تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٣

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٣

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٠٥

وهوله بما ضمنه من الإبهام. و «سوف» أخت السين في إفادة مطلق الاستقبال.

[١٧١ ـ ١٧٣] (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣))

تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما تضمنه قوله : (فَكَفَرُوا بِهِ) [الصافات : ١٧٠] وبيان لبعض الوعيد الذي في قوله : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الصافات : ١٧٠] بمنزلة بدل البعض من الكل ولكنه غلب عليه جانب التسلية فعطف بالواو عطف القصة على القصة.

والكلمة مراد بها الكلام ، عبر عن الكلام بكلمة إشارة إلى أنه منتظم في معنى واحد دال على المقصود دلالة سريعة فشبه بالكلمة الواحدة في سرعة الدلالة وإيجاز اللفظ كقوله تعالى : (كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) [المؤمنون : ١٠٠] وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد :

ألا كل شيء ما خلا الله باطل»

وبينت الكلمة بجملة (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) ، أي الكلام المتضمن وعدهم بأن ينصرهم الله على الذين كذبوهم وعادوهم وهذه بشارة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عقب تسليته لأنه داخل في عموم المرسلين.

وعطف (وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) بشارة للمؤمنين فإن المؤمنين جند الله ، أي أنصاره لأنهم نصروا دينه وتلقوا كلامه ، كما سموا حزب الله في قوله : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة : ٢١] إلى قوله : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) [المجادلة : ٢٢] إلى قوله : (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [المجادلة : ٢٢]. وقوله : (لَهُمُ الْغالِبُونَ) يشمل علوّهم على عدوّهم في مقام الحجاج وملاحم القتال في الدنيا ، وعلوّهم عليهم في الآخرة كما قال تعالى : (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [البقرة : ٢١٢] فهو من استعمال (الْغالِبُونَ) في حقيقته ومجازه.

ومعنى (الْمَنْصُورُونَ) و (الْغالِبُونَ) في أكثر الأحوال وباعتبار العاقبة ، فلا ينافي أنهم يغلبون نادرا ثم تكون لهم العاقبة ، أو المراد النصر والغلبة الموعود بهما قريبا وهما ما كان يوم بدر.

[١٧٤ ـ ١٧٥] (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥))

١٠١

هذا مفرع على التسلية التي تضمنها قوله : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا) [الصافات : ١٧١]. والتولي حقيقته : المفارقة كما تقدم في قصة إبراهيم (فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) [الصافات : ٩٠] ، واستعمل هنا مجازا في عدم الاهتمام بما يقولونه وترك النكد من إعراضهم.

والحين : الوقت. وأجمل هنا إيماء إلى تقليله ، أي تقريبه ، فالتنكير للتحقير المعنوي وهو التقليل. ومعنى (أَبْصِرْهُمْ) انظر إليهم ، أي من الآن ، وعدّي (أبصر) إلى ضميرهم الدال على ذواتهم ، وليس المراد النظر إلى ذواتهم لكن إلى أحوالهم ، أي تأمل أحوالهم تر كيف ننصرك عليهم ، وهذا وعيد بما حلّ بهم يوم بدر.

وحذف ما يتعلق به الإبصار من حال أو مفعول معه بتقدير : وأبصرهم مأسورين مقتولين ، أو وأبصرهم وما يقضى به عليهم من أسر وقتل لدلالة ما تقدم من قوله : (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ* وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) [الصافات : ١٧٢ ، ١٧٣] عليه ، إذ ليس المأمور به أيضا ذواتهم ، وهذا من دلالة الاقتضاء. وصيغة الأمر في (وَأَبْصِرْهُمْ) مستعملة في الإرشاد على حد قول :

إذا أعجبتك الدهر حال من امرئ

فدعه وواكل أمره واللياليا

أي إذا شئت أن تتحقق قرارة حاله فانتظره.

وعبر عن ترتب نزول الوعيد بهم بفعل الإبصار للدلالة على أن ما توعدوا به واقع لا محالة وأنه قريب حتى أن الموعود بالنصر يتشوف إلى حلوله فكان ذلك كناية عن تحققه وقربه لأن تحديق البصر لا يكون إلا إلى شيء أشرف على الحلول.

وتفريع (فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) على (وَأَبْصِرْهُمْ) تفريع لإنذارهم بوعيد قريب على بشارة النبي بقربه فإن ذلك المبصر يسرّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويحزن أعداءه ، ففي الكلام اكتفاء ، كأنه قيل : أبصرهم وما ينزل بهم فسوف تبصر ما وعدناك وليبصروا ما ينزل بهم فسوف يبصرونه. وحذف مفعول (يُبْصِرُونَ) لدلالة ما دلت عليه دلالة الاقتضاء. واعلم أن تفريع (فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) على (وَأَبْصِرْهُمْ) يمنع من إرادة أن يكون المعنى : وأبصرهم حين ينزل بهم العذاب بعد ذلك الحين كما لا يخفى.

[١٧٦ ـ ١٧٧] (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧))

هذا تفريع على التأجيل المذكور في قوله : (حَتَّى حِينٍ) [الصافات : ١٧٤] فإن ذلك ما

١٠٢

أنذرهم بعذاب يحلّ بهم توقع أنهم سيقولون على سبيل الاستهزاء أرنا العذاب الذي تخوفنا به وعجّله لنا.

وبعض المفسرين ذكر أنهم قالوه فلوحظ ذلك وفرع عليه استفهام تعجيبي من استعجالهم ما في تأخيره والنظرة به رأفة بهم واستبقاء لهم حينا.

والفاء في قوله : (فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ) فاء الفصيحة ، أي إن كانوا يستعجلون بالعذاب فإذا نزل بهم فبئس وقت نزوله. وإسناد النزول إلى العذاب وجعله في ساحتهم استعارة تمثيلية مكنية ، شبهت هيئة حصول العذاب لهم بعد ما أنذروا به فلم يعبئوا بهيئة نزول جيش عدوّ في ساحتهم بعد أن أنذرهم به النذير العريان فلم يأخذوا أهبتهم حتى أناخ بهم.

وذكر الصباح لأنه من علائق الهيئة المشبه بها فإن شأن الغارة أن تكون في الصباح ولذلك كان نذير المجيء بغارة عدوّ ينادي : يا صباحاه! نداء ندبة وتفجع. ولذلك جعل جواب «إذا» قوله : (فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) أي بئس الصباح صباحهم.

وفي وصفهم ب (الْمُنْذَرِينَ) ترشيح للتمثيل وتورية في اللفظ لأن المشبهين منذرون من الله بالعذاب. والذين يسوء صباحهم عند الغارة هم المهزومون فكأنه قيل : فإذا نزل بساحتهم كانوا مغلوبين. وهذا التمثيل قابل لتفريق أجزائه في التشبيه بأن يشبه العذاب بالجيش ، وحلوله بهم بنزول الجيش بساحة قوم وما يلحقهم من ضر العذاب بضر الهزيمة ، ووقت نزول العذاب بهم بتصبيح العدوّ محلة قوم. قال في «الكشاف» : «وما فصحت هذه الآية ولا كانت لها الروعة التي تحس بها ويروقك موردها على نفسك وطبعك إلّا لمجيئها على طريقة التمثيل».

واعلم أن في اختيار هذا التمثيل البديع معنى بديعا من الإيماء إلى أن العذاب الذي وعدوه هو ما أصابهم يوم بدر من قتل وأسر على طريقة التورية.

[١٧٨ ـ ١٧٩] (وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩))

عطف على جملة (فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ) [الصافات : ١٧٧] الآية لأن معنى المعطوف عليها الوعد بأن الله سينتقم منهم فعطف عليه أمره رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن لا يهتمّ بعنادهم.

وهذه نظير التي سبقتها المفرعة بالفاء فلذلك يحصل منها تأكيد نظيرتها ، على أنه قد

١٠٣

يكون هذا التولّي غير الأول وإلى حين آخر وإبصار آخر ، فالظاهر أنه تولّ عمن يبقى من المشركين بعد حلول العذاب الذي استعجلوه ، فيحتمل أن يكون حينا من أوقات الدنيا فهو إنذار بفتح مكة. ويحتمل أن يكون إلى حين من أحيان الآخرة ، وإنما جعل ذلك غاية لتولي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنهم لأن توليه العذاب عنهم غاية لتولي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنهم لأن توليه عنهم مستمر إلى يوم القيامة فإن مدة لحاق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرفيق الأعلى لما كانت متصلة بتوليه عنهم جعلت تلك المدة كأنها ظرف للتولي ينتهي بحين إحضارهم للعقاب ، فيكون قوله : (حَتَّى حِينٍ) مرادا به الأبد.

وحذف مفعول (وَأَبْصِرْ) في هذه الآية لدلالة ما في نظيرها عليه.

[١٨٠ ـ ١٨٢] (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٢))

خطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تذييلا لخطابه المبتدأ بقوله تعالى : (فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ) [الصافات : ١٤٩] الآية. فإنه خلاصة جامعة لما حوته من تنزيه الله وتأييده رسله. وهذه الآية فذلكة لما احتوت عليه السورة من الأغراض جمعت تنزيه الله والثناء على الرسل والملائكة وحمد الله على ما سبق ذكره من نعمة على المسلمين من هدى ونصر وفوز بالنعيم المقيم.

وهذه المقاصد الثلاثة هي أصول كمال النفوس في العاجل والآجل ، لأن معرفة الله تعالى بما يليق به تنقذ النفس من الوقوع في مهاوي الجهالة المفضية إلى الضلالة فسوء الحالة. وإنما يتم ذلك بتنزيهه عما لا يليق به. فأشار قوله : (سُبْحانَ رَبِّكَ) إلخ إلى تنزيهه ، وأشار وصف (رَبِّ الْعِزَّةِ) إلى التوصيف بصفات الكمال ، فإن العزة تجمع الصفات النفسية وصفات المعاني والمعنوية لأن الربوبية هي كمال الاستغناء عن الغير ، ولما كانت النفوس وإن تفاوتت في مراتب الكمال لا تسلم من نقص أو حيرة كانت في حاجة إلى مرشدين يبلغونها مراتب الكمال بإرشاد الله تعالى وذلك بواسطة الرسل إلى الناس وبواسطة المبلغين من الملائكة إلى الرسل. وكانت غاية ذلك هي بلوغ الكمال في الدنيا والفوز بالنعيم الدائم في الآخرة. وتلك نعمة تستوجب على الناس حمد الله تعالى على ذلك لأن الحمد يقتضي اتصاف المحمود بالفضائل وإنعامه بالفواضل وأعظمها نعمة الهداية بواسطة الرسل فهم المبلغون إرشاد الله إلى الخلق.

و (رَبِ) هنا بمعنى : مالك. ومعنى كونه تعالى مالك العزة : أنه منفرد بالعزة

١٠٤

الحقيقة وهي العزة التي لا يشوبها افتقار ، فإضافة (رَبِ) إلى (الْعِزَّةِ) على معنى لام الاختصاص كما يقال : صاحب صدق ، لمن اختص بالصدق وكان عريقا فيه. وفي الانتقال من الآيات السابقة إلى التسبيح والتسليم إيذان بانتهاء السورة على طريقة براعة الختم مع كونها من جوامع الكلم.

والتعريف في (الْعِزَّةِ) كالتعريف في (الْحَمْدُ) هو تعريف الجنس فيقتضي انفراده تعالى به لأن ما يثبت لغيره من ذلك الجنس كالعدم كما تقدم في سورة الفاتحة.

وتنكير (سَلامٌ) للتعظيم. ووصف (الْمُرْسَلِينَ) يشمل الأنبياء والملائكة فإن الملائكة مرسلون فيما يقومون به من تنفيذ أمر الله.

روى القرطبي في «تفسيره» بسنده إلى يحيى بن يحيى التميمي النيسابوري إلى أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير مرة ولا مرتين يقول آخر صلاته أو حين ينصرف : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ* وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ).

ومن المروي عن علي بن أبي طالب «من أراد أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليقل آخر مجلسه حين يريد أن يقوم (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) إلى آخر السورة ، وفي بعض أسانيده أنه رفعه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يصح».

١٠٥

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٣٨ ـ سورة ص

سميت في المصاحف وكتب التفسير وكتب السنة والآثار عن السلف «سورة صاد» كما ينطق باسم حرف الصاد تسمية لها بأول كلمة منها هي صاد (بصاد فألف فدال ساكنة سكون وقف) شأن حروف التهجي عند التهجي بها أن تكون موقوفة ، أي ساكنة الأعجاز. وأما قول المعري يذكر سليمان عليه‌السلام :

وهو من سخّرت له الإنس والج

ن بما صح من شهادة صاد

فإنما هي كسرة القافية الساكنة تغير إلى الكسرة (لأن الكسر أصل في التخلص من السكون) كقول امرئ القيس :

عقرت بعيري يا إمرأ القيس فانزل

وفي «الإتقان» عن كتاب «جمال القراء» للسخاوي : أن سورة ص تسمى أيضا سورة داود ولم يذكر سنده في ذلك. وكتب اسمها في المصاحف بصورة حرف الصاد مثل سائر الحروف المقطعة في أوائل السور اتباعا لما كتب في المصحف. وهي مكية في قول الجميع. وذكر في «الإتقان» أن الجعبري حكى قولا بأنها مدنية ، قال السيوطي : وهو خلاف حكاية جماعة الإجماع على أنها مكية. وعن الداني في كتاب «العدد» قول بأنها مدنية وقال : إنه ليس بصحيح.

وهي السورة الثامنة والثلاثون في عداد نزول السور نزلت بعد سورة (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) وقبل سورة الأعراف. وعدّت آيها ستا وثمانين عند أهل الحجاز والشام والبصرة وعدّها أيوب بن المتوكل البصري خمسا وثمانين. وعدت عند أهل الكوفة ثمانا وثمانين.

روى الترمذي عن ابن عباس قال : مرض أبو طالب فجاءته قريش وجاءه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

١٠٦

وعند أبي طالب مجلس رجل ، فقام أبو جهل كي يمنع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أن يجلس وشكوه إلى أبي طالب ، فقال : يا بن أخي ما تريد من قومك؟ قال : إني أريد منهم كلمة واحدة تدين لهم بها العرب وتؤدّي إليهم العجم الجزية. قال : كلمة واحدة! قال : يا عم يقولوا لا إله إلا الله فقالوا : أإلها واحدا ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلّا اختلاق ، قال فنزل فيهم القرآن (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) [ص : ١] إلى قوله : (ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) [ص : ٧] قال : حديث حسن. فهذا نص في أن نزولها في آخر حياة أبي طالب وهذا المرض مرض موته كما في ابن عطية فتكون هذه السورة قد نزلت في سنة ثلاث قبل الهجرة.

أغراضها

أصلها ما علمت من حديث الترمذي في سبب نزولها. وما اتصل به من توبيخ المشركين على تكذيبهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتكبرهم عن قبول ما أرسل به ، وتهديدهم بمثل ما حلّ بالأمم المكذبة قبلهم وأنهم إنما كذبوه لأنه جاء بتوحيد الله تعالى ولأنه اختص بالرسالة من دونهم. وتسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن تكذيبهم وأن يقتدي بالرسل من قبله داود وأيوب وغيرهم وما جوزوا عن صبرهم ، واستطراد الثناء على داود وسليمان وأيوب ، وأتبع ذكر أنبياء آخرين لمناسبة سنذكرها. وإثبات البعث لحكمة جزاء العالمين بأعمالهم من خير أو شر. وجزاء المؤمنين المتقين وضده من جزاء الطاغين والذين أضلّوهم وقبّحوا لهم الإسلام والمسلمين. ووصف أحوالهم يوم القيامة.

وذكر أول غواية حصلت وأصل كل ضلالة وهي غواية الشيطان في قصة السجود لآدم.

وقد جاءت فاتحتها مناسبة لجميع أغراضها إذ ابتدئت بالقسم بالقرآن الذي كذب به المشركون ، وجاء المقسم عليه أن الذين كفروا في عزّة وشقاق وكل ما ذكر فيها من أحوال المكذبين سببه اعتزازهم وشقاقهم ، ومن أحوال المؤمنين سببه ضد ذلك ، مع ما في الافتتاح بالقسم من التشويق إلى ما بعده فكانت فاتحتها مستكملة خصائص حسن الابتداء.

(ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١))

(ص) القول في هذا الحرف كالقول في نظائره من الحروف المقطعة الواقعة في أوائل

١٠٧

بعض السور بدون فرق أنها مقصودة للتهجّي تحدّيا لبلغاء العرب أن يأتوا بمثل هذا القرآن وتورّكا عليهم إذ عجزوا عنه واتفق أهل العدّ على أن (ص) ليس بآية مستقلة بل هي في مبدأ آية إلى قوله : (ذِي الذِّكْرِ) وإنما لم تعد (ص) آية لأنها حرف واحد كما لم يعد (ق) [ق : ١] و (ن) [القلم : ١] آية.

(وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ).

الواو للقسم أقسم بالقرآن قسم تنويه به. ووصف ب (ذِي الذِّكْرِ) لأن (ذِي) تضاف إلى الأشياء الرفيعة فتجري على متصف مقصود التنويه به.

و (الذِّكْرِ) : التذكير ، أي تذكير الناس بما هم عنه غافلون. ويجوز أن يراد بالذكر ذكر اللسان وهو على معنى : الذي يذكر ، بالبناء للنائب ، أي والقرآن المذكور ، أي الممدوح المستحق الثناء على أحد التفسيرين في قوله تعالى : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) [الأنبياء : ١٠] أي شرفكم.

وقد تردد المفسرون في تعيين جواب القسم على أقوال سبعة أو ثمانية وأحسن ما قيل فيه هنا أحد وجهين : أولهما أن يكون محذوفا دلّ عليه حرف (ص) فإن المقصود منه التحدّي بإعجاز القرآن وعجزهم عن معارضته بأنه كلام بلغتهم ومؤلّف من حروفها فكيف عجزوا عن معارضته. فالتقدير : والقرآن ذي الذكر أنه لمن عند الله لهذا عجزتم عن الإتيان بمثله.

وثانيهما : الذي أرى أن الجواب محذوف أيضا دل عليه الإضراب الذي في قوله : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) [ص : ٢] بعد أن وصف القرآن ب (ذِي الذِّكْرِ) ، لأن ذلك الوصف يشعر بأنه ذكر وموقظ للعقول فكأنه قيل : إنه لذكر ولكن الذين كفروا في عزة وشقاق يجحدون أنه ذكر ويقولون : سحر مفترى وهم يعلمون أنه حق كقوله تعالى : (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) [الأنعام : ٣٣] ، فجواب القسم محذوف يدل عليه السياق ، وليس حرف (ص) هو المقسم عليه مقدما على القسم ، أي ليس دليل الجواب من اللفظ بل من المعنى والسياق.

والغرض من حذف جواب القسم هنا الإعراض عنه إلى ما هو أجدر بالذكر وهو صفة الذين كفروا وكذبوا القرآن عنادا أو شقاقا منهم.

١٠٨

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢))

(بَلِ) للإضراب الإبطالي وهذا نوع من الإضراب الإبطالي نبّه عليه الراغب في «مفردات القرآن» وأشار إليه في «الكشاف» ، وتحريره أنه ليس إبطالا محضا للكلام السابق بحيث يكون حرف (بَلِ) فيه بمنزلة حرف النفي كما هو غالب الإضراب الإبطالي ، ولا هو إضراب انتقالي ، ولكن هذا إبطال لتوهم ينشأ عن الكلام الذي قبله إذ دل وصف القرآن ب (ذِي الذِّكْرِ) [ص : ١] أن القرآن مذكّر سامعيه تذكيرا ناجعا ، فعقب بإزالة توهم من يتوهم أن عدم تذكّر الكفار ليس لضعف في تذكير القرآن ولكن لأنهم متعزّزون مشاقّون ، فحرف (بَلِ) في مثل هذا بمنزلة حرف الاستدراك ، والمقصود منه تحقيق أنه ذو ذكر ، وإزالة الشبهة التي قد تعرض في ذلك.

ومثله قوله تعالى : (ق* وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) [ق : ١ ، ٢] ، أي ليس امتناعهم من الإيمان بالقرآن لنقص في علوّه ومجده ولكن لأنهم عجبوا أن جاءهم به رجل منهم.

ولك أن تجعل (بَلِ) إضراب انتقال من الشروع في التنويه بالقرآن إلى بيان سبب إعراض المعرضين عنه ، لأن في بيان ذلك السبب تحقيقا للتنويه بالقرآن كما يقال : دع ذا وخذ في حديث .. ، كقول امرئ القيس :

فدع ذا وسلّ الهمّ عنك بجسرة

ذمول إذا صام النهار وهجرا

وقال زهير :

دع ذا وعدّ القول في هرم

خير البداة وسيد الحضر

وقول الأعشى :

فدع ذا ولكن ما ترى رأي كاشح

يرى بيننا من جهله دقّ منشم

وقول العجاج :

دع ذا وبهّج حسبا مبهّجا

ومعنى ذلك أن الكلام أخذ في الثناء على القرآن ثم انقطع عن ذلك إلى ما هو أهم وهو بيان سبب إعراض المعرضين عنه لاعتزازهم بأنفسهم وشقاقهم ، فوقع العدول عن جواب القسم استغناء بما يفيد مفاد ذلك الجواب.

١٠٩

وإنما قيل : (الَّذِينَ كَفَرُوا) دون (الكافرون) لما في صلة الموصول من الإيماء إلى الإخبار عنهم بأنهم في عزة وشقاق. والعزة تحوم إطلاقاتها في الكلام حول معاني المنعة والغلبة والتكبر فإن كان ذلك جاريا على أسباب واقعة فهي العزة الحقيقية وإن كان عن غرور وإعجاب بالنفس فهي عزة مزوّرة قال تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) [البقرة : ٢٠٦] ، أي أخذته الكبرياء وشدة العصيان ، وهي هنا عزة باطلة أيضا لأنها إباء من الحق وإعجاب بالنفس. وضدّ العزة الذلة قال تعالى : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) [المائدة : ٥٤] وقال السموأل أو غيره :

وما ضرنا أنّا قليل وجارنا

عزيز وجار الأكثرين ذليل

و (فِي) للظرفية المجازية مستعارة لقوة التلبس بالعزة. والمعنى : متلبسون بعزة على الحق.

والشقاق : العناد والخصام. والمراد : وشقاق لله بالشرك ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتكذيب. والمعنى : أن الحائل بينهم وبين التذكير بالقرآن هو ما في قرارة نفوسهم من العزة والشقاق.

(كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣))

استئناف بياني لأن العزة عن الحق والشقاق لله ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما يثير في خاطر السامع أن يسأل عن جزاء ذلك فوقع هذا بيانا له ، وهذه الجملة معترضة بين جملة (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) [ص : ٢] ، وبين جملة (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) [ص: ٤].

وكان هذا البيان إخبارا مرفقا بحجة من قبيل قياس تمثيل ، لأن قوله : (مِنْ قَبْلِهِمْ) يؤذن بأنهم مثلهم في العزة والشقاق ومتضمنا تحذيرا من التريث عن إجابة دعوة الحق ، أي ينزل بهم العذاب فلا ينفعهم ندم ولا متاب كما لم ينفع القرون من قبلهم. فالتقدير : سيجازون على عزتهم وشقاقهم بالهلاك كما جوزيت أمم كثيرة من قبلهم في ذلك فليحذروا ذلك فإنهم إن حقت عليهم كلمة العذاب لم ينفعهم متاب كما لم ينفع الذين من قبلهم متاب عند رؤية العذاب.

و (كَمْ) اسم دال على عدد كثير. و (مِنْ قَرْنٍ) تمييز لإبهام العدد ، أي عددا كثيرا من القرون ، وهي في موضع نصب بالمفعولية ل (أَهْلَكْنا).

١١٠

والقرن : الأمة كما في قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ) [المؤمنون : ٤٢]. و (مِنْ قَبْلِهِمْ) يجوز أن يكون ظرفا مستقرا جعل صفة ل (قَرْنٍ) مقدمة عليه فوقعت حالا ، وإنما قدم للاهتمام بمضمونه ليفيد الاهتمام إيماء إلى أنهم أسوة لهم في العزّة والشقاق وأن ذلك سبب إهلاكهم. ويجوز أن يكون متعلقا ب (أَهْلَكْنا) على أنه ظرف لغو ، وقدم على مفعول فعله مع أن المفعول أولى بالسبق من بقية معمولات الفعل ليكون تقديمه اهتماما به إيماء إلى الإهلاك كما في الوجه الأول.

وفرع على الإهلاك أنهم نادوا فلم ينفعهم نداؤهم ، تحذيرا من أن يقع هؤلاء في مثل ما وقعت فيه القرون من قبلهم إذ أضاعوا الفرصة فنادوا بعد فواتها فلم يفدهم نداؤهم ولا دعاؤهم. والمراد بالنداء في (فَنادَوْا) نداؤهم الله تعالى تضرعا ، وهو الدعاء كما حكي عنهم في قوله تعالى : (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) [الدخان : ١٢]. وقوله : (حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) [المؤمنون : ٦٤].

وجملة (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) في موضع الحال ، والواو واو الحال ، أي نادوا في حال لا حين مناص لهم.

و (لاتَ) حرف نفي بمعنى (لا) المشبهة ب (ليس) و (لاتَ) حرف مختص بنفي أسماء الأزمان وما يتضمن معنى الزمان من إشارة ونحوها. وهي مركبة من (لا) النافية وصلت بها تاء زائدة لا تفيد تأنيثا لأنها ليست هاء وإنما هي كزيادة التاء في قولهم : ربّت وثمّت. والنفي بها لغير الزمان ونحوه خطأ في اللغة وقع فيه أبو الطيب إذ قال :

لقد تصبرت حتى لات مصطبر

والآن أقحم حتى لات مقتحم

وأغفل شارحو ديوانه كلّهم وقد أدخل (لاتَ) على غير اسم زمان. وأيّا ما كان فقد صارت (لا) بلزوم زيادة التاء في آخرها حرفا مستقلا خاصا بنفي أسماء الزمان فخرجت عن نحو : ربّت وثمّت.

وزعم أبو عبيد القاسم بن سلام أن التاء في (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) متصلة ب (حِينَ) وأنه رآها في مصحف عثمان متصلة ب (حِينَ) وزعم أن هذه التاء تدخل على: حين وأوان وآن (١) يريد أن التاء لا حقة لأول الاسم الذي بعد (لا) ولكنه لم يفسر لدخولها معنى. وقد

__________________

(١) يشير إلى قول أبي زبيد :

١١١

اعتذر الأئمة عن وقوع التاء متصلة ب (حِينَ) في بعض نسخ المصحف الإمام بأن رسم المصحف قد يخالف القياس ، على أن ذلك لا يوجد في غير المصحف الذي رآه أبو عبيد من المصاحف المعاصرة لذلك المصحف والمرسومة بعده. والمناص : النجاء والفوت ، وهو مصدر ميمي ، يقال : ناصه ، إذا فاته.

والمعنى : فنادوا مبتهلين في حال ليس وقت نجاء وفوت ، أي قد حق عليهم الهلاك كما قال تعالى : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ) [غافر : ٨٥].

[٤ ـ ٥] (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥))

(وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ).

عطف على جملة (الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) [ص : ٢] فهو من الكلام الواقع الإضراب للانتقال إليه كما وقع في قوله تعالى : (ق* وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) [ق : ١ ، ٢].

والمعنى : أنه استقرّ في نفوسهم استحالة بعثة رسول منهم فذلك سبب آخر لانصرافهم عن التذكر بالقرآن.

والعجب حقيقته : انفعال في النفس ينشأ عن علم بأمر غير مترقب وقوعه عند النفس ، ويطلق على إنكار شيء نادر على سبيل المجاز بعلاقة اللزوم كما في قوله تعالى : (قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) في سورة هود [٧٣] فإن محل العتاب هو كون امرأة إبراهيم أحالت أن تلد ، وهي عجوز وكذلك إطلاقه هنا. والمعنى : وأنكروا وأحالوا أن جاء هم منذر منهم.

والمنذر : الرسول ، أي منذر لهم بعذاب على أفعال هم متلبسون بها.

__________________

طلبوا صلحنا ولات أوان فأجبنا أن ليس حين بقاء

وإلى قول جميل :

نولي قبل نأي داري جمانا

وحلينا كما زعمت قلانا

١١٢

وعبر عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوصف المنذر : ووصف بأنه منهم للإشارة إلى سوء نظرهم من عجبهم لأن شأن النذير أن يكون من القوم ممن ينصح لهم فكونه منهم أولى من أن يكون من غير هم.

ثم إن كان التبعيض المستفاد من حرف (من) مرادا به أنه بعض العرب أو بعض قريش فأمر تجهيلهم في عجبهم من هذا النذير بيّن ؛ وإن كان مرادا به أنه بعض البشر وهو الظاهر فتجهيلهم لأن من كان من جنسهم أجدر بأن ينصح لهم من رسول من جنس آخر كالملائكة ، وهذه جدارة عرفية. وهذا العجب تكرر تصريحهم به غير مرة فهو مستقر في قرارة نفوسهم ، وهو الأصل الداعي لهم إلى الإعراض عن تصديقه فلذلك ابتدئت به حكاية أقوالهم التي قالوها في مجلس شيخ الأباطح كما تقدم في ذكر سبب النزول.

(وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ* أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥)).

بعد أن كشف ما انطوت عليه نفوسهم من العزة والشقاق وإحالة بعثة رسول للبشر من جنسهم ، حوسبوا بما صرحوا به من القول في مجلسهم ذلك ، إشارة بهذا الترتيب إلى أن مقالتهم هذه نتيجة لعقيدتهم تلك.

وفي قوله : (الْكافِرُونَ) وضع الظاهر موقع المضمر وكان مقتضى الظاهر أن يقال: «وقالوا هذا ساحر» إلخ ، وهذا لقصد وصفهم بأنهم كافرون بربهم مقابلة لما وصموا به النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فوصفوا بما هو شتم لهم يجمع ضروبا من الشتم تأصيلا وتفريعا وهو الكفر الذي هو جماع فساد التفكير وفاسد الأعمال.

ولفظ (هذا) أشاروا به إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، استعملوا اسم الإشارة لتحقير مثله في قولهم : (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) [الأنبياء : ٣٦] وإنما قالوا مقالتهم هذه حين انصرافهم من مجلس أبي طالب المذكور في سبب نزول السورة جعلوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقرب عهدهم بمحضره كأنه حاضر حين الإشارة إليه. وجعلوا حاله سحرا وكذبا لأنهم لما لم تقبل عقولهم ما كلمهم به زعموا ما لا يفهمون منه ـ مثل كون الإله واحدا أو كونه يعيد الموتى أحياء ـ سحرا إذ كانوا يألفون من السحر أقوالا غير مفهومة كما تقدم عند قوله تعالى : (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) في سورة البقرة [١٠٢]. وزعموا ما يفهمونه ويحيلونه مثل ادعاء الرسالة عن الله كذبا. وبينوا ذلك بجملتين : إحداهما (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) ، والثانية جملة (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) [ص : ٨].

١١٣

فجملة (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) بيان لجملة (هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ) ، أي حيث عدوه مباهتا لهم بقلب الحقائق والأخبار بخلاف الواقع.

والهمزة للاستفهام الإنكاري التعجيبي ولذلك أتبعوه بما هو كالعلة لقولهم : (ساحِرٌ) وهو (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) أي يتعجب منه كما يتعجب من شعوذة الساحر.

و (عُجابٌ) : وصف الشيء الذي يتعجب منه كثيرا لأن وزن فعال بضم أوله يدل على تمكن الوصف مثل : طوال ، بمعنى المفرط في الطول ، وكرام بمعنى الكثير الكرم ، فهو أبلغ من كريم ، وقد ابتدءوا الإنكار بأول أصل من أصول كفرهم فإن أصول كفرهم ثلاثة : الإشراك ، وتكذيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنكار البعث ، والجزاء في الآخرة.

[٦ ـ ٧] (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (٧))

الانطلاق حقيقته : الانصراف والمشي ، ويستعمل استعمال أفعال الشروع لأن الشارع ينطلق إليه ، ونظيره في ذلك : ذهب بفعل كذا ، كما في قول النبهاني :

فإن كنت سيّدنا سدتنا

وإن كنت للخال فاذهب فخل

وكذلك قام في قوله تعالى : (إِذْ قامُوا فَقالُوا) في سورة الكهف [١٤].

وقيل : إن الانطلاق هنا على حقيقته ، أي وانصرف الملأ منهم عن مجلس أبي طالب. و (الْمَلَأُ) : سادة القوم قال ابن عطية : قائل ذلك عقبة بن أبي معيط. وقال غير ابن عطية : إن من القائلين أبا جهل ، والعاصي بن وائل ، والأسود بن عبد يغوث.

و (أَنِ) تفسيرية لأن الانطلاق إن كان مجازا فهو في الشروع فقد أريد به الشروع في الكلام فكان فيه معنى القول دون حروفه فاحتاج إلى تفسير بكلام مقول ، وإن كان الانطلاق على حقيقته فقد تضمن انطلاقهم عقب التقاول بينهم بكلامهم الباطل (هذا ساحِرٌ) [ص : ٤] إلى قوله : (عُجابٌ) [ص : ٥] يقتضي أنهم انطلقوا متحاورين في ما ذا يصنعون. ولما أسند الانطلاق إلى الملأ منهم على أنهم ما كانوا لينطلقوا إلا لتدبير في ما ذا يصنعون فكان ذلك مقتضيا تحاورا وتقاولا احتيج إلى تفسيره بجملة (أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ) إلخ. والأمر بالمشي يحتمل أن يكون حقيقة ، أي انصرفوا عن هذا المكان مكان المجادلة ، واشتغلوا بالثبات على آلهتكم. ويجوز أن يكون مجازا في

١١٤

الاستمرار على دينهم كما يقال : كما سار الكرام ، أي اعمل كما عملوا ، ومنه سميت الأخلاق والأعمال المعتادة سيرة.

والصبر : الثبات والملازمة ، يقال : صبر الدابة إذا ربطها ، ومنه سمي الثبات عند حلول الضرّ صبرا لأنه ملازمة للحلم والأناة بحيث لا يضطرب بالجزع ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها) [الفرقان : ٤٢] ..

وحرف (عَلى) يدلّ على تضمين (اصْبِرُوا) معنى : اعكفوا وأثبتوا ، فحرف (عَلى) هنا للاستعلاء المجازي وهو التمكن مثل (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥]. وليس هو حرف (عَلى) المتعارف تعدية فعل الصبر به في نحو قوله : (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) [المزمل : ١٠] فإن ذلك بمعنى (مع) ، ولذلك يخلفه اللام في مثل ذلك الموقع نحو قوله تعالى : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) [القلم : ٤٨] ، ولا بدّ هنا من تقدير مضاف ، أي على عبادة آلهتكم ، فلا يتعدى إلى مفعول إن كان مجازا فهو في الشروع فقد أريد به الشروع في الكلام فكان.

وجملة (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) تعليل للأمر بالصبر على آلهتهم لقصد تقوية شكهم في صحة دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنها شيء أراده لغرض أي ليس صادقا ولكنه مصنوع مراد منه مقصد كما يقال : هذا أمر دبّر بليل ، فالإشارة ب (هذا) إلى ما كانوا يسمعونه في المجلس من دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياهم أن يقولوا : لا إله إلا الله.

وقوله : (ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) من كلام الملأ. والإشارة إلى ما أشير إليه بقولهم : (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) ، أي هذا القول وهو (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) [ص: ٥].

والجملة مستأنفة أو مبينة لجملة (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) لأن عدم سماع مثله يبين أنه شيء مصطنع مبتدع. وإعادة اسم الإشارة من وضع الظاهر موضع المضمر لقصد زيادة تمييزه. وفي قوله : (هذا) تقدير مضاف ، أي بمثل هذا الذي يقوله. ونفي السماع هنا خبر مستعمل كناية عن الاستبعاد والاتّهام بالكذب.

و (الْمِلَّةِ) : الدين ، قال تعالى : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) في سورة البقرة [١٢٠] ، وقال : (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) في سورة يوسف [٣٧ ، ٣٨].

١١٥

و (الْآخِرَةِ) : تأنيث الآخر وهو الذي يكون بعد مضي مدة تقررت فيها أمثاله كقوله تعالى : (ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) [العنكبوت : ٢٠].

والمجرور من قوله : (فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) يجوز أن يكون ظرفا مستقرا في موضع الحال من اسم الإشارة بيانا للمقصود من الإشارة متعلقا بفعل (سَمِعْنا). والمعنى : ما سمعنا بهذا قبل اليوم فلا نعتدّ به. ويجوز على هذا التقدير أن يكون المراد ب (الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) دين النصارى ، وهو عن ابن عباس وأصحابه وعليه فالمشركون استشهدوا على بطلان توحيد الإله بأن دين النصارى الذي ظهر قبل الإسلام أثبت تعدد الآلهة ، ويكون نفي السماع كناية عن سماع ضده وهو تعدد الآلهة. ويجوز أن يريدوا ب (الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) الملّة التي هم عليها ويكون إشارة إلى قول ملأ قريش لأبي طالب في حين احتضاره حين قال له النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا عم قل لا إله إلّا الله كلمة أحاجّ لك بها عند الله. فقالوا له جميعا : أترغب عن ملة عبد المطلب». فقولهم : (فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) كناية عن استمرار انتفاء هذا إلى الزمن الأخير فيعلم أن انتفاءه في ملتهم الأولى بالأحرى.

وجملة (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) مبينة لجملة (ما سَمِعْنا بِهذا) وهذا هو المتحصل من كلامهم المبدوء ب (امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ) فهذه الجملة كالفذلكة لكلامهم.

والاختلاق : الكذب المخترع الذي لا شبهة لقائله.

(أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨))

(أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا).

يجوز أن يكون (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) من كلام عموم الكافرين المحكي بقوله : (وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ) [ص : ٤] فيكون متصلا بقوله : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) [ص : ٥] ويكون قوله (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) بيانا لجملة (كَذَّابٌ) [ص : ٤] ، لأن تقديره : هذا كذّاب إذ هو خبر ثان ل (كان) ، ولكونه بيانا للذي قبله لم يعطف عليه ويكون ما بينهما من قوله : (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ)[ص : ٦] إلى قوله : (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) [ص : ٧] اعتراضا بين جملتي البيان.

ويجوز أن يكون من تمام كلام الملأ واستغني به عن بيان جملة (كَذَّابٌ) لأن نطق الملأ به كاف في قول الآخرين بموجبه فاستغنوا عن بيان جملة (كَذَّابٌ).

والاستفهام إنكاري ، ومناط الإنكار هو الظرف (مِنْ بَيْنِنا) وهو في موضع حال من

١١٦

ضمير (عَلَيْهِ) ، فأنكروا أن يخص محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإرسال وإنزال القرآن دون غيره منهم ، وهذا هو المحكي في قوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] أي من مكة أو الطائف ولم يريدوا بهذا الإنكار تجويز أصل الرسالة عن الله وإنما مرادهم استقصاء الاستبعاد فإنهم أنكروا أصل الرسالة كما اقتضاه قوله تعالى : (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) [ص : ٤] وغيره من الآيات ، وهذا الأصل الثاني من أصول كفرهم التي تقدم ذكرها عند قوله تعالى : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً)[ص: ٥] وهو أصل إنكار بعثه رسول منهم.

(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي).

يجوز أن يكون هذا جوابا عن قولهم : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) أي ليس قصدهم الطعن في اختصاصك بالرسالة ولكنهم شاكّون في أصل إنزاله ، فتكون (بَلْ) إضرابا إبطاليا تكذيبا لما يظهر من إنكارهم إنزال الذكر عليه من بينهم على ما تقدم ، أي إنما قصدهم الشك في أن الله يوحي إلى أحد بالرسالة ، فيكون معنى (فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي) شكّا من وقوعه. والشك يطلق على اليقين مجازا مرسلا بعلاقة الإطلاق والتقييد فيكون كمعنى قوله تعالى : (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) [الأنعام : ٣٣]. ويجوز أن يكون انتقالا من خبر عنهم إلى خبر آخر فيكون استئنافا وتكون (بَلْ) للإضراب الانتقالي ، والمعنى : وهم في شك من ذكري ، أي في شك من كنه القرآن ، فمرة يقولون : افتراه ، ومرة يقولون : شعر ، ومرة : سحر ، ومرة : أساطير الأولين ، ومرة : قول كاهن. فالمراد بالشك حقيقته أي التردد في العلم. وإضافة الذكر إلى ضمير المتكلم وهو الله تعالى إضافة تشريف ولتحقيق كونه من عند الله. والذكر على هذا الوجه هو عين المراد من قوله : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) وإنما وقع التعبير عنه بالظاهر دون الضمير توصلا إلى التنويه به بأنه من عند الله.

و (فِي) للظرفية المجازية ، جعلت ملابسة الشك إياهم بمنزلة الظرف المحيط بمحويه في أنه لا يخلو منه جانب من جوانبه.

و (مِنْ) في قوله : (مِنْ ذِكْرِي) ابتدائية لكون الشك صفة لهم ، أي نشأ لهم الشك من شأن ذكري ، أي من جانب نفي وقوعه ، أو في جانب ما يصفونه به.

(بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ).

أتبع ذلك الإضراب بإضراب آخر يبين أن الذي جرّأهم على هذا الشقاق أنهم لما

١١٧

تأخر حلول العذاب بهم ظنوا وعيده كاذبا فأخذوا في البذاءة والاستهزاء ولو ذاقوا العذاب لألقمت أفواههم الحجر.

و (لَمَّا) حرف نفي بمعنى (لم) إلّا أن في (لَمَّا) خصوصية ، وهي أنها تدلّ على المنفي بها متصل الانتفاء إلى وقت التكلم بخلاف (لم) فلذلك كان النفي ب (لَمَّا) قد يفهم منه ترقب حصول المنفي بعد ذلك قال صاحب «الكشاف» في قوله تعالى : (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) في سورة الحجرات [١٤] ما في (لَمَّا) من معنى التوقع دال على أن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد ، أي دال بطريق المفهوم الحاصل من معنى غاية النفي إلى زمن التكلم ، أي لا أضمن ما بعد ذلك ، وقد ذاقوا عذاب السيف يوم بدر بعد نزول هذه الآية بأربع سنين.

وإضافة (عَذابِ) إلى ياء المتكلم لاختصاصه بالله لأنه مقدّره وقاض به عليهم ولوقوعه على حالة غير جارية على المعتاد إذ الشأن أن يستأصل الجيش القوي الجيش القليل. وحذفت ياء المتكلم تخفيفا للفاصلة ، وأبقيت الكسرة دليلا عليها وهو حذف كثير في الفواصل والشعر على نحو حذفها من المنادى.

(أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩))

(أَمْ) منقطعة وهي للإضراب أيضا وهو إضراب انتقالي فإن (أَمْ) مشعرة باستفهام بعدها هو للإنكار والتوبيخ إنكارا لقولهم : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) [ص : ٨] أي ليست خزائن فضل الله تعالى عندهم فيتصدّوا لحرمان من يشاءون حرمانه من مواهب الخير فإن المواهب من الله يصيب بها من يشاء فهو يختار للنبوءة من يصطفيه وليس الاختيار لهم فيجعلوا من لم يقدموه عليهم في دينهم غير أهل لأن يختاره الله.

وتقديم الظرف للاهتمام لأنه مناط الإنكار وهو كقوله تعالى : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) [الزخرف : ٣٢].

والخزائن : جمع خزانة بكسر الخاء. وهي البيت الذي يخزن فيه المال أو الطعام ، ويطلق أيضا على صندوق من خشب أو حديد يخزن فيه المال.

والخزن : الحفظ والحرز. والرحمة : ما به رفق بالغير وإحسان إليه ، شبهت رحمة الله بالشيء النفيس المخزون الذي تطمح إليه النفوس في أنه لا يعطى إلا بمشيئة خازنه على طريقة الاستعارة المكنية. وإثبات الخزائن : تخييل مثل إثبات الأظفار للمنية ،

١١٨

والإضافة على معنى لام الاختصاص. والعدول عن اسم الجلالة إلى وصف لأن له مزيد مناسبة للغرض الذي الكلام فيه إيماء إلى أن تشريفه إياه بالنبوءة من آثار صفة ربوبيته له لأن وصف الربّ مؤذن بالعناية والإبلاغ إلى الكمال. وأجري على الرب صفة (الْعَزِيزِ) لإبطال تدخلهم في تصرفاته ، وصفة (الْوَهَّابِ) لإبطال جعلهم الحرمان من الخير تابعا لرغباتهم دون موادة الله تعالى.

و (الْعَزِيزِ) : الذي لا يغلبه شيء ، و (الْوَهَّابِ) : الكثير المواهب فإن النبوءة رحمة عظيمة فلا يخول إعطاؤها إلا لشديد العزة وافر الموهبة.

(أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠))

إضراب انتقالي إلى رد يأتي على جميع مزاعمهم ويشمل بإجماله جميع النقوض التفصيلية لمزاعمهم بكلمة جامعة كالحوصلة فيشبه التذييل لما يتضمنه من عموم الملك وعموم الأماكن المقتضي عموم العلم وعموم التصرف ينعى عليهم قولهم في المغيبات بلا علم وتحكمهم في مراتب الموجودات بدون قدرة ولا غنى.

والاستفهام المقدر بعد (أَمْ) المنقطعة تهكمي وليس إنكاريا لأن تفريع أمر التعجيز عليه يعيّن أنه تهكمي. فالمعنى : إن كان لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فكان لهم شيء من ذلك فليصعدوا إن استطاعوا في أسباب السماوات ليخبروا حقائق الأشياء فيتكلموا عن علم في كنه الإله وصفاته وفي إمكان البعث وعدمه وفي صدق الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم أو ضده وليفتحوا خزائن الرحمة فيفيضوا منها على من يعجبهم ويحرموا من لا يرمقونه بعين استحسان.

والأمر في (فَلْيَرْتَقُوا) للتعجيز مثل قوله : (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ) [الحج: ١٥].

والتعريف في (الْأَسْبابِ) لعهد الجنس لأن المعروف أن لكل محل مرتفع أسبابا يصعد بها إليه كقول زهير :

ومن هاب أسباب المنايا ينلنه

وإن يرق أسباب السماء بسلّم

وقول الأعشى :

فلو كنت في حبّ ثمانين قامة

ورقيت أسباب السماء بسلّم

والسبب : الحبل الذي يتعلق به الصاعد إلى النخلة للجذاذ ، فإن جعل من حبلين

١١٩

ووصل بين الحبلين بحبال معترضة مشدودة أو بأعواد بين الحبلين مضفور عليها جنبتا الحبلين فهو السلّم. وحرف الظرفية استعارة تبعية للتمكن من الأسباب حتى كأنها ظروف محيطة بالمرتقين.

(جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١))

يجوز أن يكون استئنافا يتصل بقوله : (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ)[ص : ٣] الآية أريد به وصل الكلام السابق فإنه تقدم قوله : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) [ص : ٢] وتلاه قوله : (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) الآية. فلما تقضى الكلام على تفصيل ما للذين كفروا من عزة وشقاق وما لذلك من الآثار ثني العنان إلى تفصيل ما أهلك من القرون أمثالهم من قبلهم في الكفر ليفضي به إلى قوله : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) [ص : ١٢] إلى قوله : (فَحَقَّ عِقابِ) [ص : ١٤].

فتكون جملة (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) بدلا من جملة (جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ) بدل بعض من كلّ. ويجوز أن يكون استئنافا ابتدائيا مستقلا خارجا مخرج البشارة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن هؤلاء جند من الأحزاب مهزوم ، أي مقدّر انهزامه في القريب ، وهذه البشارة معجزة من الإخبار بالغيب ختم بها وصف أحوالهم. قال قتادة : وعد الله أنه سيهزمهم وهم بمكة فجاء تأويلها يوم بدر. وقال الفخر : إشارة إلى فتح مكة. وقال بعض المفسرين : إشارة إلى نصر يوم الخندق.

وعادة الأخبار الجارية مجرى البشارة أو النذارة بأمر مغيب أن تكون مرموزة ، والرمز في هذه البشارة هو اسم الإشارة من قوله : (هُنالِكَ) فإنه ليس في الكلام ما يصلح لأن يشار إليه بدون تأوّل فلنجعله إشارة إلى مكان أطلع الله عليه نبيئه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو مكان بدر. ويجوز أن يكون لفظ (الْأَحْزابِ) في هذه الآية إشارة خفية إلى انهزام الأحزاب أيام الخندق فإنها عرفت بغزوة الأحزاب. وسمّاهم الله (الْأَحْزابِ) في السورة التي نزلت فيهم ، فتكون تلك التسمية إلهاما كما ألهم الله المسلمين فسمّوا حجّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حجّة الوداع وهو يومئذ بينهم سليم المزاج ، وهذا في عداد المعجزات الخفية التي جمعنا طائفة منها في كتاب خاص. ولعل اختيار اسم الإشارة البعيد رمز إلى أن هذا الانهزام سيكون في مكان بعيد غير مكة فلا تكون الآية مشيرة إلى فتح مكة لأن ذلك الفتح لم يقع فيه عذاب للمكذبين بل عفا الله عنهم وكانوا الطلقاء.

١٢٠