تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٣

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٣

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٠٥

ببناء هيكل أورشليم وهو الذي سمي في الإسلام المسجد الأقصى وما جلب إليه من مواد إقامته من الممالك المجاورة له ، وكذلك الصرح الذي أقامه وأدخلت عليه فيه مملكة سبأ.

و (آخَرِينَ) عطف على (كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ) فهو من جملة بدل البعض. وجمع آخر بمعنى مغاير ، فيجوز أن تكون المغايرة في النوع من غير نوع الجن ، ويجوز أن تكون المغايرة في الصفة ، أي غير بنائين وغوّاصين. وقد كان يجلب من الممالك المجاورة له والداخلة تحت ظل سلطانه ما يحتاج إليه في بناء القصور والحصون والمدن وكانت مملكته عظيمة وكل الملوك يخشون بأسه ويصانعونه.

والمقرّن : اسم مفعول من قرنه مبالغة في قرنه أي جعله قرينا لغيره لا ينفك أحدهما عن الآخر.

و (الْأَصْفادِ) : جمع صفد بفتحتين وهو القيد. يقال : صفده ، إذا قيّده. وهذا صنف ممن عبر عنهم بالشياطين شديد الشكيمة يخشى تفلته ويرام أن يستمر يعمل أعمالا لا يجيدها غيره فيصفد في القيود ليعمل تحت حراسة الحراس. وقد كان أهل الرأي من الملوك يجعلون أصحاب الخصائص في الصناعات محبوسين حيث لا يتصلون بأحد لكيلا يستهويهم جواسيس ملوك آخرين يستصنعونهم ليتخصص أهل تلك المملكة بخصائص تلك الصناعات فلا تشاركها فيها مملكة أخرى وبخاصة في صنع آلات الحرب من سيوف ونبال وقسيّ ودرق ومجانّ وخوذ وبيضات ودروع ، فيجوز أن يكون معنى : (مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) حقيقة ، ويجوز أن يكون تمثيلا لمنع الشياطين من التفلت.

وقد كان ملك سليمان مشتهرا بصنع الدروع السابغات المتقنة. يقال : دروع سليمانية. قال النابغة :

وكل صموت نثلة تبّعيّة

ونسج سليم كلّ قمصاء ذائل

أراد نسج سليمان ، أي نسج صنّاعه.

(هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩))

والإشارة إلى التسخير المستفاد من (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ) [ص : ٣٦] إلى قوله : (وَالشَّياطِينَ) [ص : ٣٧] أي هذا التسخير عطاؤنا. والإضافة لتعظيم شأن المضاف لانتسابه إلى المضاف إليه فكأنه قيل : هذا عطاء عظيم أعطيناكه. والعطاء مصدر بمعنى المعطى مثل

١٦١

الخلق بمعنى المخلوق.

و «امنن» أمر مستعمل في الإذن والإباحة ، وهو مشتق من المنّ المكنّى به عن الإنعام ، أي فأنعم على من شئت بالإطلاق ، أو أمسك في الخدمة من شئت.

فالمنّ : كناية عن الإطلاق بلازم اللام ، كقوله تعالى : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) [محمد : ٤].

وجملتا (فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ) معترضتان بين قوله : (عَطاؤُنا) وقوله : (بِغَيْرِ حِسابٍ) ، وهو تفريع مقدّم من تأخير.

والتقديم لتعجيل المسرة بالنعمة ، ونظيره قوله تعالى من بعد : (هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) [ص : ٥٧] وقول عنترة :

ولقد نزلت فلا تظنّي غيره

مني بمنزلة المحب المكرم

وقول بشارة :

كقائلة إن الحمار فنحّه

عن القتّ أهل السمسم المتهذب

مجازا وكناية في التحديد والتقدير ، أي هذا عطاؤنا غير محدد ولا مقتّر فيه ، أي عطاؤنا واسعا وافيا لا تضييق فيه عليك.

ويجوز أن يكون (بِغَيْرِ حِسابٍ) حالا من ضمير «امنن أو أمسك». ويكون الحساب بمعنى المحاسبة المكنّى بها عن المؤاخذة. والمعنى : امنن أو أمسك لا مؤاخذة عليك فيمن مننت عليه بالإطلاق إن كان مفسدا ، ولا فيمن أمسكته في الخدمة إن كان صالحا.

(وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠))

تقدم نظيره آنفا في قصة داود وبيان نكتة التأكيد بحرف (إِنَ).

[٤١ ـ ٤٢] (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢))

هذا مثل ثان ذكّر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إسوة به في الصبر على أذى قومه والالتجاء إلى الله في كشف الضر ، وهو معطوف على (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ) [ص : ١٧] ولكونه مقصودا

١٦٢

بالمثل أعيد معه فعل (اذْكُرْ) كما نبهنا عليه في قوله : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ) [ص : ١٧] ، وقد تقدم الكلام على نظير صدر هذه الآية في سورة الأنبياء. وترجمة أيوب عليه‌السلام تقدمت في سورة الأنعام.

وإذ كانت تعدية فعل (اذْكُرْ) إلى اسم أيوب على تقدير مضاف لأن المقصود تذكّر الحالة الخاصة به كان قوله : (إِذْ نادى رَبَّهُ) بدل اشتمال من أيوب لأن زمن ندائه ربّه مما تشتمل عليه أحوال أيّوب. وخص هذا الحال بالذكر من بين أحواله لأنه مظهر توكّله على الله واستجابة الله دعاءه بكشف الضر عنه.

والنداء : نداء دعاء لأن الدعاء يفتتح ب : يا رب ، ونحوه.

و (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ) متعلق ب (نادى) بحذف الباء المحذوفة مع (أن) ، أي نادى : بأنّي مسني الشيطان ، وهو في الأصل جملة مبيّنة لجملة (نادى رَبَّهُ) ولو لا وجود (أن) المفتوحة التي تصيّر الجملة في موقع المفرد لكانت جملة مبينة لجملة (نادى) ، ولما احتاجت إلى تقدير حرف الجر ليتعدّى إليها فعل (نادى) وخاصة حيث خلت الجملة من حرف نداء. فقولهم : إنها مجرورة بباء مقدرة جرى على اعتبارات الإعراب تفرقة بين موقع (أنّ) المفتوحة وموقع (إنّ) المكسورة ولهذا الفرق بين الفتح والكسر اطّرد وجها فتح الهمزة وكسرها في نحو «خير القول أني أحمد».

وقد ذكرنا في قوله تعالى : (فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) في سورة [الأنفال : ٩] رأينا في كون (أن) المفتوحة الهمزة المشددة النون مركبة من (أن) التفسيرية (وأنّ) الناسخة. والخبر مستعمل في الدعاء والشكاية ، كقوله : (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) [آل عمران : ٣٦] ، وقد قال في آية سورة الأنبياء [٨٣](أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).

والنصب ، بضم النون وسكون الصاد : المشقة والتعب ، وهي لغة في نصب بفتحتين ، وتقدم النصب في سورة الكهف. وقرأ أبو جعفر (بِنُصْبٍ) بضم الصاد وهو ضم اتباع لضمّ النون.

والعذاب : الألم. والمراد به المرض يعني : أصابني الشيطان بتعب وألم. وذلك من ضرّ حل بجسده وحاجة أصابته في ماله كما في الآية الأخرى (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) [الأنبياء : ٨٣].

وظاهر إسناد المسّ بالنّصب والعذاب إلى الشيطان أن الشيطان مسّ أيوب بهما ، أي

١٦٣

أصابه بهما حقيقة مع أن النصب والعذاب هما الماسان أيوب ، ففي سورة الأنبياء [٨٣](أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) فأسند المسّ إلى الضر ، والضرّ هو النصب والعذاب. وتردّدت أفهام المفسرين في معنى إسناد المسّ بالنّصب والعذاب إلى الشيطان ، فإن الشيطان لا تأثير له في بني آدم بغير الوسوسة كما هو مقرر من مكرر آيات القرآن وليس النّصب والعذاب من الوسوسة ولا من آثارها. وتأولوا ذلك على أقوال تتجاوز العشرة وفي أكثرها سماجة وكلها مبني على حملهم الباء في قوله : (بِنُصْبٍ) على أنها باء التعدية لتعدية فعل (مَسَّنِيَ) ، أو باء الآلة مثل : ضربه بالعصا ، أو يؤول النّصب والعذاب إلى معنى المفعول الثاني من باب أعطى.

والوجه عندي : أن تحمل الباء على معنى السببية بجعل النّصب والعذاب مسببين لمسّ الشيطان إياه ، أي مسنّي بوسواس سببه نصب وعذاب ، فجعل الشيطان يوسوس إلى أيوب بتعظيم النّصب والعذاب عنده ويلقي إليه أنه لم يكن مستحقا لذلك العذاب ليلقي في نفس أيوب سوء الظن بالله أو السخط من ذلك. أو تحمل الباء على المصاحبة ، أي مسّني بوسوسة مصاحبة لضرّ وعذاب ، ففي قول أيوب (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) كناية لطيفة عن طلب لطف الله به ورفع النّصب والعذاب عنه بأنهما صارا مدخلا للشيطان إلى نفسه فطلب العصمة من ذلك على نحو قول يوسف عليه‌السلام : (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) [يوسف : ٣٣].

وتنوين «نصب وعذاب» للتعظيم أو للنوعية ، وعدل عن تعريفهما لأنهما معلومان لله.

وجملة (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) إلخ مقولة لقول محذوف ، أي قلنا له اركض برجلك ، وذلك إيذان بأن هذا استجابة لدعائه.

والرّكض : الضرب في الأرض بالرجل ، فقوله : (بِرِجْلِكَ) زيادة في بيان معنى الفعل مثل : (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨] وقد سمّى الله ذلك استجابة في سورة الأنبياء [٨٤] إذ قال : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ).

وجملة (هذا مُغْتَسَلٌ) مقولة لقول محذوف دل عليه المقول الأول ، وفي الكلام حذف دلّت عليه الإشارة. فالتقدير : فركض الأرض فنبع ماء فقلنا له : هذا مغتسل بارد وشراب. فالإشارة إلى ماء لأنه الذي يغتسل به ويشرب.

١٦٤

ووصف الماء بذلك في سياق الثناء عليه مشير إلى أن ذلك الماء فيه شفاؤه إذا اغتسل به وشرب منه ليتناسب قول الله له مع ندائه ربّه لظهور أن القول عقب النداء هو قول استجابة الدعاء من المدعو. و (مُغْتَسَلٌ) اسم مفعول من فعل اغتسل ، أي مغتسل به فهو على حذف حرف الجر وإيصال المغتسل القاصر إلى المفعول مثل قوله :

تمرّون الديار ولم تعوجوا

ووصفه ب (بارِدٌ) إيماء إلى أن به زوال ما بأيوب من الحمى من القروح. قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحمى من فيح جهنم فأطفئوها بالماء» ، أي نافع شاف ، وبالتنوين استغني عن وصف (شَرابٌ) إذ من المعلوم أن الماء شراب فلو لا إرادة التعظيم بالتنوين لكان الإخبار عن الماء بأنه شراب إخبارا بأمر معلوم ، ومرجع تعظيم (شَرابٌ) إلى كونه عظيما لأيوب وهو شفاء ما به من مرض.

(وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣))

اقتصار أيوب في دعائه على التعريض بإزالة النّصب والعذاب يشعر بأنه لم يصب بغير الضر في بدنه. ويحتمل أن يكون قد أصابه تلف المال وهلاك العيال كما جاء في كتاب «أيوب» من كتب اليهود فيكون اقتصاره على النّصب والعذاب في دعائه لأن في هلاك الأهل والمال نصبا وعذابا للنفس. ولم يتقدم في هذه الآية ولا في آية سورة الأنبياء أن أيوب رزئ أهله فيجوز أن يكون معنى (وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) أن الله أبقى له أهله فلم يصب فيهم بما يكره وزاده بنين وحفدة.

ويكون فعل (وَهَبْنا) مستعملا في حقيقته ومجازه. ويؤيد هذا المحمل وقوع كلمة (مَعَهُمْ) عقب كلمة (وَمِثْلَهُمْ) فإن (مع) تشعر بأن الموهوب لاحق بأهله ومزيد فيهم فليس في الآية تقدير مضاف في قوله : (وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ).

وليس في الأخبار الصحيحة ما يخالف هذا إلا أقوالا عن المفسرين ناشئة عن أفهام مختلفة. ويحتمل أن يكون مما أصابه أنه هلك وأولاده في مدة ضرّه كما جاء في كتاب «أيوب» من كتب اليهود وأقوال بعض السلف من المفسرين فيتعين تقدير مضاف ، أي وهبنا له عوض أهله. وألفاظ الآية تنبو عن هذا الوجه الثاني.

ومعنى (وَمِثْلَهُمْ) مماثلهم. والمراد : مماثل عددهم ، أي ضعف عدد أهله من بنين وحفدة.

١٦٥

وتقدم نظير هذه الآية في قوله : (وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) في سورة الأنبياء [٨٤]. وما بين الآيتين من تغيير يسير هو مجرد تفنّن في التعبير لا يقتضي تفاوتا في البلاغة. وأما ما بينهما من مخالفة في قوله هنا : (وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) وقوله في سورة الأنبياء (وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) ، فأما قوله هنا (وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) فإن الذكر التذكير بما خفي أو بما يخفى وأولو الألباب هم أهل العقول ، أي تذكرة لأهل النظر والاستدلال. فإن في قصة أيوب مجملها ومفصّلها ما إذا سمعه العقلاء المعتبرون بالحوادث والقائسون على النظائر استدلوا على أن صبره قدوة لكل من هو في حرج أن ينتظر الفرج ، فلما كانت قصص الأنبياء في هذه السورة مسوقة للاعتبار بعواقب الصابرين وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون مأمورين بالاعتبار بها من قوله : (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ) كما تقدم حقّ أن يشار إليهم «بأولي الألباب».

وأما الذي في سورة الأنبياء فإنه جيء به شاهدا على أن النبوءة لا تنافي البشرية وأن الأنبياء تعتريهم من الأحداث ما يعتري البشر مما لا ينقص منهم في نظر العقل والحكمة وأنهم إنما يقومون بأمر الله ، ابتداء من قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً) يوحى إليهم [الأنبياء : ٧] وأنهم معرّضون لأذى الناس مما لا يخلّ بحرمتهم الحقيقية وأقصى ذلك الموت من قوله : (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) [الأنبياء : ٣٤].

وإذ كان المشركون يقولون : (نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) [الطور : ٣٠] ، وحاولوا قتله غير مرة فعصمه الله ، ثم من قوله : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [الأنعام : ١٠] ثم قال : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) [الأنبياء : ٤٨ ، ٤٩] ، وذكر من الأنبياء من ابتلي من قومه فصبر ، ومن ابتلي من غيرهم فصبر ، وكيف كانت عاقبة صبرهم واحدة مع اختلاف الأسباب الداعية إليه. فكانت في ذلك آيات للعابدين ، أي الممتثلين أمر الله المجتنبين نهيه ، فإن مما أمر به الله الصبر على ما يلحق المرء من ضرّ لا يستطيع دفعه لكون دفعه خارجا عن طاقته فختم بخاتمة أن في ذلك لآيات للعابدين.

(وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤)).

١٦٦

(وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ).

مقول لقول محذوف دلّت عليه صيغة الكلام ، والتقدير : وقلنا خذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث ، وهو قول غير القول المحذوف في قوله : (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) [ص : ٤٢] لأن ذلك استجابة دعوة وهذا إفتاء برخصة ، وذلك له قصته ، وهذا له قصة أخرى أشارت إليها الآية إجمالا ولم يرد في تعيينها أثر صحيح ومجملها أن زوج أيوب حاولت عملا ففسد عليه صبره من استعانة ببعض الناس على مواساته فلما علم بذلك غضب وأقسم ليضربنّها عددا من الضرب ثم ندم وكان محبّا لها ، وكانت لائذة به في مدة مرضه فلما سرّي عنه أشفق على امرأته من ذلك ولم يكن في دينهم كفارة اليمين فأوحى الله إليه أن يضربها بحزمة فيها عدد من الأعواد بعدد الضربات التي أقسم عليها رفقا بزوجه لأجله وحفظا ليمينه من حنثه إذ لا يليق الحنث بمقام النبوءة. وليست هذه القضية ذات أثر في الغرض الذي سيقت لأجله قصة أيوب من الأسوة وإنما ذكرت هنا تكملة لمظهر لطف الله بأيوب جزاء على صبره.

ومعاني الآية ظاهرة في أن هذا الترخيص رفق بأيوب ، وأنه لم يكن مثله معلوما في الدّين الذي يدين به أيوب إبقاء على تقواه ، وإكراما له لحبه زوجه ، ورفقا بزوجه لبرّها به ، فهو رخصة لا محالة في حكم الحنث في اليمين.

فجاء علماؤنا ونظروا في الأصل المقرر في المسألة المفروضة في أصول الفقه وهي : أن شرع من قبلنا هل هو شرع لنا إذا حكاه القرآن أو السنة الصحيحة ، ولم يكن في شرعنا ما ينسخه من نص أو أصل من أصول الشريعة الإسلامية. فأما الذين لم يروا أن شرع من قبلنا شرع لنا وهم أبو بكر الباقلاني من المالكية وجمهور الشافعية وجميع الظاهرية فشأنهم في هذا ظاهر ، وأما الذين أثبتوا أصل الاقتداء بشرع من قبلنا بقيوده المذكورة وهم مالك وأبو حنيفة والشافعي فتخطّوا للبحث في أن هذا الحكم الذي في هذه الآية هل يقرر مثله في فقه الإسلام في الإفتاء في الأيمان وهل يتعدى به إلى جعله أصلا للقياس في كل ضرب يتعين في الشرع له عدد إذا قام في المضروب عذر يقتضي الترخيص بعد البناء على إثبات القياس على الرخص ، وهل يتعدّى به إلى جعله أصلا للقياس أيضا لإثبات أصل مماثل وهو التحيّل بوجه شرعي للتخلص من واجب تكليف شرعي ، واقتحموا ذلك على ما في حكاية قصة أيوب من إجمال لا يتبصر به الناظر في صفة يمينه ولا لفظه ولا نيته إذ ليس من مقصد القصة.

١٦٧

فأما في الأيمان فقد كفانا الله التكلّف بأن شرع لنا كفارات الأيمان. وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني فعلت الذي هو خير» ، فصار ما في شرعنا ناسخا لما شرع لأيوب فلا حاجة إلى الخوض فيها ، ومذهب الحنفية العمل بذلك استنادا لكونه شرعا لمن قبلنا وهو قول الشافعي.

وقال مالك : هذه خاصة بأيوب أفتى الله بها نبيئا. وحكى القرطبي عن الشافعي أنه خصه بما إذا حلف ولم تكن له نية كأنه أخرجه مخرج أقل ما يصدق عليه لفظ الضرب والعدد. وأما القياس على فتوى أيوب في كلّ ضرب معيّن بعدد في غير اليمين ، أي في باب الحدود والتعزيرات فهو تطوح في القياس لاختلاف الجنس بين الأصل والفرع ، ولاختلاف مقصد الشريعة من الكفارات ومقصدها من الحدود والتعزيرات ، ولترتب المفسدة على إهمال الحدود والتعزيرات دون الكفارات. ولا شك أن مثل هذا التسامح في الحدود يفضي إلى إهمالها ومصيرها عبثا. وما وقع في «سنن أبي داود» من حديث أبي أمامة عن بعض أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأنصار «أنّ رجلا منهم كان مريضا مضنى فدخلت عليه جارية فهشّ لها فوقع عليها فاستفتوا له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : لو حملناه إليك لتفسخت عظامه ما هو إلا جلد على عظم فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأخذوا له مائة شمراخ فيضربوه بها ضربة واحدة. ورواه غير أبي داود بأسانيد مختلفة وعبارات مختلفة. وما هي إلا قصة واحدة فلا حجة فيه لأنه تطرقته احتمالات.

أولها : أن ذلك الرجل كان مريضا مضنى ولا يقام الحد على مثله.

الثاني : لعلّ المرض قد أخل بعقله إخلالا أقدمه على الزنا فكان المرض شبهة تدرأ الحدّ عنه.

الثالث : أنه خبر آحاد لا ينقض به التواتر المعنوي الثابت في إقامة الحدود.

الرابع : حمله على الخصوصية. ومذهب الشافعي أنه يعمل بذلك في الحد للضرورة كالمرض وهو غريب لأن أحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأقوال السلف متضافرة على أن المريض والحامل ينتظران في إقامة الحد عليهما حتى يبرءا ، ولم يأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن تضرب الحامل بشماريخ ، فما ذا يفيد هذا الضرب الذي لا يزجر مجرما ، ولا يدفع مأثما ، وفي «أحكام الجصّاص» عن أبي حنيفة مثل ما للشافعي. وحكى الخطابي أن أبا حنيفة ومالكا اتفقا على أنه لا حدّ إلا الحد المعروف. فقد اختلف النقل عن أبي حنيفة.

١٦٨

(إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ).

علة لجملة (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) [ص : ٤٢] وجملة (وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ) [ص : ٤٣] ، أي أنعمنا عليه بجبر حاله ، لأنا وجدناه صابرا على ما أصابه فهو قدوة للمأمور بقوله : (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) [المزمل : ١٠] صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكانت (إنّ) مغنية عن فاء التفريع.

ومعنى (وَجَدْناهُ) أنه ظهر في صبره ما كان في علم الله منه.

وقوله : (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) مثل قوله في سليمان (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) [ص:٣٠] ، فكان سليمان أوّابا لله من فتنة الغنى والنعيم ، وأيوب أوّابا لله من فتنة الضرّ والاحتياج ، وكان الثناء عليهما متماثلا لاستوائهما في الأوبة وإن اختلفت الدواعي. قال سفيان : أثنى الله على عبدين ابتليا : أحدهما صابر ، والآخر شاكر ، ثناء واحدا. فقال لأيوب ولسليمان (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ).

[٤٥ ـ ٤٧] (وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧))

القول فيه كالقول في نظائره لغة ومعنى. وذكر هؤلاء الثلاثة ذكر اقتداء وائتساء بهم ، فأما إبراهيم عليه‌السلام فيما عرف من صبره على أذى قومه ، وإلقائه في النار ، وابتلائه بتكليف ذبح ابنه ، وأما ذكر إسحاق ويعقوب فاستطراد بمناسبة ذكر إبراهيم ولما اشتركا به من الفضائل مع أبيهم التي يجمعها اشتراكهم في معنى قوله : (أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) ليقتدي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بثلاثتهم في القوة في إقامة الدين والبصيرة في حقائق الأمور.

وابتدئ بإبراهيم لتفضيله بمقام الرسالة والشريعة ، وعطف عليه ذكر ابنه وعطف على ابنه ابنه يعقوب. وقرأ الجمهور (وَاذْكُرْ عِبادَنا) بصيغة الجمع على أن (إِبْراهِيمَ) ومن عطف عليه كله عطف بيان. وقرأ ابن كثير عبدنا بصيغة الإفراد على أن يكون (إِبْراهِيمَ) عطف بيان من (عِبادَنا) ويكون (إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) عطف نسق على (عِبادَنا). ومآل القراءتين متّحد.

و (الْأَيْدِي) : جمع يد بمعنى القوة في الدين. كقوله تعالى : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) في سورة الذاريات [٤٧].

و (الْأَبْصارِ) : جمع بصر بالمعنى المجازي ، وهو النظر الفكري المعروف بالبصيرة ،

١٦٩

أي التبصر في مراعاة أحكام الله تعالى وتوخّي مرضاته.

وجملة (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ) علة للأمر بذكرهم لأن ذكرهم يكسب الذاكر الاقتداء بهم في إخلاصهم ورجاء الفوز بما فازوا به من الاصطفاء والأفضلية في الخير. و (أَخْلَصْناهُمْ) : جعلناهم خالصين ، فالهمزة للتعدية ، أي طهرناهم من درن النفوس فصارت نفوسهم نقية من العيوب العارضة للبشر ، وهذا الإخلاص هو معنى العصمة اللازمة للنبوءة.

والعصمة : قوة يجعلها الله في نفس النبي تصرفه عن فعل ما هو في دينه معصية لله تعالى عمدا أو سهوا ، وعمّا هو موجب للنفرة والاستصغار عند أهل العقول الراجحة من أمة عصره. وأركان العصمة أربعة :

الأول : خاصية للنفس يخلقها الله تعالى تقتضي ملكة مانعة من العصيان.

الثاني : حصول العلم بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات.

الثالث : تأكد ذلك العلم بتتابع الوحي والبيان من الله تعالى.

الرابع : العتاب من الله على ترك الأولى وعلى النسيان.

وإسناد الإخلاص إلى الله تعالى لأنه أمر لا يحصل للنفس البشرية إلا بجعل خاص من الله تعالى وعناية لدنيّة بحيث تنزع من النفس غلبة الهوى في كل حال وتصرف النفس إلى الخير المحض فلا تبقى في النفس إلا نزعات خفيفة تقلع النفس عنها سريعا بمجرد خطورها ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة».

والباء في (بِخالِصَةٍ) للسببية تنبيها على سبب عصمتهم. وعبر عن هذا السبب تعبيرا مجملا تنبيها على أنه أمر عظيم دقيق لا يتصور بالكنه ولكن يعرف بالوجه ، ولذلك استحضر هذا السبب بوصف مشتق من فعل (أَخْلَصْناهُمْ) على نحو قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن سأله عن اقتناعه من أكل لحم الضبّ «أني تحضرني من الله حاضرة» أي حاضرة لا توصف ، ثم بيّنت هذه الخالصة بأقصى ما تعبر عنه اللغة وهي أنها (ذِكْرَى الدَّارِ).

والذكرى : اسم مصدر يدل على قوة معنى المصدر مثل الرّجعى والبقيا لأن زيادة المبنى تقتضي زيادة المعنى. والدار المعهودة لأمثالهم هي الدار الآخرة ، أي بحيث لا ينسون الآخرة ولا يقبلون على الدنيا ، فالدار التي هي محلّ عنايتهم هي الدار الآخرة ، قال

١٧٠

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فأقول ما لي وللدنيا».

وأشار قوله تعالى : (بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) إلى أن مبدأ العصمة هو الوحي الإلهي بالتحذير مما لا يرضي الله وتخويف عذاب الآخرة وتحبيب نعيمها فتحدث في نفس النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم شدة الحذر من المعصية وحبّ الطاعة ثم لا يزال الوحي يتعهده ويوقظه ويجنبه الوقوع فيما نهي عنه فلا يلبث أن تصير العصمة ملكة للنبي يكره بها المعاصي ، فأصل العصمة هي منتهى التقوى التي هي ثمرة التكليف ، وبهذا يمكن الجمع بين قول أصحابنا : العصمة عدم خلق المعصية مع بقاء القدرة على المعصية ، وقول المعتزلة : إنها ملكة تمنع عن إرادة المعاصي ، فالأولون نظروا إلى المبدأ والأخيرون نظروا إلى الغاية ، وبه يظهر أيضا أن العصمة لا تنافي التكليف وترتّب المدح على الطاعات.

وقرأ نافع وهشام عن ابن عامر وأبو جعفر «خالصة» بدون تنوين لإضافته إلى (ذِكْرَى الدَّارِ) والإضافة بيانية لأن (ذِكْرَى الدَّارِ) هي نفس الخالصة ، فكأنه قيل : بذكرى الدار ، وليست من إضافة الصفة إلى الموصوف ولا من إضافة المصدر إلى مفعوله ولا إلى فاعله ، وإنما ذكر لفظ «خالصة» ليقع إجمال ثم يفصل بالإضافة للتنبيه على دقة هذا الخلوص كما أشرنا إليه. والتعريف بالإضافة لأنها أقصى طريق للتعريف في هذا المقام. وقرأ الجمهور بتنوين «خالصة» فيكون (ذِكْرَى الدَّارِ) عطف بيان أو بدلا مطابقا. وغرض الإجمال والتفصيل ظاهر. وإضافة «خالصة» إلى (ذِكْرَى الدَّارِ) في قراءة نافع من إضافة الصفة إلى الموصوف وإبدالها منها في قراءة الجمهور من إبدال الصفة من الموصوف. ويجوز أن يكون (ذِكْرَى) مرادف الذكر بكسر الذال ، أي الذكر الحسن ، كقوله تعالى : (وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) [مريم : ٥٠] وتكون (الدَّارِ) هي الدار الدنيا. ويجوز أن يكون مرادفا للذّكر بضم الذال وهو التذكر الفكري ومراعاة وصايا الدين. و (الدَّارِ) : الدار الآخرة.

وعطف عليه : (إِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) لأنه مما يبعث على ذكرهم بأنهم اصطفاهم الله من بين خلقه فقربهم إليه وجعلهم أخيارا.

و (الْأَخْيارِ) : جمع خيّر بتشديد الياء ، أو جمع خير بتخفيفها مثل الأموات جمعا لميّت وميت ، وكلتا الصيغتين تدل على شدة الوصف في الموصوف.

(وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨))

١٧١

فصل ذكر إسماعيل عن عدّه مع أبيه إبراهيم وأخيه إسحاق لأن إسماعيل كان جد الأمة العربية ، أي معظمها فإنه أبو العدنانيين. وجدّ للأم لمعظم القحطانيين لأن زوج إسماعيل جرهميّة فلذلك قطع عن عطفه على ذكر إبراهيم وعاد الكلام إليه هنا.

وأمّا قرنه ذكره بذكر اليسع وذي الكفل بعطف اسميهما على اسمه فوجهه دقيق في البلاغة وليس يكفي في توجيهه ما تضمنه قوله : (وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ) ، لأن التماثل في الخيريّة والاصطفاء ثابت لجميع الأنبياء والمرسلين ، فلا يكون ذكرهما بعد ذكر إسماعيل أولى من ذكر غيرهما من ذوي الخيرية الذين شملهم لفظ الأخيار والاصطفاء ، فإن شرط قبول العطف بالواو أن يكون بين المعطوف والمعطوف عليه جامع عقلي أو وهمي أو خيالي كما قال في «المفتاح» ، قال ومن هنا عابوا أبا تمام في قوله :

لا والذي هو عالم أن النوى

صبر وأن أبا الحسين كريم (١)

حيث جمع بين مرارة النوى وكرم أبي الحسين وإن كانا مقترنين في تعلق علم الله بهما وذلك مساو لاقتران إسماعيل واليسع وذي الكفل في أنهم من الأخيار في هذه الآية.

فبنا أن نطلب الدقيقة التي حسّنت في هذه الآية عطف اليسع وذي الكفل على إسماعيل. فأما عطف اليسع على إسماعيل فلأن اليسع كان مقامه في بني إسرائيل كمقام إسماعيل في بني إبراهيم لأن اليسع كان بمنزلة الابن للرسول إلياس (إيليا) وكان إلياس يدافع ملوك يهوذا وملوك إسرائيل عن عبادة الأصنام ، وكان اليسع في إعانته كما كان إسماعيل في إعانة إبراهيم ، وكان إلياس لما رفع إلى السماء قام اليسع مقامه كما هو مبيّن في سفر «الملوك الثاني» الإصحاح (١ ـ ٢).

وأما عطف ذي الكفل على إسماعيل فلأنه مماثل لإسماعيل في صفة الصبر قال الله تعالى في سورة الأنبياء [٨٥](وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ). وقرأ الجمهور (الْيَسَعَ) بهمزة وصل وبلام واحدة وهي من أصل الاسم في اللغة العبرانية فعربته العرب باللام وليست لام التعريف ، فدع عنك ما أطالوا به. وقرأه حمزة والكسائي بهمزة وصل وبلامين وتشديد الثانية وهو أقرب إلى أصله العبراني وهو اسم أعجميّ معرب ، والهمزة واللام ، أو واللامان أصلية.

__________________

(١) هو أبو الحسين محمد بن الهيثم بن شبابة أحد قواد المتوكل أو الواثق ولأبي تمام مدائح فيه كثيرة.

١٧٢

وتنوين (كُلٌ) في قوله : (وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ) عوض عن المضاف إليه ، أي وكل أولئك الثلاثة من الأخيار. وتقدم ذكر اليسع في سورة الأنعام ، وذكر ذي الكفل في سورة الأنبياء.

[٤٩ ـ ٥٢] (هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢))

(هذا ذِكْرٌ) جملة فصلت الكلام السابق عن الكلام الآتي بعدها قصدا لانتقال الكلام من غرض إلى غرض مثل جملة : أما بعد فكذا ومثل اسم الإشارة المجرّد نحو (هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ) [ص : ٥٥] ، وقوله : (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ) [الحج : ٣٠] ، و (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ) ، في سورة الحج [٣٢]. قال في «الكشاف» : وهو كما يقول الكاتب إذا فرغ من فصل من كتابه وأراد الشروع في آخر : هذا وقد كان كيت وكيت اه. وهذا الأسلوب من الانتقال هو المسمى في عرف علماء الأدب بالاقتضاب وهو طريقة العرب ومن يليهم من المخضرمين ، ولهم في مثله طريقتان : أن يذكروا الخبر كما في هذه الآية وقول المؤلفين : هذا باب كذا ، وأن يحذفوا الخبر لدلالة الإشارة على المقصود ، كقوله تعالى : (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ) [الحج : ٣٠] ، أي ذلك شأن الذي عملوا بما دعاهم إليه إبراهيم وذكروا اسم الله على ذبائحهم ولم يذكروا أسماء الأصنام ، وقوله : (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ) ، أي ذلك مثل الذين أشركوا بالله ، وقوله بعد آيات (هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ) [ص : ٥٥] أي هذا مآب المتقين ، ومنه قول الكاتب : هذا وقد كان كيت وكيت ، وإنما صرح بالخبر في قوله : (هذا ذِكْرٌ) للاهتمام بتعيين الخبر ، وأن المقصود من المشار إليه التذكر والاقتداء فلا يأخذ السامع اسم الإشارة مأخذ الفصل المجرّد والانتقال الاقتضابي ، مع إرادة التوجيه بلفظ (ذِكْرٌ) بتحميله معنى حسن السمعة ، أي هذا ذكر لأولئك المسمّين في الآخرين مع أنه تذكرة للمقتدين على نحو المعنيين في قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) في سورة الدخان [الزخرف : ٤٤].

ومن هنا احتمل أن تكون الإشارة ب (هذا) إلى القرآن ، أي القرآن ذكر ، فتكون الجملة استئنافا ابتدائيا للتنويه بشأن القرآن راجعا إلى غرض قوله تعالى : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) [ص : ٢٩].

والواو في (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ) إلخ ، يجوز أن تكون للعطف الذكري ، أي انتهى الكلام

١٧٣

السابق بقولنا (هذا) ونعطف عليه (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ) إلخ. ويجوز أن تكون واو الحال. وتقدم معنى (لَحُسْنَ مَآبٍ). واللام في (لِلْمُتَّقِينَ) لام الاختصاص ، أي لهم حسن مآب يوم الجزاء. وانتصب (جَنَّاتِ عَدْنٍ) على البيان من (لَحُسْنَ مَآبٍ). والعدن : الخلود.

و (مُفَتَّحَةً) حال من (جَنَّاتِ عَدْنٍ) ، والعامل في الحال ما في (لِلْمُتَّقِينَ) من معنى الفعل وهو الاستقرار فيكون (ال) في (الْأَبْوابُ) عوضا عن الضمير. والتقدير: أبوابها ، على رأي نحاة الكوفة ، وأما عند البصريين ف (الْأَبْوابُ) بدل من الضمير في (مُفَتَّحَةً) على أنه بدل اشتمال أو بعض والرابط بينه وبين المبدل منه محذوف تقديره : الأبواب منها. وتفتيح الأبواب كناية عن التمكين من الانتفاع بنعيمها لأن تفتيح الأبواب يستلزم الإذن بالدخول وهو يستلزم التخلية بين الداخل وبين الانتفاع بما وراء الأبواب.

وقوله (مُتَّكِئِينَ فِيها) تقدم قريب منه في سورة يس.

و (يَدْعُونَ) : يأمرون بأن يجلب لهم ، يقال : دعا بكذا ، أي سأل أن يحضر له.

والباء في قولهم : دعا بكذا ، للمصاحبة ، والتقدير : دعا مدعوّا يصاحبه كذا ، قال عدي بن زيد :

ودعوا بالصّبوح يوما فجاءت

قينة في يمينها إبريق

قال تعالى في سورة يس [٥٧](لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ).

وانتصب (مُتَّكِئِينَ) على الحال من «المتقين» وهي حال مقدرة. وجملة (يَدْعُونَ) حال ثانية مقدرة أيضا.

والشراب : اسم للمشروب ، وغلب إطلاقه على الخمر إذا لم يكن في الكلام ذكر للماء كقوله آنفا (هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ) [ص : ٤٢]. وتنوين (شَرابٍ) هنا للتعظيم ، أي شراب نفيس في جنسه ، كقول أبي خراش الهذلي :

لقد وقعت على لحم

و (عِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ) : عند ظرف مكان قريب و (قاصِراتُ الطَّرْفِ) صفة لموصوف محذوف ، أي نساء قاصرات النظر. وتعريف (الطَّرْفِ) تعريف الجنس الصادق بالكثير ، أي قاصرات الأطراف. و (الطَّرْفِ) : النظر بالعين ، وقصر الطرف توجيهه إلى منظور غير متعدد ، فيجوز أن يكون المعنى : أنهن قاصرات أطرافهن على أزواجهن. فالأطراف المقصورة أطرافهن. وإسناد (قاصِراتُ) إلى ضميرهن إسناد

١٧٤

حقيقي ، أي لا يوجّهن أنظارهن إلى غيرهم وذلك كناية عن قصر محبتهن على أزواجهن.

ويجوز أن يكون المعنى : أنهن يقصرن أطراف أزواجهن عليهن فلا تتوجه أنظار أزواجهن إلى غيرهن اكتفاء منهم بحسنهن وذلك كناية عن تمام حسنهن في أنظار أزواجهن بحيث لا يتعلق استحسانهم بغيرهن ، فالأطراف المقصورة أطراف أزواجهن ، وإسناد (قاصِراتُ) إليهن مجاز عقلي إذ كان حسنهن سبب قصر أطراف الأزواج فإنهن ملابسات سبب سبب القصر.

و (أَتْرابٌ) : جمع ترب بكسر التاء وسكون الراء ، وهو اسم لمن كان عمره مساويا عمر من يضاف إليه ، تقول : هو ترب فلان ، وهي ترب فلانة ، ولا تلحق لفظ ترب علامة تأنيث. والمراد : أنهن أتراب بعضهن لبعض ، وأنهن أتراب لأزواجهن لأن التحابّ بين الأقران أمكن.

والظاهر أن (أَتْرابٌ) وصف قائم بجميع نساء الجنة من مخلوقات الجنة ومن النساء اللاتي كنّ أزواجا في الدنيا لأصحاب الجنة ، فلا يكون بعضهن أحسن شبابا من بعض فلا يلحق بعض أهل الجنة غضّ إذا كانت نساء غيره أجدّ شبابا ، ولئلا تتفاوت نساء الواحد من المتقين في شرخ الشباب ، فيكون النعيم بالأقل شبابا دون النعيم بالأجدّ منهن. وتقدم الكلام على (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ) في سورة الصافات [٤٨].

(هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣))

استئناف ابتدائي فيجوز أن يكون كلاما قيل للمتقين وقت نزول الآية فهو مؤكّد لمضمون جملة (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ) [ص : ٤٩]. والإشارة إذن إلى ما سبق ذكره من قوله : (لَحُسْنَ مَآبٍ) فاسم الإشارة هنا مغاير لاستعماله المتقدم في قوله : (هذا ذِكْرٌ) [ص : ٤٩]. وجيء باسم الإشارة القريب تنزيلا للمشار إليه منزلة المشار إليه الحاضر إيماء إلى أنه محقق وقوعه تبشيرا للمتقين. والتعبير بالمضارع في قوله : (تُوعَدُونَ) على ظاهره.

ويجوز أن يكون كلاما يقال للمتقين في الجنة فتكون الجملة مقول قول محذوف هو في محل حال ثانية من «المتقين». والتقدير : مقولا لهم : هذا ما توعدون ليوم الحساب. والقول : إما من الملائكة مثل قوله تعالى : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [النحل : ٣٢] ، وإما من جانب الله تعالى نظير قوله لضدهم : (وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) [آل عمران : ١٨١].

١٧٥

والإشارة إذن إلى ما هو مشاهد عندهم من النعيم.

وقرأ الجمهور : (تُوعَدُونَ) بتاء الخطاب فهو على الاحتمال الأول التفات من الغيبة إلى الخطاب لتشريف المتقين بعزّ الحضور لخطاب الله تعالى ، وعلى الاحتمال الثاني الخطاب لهم على ظاهره. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحده «يوعدون» بياء الغيبة فهو على الاحتمال الأول التفات عن توجيه الخطاب إليهم إلى توجيهه للطاغين لزيادة التنكيل عليهم. والإشارة إلى المذكور من «حسن المئاب» ، وعلى الاحتمال الثاني كذلك وجّه الكلام إلى أهل المحشر لتنديم الطاغين وإدخال الحسرة والغمّ عليهم. والإشارة إلى النعيم المشاهد.

واللام في (لِيَوْمِ الْحِسابِ) لام العلة ، أي وعدتموه لأجل يوم الحساب. والمعنى لأجل الجزاء يوم الحساب ، فلما كان الحساب مؤذنا بالجزاء جعل اليوم هو العلة. وهذه اللام تفيد معنى التوقيت تبعا كقوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) [الإسراء : ٧٨] تنزيلا للوقت منزلة العلة. ولذلك قال الفقهاء : أوقات الصلوات أسباب.

(إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤))

يجري محمل اسم الإشارة هذا على الاحتمالين المذكورين في الكلام السابق.

والعدول عن الضمير إلى اسم الإشارة لكمال العناية بتمييزه وتوجيه ذهن السامع إليه. وأطلق الرزق على النعمة كما في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو أن أحدهم قال حين يضاجع أهله : اللهم جنّبنا الشيطان وجنّب الشيطان ما رزقتنا ثم ولد لهما ولد لم يمسه شيطان أبدا» فسمّى الولد رزقا.

والتوكيد ب (إِنَ) للاهتمام. والنفاد : الانقطاع والزوال.

[٥٥ ـ ٥٦] (هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦))

اسم الإشارة (هذا) مستعمل في الانتقال من غرض إلى غرض تنهية للغرض الذي قبله. والقول فيه كالقول في (هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ) [ص : ٤٩]. والتقدير : هذا شأن المتقين ، أو هذا الشأن ، أو هذا كما ذكر.

وجملة (يَصْلَوْنَها) حال من (جَهَنَّمَ) وهي حال مؤكدة لمعنى اللام الذي هو عامل في «الطاغين» فإن معنى اللام أنهم تختصّ بهم جهنم واختصاصها بهم هو ذوق عذابها لأن

١٧٦

العذاب ذاتي لجهنم.

والطاغي : الموصوف بالطغيان وهو : مجاوزة الحد في الكبر والتعاظم. والمراد بهم عظماء أهل الشرك لأنهم تكبّروا بعظمتهم على قبول الإسلام ، وأعرضوا عن دعوة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم بكبر واستهزاء ، وحكموا على عامة قومهم بالابتعاد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن المسلمين وعن سماع القرآن ، وهم : أبو جهل وأمية بن خلف ، وعتبة بن ربيعة ، والوليد بن عتبة ، والعاصي بن وائل وأضرابهم.

والفاء في (فَبِئْسَ الْمِهادُ) لترتيب الإخبار وتسببه على ما قبله ، نظير عطف الجمل ب (ثمّ) وهي كالفاء في قوله تعالى : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) [الأنفال : ١٧] بعد قوله : (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) في سورة الأنفال [١٥]. وهذا استعمال بديع كثير في القرآن وهو يندرج في استعمالات الفاء العاطفة ولم يكشف عنه في «مغني اللبيب».

والمعنى : جهنم يصلونها ، فيتسبب على ذلك أن نذكر ذم هذا المقرّ لهم ، وعبر عن جهنم ب (الْمِهادُ) على وجه الاستعارة ، شبه ما هم فيه من النار من تحتهم بالمهاد وهو فراش النائم كقوله تعالى : (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ) [الأعراف : ٤١].

[٥٧ ـ ٥٨] (هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨))

اسم الإشارة هنا جار على غالب مواقعه وهو نظير قوله : (هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ) [ص : ٥٣] والقول فيه مثله. وإشارة القريب لتقريب الإنذار والمشار إليه ما تضمنه قوله : (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها) [ص : ٥٦] من الصلي ومن معنى العذاب ، أو الإشارة إلى شرّ من قوله : (لَشَرَّ مَآبٍ) [ص : ٥٥].

و (حَمِيمٌ) خبر عن اسم الإشارة. ومعنى الجملة في معنى بدل الاشتمال لأن شر المآب أو العذاب مشتمل على الحميم والغساق وغيره من شكله ، والمعنى : أن ذلك لهم لقوله : (وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ) [ص : ٥٥] فما فصل به شر المآب وعذاب جهنم فهو في المعنى معمول للام. والحميم : الماء الشديد الحرارة.

والغساق : قرأه الجمهور بتخفيف السين. وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف بتشديدها. قيل هما لغتان وقيل : غسّاق بالتشديد مبالغة في غاسق بمعنى سائل ، فهو على هذا وصف لموصوف محذوف وليس اسما لأن الأسماء التي على زنة فعّال قليلة في كلامهم.

١٧٧

والغساق : سائل يسيل في جهنم ، يقال : غسق الجرح ، إذا سال منه ماء أصفر. وأحسب أن هذا الاسم بهذا الوزن أطلقه القرآن على سائل كريه يسقونه كقوله : (بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ) [الكهف : ٢٩]. وأحسب أنه لم تكن هذه الزنة من هذه المادة معروفة عند العرب ، وبذلك يومئ كلام الراغب. وهذا سبب اختلاف المفسرين في المراد منه. والأظهر : أنه صيغ له هذا الوزن ليكون اسما لشيء يشبه ما يغسق به الجرح ، ولذلك سمّي بالمهل والصديد في آيات أخرى.

وجملة (فَلْيَذُوقُوهُ) معترضة بين اسم الإشارة والخبر عنه ، وهذا من الاعتراض المقترن بالفاء دون الواو ، والفاء فيه كالفاء في قوله : (فَبِئْسَ الْمِهادُ) [ص : ٥٦] وقد تقدمت آنفا.

وموقع الجملة كموقع قوله : (فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ) [ص : ٣٩] كما تقدم آنفا.

وقوله : (وَآخَرُ) صفة لموصوف محذوف دلت عليه الإشارة بقوله : (هذا) وضمير (فَلْيَذُوقُوهُ) ووصف آخر يدل على مغاير. وقوله : (مِنْ شَكْلِهِ) يدل على أنه مغاير له بالذات وموافق في النوع ، فحصل من ذلك أنه عذاب آخر أو مذوق آخر.

والشّكل بفتح الشين : المثل ، أي المماثل في النوع ، أي وعذاب آخر غير ذلك الذي ذاقوه من الحميم والغساق هو مثل ذلك المشار إليه أو مثل ذلك الذوق في التعذيب والألم. وأفرد ضمير (شَكْلِهِ) مع أن معاده (حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) نظرا إلى إفراد اسم الإشارة ، أو إلى إفراد (مذوق) المأخوذ من (يذوقوه) ، فقوله : (مِنْ شَكْلِهِ) صفة ل (آخَرُ).

والأزواج : جمع زوج بمعنى النوع والجنس ، وقد تقدم عند قوله : (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) في سورة الرعد [٣].

والمعنى : وعذاب آخر هو أزواج أصناف كثيرة. ولما كان اسما شائعا في كل مغاير صحّ وصفه ب (أَزْواجٌ) بصيغة الجمع.

وقرأ الجمهور : (وَآخَرُ) بصيغة الإفراد. وقرأه أبو عمرو ويعقوب وأخر بضم الهمزة جمع أخرى على اعتبار تأنيث الموصوف ، أي وأزواج أخر من شكل ذلك العذاب.

١٧٨

(هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩))

ابتداء كلام حكي به تخاصم المشركين في النار فيما بينهم إذا دخلوها كما دل عليه قوله تعالى في آخره : (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) [ص : ٦٤] ، وبه فسر قتادة وابن زيد ، وجريانه بينهم ليزدادوا مقتا بأن يضاف إلى عذابهم الجسماني عذاب أنفسهم برجوع بعضهم على بعض بالتنديم وسوء المعاملة.

وأسلوب الكلام يقتضي متكلما صادرا منه ، وأسلوب المقاولة يقتضي أن المتكلم به هم الطاغون الذين لهم شر المآب لأنهم أساس هذه القضية. فالتقدير : يقولون ، أي الطاغون بعضهم لبعض : هذا فوج مقتحم معكم ، أي يقولون مشيرين إلى فوج من أهل النار أقحم فيهم ليسوا من أكفائهم ولا من طبقتهم وهم فوج الأتباع من المشركين الذين اتبعوا الطاغين في الحياة الدنيا ، وذلك ما دل عليه قوله : (أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا) [ص : ٦٠] أي أنتم سبب إحضار هذا العذاب لنا. وهو الموافق لمعنى نظائره في القرآن كقوله تعالى : (لَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) [الأعراف : ٣٨] إلى قوله : (بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) في سورة الأعراف [٣٩] ، وقوله : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) في سورة البقرة [١٦٦] ، وقوله : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) الآيات من سورة الصافات [٢٧]. وأوضح من ذلك كله قوله تعالى في آخر هذه الآية (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) [ص : ٦٤].

فجملة القول المحذوف في موضع الحال من الطّاغين. وجملة (هذا فَوْجٌ) إلى آخرها مقول القول المحذوف.

والفوج : الجماعة العظيمة من الناس ، وتقدم في قوله : (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً) في سورة النمل [٨٣].

والاقتحام : الدخول في الناس ، و (مع) مؤذنة بأن المتكلمين متبوعون ، وأن الفوج المقتحم أتباع لهم ، فأدخلوا فيهم مدخل التابع مع المتبوع بعلامات تشعر بذلك.

وجملة : (لا مَرْحَباً بِهِمْ) معترضة مستأنفة لإنشاء ذم الفوج. و (لا مَرْحَباً) نفي لكلمة يقولها المزور لزائره وهي إنشاء دعاء الوافد. و (مَرْحَباً) مصدر بوزن المفعل ، وهو الرّحب بضم الراء وهو منصوب بفعل محذوف دل عليه معنى الرحب ، أي أتيت رحبا ، أي مكانا ذا رحب ، فإذا أرادوا كراهية الوافد والدعاء عليه قالوا : لا مرحبا به ، كأنهم أرادوا النفي بمجموع الكلمة :

١٧٩

لا مرحبا بغد ولا أهلا به

إن كان تفريق الأحبة في غد

وذلك كما يقولون في المدح : حبّذا ، فإذا أرادوا ذمّا قالوا : لا حبّذا. وقد جمعهما قول كنزة أمّ شملة المنقري تهجو فيه صاحبة ذي الرمة :

ألا حبّذا أهل الملإ غير أنه

إذا ذكرت ميّ فلا حبّذا هيا

ومعنى الرحب في هذا كله : السعة المجازية ، وهي الفرح ولقاء المرغوب في ذلك المكان بقرينة أن نفس السعة لا تفيد الزائد ، وإنما قالوا ذلك لأنهم كرهوا أن يكونوا هم وأتباعهم في مكان واحد جريا على خلق جاهليتهم من الكبرياء واحتقار الضعفاء.

وجملة (إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ) خبر ثان عن اسم الإشارة ، والخبر مستعمل في التضجّر منهم ، أي أنهم مضايقوننا في مضيق النار كما أومأ إليه قولهم : (مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ).

(قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠))

فسمعهم الأتباع فيقولون : (بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ) إضرابا عن كلامهم. وجيء بحكاية قولهم على طريقة المحاورات فلذلك جرّد من حرف العطف ، أي أنتم أولى بالشتم والكراهية بأن يقال : لا مرحبا بكم ، لأنكم الذين تسببتم لأنفسكم ولنا في هذا العذاب بإغرائكم إيانا على التكذيب والدوام على الكفر. و (بَلْ) للإضراب الإبطالي لردّ الشتم عليهم وأنهم أولى به منهم.

وذكر ضمير المخاطبين في قوله : (أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ) للتنصل من شتمهم ، أي أنتم المشتومون ، أي أولى بالشتم منا ، وقد استفيد هذا المعنى من حرف الإبطال لا من الضمير لأن الضمير لا مفهوم له ولأن موقعه هنا لا يقتضي حصرا ولا تقوّيا لأنه مخبر عنه بجملة إنشائية ، أي أنتم يقال لكم : لا مرحبا بكم.

وإذا قد كان قول : مرحبا ، إنشاء دعاء بالخير ، وكان نفيه إنشاء دعاء بضده ، كان قوله «بهم» بيانا لمن وجّه الدعاء لهم ، أي إيضاحا للسامع أن الدعاء على أصحاب الضمير المجرور بالباء فكانت الباء فيه للتبيين. قال في «الكشاف» : و «بهم» بيان لمدعوّ عليهم. وقال الهمذاني في شرحه «للكشاف» : يعني : البيان المصطلح ، كأن قائلا يقول : بمن يحصل هذا الرحب؟ فيقول : بهم. وهذا كما في (هَيْتَ لَكَ) [يوسف : ٢٣]. يعني أن الباء فيه بمعنى لام التبيين. وهذا المعنى أغفله ابن هشام في معاني الباء. وأشار الهمذاني إلى

١٨٠