تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٣

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٣

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٠٥

ومما سبق من الشريعة التي أوحي إليه العمل بها. وخليفة عن موسى عليه‌السلام وعن أحبار بني إسرائيل الأولين المدعوين بالقضاة ، أو خليفة عمن تقدمه في الملك وهو شاول.

و (الْأَرْضِ) : أرض مملكته المعهودة ، أي جعلناك خليفة في أرض إسرائيل. ويجوز أن يجعل الأرض مرادا به جميع الأرض فإن داود كان في زمنه أعظم ملوك الأرض فهو متصرف في مملكته ويخاف بأسه ملوك الأرض فهو خليفة الله في الأرض إذ لا ينفلت شيء من قبضته ، وهذا قريب من الخلافة في قوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ) [يونس : ١٤] وقوله : (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) [النمل : ٦٢].

وهذا المعنى خلاف معنى قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠] فإن الأرض هنالك هي هذه الكرة الأرضية. قال ابن عطية : ولا يقال خليفة الله إلا لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأما الخلفاء فكل واحد منهم خليفة الذي قبله ، ألا ترى أن الصحابة رضي‌الله‌عنهم حرّروا هذا المعنى فقالوا لأبي بكر رضي‌الله‌عنه : يا خليفة رسول الله ، وبهذا كان يدعى بذلك مدة حياته ، فلما ولي عمر قالوا : يا خليفة خليفة رسول الله فطال ورأوا أنه سيطول أكثر في المستقبل إذا ولي خليفة بعد عمر فدعوا عمر أمير المؤمنين ، وقصر هذا على الخلفاء ، وما يجيء في الشعر من دعاء أحد الخلفاء خليفة الله فذلك تجوّز كما قال ابن قيس الرقيات :

خليفة الله في بريته

جفّت بذاك الأقلام والكتب

وفرع على جعله خليفة أمره بأن يحكم بين الناس بالحق للدلالة على أن ذلك واجبه وأنه أحق الناس بالحكم بالعدل ، ذلك لأنه هو المرجع للمظلومين والذي ترفع إليه مظالم الظلمة من الولاة فإذا كان عادلا خشيه الولاة والأمراء لأنه ألف العدل وكره الظلم فلا يقر ما يجري منه في رعيته كلما بلغه فيكون الناس في حذر من أن يصدر عنهم ما عسى أن يرفع إلى الخليفة فيقتص من الظالم ، وأمّا إن كان الخليفة يظلم في حكمه فإنه يألف الظلم فلا يغضبه إذا رفعت إليه مظلمة شخص ولا يحرص على إنصاف المظلوم.

وفي «الكشاف» : أن بعض خلفاء بني أمية قال لعمر بن عبد العزيز أو للزهري : هل سمعت ما بلغنا؟ قال : وما هو؟ قال : بلغنا أن الخليفة لا يجري عليه القلم ولا تكتب له معصية ، فقال : يا أمير المؤمنين ، الخلفاء أفضل أم الأنبياء ، ثم تلا هذه الآية. والمراد ب (النَّاسِ) ناس مملكته فالتعريف للعهد أو هو للاستغراق العرفي.

١٤١

والحق : هو ما يقتضيه العدل الشرعي من معاملة الناس بعضهم بعضا وتصرفاتهم في خاصّتهم وعامّتهم ويتعين الحق بتعيين الشريعة. والباء في (بِالْحَقِ) باء المجازية ، جعل الحق كالآلة التي يعمل بها العامل في قولك : قطعه بالسكين ، وضربه بالعصا.

وقوله : (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) معطوف على التفريع ، ولعله المقصود من التفريع. وإنما

تقدم عليه أمره بالحكم بالحق ليكون توطئة للنهي عن اتباع الهوى سدّا لذريعة الوقوع في خطأ الحق فإن داود ممن حكم بالحق فأمره به باعتبار المستقبل. والتعريف في (الْهَوى) تعريف الجنس المفيد للاستغراق ، فالنهي يعمّ كل ما هو هوى ، سواء كان هوى المخاطب أو هوى غيره مثل هوى زوجه وولده وسيده ، وصديقه ، أو هوى الجمهور : (قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [الأعراف : ١٣٨].

ومعنى الهوى : المحبة ، وأطلق على الشيء المحبوب مبالغة ، أي ولو كان هوى شديدا تعلق النفس به. والهوى : كناية عن الباطل والجور والظلم لما هو متعارف من الملازمة بين هذه الأمور وبين هوى النفوس ، فإن العدل والإنصاف ثقيل على النفوس فلا تهواه غالبا ، ومن صارت له محبة الحق سجية فقد أوتي العلم والحكمة وأيّد بالحفظ أو العصمة.

والنهي عن اتباع الهوى تحذير له وإيقاظ ليحذّر من جراء الهوى ويتّهم هوى نفسه ويتعقبه فلا ينقاد إليه فيما يدعوه إليه إلا بعد التأمل والتثبت ، وقد قال سهل بن حنيف رضي‌الله‌عنه : «اتهموا الرّأي» ، ذلك أن هوى النفس يكون في الأمور السهلة عليها الرائقة عندها ومعظم الكمالات صعبة على النفس لأنها ترجع إلى تهذيب النفس والارتقاء بها عن حضيض الحيوانية إلى أوج الملكية ، ففي جميعها أو معظمها صرف للنفس عما لاصقها من الرغائب الجسمانية الراجع أكثرها إلى طبع الحيوانية لأنها إما مدعوة لداعي الشهوة أو داعي الغضب فالاسترسال في اتباعها وقوع في الرذائل في الغالب ، ولهذا جعل هنا الضلال عن سبيل الله مسببا على اتباع الهوى ، وهو تسبب أغلبي عرفي ، فشبه الهوى بسائر في طريق مهلكة على طريقة المكنية ورمز إليه بلازم ذلك وهو الإضلال عن طريق الرشاد المعبر عنه بسبيل الله ، فإن الذي يتبع سائرا غير عارف بطريق المنازل النافعة لا يلبث أن يجد نفسه وإياه في مهلكة أو مقطعة طريق.

واتّباع الهوى قد يكون اختيارا ، وقد يكون كرها. والنهي عن اتباعه يقتضي النهي عن جميع أنواعه ؛ فأما الاتّباع الاختياري فالحذر منه ظاهر ، وأما الاتباع الاضطراري

١٤٢

فالتخلص منه بالانسحاب عما جرّه إلى الإكراه ، ولذلك اشترط العلماء في الخليفة شروطا كلّها تحوم حول الحيلولة بينه وبين اتباع الهوى وما يوازيه من الوقوع في الباطل ، وهي : التكليف ، والحرّية ، والعدالة ، والذكورة ، وأما شرط كونه من قريش عند الجمهور فلئلا يضعف أمام القبائل بغضاضة.

وانتصب (فَيُضِلَّكَ) بعد فاء السببية في جواب النهي. ومعنى جواب النهي جواب المنهي عنه فهو السبب في الضلال وليس النهي سببا في الضلال. وهذا بخلاف طريقة الجزم في جواب النهي.

و (سَبِيلِ اللهِ) : الأعمال التي تحصل منها مرضاته وهي الأعمال التي أمر الله بها ووعد بالجزاء عليها ، شبّهت بالطريق الموصل إلى الله ، أي إلى مرضاته. وجملة : (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) إلى آخرها يظهر أنها مما خاطب الله به داود ، وهي عند أصحاب العدد آية واحدة من قوله : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) إلى (يَوْمَ الْحِسابِ) ، فهي في موقع العلة للنهي ، فكانت (إنّ) مغنية عن فاء التسبب والترتب ، فالشيء الذي يفضي إلى العذاب الشديد خليق بأن ينهى عنه ، وإن كانت الجملة كلاما منفصلا عن خطاب داود كانت معترضة ومستأنفة استئنافا بيانيا لبيان خطر الضلال عن سبيل الله.

والعموم الذي في قوله (الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) يكسب الجملة وصف التذييل أيضا وكلا الاعتبارين موجب لعدم عطفها. وجيء بالموصول للإيماء إلى أن الصلة علة لاستحقاق العذاب. واللام في (لَهُمْ عَذابٌ) للاختصاص ، والباء في (بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) سببية.

و (ما) مصدرية ، أي بسبب نسيانهم يوم الحساب ، وتتعلق الباء بالاستقرار الذي ناب عنه المجرور في قوله : (لَهُمْ عَذابٌ).

والنسيان : مستعار للإعراض الشديد لأنه يشبه نسيان المعرض عنه كما في قوله تعالى: (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) [التوبة : ٦٧] ، وهو مراتب أشدها إنكار البعث والجزاء ، قال تعالى : (فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ) [السجدة : ١٤]. ودونه مراتب كثيرة تكون على وفق مراتب العذاب لأنه إذا كان السبب ذا مراتب كانت المسببات تبعا لذلك.

والمراد ب (يَوْمَ الْحِسابِ) ما يقع فيه من الجزاء على الخير والشر ، فهو في المعنى على تقدير مضاف ، أي جزاء يوم الحساب على حدّ قوله تعالى : (وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ)

١٤٣

[الكهف : ٥٧] ، أي لم يفكر في عاقبة ما يقدمه من الأعمال. وفي جعل الضلال عن سبيل الله ونسيان يوم الحساب سببين لاستحقاق العذاب الشديد تنبيه على تلازمهما فإن الضلال عن سبيل الله يفضي إلى الإعراض عن مراقبة الجزاء. وترجمة داود تقدمت عند قوله تعالى : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ) في الأنعام [٨٤] وقوله : (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) في النساء [١٦٣].

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧))

لما جرى في خطاب داود ذكر نسيان يوم الحساب وكان أقصى غايات ذلك النسيان جحود وقوعه لأنه يفضي إلى عدم مراعاته ومراقبته أبدا اعترض بين القصتين بثلاث آيات لبيان حكمة الله تعالى في جعل الجزاء ويومه احتجاجا على منكريه من المشركين.

والباطل : ضد الحق ، فكل ما كان غير حقّ فهو الباطل ، ولذلك قال تعالى في الآية الأخرى : (ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ) [الدخان : ٣٩].

والمراد بالحقّ المأخوذ من نفي الباطل هنا ، هو أن تلك المخلوقات خلقت على حالة لا تخرج عن الحق ؛ إمّا حالا كخلق الملائكة والرسل والصالحين ، وإمّا في المآل كخلق الشياطين والمفسدين لأن إقامة الجزاء عليهم من بعد استدراك لمقتضى الحق.

وقد بنيت هذه الحجة على الاستدلال بأحوال المشاهدات وهي أحوال السماوات والأرض وما بينهما ، والمشركون يعلمون أن الله هو خالق السماوات والأرض وما بينهما ، فأقيم الدليل على أساس مقدمة لا نزاع فيها ، وهي أن الله خلق ذلك وأنهم إذا تأملوا أدنى تأمل وجدوا من نظام هذه العوالم دلالة تحصل بأدنى نظر على أنه نظام على غاية الإحكام إحكاما مطردا ، وهو ما نبههم الله إليه بقوله : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً).

ومصب النفي الحال وهو قوله : (باطِلاً) فهو عام لوقوعه في سياق النفي ، وبعد النظر يعلم الناظر أن خالقها حكيم عادل وأن تصرفات الفاعل يستدل بالظاهر منها على الخفي ، فكان حقا على الذين اعتادوا بتحكيم المشاهدات وعدم تجاوزها أن ينظروا بقياس من خفي عنهم على ما هو مشاهد لهم ، فلما استقرّ أن نظام السماء والأرض وما بينهما كان جاريا على مقتضى الحكمة وكامل النظام ، فعليهم أن يتدبّروا فيما خفي عنهم من

١٤٤

وقوع البعث والجزاء فإن جميع ما في الأرض جار على نظام بديع إلا أعمال الإنسان ، فمن المعلوم بالمشاهدة أن من الناس صالحين نافعين ، ومنهم دون ذلك إلى صنف المجرمين المفسدين ، وإن من الصالحين كثيرا لم ينالوا من حظوظ الخيرات الدنيوية شيئا أو إلّا شيئا قليلا هو أقلّ مما يستحقه صلاحه وما جاهده من الارتقاء بنفسه إلى معارج الكمال. ومن المفسدين من هم بعكس ذلك.

والفساد : اختلال اجتلبه الإنسان إلى نفسه باتّباعه شهواته باختياره الذي أودعه الله فيه ، وبقواه الباطنية قال تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [التين : ٤ ، ٦] وفي هذه المراتب يدنو الناس دنوّا متدرّجا إلى مراتب الملائكة أو دنوّا متدلّيا إلى أحضية الشياطين فكانت الحكمة الإلهية تقتضي أن يلتحق كل فريق بأشباهه في النعيم الأبدي أو الجحيم السرمدي.

ولو لا أن حكمة نظام خلق العوالم اقتضت أن يحال بين العوالم الزائلة والعوالم السرمدية في المدة المقدرة لبقاء هذه الأخيرة لأطار الله الصالحين إلى أوج النعيم الخالد ، ولدسّ المجرمين في دركات السعير المؤبد ، لعلل كثيرة اقتضت ذلك جماعها رعي الإبقاء على خصائص المخلوقات حتى تؤدي وظائفها التي خلقت لها ، وهي خصائص قد تتعارض فلو أوثر بعضها على غيره بالإبقاء لأفضى إلى زوال الآخر ، فمكّن الله كل نوع وكل صنف من الكدح لنوال ملائمه وأرشد الجميع إلى الخير وأمر ونهى وبيّن وحدد. وجعل لهم من بعد هذا العالم الزائل عالما خالدا يكون فيه وجود الأصناف محوطا بما تستحقه كمالاتها وأضدادها من حسن أو سوء ، ولو لم يجعل الله العالم الأبدي لذهب صلاح الصالحين باطلا أجهدوا فيه أنفسهم وأضاعوا في تحصيله جمّا غفيرا من لذائذهم الزائلة دون مقابل ، ولعاد فساد المفسدين غنما أرضوا به أهواءهم ونالوا به مشتهاهم فذهب ما جرّوه على الناس من أرزاء باطلا ، فلا جرم لو لم يكن الجزاء الأبدي لعاد خلق الأرض باطلا ولفاز الغويّ بغوايته.

فإذا استقرت هذه المقدمة تعين أن إنكار البعث والجزاء يلزمه أن يكون منكره قائلا بأن خلق السماء والأرض وما بينهما شيء من الباطل ، وقد دلّت الدلائل الأخرى أن لا يكون في خلق ذلك شيء من الباطل بقياس الخفي على الظاهر ، فبطل ما يفضي إلى القول بأن في خلق بعض ما ذكر شيء من الباطل.

والمشركون وإن لم يصدر منهم ذلك ولا اعتقدوه لكنهم آئلون إلى لزومه لهم بطريق

١٤٥

دلالة الالتزام لأن من أنكر البعث والجزاء فقد تقلد أن ما هو جار في أحوال الناس باطل ، والناس من خلق الله فباطلهم إذا لم يؤاخذهم خالقهم عليه يكون مما أقرّه خالقهم ، فيكون في خلق السماء والأرض وما بينهما شيء من الباطل ، فتنتقض كلية قوله : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) ، وهو ما ألزمهم إياه قوله تعالى : (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا). والإشارة إلى القضية المنفية لا إلى نفيها ، أي خلق المذكورات باطلا هو ظن الذين كفروا ، أي اعتقادهم. وأطلق الظن على العلم لأن ظنهم علم مخالف للواقع فهو باسم الظن أجدر لأن إطلاق الظن يقع عليه أنواع من العلم المشبه والباطل. وفي هذه الآية دليل على أن لازم القول يعتبر قولا ، وأن لازم المذهب مذهب وهو الذي نحاه فقهاء المالكية في موجبات الردة من أقوال وأفعال.

وفرع على هذا الاستدلال وعدم جري المشركين على مقتضاه قوله : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) أي نار جهنم. وعبر عنهم بالموصول لما تشير إليه الصلة من أنهم استحقوا العقاب على سوء اعتقادهم وسوء أعمالهم ، وأن ذلك أيضا من آثار انتفاء الباطل عن خلق السماوات والأرض وما بينهما ، لأنهم كانوا على باطل في إعراضهم عن الاستدلال بنظام السماوات والأرض ، وفي ارتكابهم مفاسد عوائد الشرك وملته ، وقد تمتّعوا بالحياة الدنيا أكثر مما تمتع بها الصالحون فلا جرم استحقوا جزاء أعمالهم.

ولفظ : «ويل» يدل على أشدّ السوء. وكلمة : ويل له ، تقال للتعجيب من شدة سوء حالة المتحدث عنه ، وهي هنا كناية عن شدة عذابهم في النار. و (مِنَ) ابتدائية كما في قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ) [البقرة : ٧٩] ، وقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لابن الزبير حين شرب دم حجامته : «ويل لك من الناس وويل للناس منك».

(أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨))

(أَمْ) منقطعة أفادت إضرابا انتقاليا وهو ارتقاء في الاستدلال على ثبوت البعث وبيان لما هو من مقتضى خلق السماء والأرض بالحق ، بعد أن سيق ذلك بوجه الاستدلال الجمليّ ، وقد كان هذا الانتقال بناء على ما اقتضاه قوله : (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) [ص : ٢٧] فلأجل ذلك بني على استفهام مقدر بعد (أَمْ) وهو من لوازم استعمالها ، وهو استفهام إنكاري. والمعنى : لو انتفى البعث والجزاء كما تزعمون لاستوت عند الله أحوال

١٤٦

الصالحين وأحوال المفسدين.

والتشبيه في قوله : (كَالْمُفْسِدِينَ) للتسوية. والمعنى : إنكار أن يكونوا سواء في جعل الله ، أي إذا لم يجاز كلّ فريق بما يستحقه على عمله ، فالمشاهد في هذه الحياة الدنيا خلاف ذلك فتعين أن يكون الجزاء في عالم آخر وهو الذي يسلك له الناس بعد البعث. وقد أخذ في الاستدلال جانب المساواة بين الذين آمنوا وعملوا الصالحات وبين المفسدين في الأرض ، لأنه يوجد كثير من الفريقين متساوين في حالة الحياة الدنيا في النعمة أو في التوسط أو في البؤس والخصاصة ، فحالة المساواة كافية لتكون مناط الاستدلال على إبطال ظن الذين كفروا بقطع النظر عن حالة أخرى أولى بالدلالة ، وهي المقابلة بين فريق المفسدين أولي النعمة وفريق الصالحين أولي البؤس ، وعن حالة دون ذلك وهي فريق المفسدين أصحاب البؤس والخصاصة وفريق الصالحين أولي النعمة لأنها لا تسترعي خاطر الناظر.

و (أَمْ) الثانية منقطعة أيضا ومفادها إضراب انتقال ثان للارتقاء في الاستدلال على أن الحكمة الربانية بمراعاة الحق وانتفاع الباطل في الخلق تقتضي الجزاء والبعث لأجله.

ومعنى الاستفهام الذي تقتضيه (أَمْ) الثانية : الإنكار كالذي اقتضته (أَمْ) الأولى.

وهذا الارتقاء في الاستدلال لقصد زيادة التشنيع على منكري البعث والجزاء بأن ظنهم ذلك يقتضي أن جعل الله المتقين مساوين للفجّار في أحوال وجود الفريقين ، وتقريره مثل ما قرّر به الاستدلال الأول.

والمتّقون : هم الذين كانت التقوى شعارهم. والتقوى : ملازمة اتباع المأمورات واجتناب المنهيات في الظاهر والباطن ، وقد تقدم في أول سورة البقرة.

والفجّار : الذين شعارهم الفجور ، وهو أشد المعصية ، والمراد به : الكفر وأعماله التي لا تراقب أصحابها التقوى كما في قوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) [عبس : ٤٢] وقد تقدم تفصيل من هذا عند قوله تعالى : (إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً) إلى قوله : (ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ) [يونس: ٤ ، ٥].

والمقصود من هذا الإطناب زيادة التهويل والتفظيع على الذين ظنوا ظنّا يفضي إلى

١٤٧

أن الله خلق شيئا من السماء والأرض وما بينهما باطلا فإن في الانتقال من دلالة الأضعف إلى دلالة الأقوى وفي تكرير أداة الإنكار شأنا عظيما من فضح أمر الضالين.

(كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩))

عقب الإمعان في تهديد المشركين وتجهيلهم على إعراضهم عن التدبر بحكمة الجزاء ويوم الحساب عليه والاحتجاج عليهم ، أعرض الله عن خطابهم ووجّه الخطاب إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالثناء على الكتاب المنزل عليه ، وكان هذا القرآن قد بيّن لهم ما فيه لهم مقنع ، وحجاجا هو لشبهاتهم مقلع ، وأنه إن حرم المشركون أنفسهم من الانتفاع به فقد انتفع به أولو الألباب وهم المؤمنون. وفي ذلك إدماج الاعتزاز بهذا الكتاب لمن أنزل عليه ولمن تمسك به واهتدى بهديه من المؤمنين. وهذا نظير قوله تعالى عقب ذكر خلق الشمس والقمر : (ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) في أول سورة يونس [٥].

والجملة استئناف معترض وفي هذا الاستئناف نظر إلى قوله في أول السورة (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) [ص : ١] إعادة للتنويه بشأن القرآن كما سيعاد ذلك في قوله تعالى : (هذا ذِكْرٌ) [ص : ٤٩].

فقوله : (كِتابٌ) يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، والتقدير : هذا كتاب ، وجملة (أَنْزَلْناهُ) صفة (كِتابٌ). ويجوز أن يكون مبتدأ وجملة (أَنْزَلْناهُ) صفة (تابٌ) و (مُبارَكٌ) خبرا عن (كِتابٌ).

وتنكير (كِتابٌ) للتعظيم ، لأن الكتاب معلوم فما كان تنكيره إلا لتعظيم شأنه وهو مبتدأ سوغ الابتداء به وصفه بجملة (أَنْزَلْناهُ) و (مُبارَكٌ) هو الخبر. ولك أن تجعل ما في التنكير من معنى التعظيم مسوغا للابتداء وتجعل جملة (أَنْزَلْناهُ) خبرا أول و (مُبارَكٌ) خبرا ثانيا و (لِيَدَّبَّرُوا) متعلق ب (أَنْزَلْناهُ) ولكن لا يجعل (كِتابٌ) خبر مبتدأ محذوف وتقدره : هذا كتاب ، إذ ليس هذا بمحزّ كبير من البلاغة.

والمبارك : المنبثّة فيه البركة وهي الخير الكثير ، وكل آيات القرآن مبارك فيها لأنها : إمّا مرشدة إلى خير ، وإمّا صارفة عن شرّ وفساد ، وذلك سبب الخير في العاجل والآجل ولا بركة أعظم من ذلك.

والتدبر : التفكر والتأمل الذي يبلغ به صاحبه معرفة المراد من المعاني ، وإنما يكون

١٤٨

ذلك في كلام قليل اللفظ كثير المعاني التي أودعت فيه بحيث كلما ازداد المتدبر تدبرا انكشفت له معان لم تكن بادية له بادئ النظر. وأقرب مثل للتدبر هنا هو ما مر آنفا من معاني قوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) إلى قوله : (أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) [ص : ٢٧ ، ٢٨] ، وتقدم عند قوله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) في سورة النساء [٨٢].

وقرأ الجمهور : (لِيَدَّبَّرُوا) بياء الغيبة وتشديد الدال. وأصل «يدبروا» يتدبروا ، فقلبت التاء دالا لقرب مخرجيهما ليتأتى الإدغام لتخفيفه وهو صيغة تكلف مشتقة من فعل: دبر بوزن ضرب ، إذا تبع ، فتدبّره بمنزلة تتبّعه ، ومعناه : أنه يتعقب ظواهر الألفاظ ليعلم ما يدبر ظواهرها من المعاني المكنونة والتأويلات اللائقة ، وتقدم عند قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) في سورة المؤمنين [٦٨].

وقرأ أبو جعفر لتدبروا بتاء الخطاب وتخفيف الدال وأصلها : لتتدبروا فحذفت إحدى التاءين اختصارا ، والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه من المسلمين.

والتذكّر : استحضار الذهن ما كان يعلمه وهو صادق باستحضار ما هو منسي وباستحضار ما الشأن أن لا يغفل عنه وهو ما يهمّ العلم به ، فجعل القرآن للناس ليتدبروا معانيه ويكشفوا عن غوامضه بقدر الطاقة فإنهم على تعاقب طبقات العلماء به لا يصلون إلى نهاية من مكنونه ولتذكرهم الآية بنظيرها وما يقاربها ، وليتذكروا ما هو موعظة لهم وموقظ من غفلاتهم.

وضمير «يدبروا» على قراءة الجمهور عائد إلى (أُولُوا الْأَلْبابِ) على طريقة الإضمار للفعل المهمل عن العمل في التنازع ، والتقدير : ليدبّر أولو الألباب آياته ويتذكروا ، وأما على قراءة أبي جعفر فإسناد «يتذكر» إلى (أُولُوا الْأَلْبابِ) اكتفاء عن وصف المتدبرين بأنهم أولو الألباب لأن التدبر مفض إلى التذكر. والتذكر من آثار التدبر فوصف فاعل أحد الفعلين يغني عن وصف فاعل الفعل الآخر.

و (أُولُوا الْأَلْبابِ) : أهل العقول وفيه تعريض بأن الذين لم يتذكروا بالقرآن ليسوا من أهل العقول ، وأن التذكر من شأن المسلمين الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه ، فهم ممن تدبروا آياته فاستنبطوا من المعاني ما لم يعلموا ، ومن قرأه فتذكر به ما كان علمه وتذكر به حقا كان عليه أن يرعاه ، والكافرون أعرضوا عن التدبر فلا جرم فاتهم التذكر.

١٤٩

(وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠))

جعل التخلص إلى مناقب سليمان عليه‌السلام من جهة أنه من منن الله على داود عليه‌السلام ، فكانت قصة سليمان كالتكملة لقصة داود. ولم يكن لحال سليمان عليه‌السلام شبه بحال محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلذلك جزمنا بأن لم يكن ذكر قصته هنا مثالا لحال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبأنها إتمام لما أنعم الله به على داود إذ أعطاه سليمان ابنا بهجة له في حياته وورث ملكه بعد مماته ، كما أنبأ عنه قوله تعالى : (وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ) الآية.

ولهذه النكتة لم تفتتح قصة سليمان بعبارة : واذكر ، كما افتتحت قصة داود ثم قصة أيوب ، والقصص بعدها مفصّلها ومجملها غير أنها لم تخل من مواضع إسوة وعبرة وتحذير على عادة القرآن من افتراض الإرشاد.

ومن حسن المناسبة لذكر موهبة سليمان أنه ولد لداود من المرأة التي عوتب داود لأجل استنزال زوجها أوريا عنها كما تقدّم ، فكانت موهبة سليمان لداود منها مكرمة عظيمة هي أثر مغفرة الله لداود تلك المخالفة التي يقتضي قدره تجنبها وإن كانت مباحة وتحققه لتعقيب الأخبار عن المغفرة له بقوله : (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) [ص : ٤٠] فقد رضي‌الله‌عنه فوهب له من تلك الزوجة نبيئا وملكا عظيما.

فجملة (وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ) عطف على جملة (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ) [ص : ١٨] وما بعدها من الجمل. وجملة (نِعْمَ الْعَبْدُ) في موضع الحال من (سُلَيْمانَ) وهي ثناء عليه ومدح له من جملة من استحقوا عنوان العبد لله ، وهو العنوان المقصود منه التقريب بالقرينة كما تقدم في قوله تعالى : (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ) في سورة الصافات [٤٠ ، ٤١].

والمخصوص بالمدح محذوف لدلالة ما تقدم عليه وهو قوله : (سُلَيْمانَ) والتقدير : نعم العبد سليمان.

وجملة (إِنَّهُ أَوَّابٌ) تعليل للثناء عليه ب (نِعْمَ الْعَبْدُ). والأوّاب : مبالغة في الآئب أي كثير الأوب ، أي الرجوع إلى الله بقرينة أنه مادحه. والمراد من الأوب إلى الله : الأوب إلى أمره ونهيه ، أي إذا حصل له ما يبعده عن ذلك تذكر فآب ، أي فتاب ، وتقدم ذلك آنفا في ذكر داود.

١٥٠

[٣١ ـ ٣٣] (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣))

يتعلق (إِذْ عُرِضَ) ب (أَوَّابٌ) [ص : ٣٠]. وتعليق هذا الظرف ب (أَوَّابٌ) تعليق تعليل لأن الظروف يراد منها التعليل كثيرا لظهور أن ليس المراد أنه أوّاب في هذه القصة فقط لأن صيغة أوّاب تقتضي المبالغة. والأصل منها الكثرة فتعين أن ذكر قصة من حوادث أوبته كان لأنها ينجلي فيها عظم أوبته. والعرض : الإمرار والإحضار أمام الرائي ، أي عرض سواس خيله إياها عليه.

والعشيّ : من العصر إلى الغروب. وتقدم في قوله : (بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) في سورة الأنعام [٥٢]. وذلك وقت افتقاد الخيل والماشية بعد رواحها من مراعيها ومراتعها. وذكر العشي هنا ليس لمجرد التوقيت بل ليبنى عليه قوله : (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) ، فليس ذكر العشيّ في وقع هذه الآية كوقعه في قول عمرو بن كلثوم :

ملوك من بني جشم بن بكر

يساقون العشية يقتلونا

و (الصَّافِناتُ) : وصف لموصوف محذوف استغنى عن ذكره لدلالة الصفة عليه لأن الصافن لا يكون إلا من الخيل والأفراس وهو الذي يقف على ثلاث قوائم وطرف حافر القائمة الرابعة لا يمكّن القائمة الرابعة من الأرض ، وتلك من علامات خفته الدالة على كرم أصل الفرس وحسن خلاله ، يقال : صفن الفرس صفونا ، وأنشده ابن الأعرابي والزجّاج في صفة فرس :

ألف الصّفون فلا يزال كأنه

مما يقوم على الثلاث كسيرا (١)

(الْجِيادُ) : جمع جواد بفتح الواو وهو الفرس ذو الجودة ، أي النفاسة ، وكان سليمان مولعا بالإكثار من الخيل والفرسان ، فكانت خيله تعد بالآلاف.

وأصل تركيب (أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ) : أحببت الخير حبّا ، فحول التركيب إلى (أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ) فصار (حُبَّ الْخَيْرِ) تمييزا لإسناد نسبة المحبة إلى نفسه لغرض

__________________

(١) في هذا البيت إشكال من جهة العربية إذ نصب كسيرا وهو في المعنى خبر كأن. وخرج على أنه جعله خبر (يزال) على وجه التشبيه البليغ. وأقحم (كأنه) لتقرر التشبيه. وقد احتفل ببيان هذا البيت ابن الحاجب في «أماليه» ، وصاحب الكشف على «الكشاف».

١٥١

الإجمال ثم التفصيل كقوله تعالى : (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) [القمر : ١٢] وقول كعب بن زهير :

أكرم بها خلة

وقولهم : لله دره فارسا.

وضمن (أَحْبَبْتُ) معنى عوّضت ، فعدّي ب (عَنْ) في قوله : (عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) فصار المعنى : أحببت الخير حبّا فجاوزت ذكر ربي. والمراد بذكر الرّب الصلاة ، فلعلها صلاة كان رتبها لنفسه لأن وقت العشي ليست فيه صلاة مفروضة في شريعة موسى إلا المغرب.

و (الْخَيْرِ) : المال النفيس كما في قوله تعالى : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً)[البقرة : ١٨٠]. والخيل من المال النفيس. وقال الفراء : الخير بالراء من أسماء الخيل. والعرب تعاقب بين اللام والراء كما يقولون : انهملت العين وانهمرت. وختل وختر إذا خدع.

وقلت : إن العرب من عادتهم التفاؤل ولهم بالخيل عناية عظيمة حتى وصفوا شياتها وزعموا دلالتها على بخت أو نحس فلعلهم سموها الخير تفاؤلا لتتمحض للسعد والبخت. وضمير (تَوارَتْ) للشمس بقرينة ذكر العشي وحرف الغاية ولفظ الحجاب ، على أن الإضمار للشمس في ذكر الأوقات كثير في كلامهم. كما قال لبيد :

حتى إذا ألقت يدا في كافر

وأجنّ عورات الثغور ظلامها

أي ألقت الشمس يدها في الظلمة ، أي ألقت نفسها فهو من التعبير عن الذات ببعض أعضائها.

والتواري : الاختفاء ، والحجاب : الستر في البيت الذي تحتجب وراءه المرأة وغيرها ومنه قول أنس بن مالك : فأنزل الله آية الحجاب.

والكلام تمثيل لحالة غروب الشمس بتواري المرأة وراء الحجاب وكل من أجزاء هذه التمثيلية مستعار ؛ فللشمس استعيرت المرأة على طريقة المكنية ، ولاختفائها عن الأنظار استعير التواري ، ولأفق غروب الشمس استعير الحجاب.

والمعنى : عرضت عليه خيله الصافنات الجياد فاشتغل بأحوالها حبا فيها حتى غربت الشمس ففاتته صلاة كان يصليها في السماء قبل الغروب ، فقال عقب عرض الخيل وقد

١٥٢

انصرفت : إني أحببت الخيل فغفلت عن صلاتي لله.

وكلامه هذا خبر مستعمل في التحسر كقول أم مريم (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) [آل عمران : ٣٦].

والخطاب في قوله : (رُدُّوها عَلَيَ) لسواس خيله. والضمير المنصوب عائد إلى الخيل بالقرينة ، أي أرجعوا الخيل إليّ ، وقيل : هو عائد إلى الشمس والخطاب للملائكة ، وهذا في غاية البعد ولو لا كثرة ذكره في كتب المفسرين لكان الأولى بنا عدم التعرض له. وأحسن منه على هذا الاعتبار في معاد ضمير الغيبة أن يكون الأمر مستعملا في التعجيز ، أي هل تستطيعون أن تردوا الشمس بعد غروبها ، كقول مهلهل :

يا لبكر انشروا لي كليبا

وقول الحارث الضبي أحد أصحاب الجمل :

ردوا علينا شيخنا ثم بجل

يريد : عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه ، فلا استبعاد في هذا المحمل. والفاء في قوله : (فَطَفِقَ) تعقيبية ، وطفق من أفعال الشروع ، أي فشرع.

و (مَسْحاً) مصدر أقيم مقام الفعل ، أي طفق يمسح مسحا. وحرف التعريف في (بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) عوض عن المضاف إليه ، أي بسوقها وأعناقها كقوله تعالى : (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) [النازعات : ٤١]. والمسح حقيقته : إمرار اليد على الشيء لإزالة ما عليه من غبش أو ماء أو غبار وغير ذلك مما لا يراد بقاؤه على الشيء ويكون باليد وبخرقة أو ثوب ، وقد يطلق المسح مجازا على معان منها : الضرب بالسيف يقال : مسحه بالسيف. ويقال : مسح السيف به. ولعل أصله كناية عن القتل بالسيف لأن السيف يمسح عنه الدم بعد الضرب به.

والسّوق : جمع ساق. وقرأه الجمهور بواو ساكنة وبوزن فعل مثل : دار ودور ، ووزن فعل في جمع مثله قليل. وقرأه قنبل عن ابن كثير وأبو جعفر «السّؤق» بهمزة ساكنة بعد السين جمع : سأق بهمزة بعد السين وهي لغة في ساق.

و (الْأَعْناقِ) : جمع عنق وهو الرقبة. والباء في (بِالسُّوقِ) مزيدة للتأكيد ، أي تأكيد اتصال الفعل بمفعوله كالتي في قوله تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) [المائدة : ٦] وفي قول النابغة :

١٥٣

لك الخير إن وارت بك الأرض واحدا

وأصبح جد الناس يضلع عاثرا

وقد تردد المفسرون في المعنى الذي عنى بقوله : (فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) ، فعن ابن عباس والزهري وابن كيسان وقطرب : طفق يمسح أعراف الخيل وسوقها بيده حبّا لها. وهذا هو الجاري على المناسب لمقام نبيء والأوفق بحقيقة المسح ولكنه يقتضي إجراء ترتيب الجمل على خلاف مقتضى الظاهر بأن يكون قوله : (رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) متصلا بقوله : (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ) أي بعد أن استعرضها وانصرفوا بها لتأوي إلى مذاودها قال : (رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) إكراما لها ولحبها. ويجعل قوله : (فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) معترضا بينهما ، وإنما قدم للتعجيل بذكر ندمه على تفريطه في ذكر الله في بعض أوقات ذكره ، أي أنه لم يستغرق في الذهول بل بادر الذكرى بمجرد فوات وقت الذكر الذي اعتاده ، إذ لا يناسب أن يكون قوله : (رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ) إلخ من آثار ندمه وتحسّره على هذا التفسير ، وهذا يفيد أن فوات وقت ذكره نشأ عن ذلك الرد الذي أمر به بقوله : (رُدُّوها عَلَيَ) فإنهم اعتادوا أن يعرضوها عليه وينصرفوا وقد بقي ما يكفي من الوقت للذكر فلما حملته بهجته بها على أن أمر بإرجاعها واشتغل بمسح أعناقها وسوقها خرج وقت ذكره فتندّم وتحسّر.

وعن الحسن وقتادة ومالك بن أنس في رواية ابن وهب والفراء وثعلب : أن سليمان لما ندم على اشتغاله بالخيل حتى أضاع ذكر الله في وقت كان يذكر الله فيه أمر أن تردّ عليه الخيل التي شغلته فجعل يعرقب سوقها ويقطع أعناقها لحرمان نفسه منها مع محبته إياها توبة منه وتربية لنفسه. واستشعروا أن هذا فساد في الأرض وإضاعة للمال فأجابوا : بأنه أراد ذبحها ليأكلها الفقراء لأن أكل الخيل مباح عندهم وبذلك لم يكن ذبحها فسادا في الأرض.

وتجنّب بعضهم هذا الوجه وجعل المسح مستعارا للتوسيم بسمة الخيل الموقوفة في سبيل الله بكي نار أو كشط جلد لأن ذلك يزيل الجلدة الرقيقة التي على ظاهر الجلد ، فشبهت تلك الإزالة بإزالة المسح ما على ظهر الممسوح من ملتصق به ، وهذا أسلم عن الاعتراض من القول الأول وهو معزو لبعض المفسرين في «أحكام القرآن» لابن العربي. وقال ابن العربي : إنه وهم. وهذه طريقة جليلة من طرائق تربية النفس ومظاهر كمال التوبة بالنسبة إلى ما كان سببا في الهفوة.

١٥٤

وعلى هذين التأويلين يكون قوله : (فَطَفِقَ) تعقيبا على (رُدُّوها عَلَيَ) وعلى محذوف بعده. والتقدير : فردّوها عليه فطفق ، كقوله : (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) [الشعراء : ٦٣]. ويكون قوله : (رُدُّوها عَلَيَ) من مقول : (فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ).

[٣٤ ـ ٣٥] (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥))

قد قلت آنفا عند قوله تعالى : (وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ) [ص : ٣٠] إن ما ذكر من مناقب سليمان لم يخل من مقاصد ائتساء وعبرة وتحذير على عادة القرآن في ابتدار وسائل الإرشاد بالترغيب والترهيب ، فكذلك كانت الآيات المتعلقة بندمه على الاشتغال بالخيل عن ذكر الله موقع أسوة به في مبادرة التوبة وتحذير من الوقوع في مثل غفلته ، وكذلك جاءت هذه الآيات مشيرة إلى فتنة عرضت لسليمان أعقبتها إنابة ثم أعقبتها إفاضة نعم عظيمة فذكرت عقب ذكر قصة ما ناله من السهو عن عبادته وهو دون الفتنة. والفتن والفتون والفتنة : اضطراب الحال الشديد الذي يظهر به مقدار صبر وثبات من يحلّ به ، وتقدم ذلك عند قوله تعالى : (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ) في سورة البقرة [١٠٢].

وقد أشارت الآية إلى حدث عظيم حلّ بسليمان ، واختلفت أقوال المفسرين في تعيين هذه الفتنة فذكروا قصصا هي بالخرافات أشبه ، ومقام سليمان عن أمثالها أنزه. ومن أغربها قولهم : إنه ولد له ابن فخاف عليه الناس أن يقتلوه فاستودعه الريح لتحضنه وترضعه درّ ماء المزن فلم يلبث أن أصابه الموت وألقته الريح على كرسي سليمان ليعلم أنه لا مردّ لمحتوم الموت. وهذا ما نظمه المعري تبعا لأوهام الناس فقال حكاية عن سليمان :

خاف غدر الأنام فاستودع الري

ح سليلا تغذوه درّ العهاد

وتوخّى النجاة وقد أي

قن أن الحمام بالمرصاد

فرمته به على جانب الكر

سيّ أمّ اللهيم أخت النّآد (١)

والذي يظهر من السياق أن قوله تعالى : (وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) إشارة إلى شيء من هذه الفتنة ليرتبط قوله : (ثُمَّ أَنابَ) بذلك.

ويحتمل أنه قصة أخرى غير قصة فتنته. وأظهر أقوالهم أن تكون الآية إشارة إلى ما

__________________

(١) اللهيم كزبير : الداهية : والنّآد كسحاب : الداهية أيضا.

١٥٥

في «صحيح البخاري» «عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : قال سليمان لأطوفنّ الليلة على تسعين امرأة كلهن تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله. فقال له صاحبه : قل إن شاء الله. فلم يقل : إن شاء الله. فطاف عليهن جميعا فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشقّ رجل ، وأيم الذي نفس محمد بيده لو قال : إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون». وليس في كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ذلك تأويل هذه الآية ولا وضع البخاري ولا الترمذي الحديث في التفسير من كتابيهما. قال جماعة : فذلك النصف من الإنسان هو الجسد الملقى على كرسيّه جاءت به القابلة فألقته له وهو على كرسيه ، فالفتنة على هذا خيبة أمله ومخالفة ما أبلغه صاحبه.

وإطلاق الجسد على ذلك المولود ؛ إمّا لأنه ولد ميتا ، كما هو ظاهر قوله : «شق رجل» ، وإمّا لأنه كان خلقة غير معتادة فكان مجرد جسد. وهذا تفسير بعيد لأن الخبر لم يقتض أن الشق الذي ولدته المرأة كان حيّا ولا أنه جلس على كرسي سليمان. وتركيب هذه الآية على ذلك الخبر تكلّف.

وقال وهب بن منبه وشهر بن حوشب : تزوج سليمان ابنة ملك صيدون بعد أن غزا أباها وقتله فكانت حزينة على أبيها ، وكان سليمان قد شغف بحبها فسألته لترضى أن يأمر المصورين ليصنعوا صورة لأبيها فصنعت لها فكانت تغدو وتروح مع ولائدها يسجدن لتلك الصورة فلما علم سليمان بذلك أمر بذلك التمثال فكسر ، وقيل : كانت تعبد صنما لها من ياقوت خفية فلما فطن سليمان أو أسلمت المرأة ترك ذلك الصنم. وهذا القول مختزل مما وقع في «سفر الملوك» الأول من كتب اليهود إذ جاء في الإصحاح الحادي عشر : وأحب سليمان نساء غريبة كثيرة بنت فرعون ومعها نساء مؤابيات وعمونيات ، وأدوميات وصيدونيات وحثيات من الأمم التي قال عنهم الرب لبني إسرائيل : لا تدخلون إليهم لأنهم يميلون قلوبكم وراء آلهتهم. فبنى هيكلا للصنم (كموش) صنم المؤابيين على الجبل الذي تجاه أورشليم فقال الله له : من أجل أنك لم تحفظ عهدي فإني أمزق مملكتك بعدك تمزيقا وأعطيها لعبدك ولا أعطي ابنك إلا سبطا واحدا إلخ.

ويؤخذ من ذلك كله : أن سليمان اجتهد وسمح لنسائه المشركات أن يعبدن أصنامهن في بيوتهن التي هي بيوته أو بنى لهن معابد يعبدن فيها فلم يرض الله منه ذلك لأنه وإن كان قد أباح له تزوج المشركات فما كان ينبغي لنبي أن يسمح لنسائه بذلك الذي أبيح لعامة الناس الذين يتزوجون المشركات وإن كان سليمان تأول أن ذلك قاصر على المرأة

١٥٦

لا يتجاوز إليه.

وعلى هذا التأويل يكون المراد بالجسد الصنم لأنه صورة بلا روح كما سمى الله العجل الذي عبده بنو إسرائيل جسدا في قوله : (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ)[طه : ٨٨].

ويكون معنى إلقائه على كرسيّه نصبه في بيوت زوجاته المشركات بقرب من مواضع جلوسه إذ يكون له في كل بيت منها كرسي يجلس عليه.

وعطف (ثُمَّ أَنابَ) بحرف (ثُمَ) المفيد للتراخي الرتبي لأن رتبة الإنابة أعظم ذكر في قوله : (فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ) [ص : ٣٢]. والإنابة : التوبة.

وجملة (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي) بدل اشتمال من جملة (أَنابَ) لأن الإنابة تشتمل على ترقب العفو عما عسى أن يكون قد صدر منه مما لا يرضي الله تعالى صدوره من أمثاله.

وإردافه طلب المغفرة باستيهاب ملك لا ينبغي لأحد من بعده لأنه توقع من غضب الله أمرين : العقاب في الآخرة ، وسلب النعمة في الدنيا إذ قصّر في شكرها ، وكان سليمان يومئذ في ملك عظيم فسؤال موهبة الملك مراد به استدامة ذلك الملك وصيغة الطلب ترد لطلب الدوام مثل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا* آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) [النساء : ١٣٦]. وتنكير (مُلْكاً) للتعظيم.

وارتقى سليمان في تدرج سؤاله إلى أن وصف ملكا أنه لا ينبغي لأحد من بعده ، أي لا يتأتى لأحد من بعده ، أي لا يعطيه الله أحدا يبتغيه من بعده. فكنّى ب (لا يَنْبَغِي) عن معنى لا يعطى لأحد ، أي لا تعطيه أحدا من بعدي.

ففعل : (يَنْبَغِي) مطاوع بغاه ، يقال : بغاه فانبغى له وليس للملك اختيار وانبغاء وإنما الله هو المعطي والميسّر فإسناد الانبغاء إلى الملك مجاز عقلي ، وحقيقته : انبغاء سببه. وهذا من التأدّي في دعائه إذ لم يقل : لا تعطه أحدا من بعدي.

وسأل الله أن لا يقيم له منازعا في ملكه وأن يبقى له ذلك الملك إلى موته ، فاستجاب فكان سليمان يخشى ظهور عبده (يربعام بن نباط) من سبط أفرايم عليه إذ كان أظهر الكيد لسليمان فطلبه سليمان ليقتله فهرب إلى (شيشق) فرعون مصر وبقي في مصر إلى وفاة سليمان. فهذا أيضا مما حمل سليمان أن يسأل الله تثبيت ملكه وأن لا يعطيه أحدا غيره. وكان لسليمان عدوّان آخران هما (هدد) الأدومي و (رزون) من أهل صرفة

١٥٧

مقيمين في تخوم مملكة إسرائيل فخشي أن يكون الله هيأهما لإزالة ملكه.

واستعمل (مِنْ بَعْدِي) في معنى : من دوني ، كقوله تعالى : (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ) [الجاثية : ٢٣] ، فيكون معنى (لا يَنْبَغِي) أنه لا ينبغي لأحد غيري ، أي في وقت حياتي فهذا دعاء بأن لا يسلط أحد على ملكه مدة حياته.

وعلى هذا التفسير لا يكون في سؤاله هذا الملك شيء من الاهتمام بأن لا ينال غيره مثل ما ناله هو فلا يرد على ذلك أن مثل هذا يعدّ من الحسد.

ويجوز أن يبقى (مِنْ بَعْدِي) على ظاهره ، أي بعد حياتي. فمعنى (لا يَنْبَغِي) : لا ينبغي مثله لأحد بعد وفاتي. وتأويل ذلك أنه قصد من سؤاله الإشفاق من أن يلي مثل ذلك الملك من ليس له من النبوءة والحكمة والعصمة ما يضطلع به لأعباء ملك مثل ذلك الملك ومن ليس له من النفوذ على أمته ما لسليمان على أمته فلا يلبث أن يحسد على الملك فينجم في الأمة منازعون للملك على ملكه ، فينتفي أيضا على هذا التأويل إيهام أنه سأل ذلك غيرة على نفسه أن يعطى أحد غيره مثل ملكه (مما تشمّ منه رائحة الحسد).

وقد تضمنت دعوته شيئين : هما أن يعطى ملكا عظيما ، وأن لا يعطى غيره مثله في عظمته. وقد حكى الله دعاء سليمان وهو سرّ بينه وبين ربه إشعارا بأنه ألهمه إياه ، وأنه استجاب له دعوته تعريفا برضاه عنه وبأنه جعل استجابته مكرمة توبته. ومعنى ذلك أنه لا يأتي ملك بعده له من السلطان جميع ما لسليمان فإن ملك سليمان عمّ التصرف في الجن وتسخير الريح والطير ، ومجموع ذلك لم يحصل لأحد من بعده.

وفي «الصحيح» عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن عفريتا من الجن تفلّت البارحة ليقطع عليّ صلاتي فأمكنني الله منه فأخذته فأردت أن أربطه بسارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلّكم فذكرت دعوة أخي سليمان : «رب هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي فرددته خاسئا».

وجملة (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) علة للسؤال كله وتمهيد للإجابة ، فقامت (إنّ) مقام حرف التفريع ودلت صيغة المبالغة في (الْوَهَّابُ) على أنه تعالى يهب الكثير والعظيم لأن المبالغة تفيد شدة الكمية أو شدة الكيفية أو كلتيهما بقرينة مقام الدعاء ، فمغفرة الذنب من المواهب العظيمة لما يرتب عليه من درجات الآخرة وإعطاء مثل هذا الملك هو هبة عظيمة. و (أَنْتَ) ضمير فصل ، وأفاد الفصل به قصرا فصار المعنى : أنت القوي الموهبة

١٥٨

لا غيرك ، لأن الله يهب ما لا يملك غيره أن يهبه.

[٣٦ ـ ٣٨] (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨))

اقتضت الفاء وترتيب الجمل أن تسخير الريح وتسخير الشياطين كانا بعد أن سأل الله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده أن أعطاه هاتين الموهبتين زيادة في قوة ملكه وتحقيقا لاستجابة دعوته لأنه إنما سأل ملكا لا ينبغي لأحد غيره ولم يسأل الزيادة فيما أعطيه من الملك. ولعل الله أراد أن يعطيه هاتين الموهبتين وأن لا يعطيهما أحدا بعده حتى إذا أعطى أحدا بعده ملكا مثل ملكه فيما عدا هاتين الموهبتين لم يكن قد أخلف إجابته.

والتسخير الإلجاء إلى عمل بدون اختيار ، وهو مستعار هنا لتكوين أسباب صرف الريح إلى الجهات التي يريد سليمان توجيه سفنه إليها لتكون معينة سفنه على سرعة سيرها ، ولئلا تعاكس وجهه سفنه ، وتقدم في قوله تعالى : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) في سورة سبأ [١٢].

وقرأ أبو جعفر الرياح بصيغة الجمع.

وتقدم قوله : (تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) في سورة الأنبياء [٨١].

واللام في (لَهُ) للعلة ، أي لأجله ، أي ذلك التسخير كرامة من الله له بأن جعل تصريف الرياح مقدّرا على نحو رغبته.

والأمر في قوله : (بِأَمْرِهِ) مستعار للرغبة أو للدعاء بأن يدعو الله أن تكون الريح متجهة إلى صوب كذا حسب خطة أسفار سفائنه ، أو يرغب ذلك في نفسه ، فيصرف الله الريح إلى ما يلائم رغبته وهو العليم بالخفيّات.

والرّخاء : اللينة التي لا زعزعة في هبوبها. وانتصب (رُخاءً) على الحال من ضمير (تَجْرِي) أي تجري بأمره لينة مساعدة لسير السفن وهذا من التسخير لأن شأن الريح أن تتقلب كيفيات هبوبها ، وأكثر ما تهب أن تهب شديدة عاصفة ، وقد قال تعالى في سورة الأنبياء [٨١] : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً) ومعناه : سخرنا لسليمان الريح التي شأنها العصوف ، فمعنى (فَسَخَّرْنا لَهُ) جعلناها له رخاء. فانتصب (عاصِفَةً) في آية سورة الأنبياء على الحال من (الرِّيحَ) وهي حال منتقلة. ولما أعقبه بقوله : (تَجْرِي بِأَمْرِهِ) علم

١٥٩

أن عصفها يصير إلى لين بأمر سليمان ، أي دعائه ، أو بعزمه ، أو رغبته لأنه لا تصلح له أن تكون عاصفة بحال من الأحوال ، فهذا وجه دفع التنافي بين الحالين في الآيتين.

و (أَصابَ) معناه قصد ، وهو مشتق من الصّوب ، أي الجهة ، أي تجري إلى حيث أي جهة قصد السير إليها. حكى الأصمعي عن العرب : «أصاب الصواب فأخطأ الجواب» أي أراد الصواب فلم يصب. وقيل : هذا استعمال لها في لغة حمير ، وقيل في لغة هجر.

و (الشَّياطِينَ) جمع شيطان ، وحقيقته الجنّي ، ويستعمل مجازا للبالغ غاية المقدرة والحذق في العمل الذي يعمله. ومنه قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِ) نبيء (عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) [الأنعام : ١١٢] ، فسخر الله النوع الأول لسليمان تسخيرا خارقا للعادة على وجه المعجزة فهو مسخر له في الأمور الروحانية والتصرفات الخفية وليس من شأن جنسهم إيجاد الصناعات المتقنة كالبناء ، وسخر النوع الثاني له تسخير إذلال ومغلوبية لعظم سلطانه وإلقاء مهابته في قلوب الأمم فكانوا يأتون طوعا للانضواء تحت سلطانه كما فعلت بلقيس وقد تقدم في سورة سبأ. فيجوز أن يكون (الشَّياطِينَ) مستعملا في حقيقته ومجازه.

و (كُلَّ بَنَّاءٍ) بدل من (الشَّياطِينَ) بدل بعض من كل ، أي كل بنّاء وغوّاص منهم ، أي من الشياطين. و (كُلَ) هنا مستعملة في معنى الكثير ، وهو استعمال وارد في القرآن والكلام الفصيح ، قال تعالى : (وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) [يونس : ٩٧] وقال : (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) [النحل : ٦٩]. وقال النابغة :

بها كلّ ذيّال وخنساء ترعوي

وتقدم عند قوله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) في سورة الأنعام [٢٥].

والبنّاء : الذي يبني وهو اسم فاعل مصوغ على زنة المبالغة للدلالة على معنى الصناعة مثل نجّار وقصّار وحدّاد.

والغواص : الذي يغوص في البحر لاستخراج محار اللؤلؤ ، وهو أيضا مما صيغ على وزن المبالغة للدلالة على الصناعة ، قال النابغة :

أو درّة صدفية غوّاصها

بهج متى يرها يهلّ ويسجد

قال تعالى : (وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ) [الأنبياء : ٨٢].

وقد بلغت الصناعة في ملك سليمان مبلغا من الإتقان والجودة والجلال ، وناهيك

١٦٠