهم ، ثم بتسليط الأمراض والبلايا والأسقام عليهم ، أو بالعكس ، المرض أولا ، ثم الفقر ، لكي يتضرعوا أي يدعوا الله ويخشعوا ويبتهلوا إلى الله تعالى في كشف ما نزل بهم.

(ثُمَّ بَدَّلْنا ...) : ثم حولنا الحال من شدة إلى رخاء ، ومن فقر إلى غنى ، ومن مرض إلى صحة وعافية ، ليشكروا على ذلك فما فعلوا. فالسيئة : كل ما يسوء صاحبه ، والحسنة : ما يستحسنه الطبع والعقل.

١٤

(حَتَّى عَفَوْا) أي كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم ، يقال : عفا الشيء : إذا كثر ، وذلك لأن الرخاء يكون عادة سببا في كثرة النسل.

(وَقالُوا : قَدْ مَسَّ ...) أي ابتليناهم بالشدة والرخاء ليتضرعوا وينيبوا إلى الله ، فما أفاد هذا ولا هذا ، وقالوا غير معتبرين بالأحداث : قد مسّنا من البأساء والضراء ، وما بعده من الرخاء ، مثل ما أصاب آباءنا في قديم الزمان ، ولم يتفهموا سنن الله في تهيئة الأسباب للسعادة والشقاء في البشر. وهذا بخلاف حال المؤمنين الذين يشكرون الله على السراء ويصبرون على الضراء ، كما ثبت في الصحيحين : «عجبا لأمر المؤمن ، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له ، إن أصابته ضرّاء صبر ، فكان خيرا له ، وإن أصابته سرّاء شكر ، فكان خيرا له» فالمؤمن يتنبه لما ابتلاه لله به من الضراء والسراء ، كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم والترمذي وابن ماجه وأحمد : «لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يخرج نقيا من ذنوبه ، والمنافق مثله كمثل الحمار ، لا يدري فيم ربطه أهله ، ولا فيم أرسلوه».

وتغيير الحال من سوء إلى حسن أمر ضروري للتخلص من البلاء ، كما قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد ١٣ / ١١].

أما مصير غير المعتبرين بأحداث الزمان وتقلباته فكما ذكر تعالى : (فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً ..) أي فكان عاقبة أمرهم أنا أخذناهم أي عاقبناهم بالعقوبة على بغتة ، أي فجأة ، من غير شعور منهم بما سينزل بهم من العقاب ، ليكون أكثر حسرة ، كما في قوله تعالى : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ ، فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ ، حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا ، أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً ، فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) [الأنعام ٦ / ٤٤] وكما جاء في الحديث الذي رواه أحمد والبيهقي عن عائشة : «موت الفجأة رحمة للمؤمن ، وأخذة أسف للكافر».

فما على الناس مؤمنين وكفارا إلا الاتعاظ بما حل بغيرهم ، فالمؤمن بالله

١٥

لا يغتر بالزمان ، وتكون الشدائد والمصائب صقلا له ، وتمحيصا لنفسه ، وتربية لها ، والكافر إذا مسه الشر يئس ، وإذا مسه الخير بطر واستكبر وبغى في الأرض ، فكانت عاقبته الدمار.

فقه الحياة أو الأحكام :

الحلم والإمهال من خصائص صنع الله وسنته الدائمة في خلقه ، لكي يتعظوا بالأحداث ويصححوا مسيرتهم في الحياة ، ويقلعوا عما هم عليه من معاص وموبقات. والابتلاء يكون بالشر وبالخير : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ، وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء ٢١ / ٣٥] والعاقل المفكر المتدبر أحوال الماضي وتقلبات المستقبل هو الذي يستفيد من دروس الحياة : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الأعراف ٧ / ١٦٨].

ودل قوله تعالى : (لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) في رأي المعتزلة : على أنه تعالى أراد من كل المكلفين الإيمان والطاعة. وقال أهل السنة : إن الله يدبر أهل القرى بما يكون إلى الإيمان أقرب ، لقوله تعالى : (ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ) لأن ورود النعمة في البدن والمال بعد البأساء والضراء ، يدعو إلى الانقياد والاشتغال بالشكر.

ولكن الناس لا يعتبرون ، فبالرغم من أنه تعالى أخذهم بالشدة والرخاء ، فلم يزدجروا ولم يشكروا ، وهذا يدل على أنهم لم ينتفعوا بما دبرهم الله عليه من رخاء بعد شدة ، وأمن بعد خوف ، بل رأوا أن هذه عادة الزمان في أهله ، فمرة يحصل فيهم الشدة والنكد ، ومرة يحصل لهم الرخاء والراحة.

أما الحق تعالى فقد أزال عذرهم وأمهلهم ، لكنهم لم ينقادوا ولم ينتفعوا بذلك الإمهال.

١٦

الترغيب بالإيمان لزيادة الخير والترهيب من الكفر

بالعذاب المبكّر

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (٩٩) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (١٠٠))

الإعراب :

(أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى ...) بفتح الواو ، تكون الهمزة للاستفهام ، والواو حرف عطف. وبإسكان الواو : تكون أو التي يراد بها أحد الشيئين ، والمعنى : أو كان الأمر من أحد هذين الشيئين من إتيان العذاب ليلا أو ضحى. (أَنْ لَوْ نَشاءُ) أن مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي أنه ، والجملة فاعل (يَهْدِ). والهمزة في المواضع الأربعة في الآيات للتوبيخ ، والفاء والواو الداخلة عليها للعطف.

البلاغة :

(أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) تكرار الجملة للإنذار ، ويسمى هذا في البلاغة إطنابا.

(أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ ، فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ) هذا تكرير لقوله : (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) وتكرار الإنكار للتأكيد وزيادة التقرير ، ومكر الله : استعارة لاستدراج العبد والتمهيد لعقابه. قال الزمخشري في الكشاف : ٢ / ٥٦٣ ، مكر الله : استعارة لأخذه العبد من حيث لا يشعر ولاستدراجه ، فعلى العاقل أن يكون في خوفه من مكر الله كالمحارب الذي يخاف من عدوّه الكمين والبيات والغيلة.

١٧

المفردات اللغوية :

(أَهْلَ الْقُرى) الذين أرسل إليهم الرسل فكذبوا (آمَنُوا) بالله ورسلهم (وَاتَّقَوْا) الكفر والمعاصي (لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ) لسهلنا عليهم بركات من السماء بالمطر ونحوه من حرارة الشمس لتوفير الخصب في الأرض (وَالْأَرْضِ) بالنبات والمعادن ونحوها (وَلكِنْ كَذَّبُوا) الرسل (فَأَخَذْناهُمْ) عاقبناهم.

(أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) المكذبون (بَأْسُنا) عذابنا (بَياتاً) ليلا (وَهُمْ نائِمُونَ) غافلون عنه (ضُحًى) نهارا ، وأصل معنى الضحى : وقت ارتفاع الشمس وإضاءة الدنيا أول النهار (يَلْعَبُونَ) يلهون (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ) استدراجه إياهم بالنعمة وأخذهم بغتة. والمكر : التدبير الخفي الذي يؤدي إلى ما لا يحتسبه الإنسان.

(أَوَلَمْ يَهْدِ) يتبين ، يقال : هداه السبيل ، وهداه له وإليه ، أي دلّه عليه وبيّنه له (يَرِثُونَ الْأَرْضَ) بالسكنى (مِنْ بَعْدِ أَهْلِها) أي بعد هلاك أهلها (أَصَبْناهُمْ) بالعذاب (وَنَطْبَعُ) نختم (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) الموعظة سماع تدبر.

المناسبة :

لما أبان الله تعالى في الآية السابقة أن الذين عصوا وتمردوا من أهل القرى أخذهم الله بغتة ، أبان في هذه الآية أنهم لو أطاعوا لفتح الله عليهم أبواب الخير ، ثم أنذرهم بالعذاب المبكّر ليلا أو نهارا ، إذا كذبوا الرسل ، تأكيدا لما سبق.

التفسير والبيان :

هذا إخبار عن سنة أخرى من سنن الله في عباده ، وتلك السنة أنه لو آمن أهل القرى كأهل مكة وغيرهم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، واتقوا ما نهى الله عنه وحرمه من الشرك والفساد في الأرض بارتكاب الفواحش والآثام ، لأنزل عليهم الخيرات الكثيرة من السماء كالمطر ، وأخرج لهم خير الأرض من نبات ومعادن وكنوز ، وآتاهم من العلوم والمعارف والإلهامات الربّانية لفهم سنن الكون.

١٨

أي فلو آمنوا ليسّر الله لهم كل خير من كل جانب من فوقهم ومن تحتهم ومن ذواتهم وأفكارهم.

وفي هذا دلالة على أن الإيمان الصحيح سبب للسعادة والرخاء.

ولكنهم كذبوا رسلهم ولم يؤمنوا ولم يتقوا ، فعاقبناهم بالهلاك على ما كسبوا من المآثم والمحارم والشرك المفسد نظام الحياة.

وفيه دلالة على أن العقاب نتيجة لازمة لكسب المعاصي.

ثم إنه تعالى أعاد التهديد والتخويف بعذاب الاستئصال ، والتحذير من مخالفة أوامره ، والتجرؤ على زواجره فقال : (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) وهو استفهام بمعنى الإنكار عليهم ، والمقصود التعجب من حالهم وغفلتهم ، والمراد : أبعد ذلك أمن أهل القرى الكافرة كأهل مكة وأمثالهم نزول العذاب والنكال بهم في حال الغفلة وهو النوم ليلا.

أو هل أمنوا أن ينزل بهم العذاب في حال شغلهم وغفلتهم وهو أثناء اللعب واللهو في النهار. ويلاحظ أن انشغالهم في أعمالهم التي لا فائدة منها كأنها ألعاب أطفال.

وذلك في الحالين تخويف من نزول العذاب بهم في أوقات الغفلة : وهو حال النوم بالليل ، وحال الضحى بالنهار ؛ لأنه يغلب على المرء التشاغل باللذات فيه. والمعنى المراد : فإن أمنتم حالا لم تأمنوا الحال الآخر.

قال الرازي : قوله : (وَهُمْ يَلْعَبُونَ) يحتمل التشاغل بأمور الدنيا ، فهي لعب ولهو ، ويحتمل خوضهم في كفرهم ؛ لأن ذلك كاللعب في أنه لا يضر ولا ينفع (١).

__________________

(١) التفسير الكبير للرازي : ١٤ / ١٨٥.

١٩

ثم كرر الله تعالى الاستفهام الإنكاري لزيادة التوبيخ ، بعد قوله : (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى) وعطف عليه بالفاء ، فقال : (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ) أي بأسه ونقمته وقدرته عليهم. ومكر الله : جزاؤه وأخذه العبد من حيث لا يشعر ، مع استدراجه. إن كانوا أمنوا مكر الله وعقابه ، فلا يأمن مكر الله إلا الذين خسروا أنفسهم ، قال الحسن البصري رحمه‌الله : المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفق وجل خائف ، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن.

ومجموع معنى الآيتين : أكان سبب أمنهم أن يأتيهم العذاب في وقت غفلتهم ليلا أو نهارا ، أو كان سبب أمنهم غفلتهم عن مكر الله بهم ، أي جزاؤه الذي ينزله بهم؟ إن ظنوا ذلك فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون أنفسهم.

وبعد بيان حال الكفار الذين أهلكهم الله بالاستئصال ، أبان تعالى أن الهدف من ذكر هذه القصص حصول العبرة لجميع المكلفين في مصالح أديانهم وطاعاتهم ، فقال : (أَوَلَمْ يَهْدِ ...).

أي أو لم يتبين للناس ، وخصوصا قريشا الذين يخلفون غيرهم في سكنى الأرض ووراثتها مع الديار ، بعد إهلاك آخرين قبلهم كانوا أهلها : أن شأننا معهم كشأننا مع من سبقهم ، فلو نشاء أصبناهم وعذبناهم بذنوبهم وأعمالهم السيئة ، كما عذبنا أمثالهم من قبل ، وفعلنا بهم كما فعلنا بمن قبلهم ، فأهلكنا الوارثين كما أهلكنا المورثين.

فإن لم نهلكهم بالعذاب نختم على قلوبهم ، فهم لا يسمعون الموعظة والتذكير سماع تدبر ، ولا يقبلون ولا يتعظون ولا ينزجرون ، كما قال تعالى : (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) [يونس ١٠ / ١٠١] وأما المؤمنون فشأنهم الاتعاظ والاعتبار بما حدث لمن قبلهم ، كما قال تعالى في آيات كثيرة موضوعها واحد ،

٢٠