تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٣

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٣

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٠٥

وهذه الإشارة قد علمها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي من الأسرار التي بينه وبين ربه حتى كان المستقبل تأويلها كما علم يعقوب سرّ رؤيا ابنه يوسف ، فقال له : (لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ) [يوسف : ٥]. ولم يعلم يوسف تأويلها إلا يوم قال : (يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) [يوسف : ١٠٠] يشير إلى سجود أبويه له.

وأما ظاهر الآية الذي تلقاه الناس يوم نزولها فهو أن الجند هم كفار أهل مكة وأن التنوين فيه للنوعية ، أي ما هم إلا جند من الجنود الذين كذبوا فأهلكوا ، وأن الإشارة ب (هُنالِكَ) إلى مكان اعتباري وهو ما هم فيه من الرفعة الدنيوية العرفية وأن الانهزام مستعار لإضعاف شوكتهم ، وعلى التفسيرين الظاهر والمؤول لا تعدو الآية أن تكون تسلية للرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم وتثبيتا له وبشارة بأن دينه سيظهر عليهم.

والجند : الجماعة الكثيرة قال تعالى : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ* فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) [البروج : ١٧ ، ١٨].

و (ما) حرف زائد يؤكد معنى ما قبله فهي توكيد لما دلّ عليه (جُنْدٌ) بمعناه ، وتنكيره للتعظيم ، أي جند عظيم ، لأن التنوين وإن دلّ على التعظيم فليس نصا فصار بالتوكيد نصا. وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) في سورة البقرة [٢٦] ، فإن كانت الآية مشيرة إلى يوم بدر فتعظيم (جُنْدٌ) لأن رجاله عظماء قريش مثل أبي جهل وأمية بن خلف ، وإن كانت مشيرة إلى يوم الأحزاب فتعظيم (جُنْدٌ) لكثرة رجاله من قبائل العرب.

ووصف (جُنْدٌ) ب (مَهْزُومٌ) على معنى الاستقبال ، أي سيهزم ، واسم المفعول كاسم الفاعل مجاز في الاستقبال ، والقرينة حاليّة وهو من باب استعمال ما هو للحال في معنى المستقبل تنبيها على تحقيق وقوعه فكأنه من القرب بحيث هو كالواقع في الحال.

و (الْأَحْزابِ) : الذين على رأي واحد يتحزّب بعضهم لبعض ، وتقدم في سورة الأحزاب.

و (مِنَ) للتبعيض. والمعنى : أن هؤلاء الجند من جملة الأمم وهو تعريض لهم بالوعيد بأن يحلّ بهم ما حلّ بالأمم ، قال تعالى : (وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) [غافر : ٣٠ ، ٣١].

١٢١

[١٢ ـ ١٤] (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤))

لما كان قوله : (جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ) [ص : ١١] تسلية للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ووعدا له بالنصر وتعريضا بوعيد مكذّبيه بأنهم صائرون إلى ما صارت إليه الأحزاب الذين هؤلاء منهم كما تقدم آنفا جيء بما هو كالبيان لهذا التعريض. والدليل على المصير المقصود على طريقة قياس المساواة وقد تقدم آنفا أن هذه الجملة : إمّا بدل من جملة (جُنْدٌ ما هُنالِكَ) إلخ ، وإمّا استئناف ولذلك فصلت عن التي قبلها.

وحذف مفعول (كَذَّبَتْ) لأنه سيرد ما يبيّنه في قوله : (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ) كما سيأتي. وخصّ فرعون بإسناد التكذيب إليه دون قومه لأن الله أرسل موسى عليه‌السلام إلى فرعون ليطلق بني إسرائيل فكذب موسى فأمر الله موسى بمجادلة فرعون لإبطال كفره فتسلسل الجدال في العقيدة ووجب إشهار أن فرعون وقومه في ضلال لئلا يغتر بنو إسرائيل بشبهات فرعون ، ثم كان فرعون عقب ذلك مضمرا أذى موسى ومعلنا بتكذيبه.

ووصف فرعون بأنه ب (ذُو الْأَوْتادِ) لعظمة ملكه وقوته فلم يكن ذلك ليحول بينه وبين عذاب الله. وأصل (الْأَوْتادِ) أنه : جمع وتد بكسر التاء : عود غليظ له رأس مفلطح يدقّ في الأرض ليشد به الطّنب ، وهو الحبل العظيم الذي تشد به شقّة البيت والخيمة فيشد إلى الوتد وترفع الشقة على عماد البيت قال الأفوه الأوديّ :

والبيت لا يبتنى إلا على عمد

ولا عماد إذا لم ترس أوتاد

و (الْأَوْتادِ) في الآية مستعار لثبات الملك والعز ، كما قال الأسود بن يعفر :

ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة

في ظلّ ملك ثابت الأوتاد

وقيل : (الْأَوْتادِ) : البناءات الشاهقة. وهو عن ابن عباس والضحّاك ، سميت الأبنية أوتادا لرسوخ أسسها في الأرض. وهذا القول هو الذي يتأيّد بمطابقة التاريخ فإن فرعون المعنيّ في هذه الآية هو (منفتاح الثاني) الذي خرج بنو إسرائيل من مصر في زمنه وهو من ملوك العائلة التاسعة عشرة في ترتيب الأسر التي تداولت ملك مصر ، وكانت هذه العائلة مشتهرة بوفرة المباني التي بناها ملوكها من معابد ومقابر وكانت مدة حكمهم مائة وأربعا وسبعين سنة من سنة (١٤٦٢) قبل المسيح إلى سنة (١٢٨٨) ق. م.

وقال الأستاذ محمد عبده في «تفسيره» للجزء الثلاثين من القرآن في سورة الفجر :

١٢٢

وما أجمل التعبير عما ترك المصريون من الأبنية الباقية بالأوتاد فإنها هي الأهرام ومنظرها في عين الرائي منظر الوتد الضخم المغروز في الأرض ا. ه. وأكثر الأهرام بنيت قبل زمن فرعون موسى منفتاح الثاني فكان منفتاح هذا مالك تلك الأهرام فإنه يفتخر بعظمتها وليس يفيد قوله : (ذُو الْأَوْتادِ) أكثر من هذا المعنى إذ لا يلزم أن يكون هو الباني تلك الأهرام. وذلك كما يقال : ذو النيل ، وقال تعالى حكاية عنه : (وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) [الزخرف : ٥١].

وأما (ثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ) فتقدم الكلام عليهم غير مرة. و (أَصْحابُ الْأَيْكَةِ) : هم أهل مدين ، وقد تقدم خبرهم وتحقيق أنهم من قوم شعيب وأنهم مختلطون مع مدين في سورة الشعراء.

وتقديم ذكر فرعون على ثمود وقوم لوط وأصحاب ليكة مع أن قصته حدثت بعد قصصهم لأن حاله مع موسى أشبه بحال زعماء أهل الشرك بمكة من أحوال الأمم الأخرى فإنه قاوم موسى بجيش كما قاوم المشركون المسلمين بجيوش.

وجملة (أُولئِكَ الْأَحْزابُ) معترضة بين جملة (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) وجملة (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ). واسم الإشارة مستعمل في التعظيم ، أي تعظيم القوة.

والتعريف في (الْأَحْزابِ) استغراق ادعائي وهو المسمى بالدلالة على معنى الكمال مثل : هم القوم وأنت الرجل. والحصر المستفاد من تعريف المسند والمسند إليه حصر ادعائي ، قصرت صفة الأحزاب على المشار إليهم ب (أُولئِكَ) بادعاء الأمم وأن غيرهم لمّا يبلغوا مبلغ أن يعدّوا من الأحزاب فظاهر القصر ولام الكمال لتأكيد معنى الكمال كقول الأشهب بن رميلة :

وإن الذي حانت بفلج دماؤهم

هم القوم كلّ القوم يا أم خالد

والمعنى : أولئك المذكورون هم الأمم لا تضاهيهم أمم في القوة والشدة. وهذا تعريض بتخويف مشركي العرب من أن ينزل بهم ما نزل بأولئك على حد قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ* إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) في سورة غافر [٢١ ، ٢٢].

وجملة (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ) مؤكدة لجملة (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) إلى قوله :

١٢٣

(وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) ، أخبر أوّلا عنهم بأنهم كذبوا وأكد ذلك بالإخبار عنهم بأنهم ليسوا إلّا مكذبين على وجه الحصر كأنهم لا صفة لهم إلا تكذيب الرسل لتوغلهم فيها وكونها هجّيراهم. و (إِنْ) نافية ، وتنوين (كُلٌ) تنوين عوض ، والتقدير : إن كلّهم.

وجيء بالمسند فعلا في قوله : (كَذَّبَ الرُّسُلَ) ليفيد تقديم المسند إليه عليه تخصيص المسند إليه بالمسند الفعلي فحصل بهذا النظم تأكيد الحصر.

وتعدية (كَذَّبَ) إلى (الرُّسُلَ) بصيغة الجمع مع أن كل أمة إنما كذبت رسولها ، مقصود منه تفظيع التكذيب لأن الأمة إنما كذّبت رسولها مستندة لحجة سفسطائية هي استحالة أن يكون واحد من البشر رسولا من الله فهذه السفسطة تقتضي أنهم يكذبون جميع الرسل. وقد حصل تسجيل التكذيب عليهم بفنون من تقوية ذلك التسجيل وهي إبهام مفعول (كَذَّبَتْ) في قوله : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) ثم تفصيله بقوله : (إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ) وما في قوله : (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ) من الحصر ، وما في تأكيده بالمسند الفعلي في قوله : (إِلَّا كَذَّبَ) ، وما في جعل المكذّب به جميع الرسل ، فأنتج ذلك التسجيل استحقاقهم عذاب الله في قوله : (فَحَقَّ عِقابِ) ، أي عقابي ، فحذفت ياء المتكلم للرعاية على الفاصلة وأبقيت الكسرة في حالة الوصل.

وحق : تحقق ، أي كان حقّا ، لأنه اقتضاه عظيم جرمهم. والعقاب : هو ما حلّ بكل أمة منهم من العذاب وهو الغرق والتمزيق بالريح ، والغرق أيضا ، والصيحة ، والخسف ، وعذاب يوم الظّلة.

وفي هذا تعريض بالتهديد لمشركي قريش بعذاب مثل عذاب أولئك لاتحادهم في موجبه.

(وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥))

لما أشعر قوله : (فَحَقَّ عِقابِ) [ص : ١٤] بتهديد مشركي قريش بعذاب ينتظرهم جريا على سنة الله في جزاء المكذبين رسله ، عطف على جملة الإخبار عن حلول العذاب بالأحزاب السابقين جملة توعد بعذاب الذين ماثلوهم في التكذيب.

و (هؤُلاءِ) إشارة إلى كفار قريش لأن تجدد دعوتهم ووعيدهم وتكذيبهم يوما فيوما جعلهم كالحاضرين فكانت الإشارة مفهوما منها أنها إليهم ، وقد تتبعت اصطلاح القرآن فوجدته إذا استعمل (هؤُلاءِ) ولم يكن معه مشار إليه مذكور : أنه يريد به المشركين من

١٢٤

أهل مكة كما نبهت عليه فيما مضى غير مرة.

و (يَنْظُرُ) مشتق من النظر بمعنى الانتظار قال تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) [الأنعام : ١٥٨] ، أي ما ينتظر المشركون إلا صيحة واحدة ، وهذا كقوله تعالى : (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) [يونس : ١٠٢].

والمتبادر من الآية أنها تهديد لهم بصيحة صاعقة ونحوها كصيحة ثمود أو صيحة النفخ في الصور التي يقع عندها البعث للجزاء ، ولكن ما سبق ذكره آنفا من أن قوله تعالى : (جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ) [ص : ١١] إيماء إلى بشارة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن معانديه سيهزمون ويعمل فيهم السيف يوم بدر ، يقتضي أن الصيحة صيحة القتال وهي أن يصيح النذير : يا صباحاه كما صاح الصارخ بمكة حين تعرّض المسلمون لعير قريش ببدر. ووصفها ب (واحِدَةً) إشارة إلى أن الصاعقة عظيمة مهلكة ، أو أن النفخة واحدة وهي نفخة الصعق ، وفي خفيّ المعنى إيماء إلى أن القوم يبتدرون إلى السلاح ويخرجون مسرعين لإنقاذ غيرهم فكانت الوقعة العظيمة وقعة يوم بدر أو صيحة المبارزين للقتال يومئذ.

وأسند الانتظار إليهم في حين أنهم غافلون عن ذلك ومكذبون بظاهره إسناد مجازي على طريقة المجاز العقلي فإنهم ينتظر بهم ذلك المسلمون الموعودون بالنصر ، أو ينتظر بهم الملائكة الموكّلون بحشرهم عند النفخة ، فلما كانوا متعلّق الانتظار أسند فعل (يَنْظُرُ) إليهم لملابسة المفعولية على نحو (فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) [الحاقة : ٢١].

والفواق ، بفتح الفاء وضمها : اسم لما بين حلبتي حالب الناقة ورضعتي فصيلها ، فإن الحالب يحلب الناقة ثم يتركها ساعة ليرضعها فصيلها ليدر اللبن في الضرع ثم يعودون فيحلبونها ، فالمدة التي بين الحلبتين تسمى فواقا. وهي ساعة قليلة وهم قبل ابتداء الحلب يتركون الفصيل يرضعها لتدرّ باللبن. وجمهور أهل اللغة على أن الفتح والضم فيه سواء ، وذهب أبو عبيدة والفراء إلى أن بين المفتوح والمضموم فرقا فقالا : المفتوح بمعنى الراحة مثل الجواب من الإجابة ، والمضموم اسم للمدة. واللبن المجتمع في تلك الحصة يسمى : الفيقة بكسر الفاء ، وجمعها أفاويق.

ومعنى (ما لَها مِنْ فَواقٍ) ليس بعدها إمهال بقدر الفواق ، وهذا كقوله تعالى : (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ* فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً) [يس : ٤٩ ، ٥٠].

١٢٥

وقرأ الجمهور (فَواقٍ) بفتح الفاء. وقرأه حمزة والكسائي بضم الفاء.

(وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦))

حكاية حالة استخفافهم بالبعث والجزاء وتكذيبهم ذلك ، وتكذيبهم بوعيد القرآن إياهم فلمّا هدّدهم القرآن بعذاب الله قالوا : ربّنا عجل لنا نصيبنا من العذاب في الدنيا قبل يوم الحساب إظهارا لعدم اكتراثهم بالوعيد وتكذيبه ، لئلا يظن المسلمون أن استخفافهم بالوعيد لأنهم لا يؤمنون بالبعث فأبانوا لهم أنهم لا يصدّقون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كل وعيد حتى الوعيد بعذاب الدنيا الذي يعتقدون أنه في تصرف الله. فالقول هذا قالوه على وجه الاستهزاء وحكي عنهم هنا إظهارا لرقاعتهم وتصلبهم في الكفر.

وهذا الأصل الثالث من أصول كفرهم المتقدم ذكرها وهو إنكار البعث والجزاء فهو عطف على (وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ) [ص : ٤] فذكر قولهم : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) [ص : ٥] ، ثم ذكر قولهم : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) [ص : ٨] وما عقبه من عواقب مثل ذلك القول ، أفضى القول إلى أصلهم الثالث. قيل : قائل ذلك النضر بن الحارث ، وقيل : أبو جهل والقوم حاضرون راضون فأسند القول إلى الجميع.

والقط : هو القسط من الشيء ، ويطلق على قطعة من الورق أو الرقّ أو الثوب التي يكتب فيها العطاء لأحد ولذلك يفسر بالصكّ ، وقد قال المتلمس في صحيفة عمرو بن هند التي أعطاه إياها إلى عامله بالبحرين يوهمه أنه أمر بالعطاء وإنما هي أمر بقتله وعرف المتلمس ما تحتوي عليه فألقاها في النهر وقال في صحيفته المضروب بها المثل :

وألقيتها بالثني من جنب كافر

كذلك يلقى كل قطّ مضلّل

فالقط يطلق على ما يكتب فيه عطاء أو عقاب ، والأكثر أنه ورقة العطاء ، قال الأعشى :

ولا الملك النعمان يوما لقيته

بأمته يعطي القطوط ويأفق

ولهذا قال الحسن : إنما عنوا عجّل لنا النعيم الذي وعدتنا به على الإيمان حتى نراه الآن فنوقن.

وعلى تسليم اختصاص القطّ بصكّ العطاء لا يكون ذلك مانعا من قصدهم تعجيل العقاب بأن يكونوا سموا الحظ من العقاب قطّا على طريق التهكم ، كما قال عمرو بن

١٢٦

كلثوم إذ جعل القتال قرى :

قريناكم فعجلنا قراكم

قبيل الصبح مرداة طحونا

فيكونون قد أدمجوا تهكما في تهكم إغراقا في التهكم.

وتسميتهم (يَوْمِ الْحِسابِ) أيضا من التهكم لأنهم لا يؤمنون بالحساب.

[١٧ ـ ٢٠] (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠))

أعقب حكاية أقوالهم من التكذيب ابتداء من قوله : (وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ) [ص : ٤] إلى هنا ، بأمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصبر على أقوالهم إذ كان جميعها أذى : إما صريحا كما قالوا : (ساحِرٌ كَذَّابٌ) وقالوا : (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) [ص : ٧](إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) [ص : ٦] ، وإمّا ضمنا وذلك ما في سائر أقوالهم من إنكار ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والاستهزاء بقولهم : (رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا) [ص : ١٦] من إثبات أن الإله واحد ، ويشمل ما يقولونه مما لم يحك في أول هذه السورة.

وقوله : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ) إلى آخره يجوز أن يكون عطفا على قوله : (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) بأن أتبع أمره بالصبر وبالائتساء ببعض الأنبياء السابقين فيما لقوه من الناس ثم كانت لهم عاقبة النصر وكشف الكرب. ويجوز أن يكون عطفا على مجموع ما تقدّم عطف القصة على القصة والغرض هو هو. وابتدئ بذكر داود لأن الله أعطاه ملكا وسلطانا لم يكن لآبائه ففي ذكره إيماء إلى أن شأن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيصير إلى العزة والسلطان ، ولم يكن له سلف ولا جند فقد كان حال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أشبه بحال داود عليه‌السلام.

وأدمج في خلال ذلك الإيماء إلى التحذير من الضجر في ذات الله تعالى واتقاء مراعاة حظوظ النفس في سياسة الأمة إبعادا لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن مهاوي الخطأ والزلل وتأديبا له في أول أمره وآخره مما أن يتلقى بالعذل. وكان داود أيضا قد صبر على ما لقيه من حسد شاول (طالوت) ملك إسرائيل إياه على انتصاره على جالوت ملك فلسطين.

فالمصدر المتصرّف منه (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ) هو الذكر بضم الذال وهو التذكّر

١٢٧

وليس هو ذكر اللسان لأنه إنما أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك لتسليته وحفظ كماله لا ليعلمه المشركين ولا ليعلمه المسلمين على أن كلا الأمرين حاصل تبعا حين إبلاغ المنزّل في شأن داود إليهم وقراءته عليهم. ومعنى الأمر بتذكر ذلك تذكر ما سبق إعلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم به من فضائله وتذكير ما عسى أن يكون لم يعلمه مما يعلم به في هذه الآية.

ووصف داود ب (عَبْدَنا) وصف تشريف بالإضافة بقرينة المقام كما تقدم عند قوله : (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) في سورة الصافات [٤٠].

و (الْأَيْدِ) : القوة والشدة ، مصدر : آد يئيد ، إذا اشتدّ وقوي ، ومنه التأييد التقوية ، قال تعالى : (فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ) في سورة الأنفال [٢٦].

وكان داود قد أعطي قوة نادرة وشجاعة وإقداما عجيبين وكان يرمي الحجر بالمقلاع فلا يخطئ الرميّة ، وكان يلوي الحديد ليصنعه سردا للدروع بأصابعه ، وهذه القوة محمودة لأنه استعملها في نصر دين التوحيد.

وجملة (إِنَّهُ أَوَّابٌ) تعليل للأمر بذكره إيماء إلى أن الأمر لقصد الاقتداء به ، كما قال تعالى : (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام : ٩٠] ، فالجملة معترضة بين جملة (وَاذْكُرْ) وجملة بيانها وهي (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ).

والأوّاب : الكثير الأوب ، أي الرجوع. والمراد : الرجوع إلى ما أمر الله به والوقوف عند حدوده وتدارك ما فرط فيه. والتائب يطلق عليه الأوّاب ، وهو غالب استعمال القرآن وهو مجاز ولا تسمّى التوبة أوبا ، و «زبور» داود المسمى عند اليهود ب «المزامير» مشتمل على كثير من الاستغفار وما في معناه من التوبة.

وجملة (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ) بيان لجملة (وَاذْكُرْ عَبْدَنا) أي اذكر فضائله وما أنعمنا عليه من تسخير الجبال وكيت وكيت ، و (مَعَهُ) ظرف ل (يُسَبِّحْنَ) ، وقدم على متعلقه للاهتمام بمعيته المذكورة ، وليس ظرفا ل (سَخَّرْنَا) لاقتضائه ، وتقدم تسخير الجبال والطير لداود في سورة الأنبياء.

وجملة (يُسَبِّحْنَ) حال. واختير الفعل المضارع دون الوصف الذي هو الشأن في الحال لأنه أريد الدلالة على تجدد تسبيح الجبال معه كلما حضر فيها ، ولما في المضارع من استحضار تلك الحالة الخارقة للعادة. والتسبيح أصله قول : سبحان الله ، ثم أطلق على الذكر وعلى الصلاة ، ومنه حديث عائشة : «لم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسبح سبحة الصبح وإني

١٢٨

لأسبحها» ، وليس هذا المعنى مرادا هنا لأن الجبال لا تصلي والطير كذلك ولأن داود لا يصلي في الجبال إذ الصلاة في شريعتهم لا تقع إلا في المسجد وأما الصلاة في الأرض فهي من خصائص الإسلام.

والعشي : ما بعد العصر. يقال : عشيّ وعشيّة. و (الْإِشْراقِ) : وقت ظهور ضوء الشمس واضحا على الأرض وهو وقت الضحى ، يقال : أشرقت الأرض ولا يقال : أشرقت الشمس ، وإنما يقال : شرقت الشمس وهو من باب قعد ، ولذلك كان قياس المكان منه المشرق بفتح الراء ولكنه لم يجىء إلّا بكسر الراء. ووقت طلوع الشمس هو الشروق ووقت الإشراق الضحى ، يقال : شرقت الشمس ولمّا تشرق ، ويقال : كلّما ذرّ شارق ، أي كلما طلعت الشمس. والباء في (بِالْعَشِيِ) للظرفية فتعين أن المراد بالإشراق وقت الإشراق.

والمحشورة : المجتمعة حوله عند قراءته الزبور. وانتصب (مَحْشُورَةً) على الحال من (الطَّيْرَ). ولم يؤت في صفة الطير بالحشر بالمضارع كما جيء به في (يُسَبِّحْنَ) إذ الحشر يكون دفعة فلا يقتضي المقام دلالة على تجدد ولا على استحضار الصورة.

وتنوين (كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) عوض عن المضاف إليه. والتقدير : كل المحشورة له أواب ، أي كثير الرجوع إليه ، أي يأتيه من مكان بعيد. وهذه معجزة له لأن شأن الطير النفور من الإنس. وكلمة (كُلٌ) على أصل معناها من الشمول. و (أَوَّابٌ) هذا غير (أَوَّابٌ) في قوله : (إِنَّهُ أَوَّابٌ) فلم تتكرر الفاصلة. واللام في (لَهُ أَوَّابٌ) لام التقوية ، وتقديم المجرور على متعلقه للاهتمام بالضمير المجرور.

والشد : الإمساك وتمكّن اليد مما تمسكه ، فيكون لقصد النفع كما هنا ، ويكون لقصد الضرّ كقوله : (وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) في سورة [يونس : ٨٨].

فشدّ الملك هو تقوية ملكه وسلامته من أضرار ثورة لديه ومن غلبة أعدائه عليه في حروبه. وقد ملك داود أربعين سنة ومات وعمره سبعون سنة في ظل ملك ثابت.

و (الْحِكْمَةَ) : النبوءة. والحكمة في الأعم : العلم بالأشياء كما هي والعمل بالأمور على ما ينبغي ، وقد اشتمل كتاب «الزبور» على حكم جمّة.

و (فَصْلَ الْخِطابِ) : بلاغة الكلام وجمعه للمعنى المقصود بحيث لا يحتاج سامعه إلى زيادة تبيان ، ووصف القول ب (الفصل) وصف بالمصدر ، أي فاصل. والفاصل : الفارق بين شيئين ، وهو ضدّ الواصل ، ويطلق مجازا على ما يميز شيئا عن الاشتباه بضده. وعطفه

١٢٩

هنا على الحكمة قرينة على أنه استعمل في معناه المجازي كما في قوله تعالى : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً) [النبأ : ١٧].

والمعنى : أن داود أوتي من أصالة الرأي وفصاحة القول ما إذا تكلّم جاء بكلام فاصل بين الحقّ والباطل شأن كلام الأنبياء والحكماء ، وحسبك بكتابه «الزبور» المسمّى عند اليهود ب «المزامير» فهو مثل في بلاغة القول في لغتهم.

وعن أبي الأسود الدؤلي : (فَصْلَ الْخِطابِ) هو قوله في خطبه «أما بعد» قال : وداود أول من قال ذلك ، ولا أحسب هذا صحيحا لأنها كلمة عربية ولا يعرف في كتاب داود أنه قال ما هو بمعناها في اللغة العبرية ، وسميت تلك الكلمة فصل الخطاب عند العرب لأنها تقع بين مقدمة المقصود وبين المقصود. فالفصل فيه على المعنى الحقيقي وهو من الوصف بالمصدر ، والإضافة حقيقية. وأول من قال : «أما بعد» هو سحبان وائل خطيب العرب ، وقيل : (فَصْلَ الْخِطابِ) القضاء بين الخصوم وهذا بعيد إذ لا وجه لإضافته إلى الخطاب.

واعلم أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أعطي من كل ما أعطي داود فكان أوّابا ، وهو القائل : «إني ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة» ، وسخر له جبل حراء على صعوبة مسالكه فكان يتحنّث فيه إلى أن نزل عليه الوحي وهو في غار ذلك الجبل ، وعرضت عليه جبال مكة أن تصير له ذهبا فأبى واختار العبودية وسخرت له من الطير الحمام فبنت وكرها على غار ثور مدة اختفائه به مع الصديق في مسيرهما في الهجرة. وشدّ الله ملك الإسلام له ، وكفاه عدوّه من قرابته مثل أبي لهب وابنه عتبة ومن أعدائه مثل أبي جهل ، وآتاه الحكمة ، وآتاه فصل الخطاب قال : «أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارا» بله ما أوتيه الكتاب المعجز بلغاء العرب عن معارضته ، قال تعالى في وصف القرآن : (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ* وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) [الطارق : ١٣ ، ١٤].

[٢١ ـ ٢٥] (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً

١٣٠

وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥))

(وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ)

جملة (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ) إلى آخرها معطوفة على جملة (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ) [ص : ١٨]. والإنشاء هنا في معنى الخبر ، فإن هذه الجملة قصت شأنا من شأن داود مع ربه تعالى فهي نظير ما قبلها.

والاستفهام مستعمل في التعجيب أو في البحث على العلم فإن كانت القصة معلومة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان الاستفهام مستعملا في التعجيب وإن كان هذا أول عهده بعلمها كان الاستفهام للحث مثل (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) [الغاشية : ١]. والخطاب يجوز أن يكون لكل سامع والوجهان الأولان قائمان. والنبأ : الخبر.

والتعريف في (الْخَصْمِ) للعهد الذهني ، أي عهد فرد غير معيّن من جنسه أي نبأ خصم معيّن هذا خبره ، وهذا مثل التعريف في ادخل السوق. والخصام والاختصام : المجادلة والتداعي ، وتقدم في قوله : (هذانِ خَصْمانِ) في سورة الحج [١٩].

و (الْخَصْمِ) : اسم يطلق على الواحد وأكثر ، وأريد به هنا خصمان لقوله بعده (خَصْمانِ). وتسميتهما بالخصم مجاز بعلاقة الصورة وهي من علاقة المشابهة في الذات لا في صفة من صفات الذات ، وعادة علماء البيان أن يمثلوها بقول القائل إذا رأى صورة أسد: هذا أسد.

وضمير الجمع مراد به المثنى ، والمعنى : إذ تسورا المحراب ، والعرب يعدلون عن صيغة التثنية إلى صيغة الجمع إذا كانت هناك قرينة لأن في صيغة التثنية ثقلا لندرة استعمالها ، قال تعالى : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) [التحريم : ٤] أي قلباكما.

و (إِذْ تَسَوَّرُوا) إذا جعلت (إِذْ) ظرفا للزمن الماضي فهو متعلق بمحذوف دل عليه (الْخَصْمِ) ، والتقدير : تحاكم الخصم حين تسوروا المحراب لداود.

ولا يستقيم تعلقه بفعل (أَتاكَ) ولا ب (نَبَأُ) لأن النبأ الموقت بزمن تسوّر الخصم محراب داود لا يأتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

١٣١

ولك أن تجعل (إِذْ) اسما للزمن الماضي مجردا عن الظرفية وتجعله بدل اشتمال من (الْخَصْمِ) لما في قوله تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها) [مريم : ١٦] ، فالخصم مشتمل على زمن تسورهم المحراب ، وخروج (إِذْ) عن الظرفية لا يختص بوقوعها مفعولا به بل المراد أنه يتصرف فيكون ظرفا وغير ظرف.

والتسور : تفعل مشتق من السور ، وهو الجدار المحيط بمكان أو بلد يقال : تسوّر ، إذا اعتلى على السور ، ونظيره قولهم : تسنم جمله ، إذا علا سنامه ، وتذرأه إذا علا ذروته ، وقريب منه في الاشتقاق قولهم : صاهى ، إذا ركب صهوة فرسه.

والمعنى : أن بيت عبادة داود عليه‌السلام كان محوطا بسور لئلا يدخله أحد إلا بإذن من حارس السور.

و (الْمِحْرابَ) : البيت المتّخذ للعبادة ، وتقدم عند قوله تعالى : (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ) في سورة سبأ [١٣].

و (إِذْ دَخَلُوا) بدل من (إِذْ تَسَوَّرُوا) لأنهم تسوروا المحراب للدخول على داود.

والفزع : الذّعر ، وهو انفعال يظهر منه اضطراب على صاحبه من توقع شدة أو مفاجأة ، وتقدم في قوله : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) في سورة الأنبياء [١٠٣]. قال ابن العربي في كتاب «أحكام القرآن» : إن قيل : لم فزع داود وقد قويت نفسه بالنبوءة؟ وأجاب بأن الله لم يضمن له العصمة ولا الأمن من القتل وكان يخاف منهما وقد قال الله لموسى (لا تَخَفْ) وقبله قيل للوط. فهم مؤمّنون من خوف ما لم يكن قيل لهم إنكم منه معصومون اه.

وحاصل جوابه : أن ذلك قد عرض للأنبياء إذ لم يكونوا معصومين من إصابة الضرّ حتى يؤمّن الله أحدهم فيطمئن والله لم يؤمن داود فلذلك فزع. وهو جواب غير تام الإقناع لأن السؤال تضمن قول السائل وقد قويت نفسه بالنبوءة فجعل السائل انتفاء تطرّق الخوف إلى نفوس الأنبياء أصلا بنى عليه سؤاله ، وهو أجاب بانتفاء التأمين فلم يطابق سؤال السائل. وكان الوجه أن ينفي في الجواب سلامة الأنبياء من تطرق الخوف إليهم. والأحسن أن نجيب :

أولا : بأن الخوف انفعال جبليّ وضعه الله في أحوال النفوس عند رؤية المكروه فلا تخلو من بوادره نفوس البشر فيعرض لها ذلك الانفعال بادئ ذي بدء ثم يطرأ عليه ثبات الشجاعة فتدفعه على النفس ونفوس الناس متفاوتة في دوامه وانقشاعه ، فأمّا إذا أمّن الله نبيئا فذلك مقام آخر كقوله لموسى (لا تَخَفْ) وقوله للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) [البقرة : ١٣٧].

١٣٢

وثانيا : بأن الذي حصل لداود عليه‌السلام فزع وليس بخوف. والفزع أعمّ من الخوف إذ هو اضطراب يحصل من الإحسان بشيء شأنه أن يتخلص منه وقد جاء في حديث خسوف الشمس «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج فزعا ، أي مسرعا مبادرا للصلاة توقّعا أن يكون ذلك الخسوف نذير عذاب» ، ولذلك قال القرآن (فَفَزِعَ مِنْهُمْ) ولم يقل : خاف. وقال في إبراهيم عليه‌السلام (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) [الذاريات : ٢٨] أي توجّسا ما لم يبلغ حدّ الخوف. وأما قول الخصم لداود (لا تَخَفْ) فهو قول يقوله القادم بهيئة غير مألوفة من شأنها أن تريب الناظر.

وثالثا : أن الأنبياء مأمورون بحفظ حياتهم لأن حياتهم خير للأمة فقد يفزع النبي من توقع خطر خشية أن يكون سببا في هلاكه فينقطع الانتفاع به لأمته. وقد جاء في حديث عائشة : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرق ذات ليلة فقال : ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة إذ سمعنا صوت السلاح فقال : من هذا؟ قال : سعد بن أبي وقاص جئت لأحرسك. قالت : فنام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى سمعنا غطيطه». وروى الترمذي : أن العباس كان يحرس النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى نزل قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٧] فتركت الحراسة.

ومعنى (بَغى بَعْضُنا) اعتدى وظلم. والبغي : الظلم ، والجملة صفة ل (خَصْمانِ) والرابط ضمير (بَعْضُنا) ، وجاء ضمير المتكلم ومعه غيره رعيا لمعنى (خَصْمانِ).

ولم يبينا الباغي منهما لأن مقام تسكين روع داود يقتضي الإيجاز بالإجمال ثم يعقبه التفصيل ، ولإظهار الأدب مع الحاكم فلا يتوليان تعيين الباغي منهما بل يتركانه للحاكم يعيّن الباغي منهما في حكمه حين قال لأحدهما : (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ).

والفاء في (فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِ) تفريع على قوله : (خَصْمانِ) لأن داودعليه‌السلام لمّا كان ملكا وكان اللذان حضرا عنده خصمين كان طلب الحكم بينهما مفرعا على ذلك.

والباء في (بِالْحَقِ) للملابسة ، وهي متعلقة ب (فَاحْكُمْ). وهذا مجرد طلب منهما للحق كقول الرجل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي افتدى ابنه ممن زنى بامرأته : فاحكم بيننا بكتاب الله.

١٣٣

والنهي في (لا تُشْطِطْ) مستعمل في التذكير والإرشاد.

و (تُشْطِطْ) : مضارع أشط ، يقال : أشط عليه ، إذا جار عليه ، وهو مشتق من الشطط وهو مجاوزة الحد والقدر المتعارف.

ومخاطبة الخصم داود بهذا خارجة مخرج الحرص على إظهار الحق وهو في معنى الذكرى بالواجب فلذلك لا يعدّ مثلها جفاء للحاكم والقاضي ، وهو من قبيل : اتّق الله في أمري. وصدوره قبل الحكم أقرب إلى معنى التذكير وأبعد عن الجفاء ، فإن وقع بعد الحكم كان أقرب إلى الجفاء كالذي قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قسمة قسمها «اعدل ، فقال له الرسول : ويلك فمن يعدل إن لم أعدل».

وقد قال علماؤنا في قول الخصم للقاضي : (اتق الله في أمري) إنه لا يعد جفاء للقاضي ولا يجوز للقاضي أن يعاقبه عليه كما يعاقب من أساء إليه. وأفتى مالك بسجن فتى ، فقال أبوه لمالك : اتق الله يا مالك ، فو الله ما خلقت النار باطلا ، فقال مالك : من الباطل ما فعله ابنك. فهذا فيه زيادة بالتعريض بقوله فو الله ما خلقت النار باطلا. وقولهما : (وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) يصرف عن إرادة الجفاء من قولهما : (وَلا تُشْطِطْ) لأنهما عرفا أنه لا يقول إلا حقا وأنهما تطلبا منه الهدى.

والهدى : هنا مستعار للبيان وإيضاح الصواب. و (سَواءِ الصِّراطِ) : مستعار للحق الذي لا يشوبه باطل لأن الصراط الطريق الواسع ، والسواء منه هو الذي لا التواء فيه ولا شعب تتشعب منه فهو أسرع إيصالا إلى المقصود باستوائه وأبعد عن الالتباس بسلامته من التشعب.

ومجموع (اهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) تمثيل لحال الحاكم بالعدل بحال المرشد الدال على الطريق الموصلة فهو من التمثيل القابل تجزئة التشبيه في أجزائه ، ويؤخذ من هنا أن حكم القاضي العدل يحمل على الجري على الحق وأن الحكم يجب أن يكون بالحق شرعا لأنه هدي فهو والفتيا سواء في أنهما هدي إلا أن الحكم فيه إلزام.

ومعنى (أَكْفِلْنِيها) اجعلها في كفالتي ، أي حفظي وهو كناية عن الإعطاء والهبة ، أي هبها لي.

وجملة (إِنَّ هذا أَخِي) إلى آخرها بيان لجملة (خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ) وظاهر الأخ أنهما أرادا أخوّة النسب. وقد فرضا أنفسهما أخوين وفرضا الخصومة في

١٣٤

معاملات القرابة وعلاقة النسب واستبقاء الصلات ، ثم يجوز أن يكون (أَخِي) بدلا من اسم الإشارة. ويجوز أن يكون خبر (إِنَ) وهو أولى لأن فيه زيادة استفظاع اعتدائه عليه.

و (عَزَّنِي) غلبني في مخاطبته ، أي أظهر في الكلام عزّة عليّ وتطاولا. فجعل الخطاب ظرفا للعزّة مجازا لأن الخطاب دل على العزة والغلبة فوقع تنزيل المدلول منزلة المظروف وهو كثير في الاستعمال.

والمعنى : أنه سأله أن يعطيه نعجته ، ولمّا رأى منه تمنّعا اشتدّ عليه بالكلام وهدّده ، فأظهر الخصم المتشكي أنه يحافظ على أواصر القرابة فشكاه إلى الملك ليصدّه عن معاملة أخيه معاملة الجفاء والتطاول ليأخذ نعجته عن غير طيب نفس. وبهذا يتبين أن موضع هذا التحاكم طلب الإنصاف في معاملة القرابة لئلا يفضي الخلاف بينهم إلى التواثب فتنقطع أواصر المبرة والرحمة بينهم.

وقد علم داود من تساوقهما للخصومة ومن سكوت أحد الخصمين أنهما متقاربان على ما وصفه الحاكي منهما ، أو كان المدعى عليه قد اعترف. فحكم داود بأن سؤال الأخ أخاه نعجته ظلم لأن السائل في غنى عنها والمسئول ليس له غيرها فرغبة السائل فيما بيد أخيه من فرط الحرص على المال واجتلاب النفع للنفس بدون اكتراث بنفع الآخر. وهذا ليس من شأن التحابّ بين الأخوين والإنصاف منهما فهو ظلم وما كان من الحق أن يسأله ذلك أعطاه أو منعه ، ولأنه تطاول عليه في الخطاب ولامه على عدم سماح نفسه بالنعجة ، وهذا ظلم أيضا.

والإضافة في قوله : (بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ) للتعريف ، أي هذا السؤال الخاص المتعلق بنعجة معروفة ، أي هذا السؤال بحذافره مشتمل على ظلم ، وإضافة سؤال من إضافة المصدر إلى مفعوله. وتعليق (إِلى نِعاجِهِ) ب «سؤال» تعليق على وجه تضمين «سؤال» معنى الضم ، كأنه قيل : بطلب ضم نعجتك إلى نعاجه.

فهذا جواب قولهما : (فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ) ثم أعقبه بجواب قولهما : (وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) إذ قال : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) المفيد أن بغي أحد المتعاشرين على عشيره متفشّ بين الناس غير الصالحين من المؤمنين ، وهو كناية عن أمرهما بأن يكونا من المؤمنين الصالحين وأن ما فعله أحدهما ليس من شأن الصالحين.

١٣٥

وذكر غالب أحوال الخلطاء أراد به الموعظة لهما بعد القضاء بينهما على عادة أهل الخير من انتهاز فرص الهداية فأراد داود عليه‌السلام أن يرغبهما في إيثار عادة الخلطاء الصالحين وأن يكرّه إليهما الظلم والاعتداء. ويستفاد من المقام أنه يأسف لحالهما ، وأنه أراد تسلية المظلوم عما جرى عليه من خليطه ، وأن له أسوة في أكثر الخلطاء.

وفي تذييل كلامه بقوله : (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) حثّ لهما أن يكونا من الصالحين لما هو متقرر في النفوس من نفاسة كل شيء قليل ، قال تعالى : (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) [المائدة : ١٠٠]. والسبب في ذلك من جانب الحكمة أن الدواعي إلى لذات الدنيا كثيرة والمشي مع الهوى محبوب ومجاهدة النفس عزيزة الوقوع ، فالإنسان محفوف بجواذب السيئات ، وأمّا دواعي الحق والكمال فهو الدين والحكمة ، وفي أسباب الكمال إعراض عن محركات الشهوات ، وهو إعراض عسير لا يسلكه إلا من سما بدينه وهمته إلى الشرف النفساني وأعرض عن الداعي الشهواني ، فذلك هو العلة في هذا الحكم بالقلة.

وزيادة (ما) بعد (قَلِيلٌ) لقصد الإبهام كما تقدم آنفا في قوله : (جُنْدٌ ما هُنالِكَ) [ص : ١١] ، وفي هذا الإبهام إيذان بالتعجب من ذلك بمعونة السياق والمقام كما أفادت زيادتها في قول امرئ القيس :

وحديث الركب يوم هنا

وحديث ما على قصره

معنى التلهف والتشوق.

وقد اختلف المفسرون في ماهية هاذين الخصمين ، فقال السديّ والحسن ووهب بن منبّه : كانا ملكين أرسلهما الله في صورة رجلين لداود عليه‌السلام لإبلاغ هذا المثل إليه عتابا له. ورواه الطبري عن أنس مرفوعا. وقيل كانا أخوين شقيقين من بني إسرائيل ، أي ألهمهما الله إيقاع هذا الوعظ.

واعلم أن سوق هذا النبأ عقب التنويه بداود عليه‌السلام ليس إلا تتميما للتنويه به لدفع ما قد يتوهم أنه ينقض ما ذكر من فضائله مما جاء في كتاب «صمويل الثاني» من كتب اليهود في ذكر هذه القصة من أغلاط باطلة تنافي مقام النبوءة فأريد بيان المقدار الصادق منها وتذييله بأن ما صدر عن داود عليه‌السلام يستوجب العتاب ولا يقتضي العقاب ولذلك ختمت بقوله تعالى : (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) [ص : ٤٠]. وبهذا

١٣٦

تعلم أن ليس لهذا النبأ تعلق بالمقصد الذي سيق لأجله ذكر داود ومن عطف عليه من الأنبياء.

وهذا النبأ الذي تضمنته الآية يشير به إلى قصة تزوج داود عليه‌السلام زوجة (أوريا الحثّي) من رجال جيشه وكان داود رآها فمال إليها ورام تزوجها فسأله أن يتنازل له عنها وكان في شريعتهم مباحا أن الرجل يتنازل عن زوجه إلى غيره لصداقة بينهما فيطلقها ويتزوجها الآخر بعد مضيّ عدتها وتحقق براءة رحمها كما كان ذلك في صدر الإسلام. وخرج أوريا في غزو مدينة (ربة) للعمونيّين وقيل في غزو عمّان قصبة البلقاء من فلسطين فقتل في الحرب وكان اسم المرأة (بثشبع بنت اليعام وهي أم سليمان). وحكى القرآن القصة اكتفاء بأن نبأ الخصمين يشعر بها لأن العبرة بما أعقبه نبأ الخصمين في نفس داود فعتب الله على داود أن استعمل لنفسه هذا المباح فعاتبه بهذا المثل المشخص ، أرسل إليه ملكين نزلا من أعلى سور المحراب في صورة خصمين وقصّا عليه القصة وطلبا حكمه وهديه فحكم بينهما وهداهما بما تقدم تفسيره لتكون تلك الصورة عظة له ويشعر أنه كان الأليق بمقامه أن لا يتناول هذا الزواج وإن كان مباحا لما فيه من إيثار نفسه بما هو لغيره ولو بوجه مباح لأن الشعور بحسن الفعل أو قبحه قد لا يحصل عليه حين يفعله فإذا رأى أو سمع أن واحدا عمله شعر بوصفه.

ووقع في سفر «صمويل الثاني» من كتب اليهود سوق هذه القصة على الخلاف هذا.

وليس في قول الخصمين : (هذا أَخِي) ولا في فرضهما الخصومة التي هي غير واقعة ارتكاب الكذب لأن هذا من الأخبار المخالفة للواقع التي لا يريد المخبر بها أن يظن المخبر (بالفتح) وقوعها إلّا ريثما يحصل الغرض من العبرة بها ثم ينكشف له باطنها فيعلم أنها لم تقع. وما يجري في خلالها من الأوصاف والنسب غير الواقعة فإنما هو على سبيل الفرض والتقدير وعلى نية المشابهة.

وفي هذا دليل شرعي على جواز وضع القصص التمثيلية التي يقصد منها التربية والموعظة ولا يتحمل واضعها جرحة الكذب خلافا للذين نبزوا الحريري بالكذب في وضع «المقامات» كما أشار هو إليه في ديباجتها. وفيها دليل شرعي لجواز تمثيل تلك القصص بالأجسام والذوات إذا لم تخالف الشريعة ، ومنه تمثيل الروايات والقصص في ديار التمثيل ، فإن ما يجري في شرع من قبلنا يصلح دليلا لنا في شرعنا إذا حكاه القرآن أو سنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يرد في شرعنا ما ينسخه.

١٣٧

وأخذ من الآية مشروعية القضاء في المسجد ، قالوا : وليس في القرآن ما يدل على ذلك سوى هذه الآية بناء على أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا حكاه الكتاب أو السنة. وقد حكيت هذه القصة في سفر «صمويل الثاني» في الإصحاح الحادي عشر على خلاف ما في القرآن وعلى خلاف ما تقتضيه العصمة لنبوءة داود عليه‌السلام فاحذروه.

والذي في القرآن هو الحق ، والمنتظم مع المعتاد وهو المهيمن عليه ، ولو حكي ذلك بخبر آحاد في المسلمين لوجب ردّه والجزم بوضعه لمعارضته المقطوع به من عصمة الأنبياء من الكبائر عند جميع أهل السنة ومن الصغائر عند المحققين منهم وهو المختار.

(هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ)

أي علم داود بعد انتهاء الخصومة أن الله جعلها له فتنة ليشعره بحال فعلته مع (أوريا) وقد أشعره بذلك ما دلّه عليه انصراف الخصمين بصورة غير معتادة ، فعلم أنهما ملكان وأن الخصومة صورية فعلم أن الله بعثهما إليه عتبا له على متابعة نفسه زوجة (أوريا) وطلبه التنازل عنها. وعبر عن علمه ذلك بالظن لأنه علم نظري اكتسبه بالتوسم في حال الحادثة وكثيرا ما يعبر عن العلم النظري بالظن لمشابهته الظن من حيث إنه لا يخلو من تردد في أول النظر.

و (أَنَّما) مفتوحة الهمزة أخت (إنما) تفيد الحصر ، أي ظنّ أن الخصومة ليست إلّا فتنة له ، أو ظن أن ما صدر منه في تزوج امرأة أوريا ليس إلا فتنة. ومعنى (فَتَنَّاهُ) قدّرنا له فتنة ، فيجوز أن تكون الفتنة بالمعنى المشهور في تدبير الحيلة لقتل (أوريا) فعبر عنها بالفتنة لأنها أورثت داود مخالفة للأليق به من صرف نفسه عن شيء غيره ، وعدم متابعته ميله النفساني وإن كان في دائرة المباح في دينهم ، فيكون المعنى : وعلم أن ما صدر منه فتنة من النفس. وإنما علم ذلك بعد أن أحسّ من نفسه كراهية مثلها مما صوره له الخصمان.

ويجوز أن يكون الفتن بمعنى الابتلاء والاختبار ، كقوله تعالى لموسى : (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) [طه : ٤٠] ، أي ظن أنا اختبرنا زكانته بإرسال الملكين ، يصور أن له صورة شبيهة بفعله ففطن أن ما فعله أمر غير لائق به. وتفريع (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ) على ذلك الظنّ ظاهر

١٣٨

على كلا الاحتمالين ، أي لما علم ذلك طلب الغفران من ربه لما صنع.

وخرّ خرورا : سقط ، وقد تقدم في قوله تعالى : (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) في سورة [النحل : ٢٦].

والركوع : الانحناء بقصد التعظيم دون وصول إلى الأرض قال تعالى : (تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) [الفتح : ٢٩] ، فذكر شيئين. قالوا : لم يكن لبني إسرائيل سجود على الأرض وكان لهم الركوع ، وعليه فتقييد فعل (خَرَّ) بحال (راكِعاً) تمجّز في فعل (خَرَّ) بعلاقة المشابهة تنبيها على شدة الانحناء حتى قارب الخرور. ومن قال : كان لهم السجود جعل إطلاق الرجوع عليه مجازا بعلاقة الإطلاق. وقال ابن العربي : لا خلاف في أن الركوع هاهنا السجود ، قلت : الخلاف موجود.

والمعروف أنه ليس لبني إسرائيل سجود بالجبهة على الأرض ، ويحتمل أن يكون السجود عبادة الأنبياء كشأن كثير من شرائع الإسلام كانت خاصة بالأنبياء من قبل كما تقدم في قوله تعالى : (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [البقرة : ١٣٢] ، وتقدم قوله تعالى : (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) في سورة يوسف [١٠٠]. وكان ركوع داود عليه‌السلام تضرعا لله تعالى ليقبل استغفاره.

والإنابة : التوبة : يقال : أناب ، ويقال : ناب. وتقدم عند قوله تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) في سورة هود [٧٥]. وعند قوله : (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) في سورة الروم [٣١].

وهنا موضع سجدة من سجود القرآن من العزائم عند مالك لثبوت سجود النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم عندها. ففي «صحيح البخاري» عن مجاهد «سألت ابن عباس عن السجدة في ص فقال : أو ما تقرأ (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ) [الأنعام : ٨٤] إلى قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام : ٩٠] فكان داود ممن أمر نبيئكم أن يقتدي به فسجدها داود فسجدها رسول الله». وفي «سنن أبي داود» عن ابن عباس «ليس ص من عزائم السجود ، وقد رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سجد فيها». وفيه عن أبي سعيد الخدري قال : «قرأ رسول الله وهو على المنبر ص فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تشزّن الناس للسجود (أي تهيّئوا وتحركوا لأجله) فقال رسول الله : إنما هي توبة نبيء ولكني رأيتكم تشزّنتم للسجود فنزل فسجد وسجدوا» ، وقول أبي حنيفة فيها مثل قول مالك ولم ير الشافعي سجودا في هذه الآية إمّا لأجل قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما هي توبة

١٣٩

نبيء» فرجع أمرها إلى أنها شرع من قبلنا ، والشافعي لا يرى شرع من قبلنا دليلا.

ووجه السجود فيها عند من رآه أن ركوع داود هو سجود شريعتهم فلما اقتدى به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى في اقتدائه بما يساوي الركوع في شريعة الإسلام وهو السجود. وقال أبو حنيفة: الركوع يقوم مقام سجود التلاوة أخذا من هذه الآية.

واسم الإشارة في قوله : (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) إلى ما دلت عليه خصومة الخصمين من تمثيل ما فعله داود بصورة قضية الخصمين ، وهذا من لطائف القرآن إذ طوى القصة التي تمثّل له فيها الخصمان ثم أشار إلى المطوي باسم الإشارة ، وأتبع الله الخبر عن الغفران له بما هو أرفع درجة وهو أنه من المقرّبين عند الله المرضيّ عنهم وأنه لم يوقف به عند حد الغفران لا غير. والزلفى : القربى ، وهو مصدر أو اسم مصدر. وتأكيد الخبر لإزالة توهم أن الله غضب عليه إذ فتنه تنزيلا لمقام الاستغراب منزلة مقام الإنكار.

والمئاب : مصدر ميمي بمعنى الأوب. وهو الرجوع. والمراد به : الرجوع إلى الآخرة. وسمي رجوعا لأنه رجوع إلى الله ، أي إلى حكمة البحت ظاهرا وباطنا قال تعالى : (إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ) [الرعد : ٣٦].

وحسن المئاب : حسن المرجع ، وهو أن يرجع رجوعا حسنا عند نفسه وفي مرأى الناس ، أي له حسن رجوع عندنا وهو كرامة عند الله يوم الجزاء ، أي الجنة يئوب إليها.

(يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦))

مقول قول محذوف معطوف على (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) [ص : ٢٥] أي صفحنا عنه وذكرناه بنعمة الملك ووعظناه ، فجمع له بهذا تنويها بشأنه وإرشادا للواجب. وافتتاح الخطاب بالنداء لاسترعاء وعيه واهتمامه بما سيقال له.

والخليفة : الذي يخلف غيره في عمل ، أي يقوم مقامه فيه ، فإن كان مع وجود المخلوف عنه قيل : هو خليفة فلان ، وإن كان بعد ما مضى المخلوف قيل : هو خليفة من فلان. والمراد هنا : المعنى الأول بقرينة قوله : (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ).

فالمعنى : أنه خليفة الله في إنفاذ شرائعه للأمة المجعول لها خليفة مما يوحي به إليه

١٤٠