تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٣

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٣

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٠٥

به المسالك التي سلكها حتى بلغ به مكة وأودع بها أهلا ونسلا ، وأقام بها قبيلة دينها التوحيد ، وبنى لله معبدا ، وجعل نسله حفظة بيت الله ، ولعلّ الله أطلعه على تلك الغاية بالوحي أو سترها عنه حتى وجد نفسه عندها فلذلك أنطقه بأن ذهابه إلى الله نطقا عن علم أو عن توفيق.

وجملة (سَيَهْدِينِ) يجوز أن تكون حالا وهو الأظهر لأنه أراد إعلام قومه بأنه واثق بربه وأنه لا تردد له في مفارقتهم ، ويجوز أن تكون استئنافا ؛ فعلى الأول هي حال من اسم الجلالة ، ولا يمنع من جعل الجملة حالا اقترانها بحرف الاستقبال فإن حرف الاستقبال يدل على أنها حال مقدّرة ، والتقدير : أني ذاهب إلى ربّي مقدّرا ، كما لم يمتنع مجيء الحال معمولا لعامل مستقبل كما في قوله تعالى : (سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) [غافر : ٦٠] وقوله تعالى : (إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء : ٦٢] وقول سعد بن ناشب :

سأغسل عني العار بالسيف جالبا

علي قضاء الله ما كان جالبا

وامتناع اقتران جملة الحال بعلامة الاستقبال في الإثبات أو النفي مذهب بصري ، وهو ناظر إلى غالب أحوال استعمال الحال ، وجوازه مذهب كوفي كما ذكره ابن الأنباري في «الإنصاف» ، والحق في جانب نحاة الكوفة. وقد تلقّف المذهب البصري معظم علماء العربية وتحيّر المحققون منهم في تأييده فلجأوا إلى أن علته استبشاع الجمع بين كون الكلمة حالا وبين اقترانها بعلامة الاستقبال. ونبينه بأن الحال ما سميت حالا إلا لأن المراد منها ثبوت وصف في الحال وهذا ينافي اقترانها بعلامة الاستقبال تنافيا في الجملة. هذا بيان ما وجّه به الرضيّ مذهب البصريين وتبعه التفتازانيّ في مبحث الحال من شرحه المطوّل على «تلخيص المفتاح». وفي مبحث الاستفهام ب (هل) منه. وقد زيف السيد الجرجاني في «حاشية المطوّل» ذلك التوجيه في مبحث الحال تزييفا رشيقا.

ويجوز أن تكون جملة (سَيَهْدِينِ) مستأنفة وبذلك أجاب نحاة البصرة عن تمسك نحاة الكوفة بالآية في جواز اقتران الحال بعلم الاستقبال ، فالاستئناف بياني بيانا لسبب هجرته.

وجملة (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) بقية قوله فإنه بعد أن أخبر أنه مهاجر استشعر قلة أهله وعقم امرأته وثار ذلك الخاطر في نفسه عند إزماع الرحيل لأن الشعور بقلة الأهل عند مفارقة الأوطان يكون أقوى لأن المرء إذا كان بين قومه كان له بعض السلوّ بوجود قرابته وأصدقائه.

٦١

ومما يدل على أنه سأل النسل ما جاء في سفر التكوين (الاصحاح الخامس عشر) «وقال أبرام إنك لم تعطني نسلا وهذا ابن بيتي (بمعنى مولاه) وارث لي (أنهم كانوا إذا مات عن غير نسل ورثه مواليه)». وكان عمر إبراهيم حين خرج من بلاده نحوا من سبعين سنة.

وقال في «الكشاف» : لفظ الهبة غلب في الولد. لعله يعني أن هذا اللفظ غلب في القرآن في الولد : ولا أحسبه غلب فيه في كلام العرب لأني لم أقف عليه وإن كان قد جاء في الأخ في قوله تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) [مريم : ٥٣].

فحذف مفعول الفعل لدلالة الفعل عليه.

ووصفه بأنه من الصالحين لأن نعمة الولد تكون أكمل إذا كان صالحا فإن صلاح الأبناء قرة عين للآباء ، ومن صلاحهم برّهم بوالديهم.

[١٠١ ـ ١٠٢] (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢))

الفاء في (فَبَشَّرْناهُ) للتعقيب ، والبشارة : الإخبار بخير وارد عن قرب أو على بعد ؛ فإن كان الله بشّر إبراهيم بأنه يولد له ولد أو يوجد له نسل عقب دعائه كما هو الظاهر وهو صريح في سفر التكوين في الإصحاح الخامس عشر فقد أخبره بأنه استجاب له وأنه يهبه ولدا بعد زمان ، فالتعقيب على ظاهره ؛ وإن كان الله بشره بغلام بعد ذلك حين حملت منه هاجر جاريته بعد خروجه بمدة طويلة ، فالتعقيب نسبي ، أي بشرناه حين قدّرنا ذلك أول بشارة بغلام فصار التعقيب آئلا إلى المبادرة كما يقال : تزوج فولد له ؛ وعلى الاحتمالين فالغلام الذي بشر به هو الولد الأول الذي ولد له وهو إسماعيل لا محالة.

والحليم : الموصوف بالحلم وهو اسم يجمع أصالة الرأي ومكارم الأخلاق والرحمة بالمخلوق. قيل : ما نعت الله الأنبياء بأقلّ مما نعتهم بالحلم.

وهذا الغلام الذي بشر به إبراهيم هو إسماعيل ابنه البكر وهذا غير الغلام الذي بشره به الملائكة الذين أرسلوا إلى قوم لوط في قوله تعالى : (قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) [الذاريات : ٢٨] فذلك وصف بأنه (عَلِيمٍ). وهذا وصف ب (حَلِيمٍ). وأيضا ذلك

٦٢

كانت البشارة به بمحضر سارة أمّه وقد جعلت هي المبشرة في قوله تعالى : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ قالَتْ : يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) [هود : ٧٢] ، فتلك بشارة كرامة والأولى بشارة استجابة دعائه ، فلما ولد له إسماعيل تحقق أمل إبراهيم أن يكون له وارث من صلبه.

فالبشارة بإسماعيل لما كانت عقب دعاء إبراهيم أن يهب الله له من الصالحين عطفت هنا بفاء التعقيب ، وبشارته بإسحاق ذكرت في هذه السورة معطوفة بالواو عطف القصة على القصة.

والفاء في (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) فصيحة لأنها مفصحة عن مقدر ، تقديره : فولد له ويفع وبلغ السعي فلما بلغ السعي قال يا بنيّ إلخ ، أي بلغ أن يسعى مع أبيه ، أي بلغ سنّ من يمشي مع إبراهيم في شئونه.

فقوله : (مَعَهُ) متعلق بالسعي والضمير المستتر في (بَلَغَ) للغلام ، والضمير المضاف إليه (مَعَهُ) عائد إلى إبراهيم. و (السَّعْيَ) مفعول (بَلَغَ) ولا حجة لمن منع تقدم معمول المصدر عليه ، على أن الظروف يتوسع فيها ما لا يتوسع في غيرها من المعمولات.

وكان عمر إسماعيل يومئذ ثلاث عشرة سنة وحينئذ حدّث إبراهيم ابنه بما رآه في المنام ورؤيا الأنبياء وحي وكان أول ما بدئ به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الرؤيا الصادقة ولكن الشريعة لم يوح بها إليه إلا في اليقظة مع رؤية جبريل دون رؤيا المنام ، وإنما كانت الرؤيا وحيا له في غير التشريع مثل الكشف على ما يقع وما أعد له وبعض ما يحل بأمته أو بأصحابه ، فقد رأى في المنام أنه يهاجر من مكة إلى أرض ذات نخل فلم يهاجر حتى أذن له في الهجرة كما أخبر بذلك أبا بكر رضي‌الله‌عنه ، ورأى بقرا تذبح فكان تأويل رؤياه من استشهد من المسلمين يوم أحد ، ولقد يرجّح قول القائلين من السلف بأن الإسراء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقظة وبالجسد على قول القائلين بأنه كان في المنام وبالروح خاصة ، فإن في حديث الإسراء أن الله فرض الصلاة في ليلته والصلاة ثاني أركان الإسلام فهي حقيقة بأن تفرض في أكمل أحوال الوحي للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو حال اليقظة فافهم.

وأمر الله إبراهيم بذبح ولده أمر ابتلاء.

وليس المقصود به التشريع إذ لو كان تشريعا لما نسخ قبل العمل به لأن ذلك يفيت

٦٣

الحكمة من التشريع بخلاف أمر الابتلاء.

والمقصود من هذا الابتلاء إظهار عزمه وإثبات علوّ مرتبته في طاعة ربّه فإن الولد عزيز على نفس الوالد ، والولد الوحيد الذي هو أمل الوالد في مستقبله أشدّ عزّة على نفسه لا محالة ، وقد علمت أنه سأل ولدا ليرثه نسله ولا يرثه مواليه ، فبعد أن أقرّ الله عينه بإجابة سؤله وترعرع ولده أمره بأن يذبحه فينعدم نسله ويخيب أمله ويزول أنسه ويتولى بيده إعدام أحب النفوس إليه وذلك أعظم الابتلاء. فقابل أمر ربه بالامتثال وحصلت حكمة الله من ابتلائه ، وهذا معنى قوله تعالى : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) [الصافات : ١٠٦].

وإنما برز هذا الابتلاء في صورة الوحي المنامي إكراما لإبراهيم عن أن يزعج بالأمر بذبح ولده بوحي في اليقظة لأن رؤى المنام يعقبها تعبيرها إذ قد تكون مشتملة على رموز خفيّة وفي ذلك تأنيس لنفسه لتلقّي هذا التكليف الشاقّ عليه وهو ذبح ابنه الوحيد.

والفاء في قوله : (فَانْظُرْ ما ذا تَرى) فاء تفريع ، أو هي فاء الفصيحة ، أي إذا علمت هذا فانظر ما ذا ترى. والنظر هنا نظر العقل لا نظر البصر فحقه أن يتعدّى إلى مفعولين ولكن علّقه الاستفهام عن العمل. والمعنى : تأمل في الذي تقابل به هذا الأمر ، وذلك لأن الأمر لما تعلق بذات الغلام كان للغلام حظ في الامتثال وكان عرض إبراهيم هذا على ابنه عرض اختبار لمقدار طواعيته بإجابة أمر الله في ذاته لتحصل له بالرضى والامتثال مرتبة بذل نفسه في إرضاء الله وهو لا يرجو من ابنه إلا القبول لأنه أعلم بصلاح ابنه وليس إبراهيم مأمورا بذبح ابنه جبرا ، بل الأمر بالذبح تعلق بمأمورين : أحدهما بتلقي الوحي ، والآخر بتبليغ الرسول إليه ، فلو قدر عصيانه لكان حاله في ذلك حال ابن نوح الذي أبى أن يركب السفينة لما دعاه أبوه فاعتبر كافرا.

وقرأ الجمهور (ما ذا تَرى) بفتح التاء والراء. وقرأ حمزة والكسائي وخلف بضم التاء وكسر الراء ، أي ما ذا تريني من امتثال أو عدمه. وحكى جوابه فقال : (يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) دون عطف ، جريا على حكاية المقاولات كما تقدم عند قوله تعالى : (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) في سورة البقرة [٣٠].

وابتداء الجواب بالنداء واستحضار المنادى بوصف الأبوة وإضافة الأب إلى ياء المتكلم المعوض عنها التاء المشعر تعويضها بصيغة ترقيق وتحنّن.

والتعبير عن الذبح بالموصول وهو (ما تُؤْمَرُ) دون أن يقول : اذبحني ، يفيد وحده

٦٤

إيماء إلى السبب الذي جعل جوابه امتثالا لذبحه. وحذف المتعلق بفعل (تُؤْمَرُ) لظهور تقديره : أي ما تؤمر به. وبقي الفعل كأنه من الأفعال المتعدية ، وهذا الحذف يسمى بالحذف والإيصال ، كقول عمرو بن معد يكرب :

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به

فقد تركتك ذا مال وذا نشب

وصيغة الأمر في قوله : (افْعَلْ) مستعملة في الإذن. وعدل عن أن يقال : اذبحني ، إلى (افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) للجمع بين الإذن وتعليله ، أي أذنت لك أن تذبحني لأن الله أمرك بذلك ، ففيه تصديق أبيه وامتثال أمر الله فيه.

وجملة (سَتَجِدُنِي) هي الجواب لأن الجمل التي قبلها تمهيد للجواب كما علمت فإنه بعد أن حثّه على فعل ما أمر به وعده بالامتثال له وبأنه لا يجزع ولا يهلع بل يكون صابرا ، وفي ذلك تخفيف من عبء ما عسى أن يعرض لأبيه من الحزن لكونه يعامل ولده بما يكره. وهذا وعد قد وفّى به حين أمكن أباه من رقبته ، وهو الوعد الذي شكره الله عليه في الآية الأخرى في قوله : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ)[مريم : ٥٤] ، وقد قرن وعده ب (إِنْ شاءَ اللهُ) استعانة على تحقيقه.

وفي قوله : (مِنَ الصَّابِرِينَ) من المبالغة في اتصافه بالصبر ما ليس في الوصف : بصابر ، لأنه يفيد أنه سيجده في عداد الذين اشتهروا بالصبر وعرفوا به ، ألا ترى أن موسىعليه‌السلام لما وعد الخضر قال : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً) [الكهف : ٦٩] لأنه حمل على التصبر إجابة لمقترح الخضر.

[١٠٣ ـ ١٠٧] (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧))

(أَسْلَما) استسلما. يقال : سلّم واستسلم وأسلم بمعنى : انقاد وخضع ، وحذف المتعلّق لظهوره من السياق ، أي أسلما لأمر الله فاستسلام إبراهيم بالتهيّؤ لذبح ابنه ، واستسلام الغلام بطاعة أبيه فيما بلغه عن ربه.

و (تَلَّهُ) : صرعه على الأرض ، وهو فعل مشتق من اسم التلّ وهو الصبرة من التراب كالكدية ، وأما قوله في حديث الشّرب «فتلّه في يده» أي القدح ، فذلك على تشبيه شدة التمكين كأنه ألقاه في يده.

٦٥

واللام في (لِلْجَبِينِ) بمعنى (على) كقوله : (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً) [الإسراء : ١٠٧] ، وقوله تعالى : (دَعانا لِجَنْبِهِ) [يونس : ١٢] ، ومعناها أن مدخولها هو أسفل جزء من صاحبه.

والجبين : أحد جانبي الجبهة ، وللجبهة جبينان ، وليس الجبين هو الجبهة ولهذا خطّئوا المتنبي في قوله :

وخلّ زيّا لمن يحقّقه

ما كل دام جبينه عابد

وتبع المتنبي إطلاق العامة وهو خطأ ، وقد نبه على ذلك ابن قتيبة في «أدب الكتاب» ولم يتعقبه ابن السيّد البطليوسي في «الاقتضاب» ولكن الحريري لم يعدّه في «أوهام الخواصّ» فلعله أن يكون غفل عنه ، وذكر مرتضى في «تاج العروس» عن شيخه تصحيح إطلاق الجبين على الجبهة مجازا بعلاقة المجاورة ، وأنشد قول زهير :

يقيني بالجبين ومنكبيه

وأدفعه بمطّرد الكعوب

وزعم أن شارح ديوان زهير ذكر ذلك. وهذا لا يصح استعماله إلا عند قيام القرينة لأن المجاز إذا لم يكثر لا يستحق أن يعد في معاني الكلمة على أنا لا نسلم أن زهيرا أراد من الجبين الجبهة. ولم يذكر هذا في الأساس.

والمعنى : أنه ألقاه على الأرض على جانب بحيث يباشر جبينه الأرض من شدة الاتصال. ومناداة الله إبراهيم بطريق الوحي بإرسال الملك ، أسندت المناداة إلى الله تعالى لأنه الآمر بها.

وتصديق الرؤيا : تحقيقها في الخارج بأن يعمل صورة العمل الذي رآه يقال : رؤيا صادقة ، إذا حصل بعدها في الواقع ما يماثل صورة ما رآه الرائي قال الله تعالى : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِ) [الفتح : ٢٧]. وفي حديث عائشة : «أول ما بدئ به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح». وبضد ذلك يقال : كذبت الرؤيا ، إذا حصل خلاف ما رأى. وفي الحديث : «إذا اقترب الزمان لم تكد تكذب رؤيا المؤمن» ، فمعنى (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) قد فعلت مثل صورة ما رأيت في النوم أنك تفعله. وهذا ثناء من الله تعالى على إبراهيم بمبادرته لامتثال الأمر ولم يتأخر ولا سأل من الله نسخ ذلك.

والمراد : أنه صدق ما رآه إلى حدّ إمرار السكين على رقبة ابنه ، فلما ناداه جبريل بأن لا يذبحه كان ذلك الخطاب نسخا لما في الرؤيا من إيقاع الذبح ، وذلك جاء من قبل

٦٦

الله لا من تقصير إبراهيم ، فإبراهيم صدّق الرؤيا إلى أن نهاه الله عن إكمال مثالها ، فأطلق على تصديقه أكثرها أنه صدّقها ، وجعل ذبح الكبش تأويلا لذبح الولد الواقع في الرؤيا.

وجملة (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) تعليل لجملة (وَنادَيْناهُ) لأن نداء الله إياه ترفيع لشأنه فكان ذلك النداء جزاء على إحسانه. وهذه الجملة يجوز أن تكون من خطاب الله تعالى إبراهيم ، ويجوز أن تكون معترضة بين جمل خطاب إبراهيم ، والإشارة في قوله : (كَذلِكَ) إلى المصدر المأخوذ من فعل (صَدَّقْتَ) من المصدر وهو التصديق مثل عود الضمير على المصدر المأخوذ من (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨] ، أي إنا نجزي المحسنين كذلك التصديق ، أي مثل عظمة ذلك التصديق نجزي جزاء عظيما للمحسنين ، أي الكاملين في الإحسان ، أي وأنت منهم.

ولما يتضمنه لفظ الجزاء من معنى المكافأة ومماثلة المجزي عليه عظم شأن الجزاء بتشبيهه بمشبه مشار إليه بإشارة البعيد المفيد بعدا اعتباريا وهو الرفعة وعظم القدر في الشرف ، فالتقدير : إنا نجزي المحسنين جزاء كذلك الإحسان الذي أحسنت به بتصديقك الرؤيا ، مكافأة على مقدار الإحسان فإنه بذل أعزّ الأشياء عليه في طاعة ربّه فبذل الله إليه من أحسن الخيرات التي بيده تعالى ، فالمشبه والمشبه به معقولان إذ ليس واحد منهما بمشاهد ولكنهما متخيّلان بما يتسع له التخيّل المعهود عند المحسنين مما يقتضيه اعتقادهم في وعد الصادق من جزاء القادر العظيم ، قال تعالى : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) [الرحمن : ٦٠].

ولما أفاد اسم الإشارة من عظمة الجزاء أكّد الخبر ب (إِنَ) لدفع توهم المبالغة ، أي هو فوق ما تعهده في العظمة وما تقدره العقول.

وفهم من ذكر المحسنين أن الجزاء إحسان بمثل الإحسان فصار المعنى : إنا كذلك الإحسان العظيم الذي أحسنته نجزي المحسنين ، فهذا وعد بمراتب عظيمة من الفضل الرباني ، وتضمن وعد ابنه بإحسان مثله من جهة نوط الجزاء بالإحسان ، وقد كان إحسان الابن عظيما ببذل نفسه.

وقد أكد ذلك بمضمون جملة (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) أي هذا التكليف الذي كلّفناك هو الاختبار البيّن ، أي الظاهر دلالة على مرتبة عظيمة من امتثال أمر الله.

واستعمل لفظ البلاء مجازا في لازمه وهو الشهادة بمرتبة من لو اختبر بمثل ذلك

٦٧

التكليف لعلمت مرتبته في الطاعة والصبر وقوة اليقين.

وجملة (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) في محل العلة لجملة (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) على نحو ما تقدم في موقع جملة (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) [الصافات : ٨١] في قصة نوح.

وجواب (فَلَمَّا أَسْلَما) محذوف دل عليه قوله : (وَنادَيْناهُ) ، وإنما جيء به في صورة العطف إيثارا لما في ذلك من معنى القصة على أن يكون جوابا لأن الدلالة على الجواب تحصل بعطف بعض القصة دون العكس ، وحذف الجواب في مثل هذا كثير في القرآن وهو من أساليبه ومثله قوله تعالى : (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي) غيابات (الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ، وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ) [يوسف : ١٥ ، ١٦].

وجملة (وَفَدَيْناهُ) يظهر أنها من الكلام الذي خاطب الله به إبراهيم.

والمعنى : وقد فدينا ابنك بذبح عظيم ولو لا هذا التقدير تكون حكاية نداء الله إبراهيم غير مشتملة على المقصود من النداء وهو إبطال الأمر بذبح الغلام.

والفدى والفداء : إعطاء شيء بدلا عن حق للمعطى ، ويطلق على الشيء المفدى به من إطلاق المصدر على المفعول. وأسند الفداء إلى الله لأنه الآذن به ، فهو مجاز عقلي ، فإن الله أوحى إلى إبراهيم أن يذبح الكبش فداء عن ذبح ابنه وإبراهيم هو الفادي بإذن الله ، وابن إبراهيم مفدى.

والذبح بكسر الذال : المذبوح ووزن فعل بكسر الفاء وسكون عين الكلمة يكثر أن يكون بمعنى المفعول مما اشتق منه مثل : الحب والطحن والعدل.

ووصفه ب (عَظِيمٍ) بمعنى شرف قدر هذا الذبح ، وهو أن الله فدى به ابن رسول وأبقى به من سيكون رسولا فعظمه بعظم أثره ، ولأنه سخره الله لإبراهيم في ذلك الوقت وذلك المكان.

وقد أشارت هذه الآيات إلى قصة الذبيح ولم يسمه القرآن لعله لئلا يثير خلافا بين المسلمين وأهل الكتاب في تعيين الذبيح من ولدي إبراهيم ، وكان المقصد تألف أهل الكتاب لإقامة الحجة عليهم في الاعتراف برسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتصديق القرآن ، ولم يكن ثمة مقصد مهمّ يتعلق بتعيين الذبيح ولا في تخطئة أهل الكتاب في تعيينه ، وأمارة ذلك أن

٦٨

القرآن سمّى إسماعيل في مواضع غير قصة الذبح وسمّى إسحاق في مواضع ، ومنها بشارة أمه على لسان الملائكة الذين أرسلوا إلى قوم لوط ، وذكر اسمي إسماعيل وإسحاق أنهما وهبا له على الكبر ولم يسمّ أحدا في قصة الذبح قصدا للإبهام مع عدم فوات المقصود من الفضل لأن المقصود من القصة التنويه بشأن إبراهيم فأي ولديه كان الذبيح كان في ابتلائه بذبحه وعزمه عليه وما ظهر في ذلك من المعجزة تنويه عظيم بشأن إبراهيم وقال الله تعالى : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [العنكبوت : ٤٦] وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم». روى الحاكم في «المستدرك» عن معاوية بن أبي سفيان أن أحد الأعراب قال للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا ابن الذبيحين فتبسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يعني أنه من ولد إسماعيل وهو الذبيح وأن أباه عبد الله بن عبد المطلب كان أبوه عبد المطلب نذر : لئن رزقه الله بعشرة بنين أن يذبح العاشر للكعبة ، فلما ولد عبد الله وهو العاشر عزم عبد المطلب على الوفاء بنذره ، فكلّمه كبراء أهل البطاح أن يعدله بعشرة من الإبل وأن يستقسم بالأزلام عليه وعلى الإبل فإن خرج سهم الإبل نحرها ، ففعل فخرج سهم عبد الله ، فقالوا : أرض الآلهة ، أي الآلهة التي في الكعبة يومئذ ، فزاد عشرة من الإبل واستقسم فخرج سهم عبد الله ، فلم يزالوا يقولون : أرض الآلهة ويزيد عبد المطلب عشرة من الإبل ويعيد الاستقسام ويخرج سهم عبد الله إلى أن بلغ مائة من الإبل واستقسم عليهما فخرج سهم الإبل فقالوا رضيت الآلهة فذبحها فداء عنه.

وكانت منقبة لعبد المطلب ولابنه أبي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تشبه منقبة جدّه إبراهيم وإن كانت جرت على أحوال الجاهلية فإنها يستخلص منها غير ما حفّ بها من الأعراض الباطلة ، وكان الزمان زمان فترة لا شريعة فيه ولم يرد في السنة الصحيحة ما يخالف هذا. إلا أنه شاع من أخبار أهل الكتاب أن الذبيح هو إسحاق بن إبراهيم بناء على ما جاء في «سفر التكوين» في «الإصحاح» الثاني والعشرين وعلى ما كان يقصّه اليهود عليهم ، ولم يكن فيما علموه من أقوال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يخالفه ولا كانوا يسألونه.

والتأمّل في هذه الآية يقوّي الظن بأن الذبيح إسماعيل ، فإنه ظاهر قوي في أن المأمور بذبحه هو الغلام الحليم في قوله : (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) [الصافات : ١٠١] وأنه هو الذي سأل إبراهيم ربه أن يهب له فساقت الآية قصة الابتلاء بذبح هذا الغلام الحليم الموهوب لإبراهيم ، ثم أعقبت قصته بقوله تعالى : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ) نبيئا (مِنَ الصَّالِحِينَ) [الصافات : ١١٢] ، وهذا قريب من دلالة النص على أن إسحاق هو غير الغلام الحليم الذي

٦٩

مضى الكلام على قصته لأن الظاهر أن قوله : (وَبَشَّرْناهُ) [الصافات : ١١٢] بشارة ثانية وأن ذكر اسم إسحاق يدل على أنه غير الغلام الحليم الذي أجريت عليه الضمائر المتقدمة. فهذا دليل أول.

الدليل الثاني : أن الله لما ابتلى إبراهيم بذبح ولده كان الظاهر أن الابتلاء وقع حين لم يكن لإبراهيم ابن غيره لأن ذلك أكمل في الابتلاء كما تقدم.

الدليل الثالث : أن الله تعالى ذكر : (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) [الصافات : ١٠١] عقب ما ذكر من قول إبراهيم : (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) [الصافات : ١٠٠] ، فدل على أن هذا الغلام الحليم الذي أمر بذبحه هو المبشّر به استجابة لدعوته ، وقد ظهر أن المقصود من الدعوة أن لا يكون عقيما يرثه عبيد بيته كما جاء في «سفر التكوين» وتقدم آنفا.

الدليل الرابع : أن إبراهيم بنى بيتا لله بمكة قبل أن يبني بيتا آخر بنحو أربعين سنة كما في حديث أبي ذرّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن شأن بيوت العبادة في ذلك الزمان أن تقرّب فيها القرابين فقربان أعز شيء على إبراهيم هو المناسب لكونه قربانا لأشرف هيكل. وقد بقيت في العرب سنة الهدايا في الحج كل عام وما تلك إلا تذكرة لأول عام أمر فيه إبراهيم بذبح ولده وأنه الولد الذي بمكة.

الدليل الخامس : أن أعرابيا قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا ابن الذبيحين ، فعلم مراده وتبسّم ، وليس في آباء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذبيح غير عبد الله وإسماعيل.

الدليل السادس : ما وقع في «سفر التكوين» في الإصحاح الثاني والعشرين أن الله امتحن إبراهيم فقال له : «خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق واذهب إلى أرض المريا وأصعده هنالك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك» إلى آخر القصة. ولم يكن إسحاق ابنا وحيدا لإبراهيم فإن إسماعيل ولد قبله بثلاث عشرة سنة. ولم يزل إبراهيم وإسماعيل متواصلين وقد ذكر في الإصحاح الخامس والعشرين من سفر التكوين عند ذكر موت إبراهيمعليه‌السلام «ودفنه إسحاق وإسماعيل ابناه» ، فإقحام اسم إسحاق بعد قوله : ابنك وحيدك ، من زيادة كاتب التوراة.

الدليل السابع : قال صاحب «الكشاف» : ويدل عليه أن قرني الكبش كانا منوطين في الكعبة في أيدي بني إسماعيل إلى أن احترق البيت في حصار ابن الزبير ا. ه. وقال القرطبي عن ابن عباس : والذي نفسي بيده لقد كان أول الإسلام وأن رأس الكبش لمعلق بقرنيه من ميزاب الكعبة وقد يبس. قلت : وفي صحة كون ذلك الرأس رأس كبش الفداء

٧٠

من زمن إبراهيم نظر.

الدليل الثامن : أنه وردت روايات في حكمة تشريع الرمي في الجمرات من عهد الحنيفية أن الشيطان تعرض لإبراهيم ليصدّه عن المضيّ في ذبح ولده وذلك من مناسك الحجّ لأهل مكة ولم تكن لليهود سنّة ذبح معين.

وذكر القرطبي عن ابن عباس : أن الشيطان عرض لإبراهيم عند الجمرات ثلاث مرات فرجمه في كل مرة بحصيات حتى ذهب من عند الجمرة الأخرى. وعنه : أن موضع معالجة الذبح كان عند الجمار وقيل عند الصخرة التي في أصل جبل ثبير بمنى.

الدليل التاسع : أن القرآن صريح في أن الله لمّا بشر إبراهيم بإسحاق قرن تلك البشارة بأنه يولد لإسحاق يعقوب ، قال تعالى : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ)

[هود : ٧١] وكان ذلك بمحضر إبراهيم فلو ابتلاه الله بذبح إسحاق لكان الابتلاء صوريا لأنه واثق بأن إسحاق يعيش حتى يولد له يعقوب لأن الله لا يخلف الميعاد. ولمّا بشره بإسماعيل لم يعده بأنه سيولد له وما ذلك إلا توطئة لابتلائه بذبحه فقد كان إبراهيم يدعو لحياة ابنه إسماعيل. فقد جاء في «سفر التكوين» الإصحاح السابع عشر «وقال إبراهيم لله : ليت إسماعيل يعيش أمامك فقال الله : بل سارة تلد لك ابنا وتدعو اسمه إسحاق وأقيم عهدي معه عهدا أبديا لنسله من بعده». ويظهر أن هذا وقع بعد الابتلاء بذبحه.

الدليل العاشر : أنه لو كان المراد بالغلام الحليم إسحاق لكان قوله تعالى بعد هذا : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ) نبيئا (مِنَ الصَّالِحِينَ) [الصافات : ١١٢] تكريرا لأن فعل : بشرناه بفلان ، غالب في معنى التبشير بالوجود.

واختلف علماء السلف في تعيين الذبيح فقال جماعة من الصحابة والتابعين : هو إسماعيل وممن قاله أبو هريرة وأبو الطفيل عامر بن واثلة وعبد الله بن عمر وابن عباس ومعاوية بن أبي سفيان. وقاله من التابعين سعيد بن المسيب والشعبي ومجاهد وعلقمة والكلبي والربيع بن أنس ومحمد بن كعب القرظي وأحمد بن حنبل. وقال جماعة : هو إسحاق ونقل عن ابن مسعود والعباس بن عبد المطلب وجابر بن عبد الله وعمر وعلي من الصحابة ، وقاله جمع من التابعين منهم : عطاء وعكرمة والزهري والسّدّي. وفي «جامع العتبية» أنه قول مالك بن أنس.

٧١

فإن قلت : فعلام جنحت إليه واستدللت عليه من اختيارك أن يكون لابتلاء بذبح إسماعيل دون إسحاق ، فكيف تتأول ما وقع في «سفر التكوين»؟

قلت : أرى أن ما في «سفر التكوين» نقل مشتّتا غير مرتبة فيه أزمان الحوادث بضبط يعين الزمن بين الذبح وبين أخبار إبراهيم ، فلما نقل النقلة التوراة بعد ذهاب أصلها عقب أسر بني إسرائيل في بلاد أشور زمن بختنصر ، سجلت قضية الذبيح في جملة أحوال إبراهيم عليه‌السلام وأدمج فيها ما اعتقده بنو إسرائيل في غربتهم من ظنهم الذبيح إسحاق. ويدل لذلك قول الإصحاح الثاني والعشرين «وحدث بعد هذه الأمور أن الله امتحن إبراهيم فقال خذ ابنك وحيدك» إلخ ؛ فهل المراد من قولها : بعد هذه الأمور ، بعد جميع الأمور المتقدمة أو بعد بعض ما تقدم.

[١٠٨ ـ ١١١] (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١))

القول في (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) نظير الكلام المتقدم في ذكر نوح عليه‌السلام في هذه السورة وإعادته هنا تأكيد لما سبق لزيادة التنويه بإبراهيم عليه‌السلام.

ويرد أن يقال : لما ذا لم تؤكد جملة (كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) ب (إنّ) هنا وأكدت مع ذكر نوح وفيما تقدم من ذكر إبراهيم. وأشار في «الكشاف» أنه لما تقدم في هذه القصة قوله : (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) [الصافات : ٨٠] وكان إبراهيم هو المجزيّ اكتفي بتأكيد نظيره عن تأكيده ، أي لأنه بالتأكيد الأول حصل الاهتمام فلم يبق داع لإعادته.

واقتصر على تأكيد معنى الجملة تأكيدا لفظيا لأنه تقرير للعناية بجزائه على إحسانه. ولم يذكر هنا (فِي الْعالَمِينَ) [الصافات : ٧٩] لأن إبراهيم لا يعرفه جميع الأمم من البشر بخلاف نوح عليه‌السلام كما تقدم في قصته.

[١١٢ ـ ١١٣] (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣))

هذه بشارة أخرى لإبراهيم ومكرمة له ، وهي غير البشارة بالغلام الحليم ، فإسحاق غير الغلام الحليم. وهذه البشارة هي التي ذكرت في القرآن في قوله تعالى : (فَبَشَّرْناها

٧٢

بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) [هود : ٧١]. وتسمية المبشّر به إسحاق تحتمل أن الله عيّن له اسما يسمّيه به وهو مقتضى ما في الإصحاح السابع عشر من «سفر التكوين» «سارة امرأتك تلد ابنا وتدعو اسمه إسحاق».

وتحتمل أن المراد : بشرناه بولد الذي سمي إسحاق ، وهو على الاحتمالين إشارة إلى أن الغلام المبشر به في الآية قبل هذه ليس هو الذي اسمه إسحاق فتعين أنه الذي سمي إسماعيل. ومعنى البشارة به البشارة بولادته له لأنّ البشارة لا تتعلق بالذوات بل تتعلق بالمعاني.

وانتصب نبيئا على الحال من إسحاق ، فيجوز أن يكون حكاية للبشارة فيكون الحال حالا مقدّرا لأن اتصاف إسحاق بالنبوءة بعد زمن البشارة بمدة طويلة بل هو لم يكن موجودا ، فالمعنى : وبشّرناه بولادة ولد اسمه إسحاق مقدرا حاله أنه نبيء ، وعدم وجود صاحب الحال في وقت الوصف بالحال لا ينافي اتصافه بالحال على تقدير وجوده لأن وجود صاحب الحال غير شرط في وصفه بالحال بل الشرط مقارنة تعلق الفعل به مع اعتبار معنى الحال لأن غايته أنه من استعمال اسم الفاعل في زمان الاستقبال بالقرينة ولا تكون الحال المقدرة إلا كذلك ، وطول زمان الاستقبال لا يتحدد ، ومنه ما تقدم في قوله تعالى : (وَيَأْتِينا فَرْداً) في سورة مريم [٨٠].

واعلم أن معنى الحال المقدرة أنها مقدّر حصولها غير حاصلة الآن والمقدّر هو الناطق بها ، وهي وصف لصاحبها في المستقبل وقيد لعاملها كيفما كان ، فلا تحتفل بما أطال به في «الكشاف» ولا بمخالفة البيضاوي له ولا بما تفرع على ذلك من المباحثات. وإن كان وضعا معترضا في أثناء القصة كان تنويها بإسحاق وكان حالا حاصلة.

وقوله : (مِنَ الصَّالِحِينَ) حال ثانية ، وذكرها للتنويه بشأن الصلاح فإن الأنبياء معدودون في زمرة أهله وإلا فإن كل نبيء لا بدّ أن يكون صالحا ، والنبوءة أعظم أحوال الصلاح لما معها من العظمة.

وبارك جعله ذا بركة والبركة زيادة الخير في مختلف وجوهه ، وقد تقدم تفسيرها عند قوله تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً) في سورة آل عمران [٩٦]. وقوله : (وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ) في سورة هود [٤٨].

و (عَلى) للاستعلاء المجازي ، أي تمكّن البركة من الإحاطة بهما.

٧٣

ولما ذكر ما أعطاهما نقل الكلام إلى ذريتهما فقال : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ) ، أي عامل بالعمل الحسن ، (وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ) أي مشرك غير مستقيم للإشارة إلى أن ذريتهما ليس جميعها كحالهما بل هم مختلفون ؛ فمن ذرية إبراهيم أنبياء وصالحون ومؤمنون ومن ذرية إسحاق مثلهم ، ومن ذرية إبراهيم من حادوا عن سنن أبيهم مثل مشركي العرب ، ومن ذرية إسحاق كذلك مثل من كفر من اليهود بالمسيح وبمحمد صلّى الله عليهما ، ونظيره قوله تعالى : (قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) في سورة البقرة [١٢٤].

وفيه تنبيه على أن الخبيث والطيّب لا يجري أمرهما على العرق والعنصر فقد يلد البرّ الفاجر والفاجر البرّ ، وعلى أن فساد الأعقاب لا يعدّ غضاضة على الآباء ، وأن مناط الفضل هو خصال الذات وما اكتسب المرء من الصالحات ، وأما كرامة الآباء فتكملة للكمال وباعث على الاتّسام بفضائل الخلال ، فكان في هذه التكملة إبطال غرور المشركين بأنهم من ذرية إبراهيم ، وإنّها مزية لكن لا يعادلها الدخول في الإسلام وأنهم الأولى بالمسجد الحرام. قال أبو طالب في خطبة خديجة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وجعلنا رجال حرمه وسدنة بيته» فكان ذلك قبل الإسلام وقال الله تعالى لهم بعد الإسلام : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ) [التوبة : ١٩]. وقال تعالى : (وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) [الأنفال : ٣٤] وقال : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا) النبي (وَالَّذِينَ آمَنُوا) [آل عمران : ٦٨].

وقد ضرب الله هذه القصة مثلا لحال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ثباته على إبطال الشرك وفيما لقي من المشركين وإيماء إلى أنه يهاجر من أرض الشرك وأن الله يهديه في هجرته ويهب له أمّة عظيمة كما وهب إبراهيم أتباعا ، فقال : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) [النحل : ١٢٠].

وفي قوله تعالى : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) مثل لحال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين معه من أهل مكة ولحال المشركين من أهل مكة.

[١١٤ ـ ١١٦] (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦))

عطف على قوله : (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ) [الصافات : ٧٥] ، والمناسبة هي ما ذكر هنالك.

وذكر هنا ما كان منة على موسى وهارون وهو النبوءة فإنها أعظم درجة يرفع إليها

٧٤

الإنسان ، ولذلك اكتفي عن تعيين الممنون به لحمل الفعل على أكمل معناه. وجعلت منة من الله عليهما لأن موسى لم يسأل النبوءة إذ ليست النبوءة بمكتسبة وكانت منّة على هارون أيضا لأنه إنما سأل له موسى ذلك ولم يسأله هارون ، فهي منة عليه وإرضاء لموسى ، والمنة عليهما من قبيل إيصال المنافع فإن الله أرسل موسى لإنقاذ بني إسرائيل من استعباد القبط لإبراهيم وإسرائيل.

وفي اختلاف مبادئ القصص الثلاث إشارة إلى أن الله يغضب لأوليائه ؛ إما باستجابة دعوة ، وإما لجزاء على سلامة طوية وقلب سليم ، وإما لرحمة منه ومنّة على عباده المستضعفين. وإنجاء موسى وهارون وقومهما كرامة أخرى لهما ولقومهما بسببهما ، وهذه نعمة إزالة الضر ، فحصل لموسى وهارون نوعا الإنعام وهما : إعطاء المنافع ، ودفع المضار.

و (الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) : هو ما كانوا فيه من المذلة تحت سلطة الفراعنة ومن اتّباع فرعون إياهم في خروجهم حين تراءى الجمعان فقال أصحاب موسى (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) [الشعراء : ٦١] فأوحى الله إليه أن يضرب بعصاه البحر فضربه فانفلق واجتاز منه بنو إسرائيل ، ثم مد البحر أمواجه على فرعون وجنده ، على أن الكرب العظيم أطلق على الغرق في قصة نوح السابقة وفي سورة الأنبياء على الأمم التي مرّوا ببلادها من العمالقة والأموريين فكان بنو إسرائيل منتصرين في كل موقعة قاتلوا فيها عن أمر موسى وما انهزموا إلا حين أقدموا على قتال العمالقة والكنعانيين في سهول وادي (شكول) لأن موسى نهاهم عن قتالهم هنالك كما هو مسطور في تاريخهم.

و (نَصَرْناهُمْ) من قوله : (فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) ضمير فصل وهو يفيد قصرا ، أي هم الغالبين لغيرهم وغيرهم لم يغلبوهم ، أي لم يغلبوا ولو مرة واحدة فإن المنتصر قد ينتصر بعد أن يغلب في مواقع.

[١١٧ ـ ١٢٢] (وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢))

(الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ) : هو التوراة ، والمستبين القوي الوضوح ، فالسين والتاء للمبالغة يقال : استبان الشيء إذا ظهر ظهورا شديدا.

٧٥

وتعدية فعل الإيتاء إلى ضمير موسى وهارون مع أن الذي أوتي التوراة هو موسى كما قال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) [المؤمنون : ٤٩] من حيث إن هارون كان معاضدا لموسى في رسالته فكان له حظ من إيتاء التوراة كما قال الله في الآية الأخرى (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً) [الأنبياء : ٤٨] وهذا من استعمال الإيتاء في معنييه الحقيقي والمجازي.

و (الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) : الدين الحق كما تقدم في سورة الفاتحة ، وقد كانت شريعة التوراة يوم أوتيها موسى عليه‌السلام هي الصراط المستقيم فلمّا نسخت بالقرآن صار القرآن هو الصراط المستقيم للأبد وتعطل صراط التوراة. ويجوز أن يراد ب (الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) أصول الديانة التي لا تختلف فيها الشرائع وهي التوحيد وكليات الشرائع التي أشار إليها قوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) إلى قوله : (وَمُوسى وَعِيسى) [الشورى : ١٣].

والقول في تفسير (وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ) إلى آخر الآيات الأربع كالقول في نظائره عند ذكر نوح في هذه السورة ، إلا أن احتمال أن تكون جملة (سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ) مفعولا لفعل (تَرَكْنا عَلَيْهِما) على إرادة حكاية اللفظ هنا أضعف منه فيما تقدم إذ ليس يطرد أن يكون تسليم الآخرين على موسى وهارون معا لأن الذي ذكر موسى يقول : السلام على موسى والذي يجري على لسانه ذكر هارون يقول : السلام على هارون ولا يجمع اسميهما في السلام إلا الذي يجري على لسانه ذكرهما معا كما يقول المحدث عن جابر : رضي‌الله‌عنه ، ويقول عن عبد الله بن حرام رضي‌الله‌عنه فإذا قال : عن جابر بن عبد الله ، قال:رضي‌الله‌عنهما.

وفي ذكر قصة موسى وهارون عبرة مثل كامل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رسالته وإنزال القرآن عليه وهدايته وانتشار دينه وسلطانه بعد خروجه من ديار المشركين.

[١٢٣ ـ ١٣٢] (وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢))

أتبع الكلام على رسل ثلاثة أصحاب الشرائع : نوح وإبراهيم وموسى بالخبر عن

٧٦

ثلاثة أنبياء وما لقوه من قومهم وذلك كله شواهد لتسلية الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوارع من الموعظة لكفار قريش. وابتدئ ذكر هؤلاء الثلاثة بجملة (وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) لأنهم سواء في مرتبة الدعوة إلى دين الله ، وفي أنهم لا شرائع لهم. وتأكيد إرسالهم بحرف التأكيد للاهتمام بالخبر لأنه قد يغفل عنه إذ لم تكن لهؤلاء الثلاثة شريعة خاصة. و (إِلْياسَ) هو (إيلياء) من أنبياء بني إسرائيل التابعين لشريعة التوراة ، وأطلق عليه وصف الرسول لأنه أمر من جانب الله تعالى بتبليغ ملوك إسرائيل أن الله غضب عليهم من أجل عبادة الأصنام ، فإطلاق وصف الرسول عليه مثل إطلاقه على الرسل إلى أهل أنطاكية المذكورين في سورة يس.

و (إِذْ) ظرف متعلق ب (الْمُرْسَلِينَ) ، أي أنه من حين ذلك القول كان مبلغا رسالة عن الله تعالى إلى قومه.

وقد تقدم ذكر إلياس في سورة الأنعام ، والمراد بقومه : بنو إسرائيل وكانوا قد عبدوا بعلا معبود الكنعانيين بسبب مصاهرة بعض ملوك يهوذا للكنعانيين ولذلك قام إلياس داعيا قومه إلى نبذ عبادة بعل الصنم وإفراد الله بالعبادة.

وقوله : (أَلا) كلمتان : همزة الاستفهام للإنكار ، و (لا) النافية ، إنكار لعدم تقواهم ، وحذف مفعول (تَتَّقُونَ) لدلالة ما بعده عليه.

و (بعل) اسم صنم الكنعانيين وهو أعظم أصنامهم لأن كلمة بعل في لغتهم تدل على معنى الذكورة. ثم دلت على معنى السيادة فلفظ البعل يطلق على الذكر ، وهو عندهم رمز على الشمس ويقابله كلمة (تانيت) بمثنّاتين ، أي الأنثى وكانت لهم صنمة تسمى عند الفينيقيين بقرطاجنة (تانيت) وهي عندهم رمز القمر وعند فينيقيي أرض فينيقية الوطن الأصلي للكنعانيين تسمى هذه الصّنمة (العشتاروث). وقد أطلق على بعل في زمن موسى عليه‌السلام اسم «مولك» أيضا ، وقد مثلوه بصورة إنسان له رأس عجل وله قرنان وعليه إكليل وهو جالس على كرسي مادّا يديه كمن يتناول شيئا وكانت صورته من نحاس وداخلها مجوف وقد وضعوها على قاعدة من بناء كالتنور فكانوا يوقدون النار في ذلك التنور حتى يحمى النحاس ويأتون بالقرابين فيضعونها على ذراعيه فتحترق بالحرارة فيحسبون لجهلهم الصنم تقبلها وأكلها من يديه ، وكانوا يقربون له أطفالا من أطفال ملوكهم وعظماء ملتهم ، وقد عبده بنو إسرائيل غير مرة تبعا للكنعانيين ، والعمونيين ، والمؤابيين وكان لبعل من السدنة في بلاد السامرة ، أو مدينة صرفة أربعمائة وخمسون

٧٧

سادنا. وتوجد صورة بعل في دار الآثار بقصر اللّوفر في باريس منقوشة على وجه حجارة صوروه بصورة إنسان على رأسه خوذة بها قرنان وبيده مقرعة. ولعلها صورته عند بعض الأمم التي عبدته ولا توجد له صورة في آثار قرطاجنة الفينيقية بتونس.

وجيء في قوله : (وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ) بذكر صفة الله دون اسمه العلم تعريضا بتسفيه عقول الذين عبدوا بعلا بأنهم تركوا عبادة الرب المتصف بأحسن الصفات وأكملها وعبدوا صنما ذاته وخش فكأنه قال : أتدعون صنما بشعا جمع عنصري الضعف وهما المخلوقية وقبح الصورة وتتركون من له صفة الخالقية والصفات الحسنى.

وقرأ الجمهور (إِلْياسَ) بهمزة قطع في أوله على اعتبار الألف واللام من جملة الاسم العلم فلم يحذفوا الهمزة إذا وصلوا (إِنَ) بها. وقرأه ابن عامر بهمزة وصل فحذفها في الوصل مع (إِنَ) على اعتبار الألف واللام حرفا للمح الأصل. وأن أصل الاسم ياس مراعاة لقوله : (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ).

وللعرب في النطق بالأسماء الأعجمية تصرفات كثيرة لأنه ليس من لغتهم فهم يتصرفون في النطق به على ما يناسب أبنية كلامهم.

وجملة (اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) قرأ الأكثر برفع اسم الجلالة وما عطف عليه فهو مبتدأ والجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا والخبر مستعمل في التنبيه على الخطأ بأن عبدوا (بَعْلاً). وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ويعقوب وخلف بنصب اسم الجلالة على عطف البيان ل (أَحْسَنَ الْخالِقِينَ) ، والمقصود من البيان زيادة التصريح لأن المقام مقام إيضاح لأصل الديانة ، وعلى كلتا القراءتين فالكلام مسوق لتذكيرهم بأن من أصول دينهم أنهم لا ربّ لهم إلا الله ، وهذا أول أصول الدين فإنه ربّ آبائهم فإن آباءهم لم يعبدوا غير الله من عهد إبراهيم عليه‌السلام وهو الأب الأول من حيث تميزت أمتهم عن غيرهم ، أو هو يعقوب قال تعالى : وأوصى (بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [البقرة : ١٣٢] ، واحتراز ب (الْأَوَّلِينَ) عن آبائهم الذين كانوا في زمان ملوكهم بعد سليمان.

وجمع هذا الخبر تحريضا على إبطال عبادة «بعل» لأن في الطبع محبة الاقتداء بالسلف في الخير. وقد جمع إلياس من معه من أتباعه وجعل مكيدة لسدنة (بعل) فقتلهم عن آخرهم انتصارا للدّين وانتقاما لمن قتلتهم (إيزابل) زوجة (آخاب).

٧٨

وفي «مفاتيح الغيب» : «كان الملقب بالرشيد الكاتب (١) يقول : لو قيل : أتدعون بعلا وتدعون أحسن الخالقين ، أوهم أنه أحسن» ، أي أوهم كلام الرشيد أنه لو كانت كلمة (تدعون) عوضا عن (تَذَرُونَ). وأجاب الفخر بأن فصاحة القرآن ليست لأجل رعاية هذه التكاليف بل لأجل قوة المعاني وجزالة الألفاظ ا ه ـ. وهو جواب غير مقنع إذ لا سبيل إلى إنكار حسن موقع المحسنات البديعية بعد استكمال مقتضيات البلاغة. قال السّكّاكي : «وأصل الحسن في جميع ذلك (أي ما ذكر من المحسنات البديعية) أن تكون الألفاظ توابع للمعاني لا أن تكون المعاني لها توابع ، أعني أن لا تكون متكلفة». فإذا سلمنا أن (تذرون) و (تدعون) مترادفان لم يكن سبيل إلى إبطال أن إيثار (تدعون) أنسب.

فالوجه إما أن يجاب بما قاله سعد الله محشي البيضاوي بأن الجناس من المحسنات فإنما يناسب كلاما صادرا في مقام الرضى لا في مقام الغضب والتهويل. يعني أن كلام إلياس المحكيّ هنا محكي عن مقام الغضب والتهويل فلا تناسبه اللطائف اللفظية (يعني بالنظر إلى حال المخاطبين به لأن كلامه محكي في العربية بما يناسب مصدره في لغة قائله وذلك من دقائق الترجمة) ، وهو جواب دقيق ، وإن كابر فيه الخفاجي بكلام لا يليق ، وإن تأمّلته جزمت باختلاله. وقد أجيب بما يقتضي منع الترادف بين فعلي (تَذَرُونَ) و «تدعون» بأن فعل (يدع) أخص : إما لأنه يدل على ترك شيء مع الاعتناء بعدم تركه كما قال سعد الله ، وإما لأن فعل يدع يدل على ترك شيء قبل العلم ، وفعل (يذر) يدل على ترك شيء بعد العلم به كما حكاه سعد الله عن بعض الأئمة عازيا إياه للفخر.

وعندي : أن منع الترادف هو الوجه لكن لا كما قال سعد الله ولا كما نقل عن الفخر بل لأن فعل (يدع) قليل الاستعمال في كلام العرب ولذلك لم يقع في القرآن إلا في قراءة شاذّة لا سند لها خلافا لفعل (يذر). ولا شك أن سبب ذلك أن فعل (يذر) يدل على ترك مع إعراض عن المتروك بخلاف (يدع) فإنه يقتضي تركا مؤقتا وأشار إلى الفرق بينهما كلام الراغب فيهما. وهنالك عدة أجوبة أخرى ، هي بالإعراض عنها أحرى.

ومعنى (فَكَذَّبُوهُ) أنهم لم يطيعوه تملّقا لملوكهم الذين أجابوا رغبة نسائهم

__________________

(١) لم أقف على ذكر كاتب يلقب بالرشيد وأحسب أنه راشد بن إسحاق بن راشد أبا حليمة الكاتب. كان شاعرا ماجنا. ترجمه ياقوت وذكر أنه اتصل بالوزير عبد الملك بن الزيات وزير المعتصم (١٧٣ / ٢٣٣).

٧٩

المشركات لإقامة هياكل للأصنام فإن (إيزابل) ابنة ملك الصيدونيين زوجة (أخاب) ملك إسرائيل لما بلغها ما صنع إلياس بسدنة بعل ثأرا لمن قتلته (إيزابل) من صالحي إسرائيل أرسلت إلى إلياس تتوعده بالقتل فخرج إلى موضع اسمه (بئر سبع) ثم ساح في الأرض وسأل الله أن يقبضه إليه فأمره بأن يعهد إلى صاحبه (اليسع) بالنبوءة من بعده ، ثم قبضه الله إليه فلم يعرف أحد مكانه.

وفي كتاب «إيلياء» من كتب اليهود أن الله رفعه إلى السماء في مركبة يجرها فرسان ، وأن (اليسع) شاهده صاعدا فيها ولذلك كان بعض السلف يقول : إن إلياس هود إدريس الذي قال الله فيه : (إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً) نبيئا* (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) [مريم : ٥٦ ، ٥٧] ، وقيل كان عبد الله بن مسعود يقرأ : إن إدريس لمن المرسلين عوض (وَإِنَّ إِلْياسَ) ويقرأ (سلام على إدراسين) على أنه لغة في إدريس. ولا يقتضي ما في كتب اليهود من رفعه أن يكون هو إدريس لأن الرفع إذا صحّ قد يتكرر وقد رفع عيسى عليه‌السلام.

ومعنى (فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) أن الله يحضرهم للعقاب ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) في هذه السورة الصافات [٥٧].

واستثني من ذلك عباد الله المخلصون وهم الذين اتبعوا إلياس وأعانوه على قتل سدنة (بعل). وتقدم القول فيه عند قوله تعالى : (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) فيما سبق من هذه السورة [٧٤].

وكذلك قوله : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ* سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) إلى آخر الآية تقدم نظيره. وقوله : (إِلْ ياسِينَ) قيل أريد به إلياس خاصة وعبر عنه بياسين لأنه يدعى به. قال في «الكشاف» : ولعل لزيادة الألف والنون في لغتهم معنى ويكون ذكر آل إقحاما كقوله : (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) [غافر : ٤٦] على أحد التفسيرين فيه ، وفي قوله : (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) [النساء : ٥٤].

وقيل : إن ياسين هو أبو إلياس. فالمراد : سلام على إلياس وذويه من آل أبيه.

وقرأ نافع وابن عامر آل ياسين بهمزة بعدها ألف على أنهما كلمتان آل و (ياسين). وقرأه الباقون بهمزة مكسورة دون ألف بعدها وبإسكان اللام على أنها كلمة واحدة هي اسم إلياس وهي مرسومة في المصاحف كلها على قطعتين آل ياسين ولا منافاة بينها وبين القراءتين لأن آل قد ترسم مفصولة عن مدخولها. والأظهر أن المراد

٨٠