تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٣

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٣

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٠٥

أنه متولد من معنى السببية. والأحسن عندي أن يكون متولدا من معنى المصاحبة بطريق الاستعارة التبعية ثم غلب استعمال الباء في مثله في كلامهم فصار كالحقيقة لأنه لما صار إنشاء دعاء لم تبق معه ملاحظة الإخبار بحصول الرحب معهم أو بسببهم كما يتجه بالتأمل.

وجملة (أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا) علة لقلب سبب الشتم إليهم ، أي لأنكم قدمتم العذاب لنا ، فضمير النصب في (قَدَّمْتُمُوهُ) عائد إلى العذاب المشاهد ، وهو حاضر في الذهن غير مذكور في اللفظ ، مثل (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) [ص : ٣٢]. ووقوع (أَنْتُمْ) قبل (قَدَّمْتُمُوهُ) المسند الفعلي يفيد الحصر ، أي لم يضلنا غيركم فأنتم أحقّاء بالعذاب.

والتقديم : جعل الشيء قدّام غيره ، قال تعالى : (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ* ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) [آل عمران : ١٨١ ، ١٨٢]. فتقديم العذاب لهم جعله قدامهم ، أي جعله حيث يجدونه عند وصولهم. وإسناد تقديم العذاب إلى المخاطبين مجاز عقلي لأن الرؤساء كانوا سببا في تقديم العذاب لأتباعهم بإغوائهم وكان العذاب جزاء عن الغواية. وجعل العذاب مقدما وإنما المقدم العمل الذي استحق العذاب ، وهذا مجاز عقلي في المفعول فاجتمع في قوله : (قَدَّمْتُمُوهُ) مجازان عقليان.

وقوله : (فَبِئْسَ الْقَرارُ) موقعه كموقع قوله آنفا (فَبِئْسَ الْمِهادُ)[ص : ٥٦]. وهو ذم لإقامتهم في جهنم تشنيعا عليهم فيما تسببوا لأنفسهم فيه. والمعنى : فبئس القرار ما قدّمتموه لنا ، أي العذاب. والقرار : المكث.

(قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١))

(قالُوا) أي الفوج المقتحم وهو فوج الأتباع ، فهذا من كلام الذين قالوا (بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ) [ص : ٦٠] لأن قولهم : (مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا) يعين هذا المحمل. ولذلك حق أن يتساءل الناظر عن وجه إعادة فعل (قالُوا) وعن وجه عدم عطفه على قولهم الأول.

فأما إعادة فعل القول فلإفادة أن القائلين هم الأتباع فأعيد فعل القول تأكيدا للفعل الأول لقصد تأكيد فاعل القول تبعا لأنه محتمل لضمير القائلين.

والمقصود من حكاية قولهم : (هذا) تحذير كبراء المشركين من عواقب رئاستهم وزعامتهم التي يجرون بها الويلات على أتباعهم فيوقعونهم في هاوية السوء حتى لا يجد الأتباع لهم جزاء بعد الفوت إلا طلب مضاعفة العذاب لهم. وأما تجريد فعل (قالُوا) عن العاطف فلأنه قصد به التوكيد اللفظي والتوكيد اللفظي يكون على مثال الموكّد.

١٨١

ولا تلتبس حكاية هذا القول على هذه الكيفية بحكاية المحاورات فيحسب أنه من كلام الفريق الآخر لأن الدعاء بعنوان (مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا) يعين أن قائليه هم القائلون (أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا) [ص : ٦٠] ، وأن الذين قدّموا لهم هم الطاغون. وفي معنى هذه الآية آية سورة الأعراف [٣٨](قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ).

و (مَنْ) في قوله : (مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا) موصولة ، وجملة (فَزِدْهُ) خبر عن (مَنْ) ، واقتران الخبر بالفاء جرى على معاملة الموصول معاملة الشرط في قرن خبره بالفاء وهو كثير ، وتقدم عند قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) في سورة براءة [٣٤].

والضعف ، بكسر الضاد : يستعمل اسم مصدر ضعّف وضاعف ، فهو اسم التضعيف والمضاعفة ، أي تكرير المقدار وتكرير القوة ، وهو من الألفاظ المتضايفة المعاني كالنصف والزوج.

ويستعمل اسما بمعنى الشيء المضاعف ، وهذا هو قياس زنة فعل بكسر الفاء وسكون العين ، فهو بمعنى : الشيء الذي ضوعف لأن زنة فعل تدلّ على ما سلط عليه فعل نحو ذبح ، أي مذبوح.

[٦٢ ـ ٦٣] (وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣))

عطف على (هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ) [ص : ٥٩] على ما قدّر فيه من فعل قول محذوف كما تقدم ، فهذا من قول الطاغين فإنهم الذين كانوا يحقّرون المسلمين.

والاستفهام في (ما لَنا لا نَرى رِجالاً) استفهام يلقيه بعضهم لبعض تلهّفا على عدم رؤيتهم من عرفوهم من المسلمين مكنّى به عن ملام بعضهم لبعض على تحقيرهم المسلمين واعترافهم بالخطإ في حسبانهم. فليس الاستفهام عن عدم رؤيتهم المسلمين في جهنم استفهاما حقيقيا ناشئا عن ظن أنهم يجدون رجال المسلمين معهم إذ لا يخطر ببال الطاغين أن يكون رجال المسلمين معهم ، كيف وهم يعلمون أنهم بضد حالهم فلا يتوهمونهم معهم في العذاب ، ويجوز أن يكون الاستفهام حقيقيا استفهموا عن مصير المسلمين لأنهم لم يروهم يومئذ ، إذ قد علموا أن الناس صاروا إلى عالم آخر وهو الذي كانوا ينذرون به ، ويكون قولهم : (ما لَنا لا نَرى رِجالاً) إلخ تمهيدا لقولهم : (أَتَّخَذْناهُمْ

١٨٢

سِخْرِيًّا) على كلتا القراءتين الآتي ذكرهما.

و (الْأَشْرارِ) : جمع شر الذي هو بمعنى الأشر ، مثل الأخيار جمع خير بمعنى الأخير ، أو هو : جمع شرّير ضد الخيّر ، أي الموصوفين بشر الحالة ، أي كنا نحسبهم أشقياء قد خسروا لذة الحياة باتّباعهم الإسلام ورضاهم بشظف العيش ، وهم يعنون أمثال بلال ، وعمار بن ياسر ، وصهيب ، وخباب ، وسلمان. وليس المراد أنهم يعدونهم أشرارا في الآخرة مستحقين العذاب فإنهم لم يكونوا يؤمنون بالبعث.

وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم (أَتَّخَذْناهُمْ) بهمزة قطع هي همزة الاستفهام ، وحذفت همزة الوصل من فعل (اتخذنا) لأنها لا تثبت مع همزة الاستفهام لعدم صحة الوقف على همزة الاستفهام ، فجملة (أَتَّخَذْناهُمْ) بدل من جملة (ما لَنا لا نَرى رِجالاً). و (أَمْ) حرف إضراب ، والتقدير : بل زاغت عنهم أبصارنا.

والزيغ : الميل عن الجهة ، أي مالت أبصارنا عن جهتهم فلم تنظرهم.

و (أل) في (الْأَبْصارُ) عوض عن المضاف إليه ، أي أبصارنا ، فيكون المعنى : أكان تحقيرنا إياهم في الدنيا خطأ. وكنّى عنه باتخاذهم سخريا لأن في فعل (أَتَّخَذْناهُمْ) إيماء إلى أنهم ليسوا بأهل للسخرية ، وهذا تندم منهم على الاستسخار بهم.

وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف (أَتَّخَذْناهُمْ) بهمزة وصل على أن الجملة صفة (رِجالاً) ثانية وعليه تكون (أَمْ) منقطعة للإضراب عن قولهم (أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا) أي بل زاغت عنهم الأبصار.

والسخريّ : اسم مصدر سخر منه ، إذا استهزأ به ، فالسخريّ الاستهزاء ، وهو دال على شدة الاستهزاء لأن ياءه في الأصل ياء نسب وياء النسب تأتي للمبالغة في الوصف. وقرأ نافع وحمزة والكسائي وأبو جعفر وخلف بضم السين. وقرأه الباقون بكسر السين كما تقدم في سورة المؤمنين.

(إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤))

تذييل وتنهية لوصف حال الطاغين وأتباعهم ، وعذابهم ، وجدالهم. وتأكيد الخبر بحرف التوكيد منظور فيه لما يلزم الخبر من التعريض بوعيد المشركين وإثبات حشرهم وجزائهم بأنه حق ، أي ثابت كقوله : (وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) [الذاريات : ٦].

١٨٣

والإشارة إلى ما حكي عنهم من المقاولة. وسميت المقاولة تخاصما ، أي تجادلا وإن لم تقع بينهم مجادلة ، فإن الطاغين لم يجيبوا الفوج على قوله : (بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ) [ص : ٦٠] ، ولكن لمّا اشتملت المقاولة على ما هو أشد من الجدال وهو قول كل فريق للآخر (لا مَرْحَباً بِكُمْ) كان الذم أشد من المخاصمة فأطلق عليه اسم التخاصم حقيقة. وتقدم ذكر الخصام عند قوله تعالى : (هذانِ خَصْمانِ) في سورة الحج [١٩].

وأضيف هذا التخاصم إلى أهل النار كلهم اعتبارا بغالب أهلها لأن غالب أهل النار أهل الضلالات الاعتقادية وهم لا يعدون أن يكونوا دعاة للضلال أو أتباعا للدعاة إليه فكلهم يجري بينهم هذا التخاصم ، أما من كان في النار من العصاة فكثير منهم ليس عصيانه إلا تبعا لهواه مع كونه على علم بأن ما يأتيه ضلالة لم يسوّله له أحد.

و (أَهْلِ النَّارِ) هم الخالدون فيها ، كقولهم : أهل قرية كذا ، فإنه لا يشمل المغترب بينهم ، على أن وقت نزول هذه الآية لم يكن في مكة غير المسلمين الصالحين وغير المشركين ، فوصف أهل النار يومئذ لا يتحقق إلا في المشركين دون عصاة المسلمين. وقوله : (تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) إمّا خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هو تخاصم أهل النار ، والجملة استئناف لزيادة بيان مدلول اسم الإشارة ، أو هو مرفوع على أنه خبر ثان عن (إِنَ) ، أو على أنه بدل من (لَحَقٌ).

[٦٥ ـ ٦٦] (قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦))

هذا راجع إلى قوله : (وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ) [ص : ٤] إلى قوله : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) [ص : ٨] ، فلما ابتدرهم الجواب عن ذلك التكذيب بأن نظّر حالهم بحال الأمم المكذبة من قبلهم ولتنظير حال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحال الأنبياء الذين صبروا ، واستوعب ذلك بما فيه مقنع عاد الكلام إلى تحقيق مقام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قومه فأمره الله أن يقول : (إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ) مقابل قولهم : (هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ) ، وأن يقول : (ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ) مقابل إنكارهم التوحيد كقولهم : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً)[ص : ٥] فالجملة استئناف ابتدائي. وذكر صفة الواحد تأكيد لمدلول (ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ) إماء إلى رد إنكارهم. وذكر صفة (الْقَهَّارُ) تعريض بتهديد المشركين بأن الله قادر على قهرهم ، أي غلبهم. وتقدم الكلام على القهر عند قوله تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) في سورة الأنعام [١٨].

١٨٤

واتباع ذلك بصفة (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) تصريح بعموم ربوبيته وأنه لا شريك له في شيء منها. ووصف (الْعَزِيزُ) تمهيد للوصف ب (الْغَفَّارُ) ، أي الغفّار عن عزّة ومقدرة لا عن عجز وملق أو مراعاة جانب مساو. والمقصود من وصف (الْغَفَّارُ) هنا استدعاء المشركين إلى التوحيد بعد تهديدهم بمفاد وصف (الْقَهَّارُ) لكي لا ييأسوا من قبول التوبة بسبب كثرة ما سيق إليهم من الوعيد جريا على عادة القرآن في تعقيب الترهيب بالترغيب والعكس.

[٦٧ ـ ٧٠] (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠))

إعادة الأمر بالقول هنا مستأنفا. والعدول عن الإتيان بحرف يعطف المقول أعني (هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ) على المقول السابق أعني (أَنَا مُنْذِرٌ) [ص : ٦٥] ، عدول يشعر بالاهتمام بالمقول هنا كيلا يؤتى به تابعا لمقول آخر فيضعف تصدي السامعين لوعيه.

وجملة (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ* أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) يجوز أن تكون في موقع الاستئناف الابتدائي انتقالا من غرض وصف أحوال أهل المحشر إلى غرض قصة خلق آدم وشقاء الشيطان ، فيكون ضمير (هُوَ) ضمير شأن يفسره ما بعده وما يبيّن به ما بعده من قوله : (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) [ص : ٧١] جعل هذا كالمقدمة للقصة تشويقا لتلقّيها فيكون المراد بالنبإ نبأ خلق آدم وما جرى بعده ، ويكون ضمير (يَخْتَصِمُونَ) عائدا إلى الملأ الأعلى لأن الملأ جماعة. ويراد بالاختصام الاختلاف الذي جرى بين الشيطان وبين من بلّغ إليه من الملائكة أمر الله بالسجود لآدم ، فالملائكة هم الملأ الأعلى وكان الشيطان بينهم فعدّ منهم قبل أن يطرد من السماء.

ويجوز أن تكون جملة (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ) إلخ تذييلا للذي سبق من قوله : (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ) [ص : ٤٩] إلى هنا ، تذييلا يشعر بالتنويه به وبطلب الإقبال على التدبر فيه والاعتبار به. وعليه يكون ضمير (هُوَ) ضميرا عائدا إلى الكلام السابق على تأويله بالمذكور فلذلك أتي لتعريفه بضمير المفرد.

والمراد بالنبإ : خبر الحشر وما أعد فيه للمتقين من حسن مآب ، وللطاغين من شر مآب ، ومن سوء صحبة بعضهم لبعض ، وتراشقهم بالتأنيب والخصام بينهم وهم في العذاب ، وترددهم في سبب أن لم يجدوا معهم المؤمنين الذين كانوا يعدّونهم من

١٨٥

الأشرار. ووصف النبأ ب (عَظِيمٌ) تهويل على نحو قوله تعالى : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ* الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) [النبأ : ١ ـ ٣]. وعظمة هذا النبأ بين الأنباء من نوعه من أنباء الشر مثل قوله : (فَسادٌ كَبِيرٌ) [الأنفال : ٧٣] ، فتم الكلام عند قوله تعالى : (أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ).

فتكون جملة (ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى) إلى قوله : (نَذِيرٌ مُبِينٌ) استئنافا للاستدلال على صدق النبأ بأنه وحي من الله ولو لا أنه وحي لما كان للرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل بمعرفة هذه الأحوال على حد قوله تعالى : (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) [آل عمران : ٤٤] ، ونظائر هذا الاستدلال كثيرة في القرآن.

وتكون جملة (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً) [ص : ٧١] إلى آخره استئنافا ابتدائيا.

وعلى هذا فضمير (يَخْتَصِمُونَ) عائد إلى أهل النار من قوله : (تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) [ص : ٦٤] إذ لا تخاصم بين أهل الملأ الأعلى. والمعنى : ما كان لي من علم بعالم الغيب وما يجري فيه من الإخبار بما سيكون إذ يختصم أهل النار في النار يوم القيامة.

وعلى كلا التفسيرين فمعنى (أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) ، أنهم غافلون عن العلم به فقد أعلموا بالنبإ بمعناه الأول وسيعلمون قريبا بالنبإ بمعناه الثاني.

وجيء بالجملة الاسمية في قوله : (أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) لإفادة إثبات إعراضهم وتمكنه منهم ، فأما إعراضهم عن النبأ بمعناه الأول فظاهر تمكنه من نفوسهم لأنه طالما أنذرهم بعذاب الآخرة ووصفه فلم يكترثوا بذلك ولا ارعووا عن كفرهم. وأما إعراضهم عن النبأ بمعناه الثاني ، فتأويل تمكنه من نفوسهم عدم استعدادهم للاعتبار بمغزاه من تحقق أن ما هم فيه هو وسوسة من الشيطان قصدا للشّرّ بهم.

ولعل هذه الآية من هذه السورة هي أول ما نزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذكر قصة خلق آدم وسجود الملائكة وإباء إبليس من السجود ، فإن هذه السورة في ترتيب نزول سور القرآن لا يوجد ذكر قصة آدم في سورة نزلت قبلها. فذلك وجه التوطئة للقصة بأساليب العناية والاهتمام مما خلا غيرها عن مثله وبأنها نبأ كانوا معرضين عنه. وأيّا ما كان فقوله : (أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) توبيخ لهم وتحميق.

وجملة (ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ) اعتراض إبلاغ في

١٨٦

التوبيخ على الإعراض عن النبأ العظيم ، وحجة على تحقق النبأ بسبب أنه موحى به من الله وليس للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبيل إلى عمله لو لا وحي الله إليه به. وذكر فعل (كانَ) دال على أن المنفي علمه بذلك فيما مضى من الزمن قبل أن يوحى إليه بذلك كما قال تعالى : (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) [آل عمران : ٤٤] وقوله : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) [القصص : ٤٤].

والباء في قوله : (بِالْمَلَإِ الْأَعْلى) على كلا المعنيين للنبإ ، لتعدية (عِلْمٍ) لتضمينه معنى الإحاطة ، وهو استعمال شائع في تعدية العلم. ومنه ما في حديث سؤال الملكين في «الصحيح» فيقال له : ما علمك بهذا الرجل. ويجوز على المعنى الثاني في النبأ أن تكون الباء ظرفية ، أي ما كان لي علم كائن في الملأ الأعلى ، أي ما كنت حاضرا في الملأ الأعلى فهي كالباء في قوله : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) [القصص : ٤٤].

والملأ : الجماعة ذات الشأن ، ووصفه ب (الْأَعْلى) لأن المراد ملأ السماوات وهم الملائكة ولهم علوّ حقيقي وعلوّ مجازيّ بمعنى الشرف.

و (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) ظرف متعلق بفعل (ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ) أي حين يختصم أهل الملأ الأعلى على أحد التأويلين ، أي في حين تنازع الملائكة وإبليس في السماء. والتعبير بالمضارع في موضع المضيّ لقصد استحضار الحالة ، أو حين يختصم الطاغون وأتباعهم في النار بين يدي الملأ الأعلى ، أي ملائكة النار أو ملائكة المحشر ، والمضارع على أصله من الاستقبال.

والاختصام : افتعال من خصمه ، إذا نازعه وخالفه فهو مبالغة في خصم.

وجملة (إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) مبيّنة لجملة (ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ) ، أي ما علمت بذلك النبأ إلا بوحي من الله وإنما أوحى الله إليّ ذلك لأكون نذيرا مبينا.

وقد ركّبت هذه الجملة من طريقين للقصر : أحدهما طريق النفي والاستثناء ، والآخر طريق (أَنَّما) المفتوحة الهمزة وهي أخت (إنما) المكسورة الهمزة في معانيها التي منها إفادة الحصر ، ولا التفات إلى قول من نفوا إفادتها الحصر فإنها مركبة من (أنّ) المفتوحة الهمزة و (ما) الكافّة وليست (أنّ) المفتوحة الهمزة إلا (إن) المكسورة تغيّر كسرة همزتها

١٨٧

إلى فتحة لتفيد معنى مصدريا مشربا ب (أن) المصدرية إشرابا بديعا جعل شعاره فتح همزتها لتشابه (أن) المصدرية في فتح الهمزة وتشابه (أنّ) في تشديد النون ، وهذا من دقيق الوضع في اللغة العربية. وتكون (أَنَّما) مفتوحة الهمزة إذا جعلت معمولة لعامل في الكلام. والذي يقتضيه مقام الكلام هنا أن فتح همزة (أَنَّما) لأجل لام تعليل مقدرة مجرور بها (أَنَّما). والتقدير : إلّا لأنما أنا نذير ، أي إلا لعلّة الإنذار ، أي ما أوحي إلي نبأ الملأ الأعلى إلا لأنذركم به ، أي ليس لمجرد القصص.

فالاستثناء من علل ، وقد نزّل فعل (يُوحى) منزلة اللازم ، أي ما يوحى إلي وحي فلا يقدّر له مفعول لقلة جدواه وإيثار جدوى تعليل الوحي.

وبهذا التقدير تكمل المناسبة بين موقع هذه الجملة وموقع جملة (ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ) المبيّنة بها جملة (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ* أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) ، إذ لا مناسبة لو جعل (أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) مستثنى من نائب فاعل الوحي بأن يقدر : إن يوحى إليّ شيء إلا أنما أنا نذير مبين ، أي ما يوحى إليّ شيء إلا كوني نذيرا ، وإن كان ذلك التقدير قد يسبق إلى الوهم لكنه بالتأمل يتّضح رجحان تقدير العلة عليه.

فأفادت جملة (إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) حصر حكمة ما يأتيه من الوحي في حصول الإنذار وحصر صفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صفة النذارة ، ويستلزم هذان الحصران حصرا ثالثا ، وهو أن إخبار القرآن وحي من الله وليست أساطير الأولين كما زعموا. فحصل في هذه الجملة ثلاثة حصور : اثنان منها بصريح اللفظ ، والثالث بكناية الكلام ، وإلى هذا المعنى أشار قوله تعالى : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) [القصص : ٤٦]. وهذه الحصور : اثنان منها إضافيان ، وهما قصر ما يوحى إليه على علة النذارة وقصر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على صفة النذارة ، وكلاهما قلب لاعتقادهم أنهم يسمعون القرآن ليتخذوه لعبا واعتقادهم أن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم ساحر أو مجنون. وعلم من هذا أن ذكر نبأ خلق آدم قصد به الإنذار من كيد الشيطان. وقرأ أبو جعفر إلا إنما بكسر همزة إنما على تقدير القول ، أي ما يوحى إلا هذا الكلام.

[٧١ ـ ٧٤] (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ

١٨٨

الْكافِرِينَ (٧٤))

موقع (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) صالح لأن يكون استئنافا فإذا جعلنا النبأ بمعنى نبأ أهل المحشر الموعود به فيكون (إِذْ قالَ) متعلقا بفعل محذوف تقديره : أذكر ، على أسلوب قوله : (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ* إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً) [النمل : ٦ ، ٧] ، ونظائره.

فإمّا على جعل النبأ بمعنى نبأ خلق آدم فإن جملة (إِذْ قالَ رَبُّكَ) بدل من (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) [ص : ٦٩] بدل بعض من كل لأن مجادلة الملأ الأعلى على كلا التفسيرين المتقدمين غير مقتصرة على قضية قصة إبليس ، فقد روى الترمذي بسنده عن مالك بن يخامر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديثا طويلا في رؤيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنه رأى ربه تعالى فقال له : يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت : لا أدري. قالها ثلاثا. ثم قال بعد الثالثة بعد أن فتح الله عليه ، قلت : في الكفارات. قال : ما هن؟ قلت مشي الأقدام إلى الحسنات والجلوس في المساجد». وذكر أشياء من الأعمال الصالحة (ولم يذكر اختصامهم في قضية خلق آدم). وقال الترمذي هو حديث حسن صحيح وقال عن البخاري : إنه أصح من غيره مما في معناه ولم يخرجه البخاري في «صحيحه» وليس في الحديث أنه تفسير لهذه الآية ، وإنما جعله الترمذي في كتاب «التفسير» لأن ما ذكر فيه بعض مما يختصم فيه أهل الملأ الأعلى مراد به اختصام خاص هو ما جرى بينهم في قصة خلق آدم والمقاولة بين الله وبين الملائكة لأن قوله : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ) يقتضي أنهم قالوا كلاما دل على أنهم أطاعوا الله فيما أمرهم به ، بل ورد في سورة البقرة تفصيل ما جرى من قول الملائكة فهو يبيّن ما أجمل هنا وإن كان متأخرا إذ المقصود من سوق القصة هنا الاتّعاظ بكبر إبليس دون ما نشأ عن ذلك. ويجوز أن يكون (إِذْ قالَ رَبُّكَ) منصوبا بفعل مقدر ، أي اذكر إذ قال ربك للملائكة ، وهو بناء على أن ضمير (هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ) [ص : ٦٧] ليس ضمير شأن بل هو عائد إلى ما قبله وأن (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) [ص : ٦٩] مراد به خصومة أهل النار. وقصة خلق آدم تقدم ذكرها في سور كثيرة أشبهها بما هنا ما في سورة الحجر ، وأبينها ما في سورة البقرة.

ووقع في سورة الحجر [٣١](إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى) وفي هذه السورة (إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ) فيكون ما في هذه الآية يبين الباعث على الإباية. ووقعت هنا زيادة (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) ، وهو بيان لكون المراد في سورة الحجر [٣١] من قوله : (أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) الإباية من الكون من الساجدين لله ، أي المنزهي الله عن الظلم والجهل.

١٨٩

ووقع في هذه السورة (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) ، ومعناه أنه كان كافرا ساعتئذ ، أي ساعة إبائه من السجود ولم يكن قبل كافرا ، ففعل (كانَ) الذي وقع في هذا الكلام حكاية لكفره الواقع في ذلك الوقت. قال الزجّاج : «(كان) جار على باب سائر الأفعال الماضية إلّا أن فيه إخبارا عن الحالة فيما مضى ، إذا قلت : كان زيد عالما ، فقد أنبأت عن أن حالته فيما مضى من الدهر هذا ، وإذا قلت : سيكون عالما فقد أنبأت عن أن حالة ستقع فيما يستقبل ، فهما عبارتان عن الأفعال والأحوال» اه.

وقد بدت من إبليس نزعة كانت كامنة في جبلته وهي نزعة الكبر والعصيان ، ولم تكن تظهر منه قبل ذلك لأن الملأ الذي كان معهم كانوا على أكمل حسن الخلطة فلم يكن منهم مثير لما سكن في نفسه من طبع الكبر والعصيان. فلما طرأ على ذلك الملأ مخلوق جديد وأمر أهل الملأ الأعلى بتعظيمه كان ذلك موريا زناد الكبر في نفس إبليس فنشأ عنه الكفر بالله وعصيان أمره.

وهذا ناموس خلقي جعله الله مبدأ لهذا العالم قبل تعميره ، وهو أن تكون الحوادث والمضائق معيار الأخلاق والفضيلة ، فلا يحكم على نفس بتزكية أو ضدها إلا بعد تجربتها وملاحظة تصرفاتها عند حلول الحوادث بها. وقد مدح رجل عند عمر بن الخطاب بالخير ، فقال عمر : هل أريتموه الأبيض والأصفر؟ يعني الدراهم والدنانير. وقال الشاعر :

لا تمد حنّ امرأ حتّى تجرّبه

ولا تذمّنّه من قبل تجريب.

إن الرجال صناديق مقفّلة

وما مفاتيحها غير التجاريب

ووجه كونه من الكافرين أنه امتنع من طاعة الله امتناع طعن في حكمة الله وعلمه ، وذلك كفر لا محالة ، وليس كامتناع أحد من أداء الفرائض إن لم يجحد أنها حقّ خلافا للخوارج وكذلك المعتزلة.

[٧٥ ـ ٧٦] (قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦))

أي خاطب الله إبليس ولا شك أن هذا الخطاب حينئذ كان بواسطة ملك من الملائكة لأن إبليس لما استكبر قد انسلخ عن صفة الملكية فلم يعد بعد أهلا لتلقي الخطاب من الله ولم يكن أرفع رتبة من الرسل الذين قال الله فيهم (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) [الشورى :

١٩٠

٥١] ، وبذلك تكون المحاورة المحكية هنا بواسطة ملك فيكون الاختصام بينه وبين الملائكة على جعل ضمير (يَخْتَصِمُونَ) [ص : ٦٩] عائدا إلى الملأ الأعلى كما تقدم.

وجيء بفعل (قالَ) غير معطوف حسب طريقة المقاولات. وتقدم قريب من هذه الآية في سورة الحجر إلا قوله هنا (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ) ، أي ما منعك من السجود ، ووقع في سورة [الأعراف : ١٢](أَلَّا تَسْجُدَ) على أن لا زائدة. وحكي هنا أن الله قال له : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) ، أي خلقته بقدرتي ، أي خلقا خاصّا دفعة ومباشرة لأمر التكوين ، فكان تعلق هذا التكوين تعلقا أقرب من تعلقه بإيجاد الموجودات المرتّبة لها أسباب تباشرها من حمل وولادة كما هو المعروف في تخلق الموجودات عن أصولها. ولا شكّ في أن خلق آدم فيه عناية زائدة وتشريف اتصال أقرب. فاليدان تمثيل لتكوّن آدم من مجرد أمر التكوين للطين بهيئة صنع الفخّاري للإناء من طين إذ يسوّيه بيديه. وكان السلف يقرّون أن اليدين صفة خاصة لله تعالى لورودهما في القرآن مع جزمهم بتنزيه الله عن مشابهة المخلوقات وعن الجسمية وقصدهم الحذر من تحكيم الآراء في صفات الله ، أو أن تحمل العقول القاصرة صفات الله على ما تعارفته (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) [طه : ٣٩] وقال مرة (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) [الطور : ٤٨]. وقد تقدم القول في الآيات المشابهة في أول سورة آل عمران.

وفي إلقاء هذا السؤال إلى إبليس قطع بمعذرته. والمعنى : أمن أجل أنك تتعاظم بغير حق أم لأنك من أصحاب العلو ، والمراد بالعلو الشرف ، أي من العالين على آدم فلا يستحق أن تعظمه فأجاب إبليس مما يشق الثاني. فتبين أنه يعدّ نفسه أفضل من آدم لأنه مخلوق من النار وآدم مخلوق من الطين ، يعني والنار أفضل من الطين ، أي في رأيه. وعبر عن آدم باسم «ما» الموصولة وهو حينئذ إنسان لأن سجود الملائكة لآدم كان بعد خلقه وتعليمه الأسماء كما في سورة البقرة. ويؤيد قول أهل التحقيق أن «ما» لا تختص بغير العاقل وشواهده كثيرة في القرآن وغيره من كلام العرب.

وقال : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) قول من الشيطان حكي على طريقة المحاورات. وجملة (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) بيان لجملة (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ). وقد جعل إبليس عذره مبنيا على تأصيل أن النار خير من الطين ولم يرد في القرآن أن الله رد عليه هذا التأصيل لأنه أحقر من ذلك فلعنه وأطرده لأنه ادعى باطلا وعصى ربّه استكبارا : وطرده أجمع لإبطال علمه ودحض دليله ، غير أن النور الذي في النار نور عارض قائم بالأجسام الملتهبة

١٩١

التي تسمّى نارا ، وليس للنار قيام بنفسها ولذلك لم تعد أن يكون كيانها مخلوطا بما يلهبها.

ومعنى كون الشيطان مخلوقا من النار أنّ ابتداء تكوّن الذّرة الأصلية لقوام ماهيته من عنصر النار ، ثم تمتزج تلك الذرة بعناصر أخرى مثل الهواء وما الله أعلم به. ومعنى كون آدم مخلوقا من الطين أن ابتداء تكوّن ذرات جثمانه من عنصر التراب وأدخل على تلك الذرات ما امتزجت به عناصر الهواء والماء والنار وما يتولد على ذلك التركيب من عناصر كيماوية وقوة كهربائية تتقوم بمجموعها ماهية الإنسان.

وتكون (مِنْ) في الموضعين ابتدائية لا تبعيضية.

وقد جزم الفلاسفة الأولون والأطباء بأن عنصر النار أشرف من عنصر التراب ـ ويعبر عنه بالأرض ـ لأن النار لطيفة مضيئة اللون والتراب كثيف مظلم اللون.

وقال الشيرازي في «شرح كليات القانون» : إن النار وإن ترجحت على الأرض بما ذكر فالأرض راجحة عليها بأنها خير للحيوان والنبات ، وغير مفسدة ببردها ، بخلاف النار فإنها مفسدة بحرّها لكونه في الغاية إلى غير ذلك.

والحق : أن أفضليّة العناصر لا تقتضي أفضلية الكائنات المنشأة منها لأن العناصر أجرام بسيطة لا تتكون المخلوقات من مجردها بل المخلوقات تتكون بالتركيب بين العناصر ، والأجسام الإنسانية مركبة من العناصر كلّها. والروح الآدمي لطيفة نورانية تفوّق بها الإنسان على جميع المركبات بأن كان فيه جزء ملكي شارك به الملائكة ، ولذلك طلب منه خالقه تعالى وتقدّس أن يلحق نفسه بالملائكة فتحقق ذلك الالتحاق كاملا في الأنبياء والمرسلين ومن أجل ذلك قلنا : إن الأنبياء والرسل أفضل من الملائكة لاستواء الفريقين في تمحض النورانية وتميّز فريق الأنبياء بأنهم لحقوا تلك المراتب بالاصطفاء والطاعة ، فليس لإبليس دليل في التفضيل على آدم وإنما عرضت له شبهة ضالة ولذلك جوزي على إبائه من السجود إليه بالطرد من الملأ الأعلى.

وإنما بسطنا القول هنا لردّ شبه طائفة من الملاحدة الذين يصوبون شبهة إبليس طعنا في الدين لا إيمانا بالشياطين ليعلموا أنه لو سلمنا أن النار أشرف من الطين لما كان ذلك مقتضيا أن يكون ما ينشأ من النار أفضل مما ينشأ من الطين لأن المخلوق كائن مركب من عناصر وأجزاء متفاوتة والتركيب قد يدخل على المادة الأولى شرفا وقد يدخل عليها

١٩٢

حقارة ، والتفاضل إنما يتقوم من الكمال في الذات والآثار.

[٧٧ ـ ٧٨] (قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨))

عاقبه الله على ما برز من نفسانيته فخالف ما كان من طريقته فأطرده من الملأ الأعلى ومن الجنة ، وضمير (قالَ) عائد إلى الله تعالى على طريقة حكاية المقاولات. وفرّع أمره بالخروج من الجنة بالفاء على ما تقدمه من السؤال والجواب لأن جوابه دل على كون خبث في نفسه بدت آثاره في عمله فلم يصلح لمخالطة أهل الملأ الأعلى. وتقدم تفسير نظير هذه الآية في سورة الحجر.

واللعنة : الإبعاد من رحمة الله ، وأضيف إلى الله لتشنيع متعلقها وهو الملعون لأن الملعون من جانب الله هو أشنع ملعون.

وجعل (يَوْمِ الدِّينِ) غاية اللعنة للدلالة على دوامها مدة هذه الحياة كلها ليستغرق الأزمنة كلها ، وليس المراد حصول ضد اللعنة له يوم الدين أعني الرحمة لأن يوم الدين يوم الجزاء على الأعمال فجزاء الملعون العذاب الأليم كما أنبأ بذلك التعبير ب (يَوْمِ الدِّينِ) دون : (يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [ص : ٧٩] ، أو (يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) [ص : ٨١].

[٧٩ ـ ٨١] (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١))

أي قال إبليس. وتقدم نظير هذه الآية في سورة الحجر وتفسيرها هناك مستوفى.

[٨٢ ـ ٨٣] (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣))

الفاء لتفريع كلامه على أمر الله إياه بالخروج من الجنة وعقابه إياه باللعنة الدائمة وهذا التفريع من تركيب كلام متكلم على كلام متكلم آخر. وهو الملقب بعطف التلقين في قوله تعالى : (قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) في سورة البقرة [١٢٤].

أقسم الشيطان بعزة الله تحقيقا لقيامه بالإغواء دون تخلف ، وإنما أقسم على ذلك وهو يعلم عظمة هذا القسم لأنه وجد في نفسه أن الله أقدره على القيام بالإغواء والوسوسة وقد قال في سورة الحجر [٣٩] : (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ).

١٩٣

والعزة : القهر والسلطان ، وعزة الله هي العزة الكاملة التي لا تختل حقيقتها ولا يتخلف سلطانها ، وقسم إبليس بها ناشئ عن علمه بأنه لا يستطيع الإغواء إلا لأن الله أقدره ولو لا ذلك لم يستطع نقض قدرة الله تعالى.

وتقدم تفسير نظير : (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) في سورة [الحجر : ٤٠].

[٨٤ ـ ٨٥] (قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥))

أي قال الله تعالى تفريعا ، وهذا التفريع نظير التفريع في قوله : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [ص : ٨٢].

وقوبل تأكيد عزمه الذي دل عليه قوله (فَبِعِزَّتِكَ) [ص : ٨٢] بتأكيد مثله ، وهو لفظ (فَالْحَقُ) الدال على أن ما بعده حق ثابت لا يتخلف ، ولم يزد في تأكيد الخبر على لفظ (فَالْحَقُ) تذكيرا بأن وعد الله تعالى حق لا يحتاج إلى قسم عليه ترفعا من جلال الله عن أن يقابل كلام الشيطان بقسم مثله. ولذلك زاد هذا المعنى تقريرا بالجملة المعترضة وهي (وَالْحَقَّ أَقُولُ) الذي هو بمعنى : لا أقول إلا الحق ، ولا حاجة إلى القسم.

وقرأ الجمهور : (فَالْحَقُ) بالنصب وانتصابه على المفعولية المطلقة بدلا عن فعل من لفظه محذوف تقديره : أحقّ ، أي أوجب وأحقّق. وأصله التنكير ، فتعريفه باللام تعريف الجنس كالتعريف في : أرسلها العراك ، فهو في حكم النكرة وإنما تعريفه حلية لفظية إشارة إلى ما يعرفه السامع من أن الحق ما هو وتقدم بيانه في أول الفاتحة.

وقرأه عاصم وحمزة بالرفع على أنه لمّا تعرف باللام غلبت عليه الاسمية فتنوسي كونه نائبا عن الفعل. وهذا الرفع إما على الابتداء ، أي فالحق قولي ، أو فالحق لأملأنّ جهنم إلخ ، على أن تكون جملة القسم قائمة مقام الخبر ، وإمّا على الخبرية ، أي فقولي الحقّ وتكون جملة (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) مفسر القول المحذوف ، ولا خلاف في نصب الحق من قوله : (وَالْحَقَّ أَقُولُ). وتقدم تفصيل ذلك في أول سورة الفاتحة.

وجملة (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ) إلخ مبيّنة لجملة (فَالْحَقُ) وهي مؤكدة بلام القسم والنون.

١٩٤

وتقدم المفعول في (وَالْحَقَّ أَقُولُ) للاختصاص ، أي ولا أقول إلا الحق.

و (من) في قوله : (مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ) بيانية وهي التي تدخل على التمييز وينتصب التمييز بتقدير معناها. وتدخل على تمييز (كم) في نحو (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) [ص : ٣] ، وهي هنا بيان لما دل عليه (لَأَمْلَأَنَ) من مقدار مبهم فبيّن بآية (مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ) ولما كان شأن مدخول «من» البيانية أن يكون نكرة تعين اعتبار كاف الخطاب في معنى اسم الجنس ، أي من جنسك الشياطين إذ لا تكون ذات إبليس ملأ لجهنم. وإذ قد عطف عليه (وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) أي من تبعك من الذين أغويتهم من بني آدم ، فلا جائز أن يبقى من عدا هذين من الشياطين والجنة غير ملء لجهنم.

و (أَجْمَعِينَ) توكيد لضمير (مِنْكَ) و «لمن» في قوله : (وَمِمَّنْ تَبِعَكَ).

واعلم أن حكاية هذه المقاولة بين كلام الله وبين الشيطان حكاية لما جرى في خلد الشيطان من المدارك المترتبة المتولدة في قرارة نفسه ، وما جرى في إرادة الله من المسببات المترتبة على أسبابها من خواطر الشيطان لأن العالم الذي جرت فيه هذه الأسباب ومسبباتها عالم حقيقة لا يجري فيه إلا الصدق ولا مطمع فيه لترويج المواربة ولا الحيلة ولذلك لا تعد خواطر الشيطان المذكورة فيه جرأة على جلال الله تعالى ولا تعدّ مجازاة الله تعالى الشيطان عليه تنازلا من الله لمحاورة عبد بغيض لله تعالى.

وقد ذكرنا في تفسير سورة الحجر ما دلت عليه الأقوال التي جرت من الشيطان بين يدي الله تعالى والأقوال التي ألقاها الله عليه.

[٨٦ ـ ٨٨] (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨))

لمّا أمر الله رسوله بإبلاغ المواعظ والعبر التي تضمنتها هذه السورة أمره عند انتهائها أن يقرع أسماعهم بهذا الكلام الذي هو كالفذلكة للسورة تنهية لها تسجيلا عليهم أنه ما جاءهم إلا بما ينفعهم وليس طالبا من ذلك جزاء ، أي لو سألهم عليه أجرا لراج اتّهامهم إياه بالكذب لنفع نفسه ، فلما انتفى ذلك وجب أن ينتفي توهم اتهامه بالكذب لأن وازع العقل يصرف صاحبه على أن يكذب لغير نفع يرجوه لنفسه.

والمعنى عموم نفي سؤاله الأجر منهم من يوم بعث إلى وقت نزول هذه الآية وهو

١٩٥

قياس استقراء لأنهم إذا استقروا أحوال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما مضى وجدوا انتفاء سؤاله أجرا أمرا عاما بالاستقراء التام الحاصل من جميع أفراد المشركين في جميع مخالطاتهم إياه ، فهو أمر متواتر بينهم فهذا إبطال لقولهم (كَذَّابٌ) [ص : ٤] المحكي عنهم في أول السورة وإقامة الحجة على صدق رسالته كما سيجيء.

وضمير (عَلَيْهِ) عائد إلى القرآن المعلوم من المقام فإن مبدأ السورة قوله (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) [ص : ١] فهذا من رد العجز على المصدر.

وعطف (وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) أفاد انتفاء جميع التكلف عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والتكلف : معالجة الكلفة ، وهي ما يشقّ على المرء عمله والتزامه لكونه يحرجه أو يشق عليه ، ومادة التفعل تدل على معالجة ما ليس بسهل ، فالمتكلف هو الذي يتطلب ما ليس له أو يدعي علم ما لا يعلمه.

فالمعنى هنا : ما أنا بمدّع النبوءة باطلا من غير أن يوحى إليّ وهو رد لقولهم : (ذَّابٌ) [ص : ٤] وبذلك كان كالنتيجة لقوله : (ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) لأن المتكلف شيئا إنما يطلب من تكلّفه نفعا ، فالمعنى : وما أنا ممن يدعون ما ليس لهم. ومنه حديث الدارقطني عن ابن عمر قال : خرج رسول الله في بعض أسفاره فمرّ على رجل جالس عند مقراة له (أي حوض ماء) ، فقال عمر : يا صاحب المقراة أولغت السباع الليلة في مقراتك؟ فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا صاحب المقراة لا تخبره ، هذا متكلف لها ما حملت في بطونها ولنا ما بقي شراب وطهور. وفي «الصحيحين» عن ابن مسعود أنه قال : «يا أيها الناس من علم منكم علما فليقل به ومن لم يعلم فليقل : الله أعلم ، قال الله لرسوله : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ).

وأخذ من قوله : (وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) أن ما جاء به من الدين لا تكلف فيه ، أي لا مشقة في تكاليفه وهو معنى سماحة الإسلام ، وهذا استرواح مبني على أن من حكمة الله أن يجعل بين طبع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين روح شريعته تناسبا ليكون إقباله على تنفيذ شرعه بشراشره لأن ذلك أنفى للحرج عنه في القيام بتنفيذ ما أمر به.

وتركيب (ما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) أشدّ في نفي التكلّف من أن يقول : ما أنا بمتكلف ، كما تقدم بيانه عند قوله تعالى : (قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) في سورة البقرة [٦٧].

١٩٦

وجملة (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) بدل اشتمال من جملة (وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) اشتمال نفي الشيء على ثبوت ضده ، فلما نفى بقوله : (وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) أن يكون تقوّل القرآن على الله ، ثبت من ذلك أن القرآن ذكر للناس ذكّرهم الله به ، أي ليس هو بالأساطير أو الترهات. ولك أن تجعلها تذييلا إذ لا منافاة بينهما هنا. وهذا الإخبار عن موقع القرآن لدى جميع أمة الدعوة لا خصوص المشركين الذين كان في مجادلتهم لأنه لما ثبت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يرجو من معانديه أجرا. وثبت بذلك أنه ليس بمتقول ما لم يوح إليه انتقل إلى إثبات أن القرآن ذكر للناس قاطبة فيدخل في ذلك مشركو أهل مكة وغيرهم من الناس ، فكأنه قيل يستغني الله عنكم بأقوام آخرين كما قال تعالى : (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) [الزمر : ٧].

وعموم العالمين يكسب الجملة معنى التذييل للجملتين قبلها.

والقصر الذي اشتملت عليه جملة (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) قصر قلب إضافي ، أي هو ذكر لا أساطير ولا سحر ولا شعر ولا غير ذلك للردّ على المشركين ما وسموا به القرآن من غير صفاته الحقيقية.

وجملة (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) عطف على جملة (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) باعتبار ما يشتمل عليه القصر من جانب الإثبات ، أي وستعلمون خبر هذا القرآن بعد زمان علما جزما فيزول شكّكم فيه ، فالكلام إخبار عن المستقبل كما هو مقتضى وجود نون التوكيد.

والنبأ : الخبر ، وأصل الخبر : الصدق ، أي الموافقة للواقع ، فإذا قيل : أتاني نبأ كذا ، فمعناه الخبر عن حاله في الواقع ، فإضافة النبأ إلى ما يضاف إليه على معنى اللام إذ معنى اللام هو أصل معاني الإضافة ، قال تعالى : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ) [ص : ٢١] ، أي ستعلمون صدق وصف هذا القرآن أنه الحق ، وهذا كما قال تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) [فصلت : ٥٣]. وفسر النبأ بمعنى المفعول ، أي ما أنبأ به القرآن من إنذاركم بالعذاب ، فهو تهديد. وكلا الاحتمالين واقع فإن من المخاطبين من عجّل له عذاب السيف يوم بدر ، وبقيتهم رأوا ذلك رأي العين منهم من علموا دخول الناس في الإسلام فماتوا بغيظهم ومنهم من شاهدوا فتح مكة وآمنوا ، أو رأوا قبائل العرب تدخل في الدين أفواجا فعلموا نبأ صدق القرآن وما وعد به بعد حين فازدادوا إيمانا.

١٩٧

وحين كلّ فريق ما مضى عليه من زمن بين هذا الخطاب وبين تحقق الصدق. والحين : الزمن من ساعة إلى أربعين سنة. فختم الكلام بتسجيل التبليغ وأن فائدة ما أبلغهم لهم لا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وختم بالمواعدة لوقت يقينهم بنبيئه ، وهذا مؤذن بانتهاء الكلام ومراعاة حسن الختام.

١٩٨

محتوى الجزء الثالث والعشرون

من كتاب التحرير والتنوير

١٩٩
٢٠٠