تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٣

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٣

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٠٥

عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم (أي من خزنة النار) فقال أبو الأشد الجمحي : أنا أكفيكم سبعة عشر فاكفوني أنتم اثنين فأنزل الله تعالى : (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) [المدثر : ٣١] أي فليس الواحد منهم كواحد من الناس (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) [المدثر : ٣١].

واستأنف لوصفها استئنافا ثانيا مكررا فيه كلمة (إِنَّها) للتهويل. ومعنى (تَخْرُجُ) تنبت كما قال تعالى : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) [الأعراف : ٥٨]. ومن عجيب قدرة الله تعالى أن جعل من النار شجرة وهي نارية لا محالة. صور الله في النار شجرة من النار ، وتقريب ذلك ما يصور في الشماريخ النارية من صور ذات ألوان كالنخيل ونحوه.

وجعل لها طلعا ، أي ثمرا ، وأطلق عليه اسم الطلع على وجه الاستعارة تشبيها له بطلع النخلة لأن اسم الطلع خاصّ بالنخيل. قال ابن عطية : عن السدي ومجاهد قال الكفار : كيف يخبر محمد عن النار أنها تنبت الأشجار ، وهي تأكلها وتذهبها ، فقولهم هذا ونحوه من الفتنة لأنه يزيدهم كفرا وتكذيبا.

و (رُؤُسُ الشَّياطِينِ) يجوز أن يكون مرادا بها رءوس شياطين الجنّ جمع شيطان بالمعنى المشهور ورءوس هذه الشياطين غير معروفة لهم ، فالتشبيه بها حوالة على ما تصوّر لهم المخيّلة ، وطلع شجرة الزقوم غير معروف فوصف للناس فظيعا بشعا ، وشبهت بشاعته ببشاعة رءوس الشياطين ، وهذا التشبيه من تشبيه المعقول بالمعقول كتشبيه الإيمان بالحياة في قوله تعالى : لتنذر (مَنْ كانَ حَيًّا) [يس : ٧٠] والمقصود منه هنا تقريب حال المشبّه فلا يمتنع كون المشبه به غير معروف ولا كون المشبه كذلك.

ونظيره قول امرئ القيس :

ومسنونة زرق كأنياب أغوال

وقيل : أريد برءوس الشياطين ثمر الأستن ، والأستن (بفتح الهمزة وسكون السين وفتح التاء) شجرة في بادية اليمن يشبه شخوص الناس ويسمى ثمره رءوس الشياطين ، وإنما سمّوه كذلك لبشاعة مرآة ثم صار معروفا ، فشبه به في الآية. وقيل : (الشَّياطِينِ) :جمع شيطان وهو من الحيات ما لرءوسه أعراف ، قال الراجز يشبه امرأته بحية منها :

عنجرد تحلف حين أحلف

كمثل شيطان الحماط أعرف

٤١

الحماط : جمع حماطة بفتح الحاء : شجر تكثر فيه الحيات ، والعنجرد بكسر الراء : المرأة السليطة.

وهذه الصفات التي وصفت بها شجرة الزقوم بالغة حدا عظيما من الذم وذلك الذم هو الذي عبّر عنه بالملعونة في قوله تعالى : (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) في سورة الإسراء [٦٠] ، وكذلك في آية (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ) تغلي (فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) في سورة الدخان [٤٣ ـ ٤٦].

وقد أنذروا بأنهم آكلون منها إنذارا مؤكدا ، أي آكلون من ثمرها وهو ذلك الطلع. وضمير (مِنْها) للشجرة جرى على الشائع من قول الناس أكلت من النخلة ، أي من ثمرها. والمعنى : أنهم آكلون منها كرها وذلك من العذاب ، وإذا كان المأكول كريها يزيده كراهة سوء منظره ، كما أن المشتهى إذا كان حسن المنظر كان الإقبال عليه بشره لظهور الفرق بين تناول تفاحة صفراء وتناول تفاحة مورّدة اللون ، وكذلك محسنات الشراب ، ألا ترى إلى كعب بن زهير كيف أطال في محسنات الماء الذي مزجت به الخمر في قوله :

شجّت بذي شبم من ماء مجنية

صاف بأبطح أضحى وهو مشمول

تنفي الرياح القذى عنه وأفرطه

من صوب سارية بيض يعاليل

وملء البطون كناية عن كثرة ما يأكلون منها على كراهتها. وإسناد الأكل وملء البطون إليهم إسناد حقيقي وإن كانوا مكرهين على ذلك الأكل والملء. والفاء في قوله : (فَمالِؤُنَ) فاء التفريع ، وفيها معنى التعقيب ، أي لا يلبثون أن تمتلئ بطونهم من سرعة الالتقام ، وذلك تصوير لكراهتها فإن الطعام الكريه كالدواء إذا تناوله آكله أسرع ببلعه وأعظم لقمه لئلا يستقر طعمه على آلة الذوق.

و (ثُمَ) في قوله : (ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ) للتراخي الرتبي لأنها عطفت جملة ، وليس للتراخي في الإخبار معنى إلا إفادة أن ما بعد حرف التراخي أهم أو أعجب مما قبله بحيث لم يكن السامع يرقبه فهو أعلى رتبة باعتبار أنه زيادة في العذاب على الذي سبقه فوقعه أشدّ منه ، وقد أشعر بذلك قوله (عَلَيْها) ، أي بعدها أي بعد أكلهم منها.

والشّوب : أصله مصدر شاب الشيء بالشيء إذا خلطه به ، ويطلق على الشيء المشوب به إطلاقا للمصدر على المفعول كالخلق على المخلوق. وكلا المعنيين محتمل

٤٢

هنا. وضمير (عَلَيْها) عائد إلى (شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) بتأويل ثمرها. و (على) بمعنى (مع) ، ويصح أن تكون للاستعلاء لأن الحميم يشربونه بعد الأكل فينزل عليه في الأمعاء.

والحميم : القيح السائل من الدّمّل ، وتقدم عند قوله تعالى : (لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ) في سورة الأنعام [٧٠].

والقول في عطف (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) كالقول في عطف (ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ).

والمرجع : مكان الرجوع ، أي المكان الذي يعود إليه الخارج منه بعد أن يفارقه. وقد يستعار للانتقال من حالة طارئة إلى حالة أصلية تشبيها بمغادرة المكان ثم العود إليه كقول عمر بن الخطاب في كلامه مع هنيء صاحب الحمى «فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى نخل وزرع» ، يعني عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف ، فإنه إنما عنى أنهما ينتقلان من الانتفاع بالماشية إلى الانتفاع بالنخل والزرع وكذلك ينبغي أن يفسر الرجوع في الآية لأن المشركين حين يطعمون من شجرة الزقوم ويشربون الحميم لم يفارقوا الجحيم فأريد التنبيه على أن عذاب الأكل من الزقوم والشراب من الحميم زيادة على عذاب الجحيم ، ألا ترى إلى قوله : (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) فليس ثمة مغادرة للجحيم حتى يكون الرجوع حقيقة ، مثله قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين رجوعه من إحدى مغازيه «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» يريد مجاهدة النفس فإنه لم يعن أنهم حين اشتغالهم بالجهاد قد تركوا مجاهدة أنفسهم وإنما عنى أنهم كانوا في جهاد زائد فصاروا إلى الجهاد السابق.

[٦٩ ـ ٧٠] (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠))

تعليل لما جازاهم الله به من العذاب وإبداء للمناسبة بينه وبين جرمهم ، فإن جرمهم كان تلقيا لما وجدوا عليه آباءهم من الشرك وشعبه بدون نظر ولا اختيار لما يختاره العاقل ، فكان من جزائهم على ذلك أنهم يطعمون طعاما مؤلما ويسقون شرابا قذرا بدون اختيار كما تلقوا دين آبائهم تقليدا واعتباطا.

فموقع (إنّ) موقع فاء السببية ، ومعناها معنى لام التعليل ، وهي لذلك مفيدة ربط الجملة بالتي قبلها كما تربطها الفاء ولام التعليل كما تقدم غير مرة.

٤٣

والمراد : المشركون من أهل مكة الذين قالوا : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) [الزخرف : ٢٢].

وفي قوله : (أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ) إيماء إلى أن ضلالهم لا يخفى عن الناظر فيه لو تركوا على الفطرة العقلية ولم يغشوها بغشاوة العناد.

والفاء الداخلة على جملة (فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ) فاء العطف للتفريع والتسبب ، أي متفرّع على إلفائهم آباءهم ضالّين أن اقتفوا آثارهم تقليدا بلا تأمل ، وهذا ذمّ لهم.

والآثار : ما تتركه خطى الماشين من موطئ الأقدام فيعلم السائر بعدهم أن مواقعها مسلوكة موصلة إلى معمور ، فمعنى (عَلى) الاستعلاء التقريبي ، وهو معنى المعية لأنهم يسيرون معها ولا يلزم أن يكونوا معتلين عليها.

و (يُهْرَعُونَ) بفتح الراء مبنيّا للمجهول مضارع : أهرعه ، إذا جعله هارعا ، أي حمله على الهرع وهو الإسراع المفرط في السير ، عبر به عن المتابعة دون تأمل ، فشبه قبول الاعتقاد بدون تأمل بمتابعة السائر متابعة سريعة لقصد الالتحاق به.

وأسند إلى المجهول للدلالة على أن ذلك ناشئ عن تلقين زعمائهم وتعاليم المضلّلين ، فكأنهم مدفوعون إلى الهرع في آثار آبائهم فيحصل من قوله : (يُهْرَعُونَ) تشبيه حال الكفرة بحال من يزجى ويدفع إلى السير وهو لا يعلم إلى أين يسار به.

[٧١ ـ ٧٤] (وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤))

عقّب وصف حال المشركين في الآخرة وما علّل به من أنهم ألفوا آباءهم ضالّين فاتبعوا آباءهم بتنظيرهم بمن سلفوا من الضالّين وتذكيرا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك مسلاة له على ما يلاقيه من تكذيبهم ، واستقصاء لهم في العبرة والموعظة بما حلّ بالأمم قبلهم ، فهذه الجملة معطوفة على مضمون الجملة التي قبلها إكمالا للتعليل ، أي اتبعوا آثار آبائهم واقتدوا بالأمم أشياعهم.

ووصف الذين ضلّوا قبلهم بأنهم (أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ) لئلا يغترّ ضعفاء العقول بكثرة المشركين ولا يعتزّوا بها ، ليعلموا أن كثرة العدد لا تبرّر ضلال الضالّين ولا خطأ المخطئين ، وأن الهدى والضلال ليسا من آثار العدد كثرة وقلة ولكنهما حقيقتان ثابتتان مستقلتان فإذا عرضت لإحداهما كثرة أو قلة فلا تكونان فتنة لقصار الأنظار وضعفاء

٤٤

التفكير. قال تعالى : (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) [المائدة : ١٠٠].

وأكملت العلة والتسلية والعبرة بقوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ) أي رسلا ينذرونهم ، أي يحذرونهم ما سيحل بهم مثل ما أرسلناك إلى هؤلاء. وخصّ المرسلين بوصف المنذرين لمناسبة حال المتحدث عنهم وأمثالهم. وضمير (فِيهِمْ) راجع إلى (الْأَوَّلِينَ) ، أي أرسلنا في الأول منذرين فاهتدى قليل وضلّ أكثرهم.

وفرّع على هذا التوجيه الخطاب إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ترشيحا لما في الكلام السابق من جانب التسلية والتثبيت مع التعريض بالكلام لتهديد المشركين بذلك ، ويجوز أن يكون الخطاب لكل من يسمع القرآن فشمل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والأمر بالنظر مستعمل في التعجيب والتهويل فإن أريد بالعاقبة عاقبتهم في الدنيا فالنظر بصريّ ، وإن أريد عاقبتهم في الآخرة كما يقتضيه السياق فالنظر قلبي ، ولا مانع من إرادة الأمرين واستعمال المشترك في المعنيين.

والتعريف في قوله : (الْمُنْذَرِينَ) تعريف العهد ، وهم المنذرون الذين أرسل إليهم المنذرون ، أي فهم الضالّون المعبر عنهم بأنهم (أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ). فالمعنى : فانظر كيف كان عاقبة الضالّين الذين أنذرناهم فلم ينتذروا كما فعل هؤلاء الذين ألفوا آباءهم ضالّين فاتبعوهم ، فقد تحقق اشتراك هؤلاء وأولئك في الضلال ، فلا جرم أن تكون عاقبة هؤلاء كعاقبة أولئك. وفعل النظر معلق عن معموله بالاستفهام ، والاستفهام تعجيبي للتفظيع.

واستثني (عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) من (الْأَوَّلِينَ) استثناء متّصلا فإن عباد الله المخلصين كانوا من جملة المنذرين فصدّقوا المنذرين ولم يشاركوا المنذرين في عاقبتهم المنظور فيها وهي عاقبة السوء. وتقدم اختلاف القراء في فتح اللام وكسرها من قوله : (الْمُخْلَصِينَ) عند قوله تعالى : (وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ* إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) [الصافات : ٣٩ ـ ٤٠].

[٧٥ ـ ٨٢] (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩) ِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢))

٤٥

أتبع التذكير والتسلية من جانب النظر في آثار ما حلّ بالأمم المرسل إليهم ، وما أخبر عنه من عاقبتهم في الآخرة ، بتذكير وتسلية من جانب الإخبار عن الرسل الذين كذّبهم قومهم وآذوهم وكيف انتصر الله لهم ليزيد رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم تثبيتا ويلقم المشركين تبكيتا. وذكر في هذه السورة ست قصص من قصص الرسل مع أقوامهم لأن في كل قصة منها خاصية لها شبه بحال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع قومه وبحاله الأكمل في دعوته ، ففي القصص كلّها عبرة وأسوة وتحذير كما سيأتي تفصيله عند كل قصة منها ، ويجمعها كلّها مقاومة الشرك ومقاومة أهلها. واختير هؤلاء الرسل الستة : لأن نوحا القدرة الأولى ، وإبراهيم هو رسول الملة الحنيفية التي هي نواة الشجرة الطيبة شجرة الإسلام ، وموسى لشبه شريعته بالشريعة الإسلامية في التفصيل والجمع بين الدين والسلطان ، فهؤلاء الرسل الثلاثة أصول. ثم ذكر ثلاثة رسل تفرّعوا عنهم وثلاثتهم على ملّة رسل من قبلهم. فأما لوط فهو على ملة إبراهيم ، وأما إلياس ويونس فعلى ملة موسى.

وابتدئ بقصة نوح مع قومه فإنه أول رسول بعثه الله إلى الناس وهو الأسوة الأولى والقدوة المثلى. وابتداء القصة بذكر نداء نوح ربه موعظة للمشركين ليحذروا دعاء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم ربه تعالى بالنصر عليهم كما دعا نوح على قومه وهذا النداء هو المحكي في قوله: (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) [المؤمنون : ٢٦] ، وقوله : (قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) الآيات من سورة نوح [٢١].

والفاء في قوله : (فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) تفريع على (نادانا) ، أي نادانا فأجبناه ، فحذف المفرّع لدلالة (فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) عليه لتضمنه معنى فأجبناه جواب من يقال فيه: نعم المجيب. والمخصوص بالمدح محذوف ، أي فلنعم المجيبون نحن. وضمير المتكلم المشارك مستعمل في التعظيم كما هو معلوم. وتأكيد الخبر وتأكيد ما فرع عليه بلام القسم لتحقيق الأمرين تحذيرا للمشركين بعد تنزيلهم منزلة من ينكر أن نوحا دعا فاستجيب له.

والتنجية : الإنجاء وهو جعل الغير ناجيا. والنجاة : الخلاص من ضر واقع. وأطلقت هنا على السلامة من ذلك قبل الوقوع فيه لأنه لما حصلت سلامته في حين إحاطة الضر بقومه نزلت سلامته منه مع قربه منه بمنزلة الخلاص منه بعد الوقوع فيه تنزيلا لمقاربة وقوع الفعل منزلة وقوعه ، وهذا إطلاق كثير للفظ النجاة بحيث يصح أن يقال : النجاة خلاص من ضر واقع أو متوقع.

والمراد بأهله : عائلته إلّا من حق عليه القول منهم ، وكذلك المؤمنون من قومه ، قال

٤٦

تعالى : (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) [هود : ٤٠]. فالاقتصار على أهله هنا لقلة من آمن به من غيرهم ، أو أريد بالأهل أهل دينه كقوله تعالى : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) [آل عمران : ٦٨].

وأشعر قوله : (وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ) أن استجابة دعاء نوح كانت بأن أهلك قومه.

و (الْكَرْبِ) : الحزن الشديد والغمّ. ووصفه ب (الْعَظِيمِ) لإفادة أنه عظيم في نوعه فهو غمّ على غم. والمعنيّ به الطوفان ، وهو كرب عظيم على الذين وقعوا فيه ، فإنجاء نوح منه هو سلامته من الوقوع فيه كما علمت لأنه هول في المنظر ، وخوف في العاقبة والواقع فيه موقن بالهلاك. ولا يزال الخوف يزداد به حتى يغمره الماء ثم لا يزال في آلام من ضيق النفس ورعدة القرّ والخوف وتحقق الهلاك حتى يغرق في الماء.

وإنجاء الله إياه نعمة عليه ، وإنجاء أهله نعمة أخرى ، وإهلاك ظالميه نعمة كبرى ، وجعل عمران الأرض بذريته نعمة دائمة لأنهم يدعون له ويذكر بينهم مصالح أعماله وذلك مما يرحمه‌الله لأجله ، وستأتي نعم أخرى تبلغ اثنتي عشرة.

وضمير الفصل في قوله : (هُمُ الْباقِينَ) للحصر ، أي لم يبق أحد من الناس إلا من نجّاه الله مع نوح في السفينة من ذريته ، ثم من تناسل منهم فلم يبق من أبناء آدم غير ذرية نوح فجميع الأمم من ذرية أولاد نوح الثلاثة.

وظاهر هذا أن من آمن مع نوح من غير أبنائه لم يكن لهم نسل. قال ابن عباس : لما خرج نوح من السفينة مات من معه من الرجال والنساء إلا ولده ونساءه. وبذلك يندفع التعارض بين هذه الآية وبين قوله في سورة هود (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) [هود : ٤٠] ، وهذا جار على أن الطوفان قد عمّ الأرض كلها واستأصل جميع البشر إلا من حملهم نوح في السفينة وقد تقدم خبره في سورة هود.

وعموم الطوفان هو مقتضى ظواهر الكتاب والسنة ، ومن قالوا إن الطوفان لم يعمّ الأرض فإنما أقدموا على إنكاره من جهة قصر المدة التي حددت بها كتب الإسرائيليين ، وليس يلزم الاطمئنان لها في ضبط عمر الأرض وأحداثها وذلك ليس من القواطع ، ويكون القصر إضافيا أي لم يبق من قومه الذين أرسل إليهم. وقد يقال : نسلّم أن الطوفان لم يعمّ الأرض ولكنه عم البشر لأنهم كانوا منحصرين في البلاد التي أصابها الطوفان ولئن كانت

٤٧

أدلة عموم الطوفان غير قطعية فإن مستندات الذين أنكروه غير ناهضة فلا تترك ظواهر الأخبار لأجلها.

وزاد الله في عداد كرامة نوح عليه‌السلام قوله : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) ، فتلك نعمة خامسة.

والترك : حقيقته تخليف شيء والتخلي عنه. وهو هنا مراد به الدوام على وجه المجاز المرسل أو الاستعارة ، لأن شأن النعم في الدنيا أنها متاع زائل بعد ، طال مكثها أو قصر ، فكأنّ زوالها استرجاع من معطيها كما جاء في الحديث : «لله ما أخذ وله ما أعطى» فشرف الله نوحا بأن أبقى نعمه عليه في أمم بعده.

وظاهر (الْآخِرِينَ) أنها باقية في جميع الأمم إلى انقضاء العالم ، وقرينة المجاز تعليق (عَلَيْهِ) ب (تَرَكْنا) لأنه يناسب الإبقاء ، يقال : أبقى على كذا ، أي حافظ عليه ليبقى ولا يندثر ، وعلى هذا لا يكون ل (تَرَكْنا) مفعول ، وبعضهم قدّر له مفعولا يدل عليه المقام ، أي تركنا ثناء عليه ، فيجوز أن يراد بهذا الإبقاء تعميره ألف سنة ، فهو إبقاء أقصى ما يمكن إبقاء الحيّ إليه فوق ما هو متعارف. ويجوز أن يراد بقاء حسن ذكره بين الأمم كما قال إبراهيم : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) [الشعراء : ٨٤] فكان نوح مذكورا بمحامد الخصال حتى قيل : لا تجهل أمة من أمم الأرض نوحا وفضله وتمجيده وإن اختلفت الأسماء التي يسمونه بها باختلاف لغاتهم. فجاء في «سفر التكوين» الإصحاح التاسع : كان نوح رجلا بارّا كاملا في أجياله وسار نوح مع الله. وورد ذكره قبل الإسلام في قول النابغة :

فألفيت الأمانة لم تخنها

كذلك كان نوح لا يخون

وذكره لبني إسرائيل في معرض الاقتداء به في قوله : (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) [الإسراء : ٣].

وذكر ابن خلدون : أن بعضهم يزعم أن نوحا هو (أفريدون) ملك بلاد الفرس ، وبعضهم يزعم أن نوحا هو (أوشهنك) ملك الفرس الذي كان بعد (كيومرث) بمائتي سنة وهو يوافق أن نوحا كان بعد آدم وهو كيومرث بمائتي سنة حسب كتب الإسرائيليين. على أن كيومرث يقال : إنه آدم كما تقدم في سورة البقرة.

ومتعلق (عَلَيْهِ) من قوله : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ) لم يحم أحد من المفسرين حوله فيما

٤٨

اطلعت ، والوجه أن يتعلق (عَلَيْهِ) بفعل (تَرَكْنا) بتضمين هذا الفعل معنى (أنعمنا) فكان مقتضى الظاهر أن يعدّى هذا الفعل باللام ، فلما ضمّن معنى أنعمنا أفاد بمادته معنى الإبقاء له ، أي إعطاء شيء من الفضائل المدخرة التي يشبه إعطاؤها ترك أحد متاعا نفيسا لمن يخليه هو له ويخلفه فيه. وأفاد بتعليق حرف (على) به أن هذا الترك من قبيل الإنعام والتفضيل ، وكذلك شأن التضمين أن يفيد المضمّن مفاد كلمتين فهو من ألطف الإيجاز. ثم إن مفعول (تَرَكْنا) لما كان محذوفا وكان فعل (أنعمنا) الذي ضمّنه فعل (تَرَكْنا) مما يحتاج إلى متعلق معنى المفعول ، كان محذوفا أيضا مع عامله فكان التقدير : وتركنا له ثناء وأنعمنا عليه ، فحصل في قوله : (تَرَكْنا عَلَيْهِ) حذف خمس كلمات وهو إيجاز بديع. ولذلك قدر جمهور المتقدمين من المفسرين (وَتَرَكْنا) ثناء حسنا عليه.

وجملة (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) إنشاء ثناء الله على نوح وتحية له ومعناه لازم التحية وهو الرضى والتقريب ، وهو نعمة سادسة. وتنوين (سَلامٌ) للتعظيم ولذلك شاع الابتداء بالنكرة لأنها كالموصوف.

والمراد بالعالمين : الأمم والقرون وهو كناية عن دوام السلام عليه كقوله تعالى : (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) [مريم : ١٥] في حق عيسى عليه‌السلام وكقوله : (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) [الصافات : ١٣٠](سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ) [الصافات : ١٠٩].

وفي (الْعالَمِينَ) حال فهو ظرف مستقر أو خبر ثان عن (سَلامٌ).

وذهب الكسائي والفراء والمبرد والزمخشري إلى أن قوله : (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) في محلّ مفعول (تَرَكْنا) ، أي تركنا عليه هذه الكلمة وهي (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) وهو من الكلام الذي قصدت حكايته كما تقول قرأت (سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها) [النور : ١] ، أي جعلنا الناس يسلمون عليه في جميع الأجيال ، فما ذكروه إلا قالوا : عليه‌السلام. ومثل ذلك قالوا في نظائرها في هذه الآيات المتعاقبة.

وزيد في سلام نوح في هذه السورة وصفه بأنه في العالمين دون السلام على غيره في قصة إبراهيم وموسى وهارون وإلياس للإشارة إلى أن التنويه بنوح كان سائرا في جميع الأمم لأنهم كلهم ينتمون إليه ويذكرونه ذكر صدق كما قدمناه آنفا.

وجملة (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) تذييل لما سبق من كرامة الله نوحا. و (إنّ)

٤٩

تفيد تعليلا لمجازاة الله نوحا بما عده من النعم بأن ذلك لأنه كان محسنا ، أي متخلقا بالإحسان وهو الإيمان الخالص المفسّر في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» ، وأي دليل على إحسانه أجلى من مصابرته في الدعوة إلى التوحيد والتقوى وما ناله من الأذى من قومه طول مدة دعوته.

والمعنى : إنا مثل ذلك الجزاء نجزي المحسنين. وفي هذا تنويه بنوح عليه‌السلام بأن جزاءه كان هو المثال والإمام لجزاء المحسنين على مراتب إحسانهم وتفاوت تقاربها من إحسان نوح عليه‌السلام وقوته في تبليغ الدعوة. فهو أول من أوذي في الله فسنّ الجزاء لمن أوذي في الله ، وكان على قالب جزائه ، فلعله أن يكون له كفل من كل جزاء يجزاه أحد على صبره إذا أوذي في الله ، فثبت لنوح بهذا وصف الإحسان ، وهو النعمة السابعة. وثبت له أنه مثل للمحسنين في جزائهم على إحسانهم ، وهي النعمة الثامنة.

وجملة (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) تعليل لاستحقاقه المجازاة الموصوفة بقوله : (ذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) فاختلف معلول هذه العلة ومعلول العلة التي قبلها.

وأفاد وصفه ب (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا) أنه ممن استحق هذا الوصف ، وقد علمت غير مرة أن وصف (عبد) إذا أضيف إلى ضمير الجلالة أشعر بالتقريب ورفع الدرجة ، اقتصر على وصف العباد بالمؤمنين تنويها بشأن الإيمان ليزداد الذين آمنوا إيمانا ويقلع المشركون عن الشرك. وهذه نعمة تاسعة. وأقحم معها من (عِبادِنَا) لتشريفه بتلك الإضافة على نحو ما تقدم آنفا في قوله تعالى : (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ* أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ) [الصافات : ٤٠ ـ ٤١] وهذه نعمة عاشرة ، وفي ذلك تنبيه على عظيم قدر الإيمان.

وفي هذه القصة عبرة للمشركين بما حلّ بقوم نوح وتسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجعل نوح قدوة له ، وإيماء إلى أن الله ينصره كما نصر نوحا على قومه وينجّيه من أذاهم وتنويه بشأن المؤمنين. و (ثُمَ) التي في قوله : (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) للترتيب والتراخي الرتبيين لأن بعض ما ذكر قبلها في الكلام هو مما حصل بعد مضمون جملتها في نفس الأمر كما هو بيّن ، ومعنى التراخي الرتبي هنا أن إغراق الذين كذّبوه مع نجاته ونجاة أهله ، أعظم رتبة في الانتصار له والدلالة على وجاهته عند الله تعالى وعلى عظيم قدرة الله تعالى ولطفه.

ومعنى (الْآخَرِينَ) من عداه وعدا أهله ، أي بقية قومه ، وفي التعبير عنهم بالآخرين ضرب من الاحتقار. ومما في الحديث أنه جاءه رجل فقال : «إن الآخر قد زنى» يعني نفسه على رواية الآخر بمدّ الهمزة وهي إحدى روايتين في الحديث.

٥٠

وتقدم ذكر نوح وقصته عند قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً) في آل عمران [٣٣] ، وفي الأعراف ، وفي سورة هود ، وذكر سفينته في أول سورة العنكبوت.

[٨٣ ـ ٨٧] (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧))

تخلص إلى حكاية موقف إبراهيم عليه‌السلام من قومه في دعوتهم إلى التوحيد وما لاقاه منهم وكيف أيده الله ونجّاه منهم ، وقع هذا التخلص إليه بوصفه من شيعة نوح ليفيد بهذا الأسلوب الواحد تأكيد الثناء على نوح وابتداء الثناء على إبراهيم وتخليد منقبة لنوح إن كان إبراهيم الرسول العظيم من شيعته وناهيك به. وكذلك جمع محامد لإبراهيم في كلمة كونه من شيعة نوح المقتضي مشاركته له في صفاته كما سيأتي ، وهذا كقوله تعالى : (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) [الإسراء : ٣].

والشيعة : اسم لمن يناصر الرجل وأتباعه ويتعصب له فيقع لفظ شيعة على الواحد والجمع. وقد يجمع على شيع وأشياع إذا أريد : جماعات كلّ جماعة هي شيعة لأحد.

وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ) في سورة الحجر [١٠] ، وعند قوله تعالى : (وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) في سورة القصص [٤].

وكان إبراهيم من ذرية نوح وكان دينه موافقا لدين نوح في أصله وهو نبذ الشرك.

وجعل إبراهيم من شيعة نوح لأن نوحا قد جاءت رسل على دينه قبل إبراهيم منهم هود وصالح فقد كانا قبل إبراهيم لأن القرآن ذكرهما غير مرة عقب ذكر نوح وقبل ذكر لوط معاصر إبراهيم. ولقول هود لقومه : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) [الأعراف : ٦٩] ، ولقول صالح لقومه : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ) [الأعراف : ٧٤] ، وقول شعيب لقومه : (وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) [هود : ٨٩]. فجعل قوم لوط أقرب زمنا لقومه دون قوم هود وقوم صالح. وكان لوط معاصر إبراهيم فهؤلاء كلهم شيعة لنوح وإبراهيم من تلك الشيعة وهذه نعمة حادية عشرة.

وتوكيد الخبر ب (إِنَ) ولام الابتداء للردّ على المشركين لأنهم يزعمون أنهم على ملة

٥١

إبراهيم وهذا كقوله تعالى : (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [البقرة : ١٣٥].

و (إِذْ) ظرف للماضي وهو متعلق بالكون المقدّر للجار والمجرور الواقعين خبرا عن (إِنَ) في قوله : (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) ، أو متعلق بلفظ شيعة لما فيه من معنى المشايعة والمتابعة ، أي كان من شيعته حين جاء ربه بقلب سليم كما جاء نوح ، فذلك وقت كونه من شيعته ، أي لأن نوحا جاء ربه بقلب سليم. وفي (إِذْ) معنى التعليل لكونه من شيعته فإن معنى التعليل كثير العروض ل (إِذْ) كقوله تعالى : (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) [الزخرف : ٣٩]. وهذه نعمة على نوح وهي ثانية عشرة.

والباء في (بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) للمصاحبة ، أي جاء معه قلب صفته السلامة فيؤول إلى معنى : إذ جاء ربه بسلامة قلب ، وإنما ذكر القلب ابتداء ثم وصف ب (سَلِيمٍ) لما في ذكر القلب من إحضار حقيقة ذلك القلب النزيه ، ولذلك أوثر تنكير «قلب» دون تعريف. و (سَلِيمٍ) : صفة مشبهة مشتقة من السلامة وهي الخلاص من العلل والأدواء لأنه لما ذكر القلب ظهر أن السلامة سلامته مما تصاب به القلوب من أدوائها فلا جائز أن تعني الأدواء الجسدية لأنهم ما كانوا يريدون بالقلب إلا مقرّ الإدراك والأخلاق. فتعين أن المراد : صاحب القلب مع نفسه بمثل طاعة الهوى والعجب والغرور ، ومع الناس بمثل الكبر والحقد والحسد والرياء والاستخفاف.

وأطلق المجيء على معاملته به في نفسه بما يرضي ربه على وجه التمثيل بحال من يجيء أحدا ملقيا إليه ما طلبه من سلاح أو تحف أو ألطاف فإن الله أمره بتزكية نفسه فامتثل فأشبه حال من دعاه فجاءه. وهذا نظير قوله تعالى : (أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ) [الأحقاف : ٣١].

وقد جمع قوله : (بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) جوامع كمال النفس وهي مصدر محامد الأعمال. وفي الحديث : «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب».

وقد حكي عن إبراهيم قوله : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء : ٨٨ ـ ٨٩] ، فكان عماد ملة إبراهيم هو المتفرّع عن قوله : (بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) ، وذلك جماع مكارم الأخلاق ولذلك وصف إبراهيم بقوله تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) [هود : ٧٥] ، فكان منزها عن كل خلق ذميم واعتقاد باطل.

٥٢

ثم إن مكارم الأخلاق قابلة للازدياد فكان حظ إبراهيم منها حظا كاملا لعله أكمل من حظ نوح بناء على أن إبراهيم أفضل الرسل بعد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وادخر الله منتهى كمالها لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلذلك قال : «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» ، ولذلك أيضا وصفت ملة إبراهيم بالحنيفية ووصف الإسلام بزيادة ذلك في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بعثت بالحنيفية السمحة». وتعليق كونه من شيعة نوح بهذا الحين المضاف إلى تلك الحالة كناية عن وصف نوح بسلامة القلب أيضا يحصل من قوله : (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) إثبات مثل صفات نوح لإبراهيم ومن قوله : (إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) إثبات صفة مثل صفة إبراهيم لنوح على طريق الكناية في الإثباتين ، إلا أن ذلك أثبت لإبراهيم بالصريح ويثبت لنوح باللزوم فيكون أضعف فيه من إبراهيم.

و (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ) بدل من (جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) بدل اشتمال فإن قوله هذا لما نشأ عن امتلاء قلبه بالتوحيد والغضب لله على المشركين كان كالشيء المشتمل عليه قلبه السليم فصدر عنه.

و (ما ذا تَعْبُدُونَ) استفهام إنكاري على أن يعبدوا ما يعبدونه ولذلك أتبعه باستفهام آخر إنكاري وهو (أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ). وهذا الذي اقتضى الإتيان باسم الإشارة بعد «ما» الاستفهامية الذي هو مشرب معنى الموصول المشار إليه ، فاقتضى أن ما يعبدونه مشاهد لإبراهيم فانصرف الاستفهام بذلك إلى معنى دون الحقيقي وهو معنى الإنكار ، بخلاف قوله : (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ) في سورة الشعراء [٧٠] فإنه استفهام على معبوداتهم ولذلك أجابوا عنه (قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ) [٧١] ، وإنما أراد بالاستفهام هنالك التمهيد إلى المحاجّة فصوره في صورة الاستفهام لسماع جوابهم فينتقل إلى إبطاله ، كما هو ظاهر من ترتيب حجاجه هنالك ، فذلك حكاية لقول إبراهيم في ابتداء دعوته قومه ، وأما ما هنا فحكاية لبعض أقواله في إعادة الدعوة وتأكيدها.

وجملة (أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ) بيان لجملة (ما ذا تَعْبُدُونَ) بين به مصبّ الإنكار في قوله : (ما ذا تَعْبُدُونَ) وإيضاحه ، أي كيف تريدون آلهة إفكا.

وإرادة الشيء : ابتغاؤه والعزم على حصوله ، وحقّ فعلها أن يتعدى إلى المعاني قال ابن الدمينة :

تريدين قتلي قد ظفرت بذلك

٥٣

فإذا عدي إلى الذوات كان على معنى يتعلق بتلك الذوات كقول عمرو بن شاس الأسدي :

أرادت عرارا بالهوان ومن يرد

عرارا لعمري بالهوان فقد ظلم

فلذلك كانت تعدية فعل (تُرِيدُونَ) إلى (آلِهَةً) على معنى : تريدونها بالعبادة أو بالتأليه ، فكان معنى (آلِهَةً) دليلا على جانب إرادتها.

فانتصب (آلِهَةً) على المفعول به وقدم المفعول على الفعل للاهتمام به ولأن فيه دليلا على جهة تجاوز معنى الفعل للمفعول.

وانتصب (إِفْكاً) على الحال من ضمير (تُرِيدُونَ) أي آفكين. والإفك : الكذب. ويجوز أن يكون حالا من آلهة ، أي آلهة مكذوبة ، أي مكذوب تأليهها. والوصف بالمصدر صالح لاعتبار معنى الفاعل أو معنى المفعول. وقدمت الحال على صاحبها للاهتمام بالتعجيل بالتعبير عن كذبهم وضلالهم.

وقوله : (دُونَ اللهِ) أي خلاف الله وغيره ، وهذا صالح لاعتبار قومه عبدة أوثان غير معترفين بإله غير أصنامهم ، ولاعتبارهم مشركين مع الله آلهة أخرى مثل المشركين من العرب لأن العرب بقيت فيهم أثارة من الحنيفية فلم ينسوا وصف الله بالإلهية وكان قوم إبراهيم وهم الكلدان يعبدون الكواكب نظير ما كان عليه اليونان والقبط.

وفرع على استفهام الإنكار استفهام آخر وهو قوله : (فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) وهو استفهام أريد به الإنكار والتوقيف على الخطأ ، وأريد بالظن الاعتقاد الخطأ.

وسمي ظنا لأنه غير مطابق للواقع ولم يسمه علما لأن العلم لا يطلق إلا على الاعتقاد المطابق للواقع ولذلك عرفوه بأنه : «صفة توجب تمييزا لا يحتمل النقيض» ولا ينتفي احتمال النقيض إلا متى كان موافقا للواقع. وكثر إطلاق الظن على التصديق المخطئ والجهل المركب كما في قوله تعالى : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) في سورة الأنعام [١١٦]. وقوله : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) [يونس : ٣٦].

وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إياكم والظن أكذب الحديث».

والمعنى : أن اعتقادكم في جانب رب العالمين جهل منكر.

٥٤

وفعل الظن إذا عدّي بالباء أشعر غالبا بظن صادق قال تعالى : (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) [الأحزاب : ١٠] وقال : (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ) [فصلت : ٢٣]. ومنه إطلاق الظنين على المتهم فإن أصله : ظنين به ، فحذفت الباء ووصل الوصف ، وذلك أنه إذا عدي بالباء فالأكثر حذف مفعوله وكانت الباء للإلصاق المجازي ، أي ظن ظنا ملصقا بالله ، أي مدّعى تعلقه بالله وإنما يناسب ذلك ما ليس لائقا بالله. وتقدمت الإشارة إليه عند قوله تعالى : (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) في سورة الأحزاب [١٠].

والمعنى : فما ظنكم السيّئ بالله ، ولما كان الظن من أفعال القلب فتعديته إلى اسم الذات دون اتباع الاسم بوصف متعينة لتقدير وصف مناسب. وقد حذف المتعلق هنا لقصد التوسع في تقدير المحذوف بكل احتمال مناسب تكثيرا للمعاني فيجوز أن تعتبر من ذات ربّ العالمين أوصافه. ويجوز أن يعتبر منها الكنه والحقيقة ، فاعتبار الوصف على وجهين :

أحدهما : المعنى المشتق منه الرب وهو الربوبية وهي تبليغ الشيء إلى كماله تدريجا ورفقا فإن المخلوق محتاج إلى البقاء والإمداد وذلك يوجب أن يشكر الممدّ فلا يصد عن عبادة ربه ، فيكون التقدير : فما ظنكم أن له شركاء وهو المنفرد باستحقاق الشكر المتمثل في العبادة لأنه الذي أمدكم بإنعامه.

وثانيهما : أن يعتبر فيه معنى المالكية وهي أحد معنيي الربّ وهو مستلزم لمعنى القهر والقدرة على المملوك ، فيكون التقدير : فما ظنكم ما ذا يفعل بكم من عقاب على كفرانه وهو مالككم ومالك العالمين.

وأما جواز اعتبار حقيقة رب العالمين وكنهه. فالتقدير فيه : فما ظنكم بكنه الربوبية فإنكم جاهلون الصفات التي تقتضيها وفي مقدمتها الوحدانية.

[٨٨ ـ ٩٦] (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦))

مفرع على جملة (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ) [الصافات : ٨٥] تفريع قصص بعطف بعضها على بعض.

والمقصود من هذه الجمل المتعاطفة بالفاءات هو الإفضاء إلى قوله (فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ) وأما ما قبلها فتمهيد لها وبيان كيفية تمكنه من أصنامهم وكسرها ليظهر لعبدتها

٥٥

عجزها.

وقال ابن كثير في «تفسيره» «قال قتادة : والعرب تقول لمن تفكر : نظر في النجوم ، يعني قتادة : أنه نظر إلى السماء متفكرا فيما يلهيهم به» اه. وفي «تفسير القرطبي» عن الخليل والمبرد : يقال للرجل إذا فكر في شيء يدبره : نظر في النجوم ، أي أنه نظر في النجوم ، مما جرى مجرى المثل في التعبير عن التفكير لأن المتفكر يرفع بصره إلى السماء لئلا يشتغل بالمرئيات فيخلو بفكره للتدبر فلا يكون المراد أنه نظر في النجوم وهي طالعة ليلا بل المراد أنه نظر للسماء التي هي قرار النجوم وذكر النجوم جرى على المعروف من كلامهم.

وجنح الحسن إلى تأويل معنى النجوم بالمصدر أنه نظر فيما نجم له من الرأي ، يعني أن النجوم مصدر نجم بمعنى ظهر.

وعن ثعلب : نظر هنا تفكر فيما نجم من كلامهم لما سألوه أن يخرج معهم إلى عيدهم ليدبر حجة.

والمعنى : ففكر في حيلة يخلو له بها بدّ أصنامهم فقال : (إِنِّي سَقِيمٌ) ليلزم مكانه ويفارقوه فلا يريهم بقاؤه حول بدّهم ثم يتمكن من إبطال معبوداتهم بالفعل. والوجه : أن التعقيب الذي أفادته الفاء من قوله : (فَنَظَرَ) تعقيب عرفي ، أي لكل شيء نحسبه فيفيد كلاما مطويا يشير إلى قصة إبراهيم التي قال فيها : (إِنِّي سَقِيمٌ) والتي تفرع عليها قوله تعالى : (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ) [الذاريات : ٢٦] إلخ.

وتقييد النظرة بصيغة المرة في قوله : (نَظْرَةً) إيماء إلى أن الله ألهمه المكيدة وأرشده إلى الحجة كما قال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ) [الأنبياء : ٥١].

وقوله : (إِنِّي سَقِيمٌ) عذر انتحله ليتركوه فيخلو ببيت الأصنام ليخلص إليها عن كثب فلا يجد من يدفعه عن الإيقاع بها. وليس في القرآن ولا في السنة بيان لهذا لأنه غني عن البيان. وذكر المفسرون أنه اعتذر عن خروجه مع قومه من المدينة في يوم عيد يخرجون فيه فزعم أنه مريض لا يستطيع الخروج فافترض إبراهيم خروجهم ليخلو ببدّ الأصنام وهو الملائم لقوله : (فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ).

والسقيم : صفة مشبهة وهو المريض كما تقدم في قوله : (بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الصافات: ٨٤]. يقال : سقم بوزن مرض ، ومصدره السّقم بالتحريك ، فيقال : سقام وسقم بوزن قفل.

٥٦

والتولي : الإعراض والمفارقة.

لم ينطق إبراهيم فإن النجوم دلته على أنه سقيم ولكنه لما جعل قوله : (إِنِّي سَقِيمٌ) مقارنا لنظره في النجوم أو هم قومه أنه عرف ذلك من دلالة النجوم حسب أوهامهم.

و (مُدْبِرِينَ) حال ، أي ولّوه أدبارهم ، أي : ظهورهم. والمعنى : ذهبوا وخلفوه وراء ظهورهم بحيث لا ينظرونه. وقد قيل : إن (مُدْبِرِينَ) حال مؤكدة وهو من التوكيد الملازم لفعل التولي غالبا لدفع توهّم أنه تولّي مخالفة وكراهة دون انتقال. وما وقع في التفاسير في معنى نظره في النجوم وفي تعيين سقمه المزعوم كلام لا يمتع بين موازين المفهوم ، وليس في الآية ما يدل على أن للنجوم دلالة على حدوث شيء من حوادث الأمم ولا الأشخاص ومن يزعم ذلك فقد ضلّ دينا ، واختل نظرا وتخمينا. وقد دوّنوا كذبا كثيرا في ذلك وسموه علم أحكام الفلك أو النجوم.

وقد ظهر من نظم الآية أن قوله : (إِنِّي سَقِيمٌ) لم يكن مرضا ولذلك جاء الحديث الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات اثنتين منهن في ذات الله عزوجل قوله : (إِنِّي سَقِيمٌ) ، وقوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) [الأنبياء : ٦٣] ، وبينا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبّار من الجبابرة فسأله عن سارة فقال : «هي أختي» الحديث ، فورد عليه إشكال من نسبة الكذب إلى نبيء.

ودفع الإشكال : أن تسمية هذا الكلام كذبا منظور فيه إلى ما يفهمه أو يعطيه ظاهر الكلام وما هو بالكذب الصراح بل هو من المعاريض ، أي أني مثل السقيم في التخلف عن الخروج ، أو في التألم من كفرهم وأن قوله : «هي أختي» أراد أخوّة الإيمان ، وأنه أراد التهكم في قوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) [الأنبياء : ٦٣] لظهور قرينة أن مراده التغليط.

وهذه الأجوبة لا تدفع إشكالا يتوجه على تسمية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا الكلام بأنه كذبات. وجوابه عندي : أنه لم يكن في لغة قوم إبراهيم التشبيه البليغ ، ولا المجاز ، ولا التهكّم ، فكان ذلك عند قومه كذبا وأن الله أذن له فعل ذلك وأعلمه بتأويله كما أذن لأيوب أن يأخذ ضغثا من عصيّ فيضرب به ضربة واحدة ليبرّ قسمه إذ لم تكن الكفارة مشروعة في دين أيوب عليه‌السلام.

وفعل «راغ» معناه : حاد عن الشيء ، ومصدره الرّوغ والروغان ، وقد أطلق هنا على الذهاب إلى أصنامهم مخاتلة لهم ولأجل الإشارة إلى تضمينه معنى الذهاب عدّي ب (إِلى).

٥٧

وإطلاق الآلهة على الأصنام مراعى فيه اعتقاد عبدتها بقرينة إضافتها إلى ضميرهم ، أي إلى الآلهة المزعومة لهم.

ومخاطبة إبراهيم تلك الأصنام بقوله : (أَلا تَأْكُلُونَ* ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ) وهو في حال خلوة بها وعلى غير مسمع من عبدتها قصد به أن يثير في نفسه غضبا عليها إذ زعموا لها الإلهية ليزداد قوة عزم على كسرها.

فليس خطاب إبراهيم للأصنام مستعملا في حقيقته ولكنه مستعمل في لازمه وهو تذكر كذب الذين ألّهوها والذين سدنوا لها وزعموا أنها تأكل الطعام الذي يضعونه بين يديها ويزعمون أنها تكلمهم وتخبرهم.

ولذلك عقب هذا الخطاب بقوله : (فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ). وقد استعمل فعل (راغ) هنا مضمّنا معنى (أقبل) من جهة مائلة عن الأصنام لأنه كان مستقبلها ثم أخذ يضربها ذات اليمين وذات الشمال نظير قوله تعالى : (فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ) [النساء : ١٠٢].

وانتصب (ضَرْباً بِالْيَمِينِ) على الحال من ضمير (فَراغَ) أي ضاربا. وتقييد الضرب باليمين لتأكيد (ضَرْباً) أي ضربا قويا ، ونظيره قوله تعالى : (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) [الحاقة : ٤٥] وقول الشماخ :

إذا ما راية رفعت لمجد

تلقّاها عرابة باليمين

فلما علموا بما فعل إبراهيم بأصنامهم أرسلوا إليه من يحضره في ملئهم حول أصنامهم كما هو مفصّل في سورة الأنبياء وأجمل هنا.

فالتعقيب في قوله : (فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ) تعقيب نسبي وجاءه المرسلون إليه مسرعين (يَزِفُّونَ) أي يعدون ، والزّف : الإسراع في الجري ، ومنه زفيف النعامة وزفها وهو عدوها الأول حين تنطلق.

وقرأ الجمهور (يَزِفُّونَ) بفتح الياء وكسر الزاي على أنه مضارع زفّ. وقرأه حمزة وخلف بضم الياء وكسر الزاي ، على أنه مضارع أزفّ ، أي شرعوا في الزفيف ، فالهمزة ليست للتعدية بل للدخول في الفعل ، مثل قولهم : أدنف ، أي صار في حال الدنف ، وهو راجع إلى كون الهمزة للصيرورة.

وجملة (قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) استئناف بيانيّ لأن إقبال القوم إلى إبراهيم بحالة

٥٨

تنذر بحنقهم وإرادة البطش به يثير في نفس السامع تساؤلا عن حال إبراهيم في تلقّيه بأولئك وهو فاقد للنصير معرّض للنكال فيكون (قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) جوابا وبيانا لما يسأل عنه ، وذلك منبئ عن رباطة جأش إبراهيم إذ لم يتلق القوم بالاعتذار ولا بالاختفاء ، ولكنه لقيهم بالتهكّم بهم إذ قال : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) كما في سورة الأنبياء [٦٣]. ثم أنحى عليهم باللائمة والتوبيخ وتسفيه أحلامهم إذ بلغوا من السخافة أن يعبدوا صورا نحتوها بأيديهم أو نحتها أسلافهم ، فإسناد النحت إلى المخاطبين من قبيل إسناد الفعل إلى القبيلة إذا فعله بعضها كقولهم : بنو أسد قتلوا حجر بن عمرو أبا امرئ القيس.

والنحت : بري العود ليصير في شكل يراد ، فإن كانت الأصنام من الخشب فإطلاق النحت حقيقة ، وإن كانت من حجارة كما قيل ، فإطلاق النحت على نقشها وتصويرها مجاز.

والاستفهام إنكاري والإتيان بالموصول والصلة لما تشتمل عليه الصلة من تسلط فعلهم على معبوداتهم ، أي أن شأن المعبود أن يكون فاعلا لا منفعلا ، فمن المنكر أن تعبدوا أصناما أنتم نحتموها وكان الشأن أن تكون أقلّ منكم.

والواو في (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) واو الحال ، أي أتيتم منكرا إذ عبدتم ما تصنعونه بأيديكم والحال أن الله خلقكم وما تعملون وأنتم معرضون عن عبادته ، أو وأنتم مشركون معه في العبادة مخلوقات دونكم. والحال مستعملة في التعجيب لأن في الكلام حذفا بعد واو الحال إذ التقدير : ولا تعبدون الله وهو خلقكم وخلق ما نحتموه.

و (ما) موصولة و (تَعْمَلُونَ) صلة الموصول ، والرابط محذوف على الطريقة الكثيرة ، أي وما تعملونها. ومعنى (تَعْمَلُونَ) تنحتون. وإنما عدل عن إعادة فعل (تَنْحِتُونَ) لكراهية تكرير الكلمة فلما تقدّم لفظ (تَنْحِتُونَ) علم أن المراد ب (ما تَعْمَلُونَ) ذلك المعمول الخاص وهو المعمول للنحت لأن العمل أعمّ. يقال : عملت قميصا وعملت خاتما. وفي حديث صنع المنبر «أرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لامرأة من الأنصار أن مري غلامك النجّار يعمل لي أعوادا أكلّم عليها الناس».

وخلق الله إياها ظاهر ، وخلقه ما يعملونها : هو خلق المادة التي تصنع منها من حجر أو خشب ، ولذلك جمع بين إسناد الخلق إلى الله بواو العطف ، وإسناد العمل إليهم بإسناد فعل (تَعْمَلُونَ).

٥٩

وقد احتج الأشاعرة على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى بهذه الآية على أن تكون (ما) مصدرية أو تكون موصولة ، على أن المراد : ما تعملونه من الأعمال. وهو تمسك ضعيف لما في الآية من الاحتمالين ولأن المقام يرجح المعنى الذي ذكرناه إذ هو في مقام المحاجّة بأن الأصنام أنفسها مخلوقة لله فالأولى المصير إلى أدلة أخرى.

[٩٧ ـ ٩٨] (قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨))

(الْجَحِيمِ) : النار الشديدة الوقود ، وكلّ نار على نار وجمر فوق جمر فهو جحيم.

وتقدمت هذه القصة ونظير هذه الآية في سورة الأنبياء ، وعبر هنا ب (الْأَسْفَلِينَ) وهنالك ب (الْأَخْسَرِينَ) [الأنبياء : ٧٠] والأسفل هو المغلوب لأن الغالب يتخيل معتليا على المغلوب فهو استعارة للمغلوب ، والأخسر هنالك استعارة لمن لا يحصل من سعيه على بغيته.

[٩٩ ـ ١٠٠] (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠))

لما نجا إبراهيم من نارهم صمّم على الخروج من بلده (أور الكلدانيين).

وهذه أول هجرة في سبيل الله للبعد عن عبادة غير الله. والتوراة بعد أن طوت سبب أمر الله إياه بالخروج ذكر فيها أنه خرج قاصدا بلاد حران في أرض كنعان (وهي بلاد الفينيقيين).

والظاهر : أن هذا القول قاله علنا في قومه ليكفوا عن أذاه ، وكان الأمم الماضون يعدّون الجلاء من مقاطع الحقوق ، قال زهير :

وإن الحق مقطعه ثلاث

يمين أو نفار أو جلاء

ولذلك لما أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالهجرة من مكة لم يتعرض له قريش في بادئ الأمر ثم خافوا أن تنتشر دعوته في الخارج فراموا اللحاق به فحبسهم الله عنه.

ويحتمل أن يكون قال ذلك في أهله الذين يريد أن يخرج بهم معه فمعنى (ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) مهاجر إلى حيث أعبد ربّي وحده ولا أعبد آلهة غيره ولا أفتن في عبادته كما فتنت في بلدهم.

ومراد الله أن يفضي إلى بلوغ مكة ليقيم هنالك أول مسجد لإعلان توحيد الله فسلك

٦٠