تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٣

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٣

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٠٥

بآل ياسين أنصاره الذين اتّبعوه وأعانوه كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «آل محمد كلّ تقي» (١). وهؤلاء هم أهل (جبل الكرمل) الذين استنجدهم إلياس على سدنة بعل فأطاعوه وأنجدوه وذبحوا سدنة بعل كما هو موصوف بإسهاب في الإصحاح الثامن عشر من سفر الملوك الأول. فيكون المعنى : سلام على ياسين وآله ، لأنه إذا حصلت لهم الكرامة لأنهم آله فهو بالكرامة أولى.

وفي قصة إلياس إنباء بأن الرسول عليه أداء الرسالة ولا يلزم من ذلك أن يشاهد عقاب المكذّبين ولا هلاكهم للرد على المشركين الذين قالوا : (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [يونس : ٤٨] قال تعالى : (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ* رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ* وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ) [المؤمنون : ٩٣ ـ ٩٥] ، وقال تعالى : (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ)[غافر : ٧٧] وفي الآية الأخرى (وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) [مريم : ٤٠].

[١٣٣ ـ ١٣٦] (وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦))

هذا ثاني الأنبياء الذين جمعهم التنظير في هذه الآية ، ولوط كان رسولا للقرى التي كان ساكنا في إحداها فهو رسول لا شريعة له سوى أنه جاء ينهى الأقوام الذين كان نازلا بينهم عن الفاحشة وتلك لم يسبق النهي عنها في شريعة إبراهيم.

و (إِذْ) ظرف متعلق ب (الْمُرْسَلِينَ). والمعنى : أنه في حين إنجاء الله إياه وإهلاك الله قومه كان قائما بالرسالة عن الله تعالى ناطقا بما أمره الله ، وإنما خصّ حين إنجائه بجعله ظرفا للكون من المرسلين لأن ذلك الوقت ظرف للأحوال الدالة على رسالته إذ هي مماثلة لأحوال الرسل من قبل ومن بعد. وتقدمت قصة لوط في سورة الأنعام وفي سورة الأعراف.

والعجوز : امرأة لوط ، وتقدم خبرها وتقدم نظيرها في سورة الشعراء.

[١٣٧ ـ ١٣٨] (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٣٨))

__________________

(١) رواه الطبراني في «الأوسط» بسند ضعّفوه.

٨١

الخطاب لقريش الذين سيقت هذه القصص لعظتهم. والمرور : مجاوزة السائر بسيره شيئا يتركه ، والمراد هنا : مرورهم في السفر ، وكان أهل مكة إذا سافروا في تجارتهم إلى الشام يمرّون ببلاد فلسطين فيمرون بأرض لوط على شاطئ البحر الميّت المسمّى بحيرة لوط. وتعدية المرور بحرف (على) يعيّن أن الضمير المجرور بتقدير مضاف إلى : على أرضهم ، كما قال تعالى : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) [البقرة : ٢٥٩]. يقال : مر عليه ومرّ به ، وتعديته بحرف (على) تفيد تمكّن المرور أشدّ من تعديته بالباء ، وكانوا يمرّون بديار لوط بجانبها لأن قراهم غمرها البحر الميت وآثارها باقية تحت الماء.

والمصبح : الداخل في وقت الصباح ، أي تمرّون على منازلهم في الصباح تارة وفي الليل تارة بحسب تقدير السير في أول النهار وآخره ، لأن رحلة قريش إلى الشام تكون في زمن الصيف ويكون السير بكرة وعشيّا وسرى ؛ والباء في (وَبِاللَّيْلِ) للظرفية.

والخبر الذي في قوله : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ) مستعمل في الإيقاظ والاعتبار لا في حقيقة الإخبار ، وتأكيده بحرف التوكيد وباللام تأكيد للمعنى الذي استعمل فيه ، وذلك مثل قوله : (وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) في سورة الحجر [٧٦]. وفرع على ذلك بالفاء استفهام إنكاري من عدم فطنتهم لدلالة تلك الآثار على ما حلّ بهم من سخط الله وعلى سبب ذلك وهو تكذيب رسول الله لوط.

وقد أشرنا إلى وجه تخصيص قصة لوط مع القصص الخمس في أول الكلام على قصة نوح وتزيد على تلك القصص بأن فيها مشاهدة آثار قومه الذين كذبوا وأصرّوا على الكفر.

[١٣٩ ـ ١٤٤] (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤))

يونس هو ابن متّى ، واسمه بالعبرانية (يونان بن آمتاي) ، وهو من أهل فلسطين ، وهو من أنبياء بني إسرائيل أرسله الله إلى أهل (نينوى) وكانت نينوى مدينة عظيمة من بلاد الأشوريين وكان بها أسرى بني إسرائيل الذين بأيدي الأشوريين وكانوا زهاء مائة ألف بقوا بعد (دانيال). وكان يونس في أول القرن الثامن قبل المسيح ، وقد تقدم ذكره وذكر قومه في الأنعام وسورة يونس.

٨٢

و (إِذْ) ظرف متعلق ب (الْمُرْسَلِينَ) ، وإنما وقتت رسالته بالزمن الذي أبق فيه إلى الفلك لأن فعلته تلك كانت عند ما أمره الله بالذهاب إلى نينوى لإبلاغ بني إسرائيل أن الله غضب عليهم لأنهم انحرفوا عن شريعتهم.

فحينما أوحى الله إليه بذلك عظم عليه هذا الأمر فخرج من بلده وقصد مرسى (يافا) ليذهب إلى مدينة (ترشيش) وهي طرطوسية على شاطئ بلاد الشام فهال البحر حتى اضطر أهل السفينة إلى تخفيف عدد ركابها فاستهموا على من يطرحونه من سفينتهم في البحر فكان يونس ممن خرج سهم إلقائه في البحر فالتقمه حوت عظيم وجرت قصته المذكورة في سورة الأنبياء ، فلما كان هروبه من كلفة الرسالة مقارنا لإرساله وقّت بكونه من المرسلين.

و (أَبَقَ) مصدره إباق بكسر الهمزة وتخفيف الباء وهو فرار العبد من مالكه. وفعله كضرب وسمع. والمراد هنا : أن يونس هرب من البلد الذي أوحي إليه فيه قاصدا بلدا آخر تخلصا من إبلاغ رسالة الله إلى أهل (نينوى) ولعله خاف بأسهم واتّهم صبر نفسه على أذاهم المتوقّع لأنهم كانوا من بني إسرائيل في حماية الأشوريين. ففعل (أَبَقَ) هنا استعارة تمثيلية ، شبّهت حالة خروجه من البلد الذي كلّفه ربه فيه بالرسالة تباعدا من كلفة ربه بإباق العبد من سيده الذي كلّفه عملا.

و (الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) : المملوء بالراكبين ، وتقدم معناه في قصة نوح.

وساهم : قارع. وأصله مشتق من اسم السّهم لأنهم كانوا يقترعون بالسهام وهي أعواد النبال وتسمّى الأزلام.

وتفريع (فَساهَمَ) يؤذن بجمل محذوفة تقديرها : فهال البحر وخاف الراكبون الغرق فساهم. وهذا نظير التفريع في قوله تعالى : (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) [الشعراء : ٦٣] والمذكور في كتاب «يونان» من كتب اليهود : أن بعضهم قال لبعض : هلمّ نلق قرعة لنعرف من هو سبب هذه البلية فألقوا قرعة فوقعت على يونس. وعن ابن عباس ووهب بن منبه أن القرعة خرجت ثلاث مرات على يونس.

وسنة الاقتراع في أسفار البحر كانت متّبعة عند الأقدمين إذا ثقلت السفينة بوفرة الراكبين أو كثرة المتاع. وفيها قصة الحيلة التي ذكرها الصفدي في «شرح الطغرائية» (١) :

__________________

(١) قصيدة الطغرائي اللامية المسماة لامية العجم. انظر شرح البيت :

إن العلا حدثتني وهي صادقة

فما تحدث أن العز في النقل

٨٣

أن بعض الأصحاب يدعي أن مركبا فيه مسلمون وكفار أشرف على الغرق وأرادوا أن يرموا بعضهم إلى البحر ليخفّ المركب فينجو بعضهم ويسلم المركب فقالوا : نقترع فمن وقعت القرعة عليه ألقيناه. فنظر رئيس المركب إليهم وهم جالسون على هذه الصورة فقال : ليس هذا حكما مرضيا وإنما نعدّ الجماعة فمن كان تاسعا ألقيناه فارتضوا بذلك فلم يزل يعدهم ويلقي التاسع فالتاسع إلى أن ألقى الكفار وسلم المسلمون وهذه صورة ذلك (وصوّر دائرة فيها علامات حمر وعلامات سود ، فالحمر للمسلمين ومنهم ابتداء العدّ وهو إلى جهة الشمال) قال : ولقد ذكرتها لنور الدين علي بن إسماعيل الصفدي فأعجبته وقال : كيف أصنع بحفظ هذا الترتيب فقلت له : الضابط في هذا البيت تجعل حروفه المعجمة للكفار والمهملة للمسلمين وهو :

الله يقضي بكل يسر

ويرزق الضيف حين كانا ا. ه

وكانت القرعة طريقا من طرق القضاء عند التباس الحق أو عند استواء عدد في استحقاق شيء. وقد تقدم في سورة آل عمران [٤٤] عند قوله : (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) وهي طريقة إقناعية كان البشر يصيرون إليها لفصل التنازع يزعمون أنها دالة على إرادة الله تعالى عند الأمم المتدينة ، أو إرادة الأصنام عند الأمم التي تعبد الأصنام تمييز صاحب الحق عند التنازع. ولعلها من مخترعات الكهنة وسدنة الأصنام. فلما شاعت في البشر أقرتها الشرائع لما فيها من قطع الخصام والقتال ، ولكن الشرائع الحقّ لما أقرتها اقتصدت في استعمالها بحيث لا يصار إليها إلا عند التساوي في الحقّ وفقدان المرجّح ، الذي هو مؤثر في نوع ما يختلفون فيه ، فهي من بقايا الأوهام. وقد اقتصرت الشريعة الإسلامية في اعتبارها على أقل ما تعتبر فيه. مثل تعيين أحد الأقسام المتساوية لأحد المتقاسمين إذ تشاحوا في أحدها ، قال ابن رشد في «المقدمات» : «والقرعة إنما جعلت تطييبا لأنفس المتقاسمين وأصلها قائم في كتاب الله لقوله تعالى في قصة يونس : (فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ).

وعندي : أن ليس في الآية دليل على مشروعية القرعة في الفصل بين المتساويين لأنها لم تحك شرعا صحيحا كان قبل الإسلام إذ لا يعرف دين أهل السفينة الذين أجروا الاستهام على يونس ، على أن ما أجري الاستهام عليه قد أجمع المسلمون على أنه لا يجري في مثله استهام. فلو صح أن ذلك كان شرعا لمن قبلنا فقد نسخه إجماع علماء أمتنا.

قال ابن العربي : الاقتراع على إلقاء الآدمي في البحر لا يجوز فكيف المسلم فإنه لا

٨٤

يجوز فيمن كان عاصيا أن يقتل ولا أن يرمى به في النار والبحر. وإنما تجري عليه الحدود والتعزير على مقدار جنايته. وظنّ بعض الناس أن البحر إذا هال على القوم فاضطروا إلى تخفيف السفينة أن القرعة تضرب عليهم فيطرح بعضهم تخفيفا ، وهذا فاسد فلا تخفّف برمي بعض الرجال وإنما ذلك في الأموال وإنما يصبرون على قضاء الله. وكانت في شريعة من قبلنا القرعة جائزة في كل شيء على العموم. وجاءت القرعة في شرعنا على الخصوص في ثلاثة مواطن :

الأول : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه.

الثاني : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رفع إليه أن رجلا أعتق في مرض موته ستة أعبد لا مال له غيرهم فأقرع بين اثنين ـ وهما معادل الثلث ـ وأرقّ أربعة.

الثالث : أن رجلين اختصما إليه في مواريث درست ، فقال : اذهبا وتوخيا الحق واستهما وليحلل كل واحد منكما صاحبه.

واختلف علماؤنا في القرعة بين الزوجات عند الغزو على قولين : الصحيح منهما الاقتراع ، وبه قال أكثر فقهاء الأمصار ، وذلك لأن السفر بجميعهن لا يمكن واختيار واحدة منهن إيثار فلم يبق إلا القرعة.

قال القرافي في «الفرق» (٢٤٠) : متى تعينت المصلحة أو الحق في جهة لا يجوز الاقتراع لأن في القرعة ضياع الحق ومتى تساوت الحقوق أو المصالح فهذا موضع القرعة دفعا للضغائن فهي مشروعة بين الخلفاء إذا استوت فيهم الأهلية للولاية والأئمة والمؤذنين إذ استووا والتقدم للصف الأول عند الازدحام وتغسيل الأموات عند تزاحم الأولياء وتساويهم وبين الحاضنات والزوجات في السفر والقسمة والخصوم عند الحكام في عتق العبيد إذا أوصى بعتقهم في المرض ولم يحملهم الثلث. وقاله الشافعي وابن حنبل. وقال أبو حنيفة : لا تجوز القرعة (بينهم). ويعتق من كل واحد ثلثه ويستسعى في قيمته ووافق في قيمة الأرض. قال : والحق عندي أنها تجري في كل مشكل ا. ه. قلت : وفي «الصحيح» «عن أم العلاء الأنصارية أنه لما اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين وقع في سهمهم عثمان بن مظعون» الحديث. وقال الجصاص : (احتج بهذه الآية بعض الأغمار في إيجاب القرعة في العبيد يعتقهم المريض. وذلك إغفال منه لأن يونس ساهم في طرحه في البحر وذلك لا يجوز عند أحد من الفقهاء كما لا تجوز القرعة في قتل من خرجت

٨٥

عليه وفي أخذ ماله فدلّ على أنه خاص فيه). وقال في سورة آل عمران : «ومن الناس من يحتج بإلقاء الأقلام في كفالة مريم» على جواز القرعة في العبيد يعتقهم الرجل في مرضه ثم يموت ولا مال له غيرهم وليس هذا (أي إلقاء الأقلام) من عتق العبيد في شيء لأن الرضى بكفالة الواحد منهم مريم جائز في مثله ولا يجوز التراضي على استرقاق من حصلت له الحرية ، وقد كان عتق الميّت نافذا في الجميع فلا يجوز نقله بالقرعة عن أحد منهم إلى غيره كما لا يجوز التراضي على نقل الحرية عمن وقعت عليه.

والإدحاض : جعل المرء داحضا ، أي زالقا غير ثابت الرجلين وهو هنا استعارة للخسران والمغلوبية.

والالتقام : البلع. والحوت الذي التقمه : حوت عظيم يبتلع الأشياء ولا يعضّ بأسنانه ويقال : إنه الحوت الذي يسمّى (بالين) بالافرنجية.

والمليم : اسم فاعل من ألام ، إذا فعل ما يلومه عليه الناس لأنه جعلهم لائمين فهو ألأمهم على نفسه.

وكان غرقه في البحر المسمّى بحر الروم وهو الذي نسميه البحر الأبيض المتوسط ، ولم يكن بنهر دجلة كما غلط فيه بعض المفسرين.

و (كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) بقوله : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) كما في سورة الأنبياء [٨٧] ، فأنجاه الله بسبب تسبيحه وتوبته فقذفه الحوت من بطنه إلى البر بعد أن مكث في جوف الحوت ثلاث ليال ، وقيل : يوما وليلة ، وقيل : بضع ساعات.

ومعنى قوله : (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) التأبيد بأن يميت الله الحوت حين ابتلاعه ويبقيهما في قعر البحر ، أو بأن يختطف الحوت في حجر في البحر أو نحوه فلا يطفو على الماء حتى يبعث يونس يوم القيامة من قعر البحر.

[١٤٥ ـ ١٤٦] (فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦))

الفاء فصيحة لأنها تفصح عن كلام مقدر دل عليه قوله : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ) [الصافات : ١٤٣ ، ١٤٤]. فالتقدير : يسبح ربه في بطن الحوت أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجاب الله له ونجاه كما في سورة

٨٦

الأنبياء. والمعنى : فلفظه الحوت وقاءه ، وحمله الموج إلى الشاطئ.

والنبذ : الإلقاء وأسند نبذه إلى الله لأن الله هو الذي سخر الحوت لقذفه من بطنه إلى شاطئ لا شجر فيه. والعراء : الأرض التي لا شجر فيها ولا ما يغطيها.

وكان يونس قد خرج من بطن الحوت سقيما لأن أمعاء الحوت أضرّت بجلده بحركتها حوله فإنه كان قد نزع ثيابه عند ما أريد رميه في البحر ليخف للسباحة ، ولعل الله أصاب الحوت بشبه الإغماء فتعطلت حركة هضمه تعطلا ما فبقي كالخدر لئلا تضر أمعاؤه لحم يونس. وأنبت الله شجرة من يقطين لتظلله وتستره. واليقطين : الدّبّاء وهي كثيرة الورق تتسلق أغصانها في الشيء المرتفع ، فالظاهر أن أغصان اليقطينة تسلقت على جسد يونس فكسته وأضلته. واختير له اليقطين ليمكن له أن يقتات من غلته فيصلح جسده لطفا من ربه به بعد أن أجرى له حادثا لتأديبه ، شأن الرب مع عبيده أن يعقب الشدة باليسر.

وهذا حدث لم يعهد مثيله من الرسل ولأجله قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متّى» ، يريد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفسه إذ لا يحتمل أن يكون أراد أحدا آخر إذ لا يخطر بالبال أن يقوله أحد غير الأنبياء. والمعنى نفي الأخيريّة في وصف النبوءة ، أي لا يظننّ أحد أن فعلة يونس تسلب عنه النبوءة.

فذلك مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تفضّلوا بين الأنبياء» ، أي في أصل النبوءة لا في درجاتها فقد قال الله تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) [البقرة : ٢٥٣] وقال : (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ) النبيئين (عَلى بَعْضٍ) [الإسراء : ٥٥].

واعلم أن الغرض من ذكر يونس هنا تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يلقاه من ثقل الرسالة بأن ذلك قد أثقل الرسل من قبله فظهرت مرتبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صبره على ذلك وعدم تذمّره ولإعلام جميع الناس بأنه مأمور من الله تعالى بمداومة الدعوة للدين لأن المشركين كانوا يلومونه على إلحاحه عليهم ودعوته إياهم في مختلف الأزمان والأحوال ويقولون : لا تغشنا في مجالسنا فمن جاءك فمنّا فاسمعه ، كما قال عبد الله بن أبيّ قال تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ) رسالاته [المائدة : ٦٧] فلذكر قصة يونس أثر من موعظة التحذير من الوقوع فيما وقع فيه يونس من غضب ربه ألا ترى إلى قوله تعالى : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ) [القلم : ٤٨ ، ٤٩].

٨٧

وليعلم الناس أن الله إذا اصطفى أحدا للرسالة لا يرخص له في الفتور عنها ولا ينسخ أمره بذلك لأن الله أعلم حيث يجعل رسالاته.

[١٤٧ ـ ١٤٨] (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (١٤٨))

ظاهر ترتيب ذكر الإرسال بعد الإنجاء من الحوت أنه إعادة لإرساله. وهذا هو مقتضى ما في كتاب يونس من كتب اليهود إذ وقع في الإصحاح الثالث : ثم صار قول الرب إلى يونس ثانية : قم اذهب إلى نينوى وناد لها المناداة التي أنا مكلمك بها.

والمرسل إليهم : اليهود القاطنون في نينوى في أسر الأشوريين كما تقدم. والظاهر أن الرسول إذا بعث إلى قوم مختلطين بغيرهم أن تعم رسالته جميع الخليط لأن في تمييز البعض بالدعوة تقريرا لكفر غيرهم. ولهذا لما بعث الله موسى عليه‌السلام لتخليص بني إسرائيل دعا فرعون وقومه إلى نبذ عبادة الأصنام ، فيحتمل أن المقدرين بمائة ألف هم اليهود وأن المعطوفين بقوله : (أَوْ يَزِيدُونَ) هم بقية سكان (نينوى). وذكر في كتاب يونس أن دعوة يونس لمّا بلغت ملك نينوى قام عن كرسيه وخلع رداءه ولبس مسحا وأمر أهل مدينته بالتوبة والإيمان إلخ. ولم يذكر أن يونس دعا غير أهل نينوى من بلاد أشور مع سعتها.

وروى الترمذي عن أبيّ بن كعب قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قول الله تعالى : (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) قال : «عشرون ألفا». قال الترمذي : حديث غريب.

فحرف (أَوْ) في قوله : (أَوْ يَزِيدُونَ) بمعنى (بل) على قول الكوفيين واختيار الفراء وأبي علي الفارسي وابن جنّي وابن برهان (١). واستشهدوا بقول جرير :

ما ذا ترى في عيال قد برمت بهم

لم أحص عدتهم إلا بعدّاد

كانوا ثمانين أو زادوا ثمانية

لو لا رجاؤك قد قتّلت أولادي

والبصريون لا يجيزون ذلك إلا بشرطين أن يتقدمها نفي أو نهي وأن يعاد العامل ، وتأولوا هذه الآية بأن (أَوْ) للتخيير ، والمعنى إذا رآهم الرائي تخير بين أن يقول : هم

__________________

(١) بفتح الباء الموحدة ممنوعا من الصرف هو سعيد بن المبارك البغدادي ولد سنة ٤٦٩ وتوفي سنة ٥٥٩.

٨٨

مائة ألف ، أو يقول : يزيدون.

ويرجحه أن المعطوف ب (أَوْ) غير مفرد بل هو كلام مبيّن ناسب أن يكون الحرف للإضراب. والفاء في (فَآمَنُوا) للتعقيب العرفي لأن يونس لما أرسل إليهم ودعاهم امتنعوا في أول الأمر فأخبرهم بوعيد بهلاكهم بعد أربعين يوما ثم خافوا فآمنوا كما أشار إليه قوله تعالى : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) [يونس : ٩٨].

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩))

تفريع على ما تقدم من الإنكار على المشركين وإبطال دعاويهم ، وضرب الأمثال لهم بنظرائهم من الأمم ففرع عليه أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإبطال ما نسبه المشركون إلى الله من الولد. فضمير الغيبة من قوله : (فَاسْتَفْتِهِمْ) عائد على غير مذكور يعلم من المقام. مثل نظيره السابق في قوله : (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا) [الصافات : ١١]. والمراد: التهكم عليهم بصورة الاستفتاء إذ يقولون : ولد الله ، على أنهم قسموا قسمة ضيزى حيث جعلوا لله البنات وهم يرغبون في الأبناء الذكور ويكرهون الإناث ، فجعلوا لله ما يكرهون. وقد جاءوا في مقالهم هذا بثلاثة أنواع من الكفر :

أحدها : أنهم أثبتوا التجسيم لله لأن الولادة من أحوال الأجسام.

الثاني : إيثار أنفسهم بالأفضل وجعلهم لله الأقل. قال تعالى : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) [الزخرف : ١٧].

الثالث : أنهم جعلوا للملائكة المقربين وصف الأنوثة وهم يتعيرون بأبي الإناث ، ولذلك كرر الله تعالى هذه الأنواع من كفرهم في كتابة غير مرة.

فجملة (أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ) بيان لجملة (فَاسْتَفْتِهِمْ). وضمير (لِرَبِّكَ) مخاطب به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو حكاية للاستفتاء بالمعنى لأنه إذا استفتاهم يقول : ألربكم البنات ، وكذلك ضمير (وَلَهُمُ) محكي بالمعنى لأنه إنما يقول لهم : ولكم البنون. وهذا التصرف يقع في حكاية القول ونحوه مما فيه معنى القول مثل الاستفتاء.

(أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠))

(أَمْ) منقطعة بمعنى (بل) وهي لا يفارقها معنى الاستفهام ، فالكلام بعدها مقدّر

٨٩

بهمزة الاستفهام ، أي بل أخلقنا الملائكة إناثا. وضمير (خَلَقْنَا) التفات من الغيبة إلى التكلم وهو إذا استفتاهم يقول لهم : أم خلق الملائكة ، كما تقدم ، والاستفهام إنكاري وتعجيبي من جرأتهم وقولهم بلا علم.

وجملة (وَهُمْ شاهِدُونَ) في موضع الحال وهي قيد للإنكار ، أي كانوا حاضرين حين خلقنا الملائكة فشهدوا أنوثة الملائكة لأن هذا لا يثبت لأمثالهم إلا بالمشاهدة إذ لا قبل لهم بعلم ذلك إلا المشاهدة. وبقي أن يكون ذلك بالخبر القاطع فذلك ما سينفيه بقوله : (أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ) [الصافات : ١٥٦] ، وذلك لأن أنوثة الملائكة ليست من المستحيل ولكنه قول بلا دليل.

وضمير : (وَهُمْ شاهِدُونَ) محكي بالمعنى في الاستفتاء. والأصل : وأنتم شاهدون ، كما تقدم آنفا.

[١٥١ ـ ١٥٢] (أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢))

ارتقاء في تجهيلهم بأنهم يقولون المستحيل فضلا على القول بلا دليل فلذلك سماه إفكا. والجملة معترضة بين جمل الاستفتاء.

و (أَلا) حرف تنبيه للاهتمام بالخبر. والإفك : الكذب أي قولهم هذا بعض من أكذوباتهم. ولذلك أعقبه بعطف (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) مؤكدا ب (إن) واللام ، أي شأنهم الكذب في هذا وفي غيره من باطلهم ، فليست الجملة تأكيدا لقوله : (مِنْ إِفْكِهِمْ) كيف وهي معطوفة.

[١٥٣ ـ ١٥٧] (أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧))

عود إلى الاستفتاء ، ولذلك لم تعطف لأن بينها وبين ما قبلها كمال الاتصال ، فالمعنى : وقل لهم : اصطفى البنات.

قرأ الجمهور : (أَصْطَفَى) بهمزة قطع مفتوحة على أنها همزة الاستفهام وأما همزة الوصل التي في الفعل فمحذوفة لأجل الوصل. وقرأه أبو جعفر بهمزة وصل على أن همزة الاستفهام محذوفة.

والكلام ارتقاء في التجهيل ، أي لو سلمنا أن الله اتخذ ولدا فلما ذا اصطفى البنات

٩٠

دون الذكور ، أي اختار لذاته البنات دون البنين والبنون أفضل عندكم؟

وجملة (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) بدل اشتمال من جملة (أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ) فإن إنكار اصطفاء البنات يقتضي عدم الدليل في حكمهم ذلك ، فأبدل (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) من إنكار ادعائهم اصطفاء الله البنات لنفسه. وقوله : (ما لَكُمْ) : (ما) استفهام عن ذات وهي مبتدأ و (لَكُمْ) خبر.

والمعنى : أي شيء حصل لكم؟ وهذا إبهام فلذلك كانت كلمة «ما لك» ونحوها في الاستفهام يجب أن يتلى بجملة حال تبيّن الفعل المستفهم عنه نحو : (ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ) [الصافات : ٩٢] ونحو (ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ) [يوسف : ١١] وقد بينت هنا بما تضمنته جملة استفهام (كَيْفَ تَحْكُمُونَ) فإن (كَيْفَ) اسم استفهام عن الحال وهي في موضع الحال من ضمير (تَحْكُمُونَ) قدمت لأجل صدارة الاستفهام. وجملة (تَحْكُمُونَ) حال من ضمير (لَكُمْ) في قوله تعالى : (ما لَكُمْ) فحصل استفهامان : أحدهما عن الشيء الذي حصل لهم فحكموا هذا الحكم. وثانيهما عن الحالة التي اتصفوا بها لما حكي هذا الحكم الباطل. وهذا إيجاز حذف إذ التقدير : ما لكم تحكمون هذا الحكم ، كيف تحكمونه. وحذف متعلق (تَحْكُمُونَ) لما دل عليه الاستفهامان من كون ما حكموا به منكرا يحق العجب منه فكلا الاستفهامين إنكار وتعجيب.

وفرّع عليه الاستفهام الإنكاري عن عدم تذكرهم ، أي استعمال ذكرهم ـ بضم الذال وهو العقل ـ أي فمنكر عدم تفهمكم فيما يصدر من حكمكم.

و (أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ) إضراب انتقالي ف (أَمْ) منقطعة بمعنى (بل) التي معناها الإضراب الصالح للإضراب الإبطالي والإضراب الانتقالي. والسلطان : الحجة. والمبين:الموضح للحق. والاستفهام الذي تقتضيه (أَمْ) بعدها إنكاري أيضا. فالمعنى : ما لكم سلطان مبين ، أي على ما قلتم : إن الملائكة بنات الله.

وتفرع على إنكار أن تكون لهم حجة بما قالوا أن خوطبوا بالإتيان بكتاب من عند الله على ذلك إن كانوا صادقين فيما زعموا ، أي فإن لم تأتوا بكتاب على ذلك فأنتم غير صادقين. والأمر في قوله : (فَأْتُوا) أمر تعجيز مثل قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣].

وإضافة الكتاب إليهم على معنى المفعولية ، أي كتاب مرسل إليكم. ومجادلتهم بهذه

٩١

الجمل المتفننة رتبت على قانون المناظرة ؛ فابتدأهم بما يشبه الاستفسار عن دعويين : دعوى أن الملائكة بنات الله ، ودعوى أن الملائكة إناث بقوله : (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً) [الصافات : ١٤٩ ، ١٥٠].

ثم لما كان تفسيرهم لذلك معلوما من متكرر أقوالهم نزّلوا منزلة المجيب بأن الملائكة بنات الله وأن الملائكة إناث. وإنما أريد من استفسارهم صورة الاستفسار مضايقة لهم ولينتقل من مقام الاستفسار إلى مقام المطالبة بالدليل على دعواهم ، فذلك الانتقال ابتداء من قوله : (وَهُمْ شاهِدُونَ) [الصافات : ١٥٠] وهو اسم فاعل من شهد إذا حضر ورأى ، ثم قوله : (أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ* فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فرددهم بين أن يكونوا قد استندوا إلى دليل المشاهدة أو إلى دليل غيره وهو هنا متعين لأن يكون خبرا مقطوعا بصدقه ولا سبيل إلى ذلك إلّا من عند الله تعالى ، لأن مثل هذه الدعوى لا سبيل إلى إثباتها غير ذلك ، فدليل المشاهدة منتف بالضرورة ، ودليل العقل والنظر منتف أيضا إذ لا دليل من العقل يدل على أن الملائكة إناث ولا على أنهم ذكور.

فلما علم أن دليل العقل غير مفروض هنا انحصر الكلام معهم في دليل السمع وهو الخبر الصادق لأن أسباب العلم للخلق منحصرة في هذه الأدلة الثلاثة : أشير إلى دليل الحس بقوله : (وَهُمْ شاهِدُونَ) ، وإلى دليلي العقل والسمع بقوله : (أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ) ، ثم فرع عليه قوله : (فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) وهو دليل السمع. فأسقط بهذا التفريع احتمال دليل العقل لأن انتفاءه مقطوع إذ لا طريق إليه وانحصر دليل السمع في أنه من عند الله كما علمت إذ لا يعلم ما في غيب الله غيره.

ثم خوطبوا بأمر التعجيز بأن يأتوا بكتاب أي بكتاب جاءهم من عند الله. وإنما عيّن لهم ذلك لأنهم يعتقدون استحالة مجيء رسول من عند الله واستحالة أن يكلم الله أحدا من خلقه ، فانحصر الدليل المفروض من جانب السمع أن يكون إخبارا من الله في أن ينزّل عليهم كتاب من السماء لأنهم كانوا يجوّزون ذلك لقولهم : (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) [الإسراء : ٩٣] ، ولن يستطيعوا أن يأتوا بكتاب.

فذكر لفظ «كتابكم» إظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال : فأتوا به ، أي السلطان المبين فإنه لا يحتمل إلا أن يكون كتابا من عند الله. وإضافة كتاب إلى ضميرهم من إضافة ما فيه معنى المصدر إلى معنى المفعول على طريقة الحذف والإيصال ، والتقدير : بكتاب إليكم ، لأن ما فيه مادة الكتابة لا يتعدّى إلى المكتوب إليه بنفسه بل

٩٢

بواسطة حرف الجر وهو (إلى).

فلا جرم قد اتضح إفحامهم بهذه المجادلة الجارية على القوانين العقلية ولذلك صاروا كالمعترفين بأن لا دليل لهم على ما زعموه فانتقل السائل المستفتي من مقام الاعتراض في المناظرة إلى انقلابه مستدلا باستنتاج من إفحامهم وذلك هو قوله : (أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ* وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [الصافات : ١٥١ ، ١٥٢] الواقع معترضا بين الترديد في الدليل.

وأما قوله : (أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ) فذلك بمنزلة التسليم في أثناء المناظرة كما علمت عند الكلام عليه ، وهذا يسمى المعارضة. وإنما أقحم في أثناء الاستدلال عليهم ولم يجعل مع حكاية دعواهم ليكون آخر الجدل معهم هو الدليل الذي يجرف جميع ما بنوه وهو قوله : (أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ* فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ). فهذا من بديع النسيج الجامع بين أسلوب المناظرة وأسلوب الموعظة وأسلوب التعليم.

وقرأ الجمهور (تَذَكَّرُونَ) بتشديد الذال على أن أصله تتذكرون فأدغمت إحدى التاءين في الذال بعد قلبها ذالا لقرب مخرجيهما. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف بتخفيف الذال على أن إحدى التاءين حذفت تخفيفا.

(وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨))

عطف على جملة (لَيَقُولُونَ) [الصافات : ١٥١] أي شفّعوا قولهم : (وَلَدَ اللهُ) [الصافات : ١٥٢] ، فجعلوا بين الله وبين الجنّ نسبا بتلك الولادة ، أي بينوا كيف حصلت تلك الولادة بأن جعلوها بين الله تعالى وبين الجنة نسبا.

و (الْجِنَّةِ) : الجماعة من الجن ، فتأنيث اللفظ بتأويل الجماعة مثل تأنيث رجلة ، الطائفة من الرجال ، ذلك لأن المشركين زعموا أن الملائكة بنات الله من سروات الجن ، أي من فريق نساء من الجن من أشراف الجن ، وتقدم في قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) في سورة الأعراف [١٨٤].

والنسب : القرابة العمودية أو الأفقية ـ أي من الأطراف ـ والكلام على حذف مضاف ، أي ذوي نسب لله تعالى وهو نسب النبوءة لزعمهم أن الملائكة بنات الله تعالى ، أي جعلوا لله تعالى نسبا للجنّة وللجنة نسبا لله. وقوله : (بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ) يجوز أن يكون

٩٣

حالا من (نَسَباً) أي كائنا بينه وبين الجنة ، أي أن نسبه تعالى ، أي نسله سبحانه ناشئ من بينه وبين الجن. ويجوز أن يكون متعلقا ب (جَعَلُوا) ، أي جعلوا في الاقتران بينه وبين الجن نسبا له ، أي جعلوا من ذلك نسبا يتولد له ، فقوله : (بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) هو كقولك : بين فلان وفلانة بنون ، أي له منها ولها منه بنون ، وهذا المعنى هو مراد من فسره بأن جعلوا الجن أصهارا لله تعالى ، فتفسيره النسب بالمصاهرة تفسير بالمعنى وليس المراد أن النسب يطلق على المصاهرة كما توهمه كثير ، لأن هذا الإطلاق غير موجود في دواوين اللغة فلا تغترر به. ولعدم الغوص في معنى الآية ذهب من ذهب إلى أن المراد بالجنة الملائكة ، أي جعلوا بين الله وبين الملائكة نسب الأبوّة والبنوّة ، وهذا تفسير فاسد لأنه يصير قوله : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) إعادة لما تقدم من قوله : (أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ* وَلَدَ اللهُ) [الصافات : ١٥١ ، ١٥٢] ومن قوله : (أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ) [الصافات : ١٥٠].

ومن ذهب إلى أن المراد من (الْجِنَّةِ) أصل الجنّة وهو الشيطان وأن معنى الآية : أنهم جعلوا الله نسيبا للشيطان نسب الأخوة ، تعالى الله عن ذلك. على أنه إشارة إلى قول الثّنوية من المجوس بوجود إله للخير هو الله ، وإله للشر هو الشيطان وهم من ملل مجوس فارس وسموا إله الخير (يزدان) وإله الشر (أهرمن) وقالوا : كان إله الخير وحده فخطر له خاطر في نفسه من الشر فنشأ منه إله الشر هو (أهرمن) وهو ما نعاه المعري عليهم بقوله :

قال أناس باطل زعمهم

فراقبوا الله ولا تزعمن

فكّر (يزدان) على غرة

فصيغ من تفكيره (أهرمن)

وهذا الدين كان معروفا عند بعض العرب في الجاهلية من عرب العراق المجاورين لبلاد فارس والخاضعين لسلطانهم ولم يكن معروفا بين أهل مكة المخاطبين بهذه الآيات ، ولأن الجنّة لا يشمل الشياطين إذا أطلق فإن الشيطان كان من الجن إلا أنه تميز به صنف خاص منهم.

وجملة (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) معترضة بين جملة (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) وبين جملة (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) [الصافات : ١٥٩] و (جَعَلُوا بَيْنَهُ) إلخ ... حال والواو حالية ، وضمير (إِنَّهُمْ) عائد إلى المشركين أو إلى الجنة ، والوجهان مرادان فإن الفريقين معاقبان. والمحضرون : المجلوبون للحضور ، والمراد : محضرون للعقاب ، بقرينة مقام التوبيخ فإن التوبيخ يتبعه التهديد ، والغالب في فعل الإحضار أن يراد به إحضار

٩٤

سوء قال تعالى : (وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) [الصافات : ٥٧] ولذلك حذف متعلّق «محضرون» ، فأما الإتيان بأحد لإكرامه فيطلق عليه المجيء. والمعنى : أن الجن تعلم كذب المشركين في ذلك كذبا فاحشا يجازون عليه بالإحضار للعذاب ، فجعل «محضرون» كناية عن كذبهم لأنهم لو كانوا صادقين ما عذبوا على قولهم ذلك. وظاهره أن هذا العلم حاصل للجن فيما مضى ، ولعل ذلك حصل لهم من زمان تمكنهم من استراق السمع. ويجوز أن يكون من استعمال الماضي في موضع المستقبل لتحقيق وقوعه مثل (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١] ، أي ستعلم الجنة ذلك يوم القيامة. والمقصود : أنهم يتحققون ذلك ولا يستطيعون دفع العذاب عنهم فقد كانوا يعبدون الجن لاعتقاد وجاهتهم عند الله بالصهر الذي لهم.

(سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩))

أتبعت حكاية قولهم الباطل والوعيد عليه باعتراض بين المستثنى منه والمستثنى يتضمن إنشاء تنزيه الله تعالى عما نسبوه إليه ، فهو إنشاء من جانب الله تعالى لتنزيهه ، وتلقين للمؤمنين بأن يقتدوا بالله في ذلك التنزيه ، وتعجيب من فظيع ما نسبوه إليه.

(إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠))

اعتراض بين جملة (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) [الصافات : ١٥٩] وجملة (فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ) [الصافات : ١٦١] الآية ، والاستثناء منقطع ، قيل نشأ عن قولهم : (إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) [الصافات : ١٥٨] والمعنى لكن عباد الله المخلصين لا يحضرون ، وقيل نشأ عن قوله : (عَمَّا يَصِفُونَ) [الصافات : ١٥٩] أي لكن عباد الله المخلصين لا يصفونه بذلك ، وقيل من ضمير (وَجَعَلُوا) [الصافات : ١٥٨] أي لكن عباد الله المخلصين لا يجعلون ذلك. وهو من معنى القول الثاني ، فالمراد بالعباد المخلصين المؤمنون.

والوجه عندي : أن يكون استثناء منقطعا نشأ عن قوله : (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) [الصافات : ١٥٩] فهو مرتبط به لأن «ما يصفون» أفاد أنهم يصفون الله بأن الملائكة بناته كما دل عليه قوله : (أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ) [الصافات : ١٤٩]. والمعنى: لكن الملائكة عباد الله المخلصين ، فالمراد من (عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) الملائكة فهذه الآية في معنى قوله : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) [الأنبياء : ٢٦].

٩٥

[١٦١ ـ ١٦٣] (فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣))

عقب قولهم في الملائكة والجن بهذا لأن قولهم ذلك دعاهم إلى عبادة الجن وعبادة الأصنام التي سوّلها لهم الشيطان وحرّضهم عليها الكهان خدمة الجنّ فعقب ذلك بتأييس المشركين من إدخال الفتنة على المؤمنين في إيمانهم بما يحاولون منهم من الرجوع إلى الشرك ، أو هي فاء فصيحة ، والتقدير : إذا علمتم أن عباد الله المخلصين منزّهون عن مثل قولكم ، فإنكم لا تفتنون إلا من هو صالي الجحيم.

فيجوز أن يكون هذا الكلام داخلا في حيز الاستفتاء من قوله : (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ) [الصافات : ١٤٩] الآية. ويجوز أن يكون تفريعا على قوله : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) [الصافات : ١٥٨] الآية. والواو في قوله : (وَما تَعْبُدُونَ) واو العطف أو واو المعية وما بعدها مفعول معه والخبر هو (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ). وضمير (أَنْتُمْ) خطاب للمشركين مثل ضمير «إنكم».

والمعنى : أنكم مصطحبين بالجن الذين تعبدونهم لا تفتنون أحدا. ووجه ذكر المفعول معه أنهم كانوا يموهون للناس أن الجن تنفع وتضر وأن الأصنام كذلك وكانوا يخوّفون الناس من بأسها وانتقامها كما قالت امرأة الطفيل بن عمرو الدوسي لما أسلم ودعاها إلى الإسلام «ألا تخشى على الصبية من ذي الشّرى؟ قال : لا» فأسلمت وكانوا يزعمون أن من يسبّ الأصنام يصيبه البرص أو الجذام.

قال ابن إسحاق : لما قدم ضمام بن ثعلبة وافد بني سعد بن بكر على قومه من عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في قوله : باست اللات والعزى. فقالوا : يا ضمام اتق الجذام اتق الجنون. ولا يستقيم أن تكون الواو عاطفة لأن الأصنام لا يسند إليها الإفتان.

وجوّز في «الكشاف» أن يكون قوله : (وَما تَعْبُدُونَ) مفعولا معه سادّا مسدّ خبر (إن) ، والمعنى : فإنكم مع ما تعبدون ، أي فإنكم قرناء لآلهتكم لا تبرحون تعبدونها ، وهذا كما يقولون «كل رجل وضيعته» أي مع ضيعته ، أي مقارن لها.

و (ما تَعْبُدُونَ) صادق على الجن لقوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) [الأنعام : ١٠٠] لأن الجن تصدر منهم فتنة الناس بالإشراك دون الأصنام إذ لا يتصور ذلك منها قال تعالى : ويوم نحشرهم (وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ)

٩٦

[الفرقان : ١٧] الآية.

وضمير (عَلَيْهِ) يجوز أن يكون عائدا إلى اسم الجلالة في قوله : (لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللهُ) [الصافات : ١٥١ ، ١٥٢] أو في قوله : (إِلَّا عِبادَ اللهِ) [الصافات : ١٦٠] ، ويجوز أن يعود إلى (ما تَعْبُدُونَ) بمراعاة إفراد اسم الموصول وهو (ما).

وحذف مفعول «فاتنين» لقصد العموم. والتقدير : بفاتنين أحدا ، ومعياره صحةالاستثناء في قوله : (إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) فالاستثناء مفرغ والمستثنى مفعول (بِفاتِنِينَ). وحرف (على) يتعلق ب «فاتنين» إمّا لتضمين «فاتنين» معنى مفسدين إن كان الضمير المجرور بها عائدا إلى اسم الجلالة كما يقال : فسد العبد على سيّده وخلّق فلان المرأة على زوجها ، وتكون (على) للاستعلاء المجازي لأن تضمين مفسدين فيه معنى الغلبة. وإما لتضمينه معنى حاملين ومسئولين ويكون (على) بمعنى لام التعليل كقوله : (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) [البقرة : ١٨٥] ويكون تقدير مضاف بين (على) ومجرورها تقديره : على عبادة ما تعبدون ، والمعنى : أنكم والشياطين لا يتبعكم أحد في دينكم إلا من عرض نفسه ليكون صالي الجحيم ، وهذا في معنى قوله تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) [الحجر : ٤٢ ، ٤٣].

ورسم في المصحف (صالِ الْجَحِيمِ) بدون ياء بعد اللام اعتبارا بحالة الوصل فإن الياء لا ينطق بها فرسمه كاتب المصحف بمثل حالة النطق ، ولذلك ينبغي أن لا يوقف على (صالِ).

[١٦٤ ـ ١٦٦] (وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦))

فيجوز أن يكون عطفا على قوله : (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ)[الصافات : ١٦٠] على أول الوجهين في المعنيّ بعباد الله المخلصين فيكون عطفا على معنى الاستثناء المنقطع لأن معناه أنهم ليسوا أولاد الله تعالى ، وعطف عليه أنهم يتبرءون من ذلك فالواو عاطفة قولا محذوفا يدل عليه أن ما بعد الواو لا يصلح إلا أن يكون كلام قائل. والتقدير : ويقولون ما منّا إلا له مقام معلوم وإنا لنحن الصّافون وإنّا لنحن المسبّحون ، وهذا الوجه أوفق بالصفات المذكورة من قوله : (إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) وقوله : (الصَّافُّونَ الْمُسَبِّحُونَ) : الشائع وصف الملائكة بأمثالها في القرآن كما تقدم في أول السورة وصفهم بالصّافّات ،

٩٧

ووصفهم بالتسبيح كثير كقوله : (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) [الشورى : ٥] ، وذكر مقاماتهم في قوله تعالى : (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) [التكوير : ٢٠ ، ٢١] وقوله : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى)[النجم : ١٣ ، ١٤].

وفي أحاديث كثيرة مثلا حديث الإسراء أن جبريل وجد في كل سماء ملكا يستأذنه جبريل أن يدخل تلك السماء ويسأله الملك : من أنت؟ ومن معك؟ وهل أرسل إليه؟ فإذا قال : نعم ، فتح له. وعن مقاتل أن قوله : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) إلى (الْمُسَبِّحُونَ) نزل ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند سدرة المنتهى فتأخّر جبريل فقال له النبي : أهنا تفارقني فقال : لا أستطيع أن أتقدم عن مكاني وأنزل الله حكاية عن قول الملائكة (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) الآيتين.

ويجوز أن يكون هذا مما أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقوله للمشركين عطفا على التفريع الذي في قوله : (فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ) [الصافات : ١٦١] إلى آخره ويتصل الكلام بقوله : (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ) [الصافات : ١٤٩] إلى هنا. والمعنى : ما أنتم بفاتنينا فتنة جراءة على ربنا فنقول مثل قولكم : الملائكة بنات الله والجن أصهار الله فما منا إلّا له مقام معلوم لا يتجاوزه وهو مقام المخلوقيّة لله والعبودية له.

والمنفي ب (ما) محذوف دل عليه وصفه بقوله : (مِنَّا). والتقدير : وما أحد منا كما في قول سحيم بن وثيل :

أنا ابن جلا وطلاع الثنايا

متى أضع العمامة تعرفوني

التقدير : ابن رجل جلا. والخبر هو قوله : (إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ). والتقدير : ما أحد منا إلا كائن له مقام معلوم.

والمقام : أصله مكان القيام. ولما كان القيام يكون في الغالب لأجل العمل كثر إطلاق المقام على العمل الذي يقوم به المرء كما حكي في قول نوح : (إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي) [يونس : ٧١] أي عملي.

والمعلوم : المعيّن المضبوط ، وأطلق عليه وصف (مَعْلُومٌ) لأن الشيء المعيّن المضبوط لا يشتبه على المتبصر فيه فمن تأمّله علمه. والمعنى : ما من أحد منا معشر المؤمنين إلا له صفة وعمل نحو خالقه لا يستزله عنه شيء ولا تروج عليه فيه الوساوس فلا تطمعوا أن تزلونا عن عبادة ربنا. فالمقام هو صفة العبودية لله بقرينة وقوع هذه الجملة

٩٨

عقب قوله : (فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ* ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ) [الصافات : ١٦١ ، ١٦٢] ، أي ما أنتم بفاتنين لنا فلا يلتبس علينا فضل الملائكة فنرفعه إلى مقام البنوّة لله تعالى ولا نشبّه اعتقادكم في تصرف الجن أن تبلغوا بهم مقام المصاهرة لله تعالى والمداناة لجلاله كقوله : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ) [الأنعام : ١٠٠].

فقوله : (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ* وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) أي وإنا معشر المسلمين ، الصافون أي الواقفون لعبادة الله صفوفا بالصلاة. ووصف وقوفهم في الصلاة بالصف تشبها بنظام الملائكة. قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث مسلم : «جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة» ، والمراد بالمسبحين المنزّهون لله تعالى عن أن يتخذ ولدا أو يكون خلق صهرا له أو صاحبة خلافا لشرككم إذ عبادتكم مكاء وتصدية وخلافا لكفركم إذ تجعلون له صواحب وبنات وأصهارا. وحذف متعلق (الصَّافُّونَ) ... (الْمُسَبِّحُونَ) لدلالة قوله (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ) [الصافات : ١٦٢] عليه ، أي الصافّون لعبادته المسبّحون له ، فإن الكلام في هذه الآيات كلها متعلق بشئون الله تعالى. وتعريف جزأي الجملة ، وضمير الفصل من قوله : (لَنَحْنُ) يفيدان قصرا مؤكدا فهو قصر قلب ، أي دون ما وصفتموه به من البنوّة لله.

[١٦٧ ـ ١٧٠] (وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠))

انتقال من ذكر كفر المشركين بتعدد الإله وبإنكار البعث وما وصفوا به الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم من السحر والجنون ثم بما نسبوا لله مما لا يليق بإلهيته وما تخلل ذلك من المواعظ والوعيد لهم والوعد للمؤمنين والعبرة بمصارع المكذبين السابقين وما لقيه رسل الله من أقوامهم.

فانتقال الكلام إلى ذكر ما كفر به المشركون من تكذيب القرآن الذي أنزله الله هدى لهم ، فالمقصود من هذا هو قوله : (فَكَفَرُوا بِهِ) أي الذكر ، وإنما قدم له في نظم الكلام ما فيه تسجيل عليهم تهافتهم في القول إذ كانوا قبل أن يأتيهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالكتاب المبين يودّون أن يشرفهم الله بكتاب لهم كما شرف الأولين ويرجون لو كان ذلك أن يكونوا عبادا لله مخلصين له فلما جاءهم ما رغبوا فيه كفروا به وذلك أفظع الكفر لأنه كفر بما كانوا على بصيرة من أمره إذ كانوا يتمنّونه لأنفسهم ويغبطون الأمم التي أنزل عليهم مثله فلم يكن كفرهم عن مباغتة ولا عن قلة تمكن من النظر.

٩٩

وتأكيد الخبر ب (إِنْ) المخففة من الثقيلة وبلام الابتداء الفارقة بين المخففة والنافية للتسجيل عليهم بتحقيق وقوع ذلك منهم ليسدّ عليهم باب الإنكار. وإقحام فعل (كانُوا) للدلالة على أن خبر (كان) ثابت لهم في الماضي. والتعبير بالمضارع في «يقولو» لإفادة أن ذلك تكرر منهم.

و (لَوْ) شرطية وسدّت (أَنَ) وصلتها مسدّ فعل الشرط وهو كثير في الكلام.

والذكر : الكتاب المقروء ، سمي ذكرا لأنه يذكر الناس بما يجب عليهم مسمّى بالمصدر. وتقدم عند قوله تعالى : (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) في سورة الحجر [٦].

و (مِنَ الْأَوَّلِينَ) صفة ل (ذِكْراً) ، والمراد ب (الْأَوَّلِينَ) الرسل السابقون ، و (مِنَ) ابتدائية ، أي ذكرا جائيا من الرسل الأولين ، أي مثل موسى وعيسى. ومرادهم بهذا أن الرسل الأولين لم يكونوا مرسلين إليهم ولا بلغوا إليهم كتابهم ولو كانوا مرسلين إليهم لآمنوا بهم فكانوا عباد الله المخلصين ، فذكر في جواب (لَوْ) ما هو أخص من الإيمان ليفيد معنى الإيمان بدلالة الفحوى.

وفي جملة (لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) صيغة قصر من أجل كون المسند إليه معرفة بالإضمار والمسند معرفة بالإضافة ، أي لكنا عباد الله دون غيرنا ، ولما وصف المسند ب (الْمُخْلَصِينَ) وهو معرّف بلام الجنس حصل قصر عباد الله الذين لهم صفة الإخلاص في المسند إليه ، وهذا قصر ادعائي للمبالغة في ثبوت صفة الإخلاص لهم حتى كانوا شبيهين بالمنفردين بالإخلاص لعدم الاعتداد بإخلاص غيرهم في جانب إخلاصهم. وهو يؤول إلى معنى تفضيل أنفسهم في الإخلاص لله حينئذ ، كما صرح به في قوله تعالى : (أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) [الأنعام : ١٥٧].

والفاء في قوله : (فَكَفَرُوا بِهِ) للتعقيب على فعل (لَيَقُولُونَ) ، أي استمرّ قولهم حتى كان آخره أن جاءهم الكتاب فكفروا به ، أو للفصيحة ، والتقدير : فكان عندهم ذكر فكفروا به ، فالضمير عائد إلى الذكر وهو القرآن قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) [فصلت : ٤١]. وهذا معنى قوله تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً) [فاطر : ٤٢].

وبهذا كان للوعيد بقوله : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) موقعه المصادف المجزّ من الكلام ،

١٠٠