تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٣

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٣

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٠٥

و (واحِدَةٌ) تأكيد لما تفيده صيغة الفعلة من معنى المرة لدفع توهم أن يكون المراد من الصيحة الجنس دون الوجود لأن وزن الفعلة يجيء لمعنى المصدر دون المرة. وضمير (هِيَ) ضمير القصة والشأن وهو لا معاد له إنما تفسره الجملة التي بعده. وفرّع عليه (فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ) ودل فاء التفريع على تعقيب المفاجأة ، ودل حرف المفاجأة على سرعة حصول ذلك. وقد تقدم ذلك في قوله تعالى : (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) في سورة يس [٥٣].

وكني عن الحياة الكاملة التي لا دهش يخالطها بالنظر في قوله : (يَنْظُرُونَ) لأن النظر لا يكون إلا مع تمام الحياة. وأوثر النظر من بين بقية الحواس لمزيد اختصاصه بالمقام وهو التعريض بما اعتراهم من البهت لمشاهدة الحشر.

(وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠))

يجوز أن تكون الواو للحال ، أي قائلين (يا وَيْلَنا) أي يقول جميعهم : يا ويلنا يقوله كل أحد عنه وعن أصحابه. ويجوز أن يكون عطفا على جملة (يَنْظُرُونَ) [الصافات : ١٩]. والمعنى : ونظروا وقالوا.

والويل : سوء الحال. وحرف النداء للاهتمام. وقد تقدم نظيره في قوله تعالى : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) في سورة يس [٣٠].

والإشارة إلى اليوم المشاهد. و (الدِّينِ) : الجزاء ، وتقدم في سورة الفاتحة.

(هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١))

يجوز أن يكون هذا كلاما موجها إليهم من جانب الله تعالى جوابا عن قولهم : (يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ) [الصافات : ٢٠] ، والخبر مستعمل في التعريض بالوعيد ، ويجوز أن يكون من تمام قولهم ، أي يقول بعضهم لبعض (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ).

و (الْفَصْلِ) : تمييز الحق من الباطل ، والمراد به الحكم والقضاء ، أي هذا يوم يفضي عليكم بما استحققتموه من العقاب.

[٢٢ ـ ٢٦] (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ

٢١

مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦))

تخلّص من الإنذار بحصول البعث إلى الإخبار عما يحلّ بهم عقبه إذا ثبتوا على شركهم وإنكارهم البعث والجزاء.

و (احْشُرُوا) أمر ، وهو يقتضي آمرا ، أي ناطقا به ، فهذا مقول لقول محذوف لظهور أنه لا يصلح للتعلق بشيء مما سبقه ، وحذف القول من حديث البحر ، وظاهر أنه أمر من قبل الله تعالى للملائكة الموكّلين بالناس يوم الحساب.

والحشر : جمع المتفرقين إلى مكان واحد.

و (الَّذِينَ ظَلَمُوا) : المشركون (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣].

والأزواج ظاهره أن المراد به حلائلهم وهو تفسير مجاهد والحسن. وروي عن النعمان بن بشير يرويه عن عمر بن الخطاب وتأويله : أنهن الأزواج الموافقات لهم في الإشراك ، أما من آمن فهن ناجيات من تبعات أزواجهن وهذا كذكر أزواج المؤمنين في قوله تعالى : (هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ) [يس : ٥٦] فإن المراد أزواجهم المؤمنات فأطلق حملا على المقيّد في قوله : (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) [الرعد : ٢٣].

وذكر الأزواج إبلاغ في الوعيد والإنذار لئلا يحسبوا أن النساء المشركات لا تبعة عليهن. وذلك مثل تخصيصهن بالذكر في قوله تعالى : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) في سورة البقرة [١٧٨].

وقيل : الأزواج : الأصناف ، أي أشياعهم في الشرك وفروعه قاله قتادة وهو رواية عن عمر بن الخطاب وابن عباس.

وعن الضحاك : الأزواج المقارنون لهم من الشياطين.

وضمير (يَعْبُدُونَ) عائد إلى (الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ). وما صدق (ما) غير العقلاء ، فأما العقلاء فلا تزر وازرة وزر أخرى.

والضمير المنصوب في (فَاهْدُوهُمْ) عائد إلى (الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ* مِنْ دُونِ اللهِ) ، أي الأصنام. وعطف (فَاهْدُوهُمْ) بفاء التعقيب إشارة إلى سرعة الأمر بهم إلى النار عقب ذلك الحشر فالأمر بالأصالة في القرآن.

والهداية والهدي : الدلالة على الطريق لمن لا يعرفه ، فهي إرشاد إلى مرغوب وقد

٢٢

غلبت في ذلك ، لأن كون المهديّ راغبا في معرفة الطريق من لوازم فعل الهداية ولذلك تقابل بالضلالة وهي الحيرة في الطريق ، فذكر (فَاهْدُوهُمْ) هنا تهكّم بالمشركين ، كقول عمرو بن كلثوم :

قريناكم فعجلنا قراكم

قبيل الصبح مرادة طحونا

والصراط : الطريق ، أي طريق جهنم.

ومعنى : (وَقِفُوهُمْ) أمر بإيقافهم في ابتداء السير بهم لما أفاده الأمر من الفور بقرينة فاء التعقيب التي عطفته ، أي احبسوهم عن السير قليلا ليسألوا سؤال تأييس وتحقير وتغليظ ، فيقال لهم : (ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ) ، أي ما لكم لا ينصر بعضكم بعضا فيدفع عنه الشقاء الذي هو فيه ، وأين تناصركم الذي كنتم تتناصرون في الدنيا وتتألبون على الرسول وعلى المؤمنين.

فالاستفهام في (ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ) مستعمل في التعجيز مع التنبيه على الخطأ الذي كانوا فيه في الحياة الدنيا.

وجملة (ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ) مبيّنة لإبهام (مَسْؤُلُونَ) وهو استفهام مستعمل في التعجيب للتذكير بما يسوءهم ، فظهر أن السؤال ليس على حقيقته وإنما أريد به لازمه وهو التعجيب ، والمعنى : أيّ شيء اختص بكم ، ف (ما) الاستفهامية مبتدأ و (لَكُمْ) خبر عنه.

وجملة (لا تَناصَرُونَ) حال من ضمير (لَكُمْ) وهي مناط الاستفهام ، أي أن هذه الحالة تستوجب التعجب من عدم تناصركم. وقرأ الجمهور (لا تَناصَرُونَ) بتخفيف المثناة الفوقية على أنه من حذف إحدى التاءين. وقرأه البزّي عن ابن كثير وأبو جعفر بتشديد المثناة على إدغام إحدى التاءين في الأخرى.

والإضراب المستفاد من (بَلْ) إضراب لإبطال إمكان التناصر بينهم وليس ذلك مما يتوهمه السمع ، فلذلك كان الإضراب تأكيدا لما دل عليه الاستفهام من التعجيز.

والاستسلام : الإسلام القوي ، أي إسلام النفس وترك المدافعة فهو مبالغة في أسلم.

وذكر (الْيَوْمَ) لإظهار النكاية بهم ، أي زال عنهم ما كان لهم من تناصر وتطاول على المسلمين قبل اليوم ، أي في الدنيا إذ كانوا يقولون : (نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) [القمر : ٤٤] وقد قالها أبو جهل يوم بدر ، أي نحن جماعة لا تغلب فكان لذكر اليوم وقع بديع في هذا المقام.

٢٣

[٢٧ ـ ٣٢] (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢))

عطف على (مُسْتَسْلِمُونَ) [الصافات : ٢٦] أي استسلموا وعاد بعضهم على بعض باللائمة والمتسائلون : المتقاولون وهم زعماء أهل الشرك ودهماؤهم كما تبينه حكاية تحاورهم من قوله : (وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) وقوله : (فَأَغْوَيْناكُمْ) إلخ.

وعبر عن إقبالهم بصيغة المضي وهو مما سيقع في القيامة ، تنبيها على تحقيق وقوعه لأن لذلك مزيد تأثير في تحذير زعمائهم من التغرير بهم ، وتحذير دهمائهم من الاغترار بتغريرهم ، مع أن قرينة الاستقبال ظاهرة من السياق من قوله : (فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ) [الصافات : ١٩] الآية.

والإقبال : المجيء من جهة قبل الشيء ، أي من جهة وجهه وهو مجيء المتجاهر بمجيئه غير المتختّل الخائف. واستعير هنا للقصد بالكلام والاهتمام به كأنه جاءه من مكان آخر.

فحاصل المعنى حكاية عتاب ولوم توجه به الذين اتبعوا على قادتهم وزعمائهم ، ودلالة التركيب عليه أن يكون الإتيان أطلق على الدعاية والخطابة فيهم لأن الإتيان يتضمن القصد دون إرادة مجيء ، كقول النابغة :

آتاك امرؤ مستبطن لي بغضة

وقد تقدم استعماله واستعمال مرادفه وهو المجيء معا في قوله تعالى : (قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ* وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِ) الآية في سورة الحجر [٦٣ ، ٦٤]. أو أن يكون اليمين مرادا به جهة الخير لأن العرب تضيف الخير إلى جهة اليمين. وقد اشتقت من اليمن وهو البركة ، وهي مؤذنة بالفوز بالمطلوب عندهم. وعلى ذلك جرت عقائدهم في زجر الطير والوحش من التيمّن بالسانح ، وهو الوارد من جهة يمين السائر ، والتشاؤم ، أي ترقب ورود الشر من جهة الشمال.

وكان حقّ فعل (تَأْتُونَنا) أن يعدّى إلى جهة اليمين بحرف «من» فلما عدّي بحرف (عَنِ) الذي هو للمجاوزة تعين تضمين (تَأْتُونَنا) معنى «تصدوننا» ليلائم معنى المجاوزة ،

٢٤

أي تأتوننا صادّينا عن اليمين ، أي عن الخير. فهذا وجه تفسير الآية الذي اعتمده ابن عطية والزمخشري وقد اضطرب كثير في تفسيرها. قال ابن عطية ما خلاصته : اضطرب المتأولون في معنى قولهم : (عَنِ الْيَمِينِ) فعبر عنه ابن زيد وغيره بطريق الجنة ونحو هذا من العبارات التي هي تفسير بالمعنى ولا تختص بنفس اللفظة ، وبعضهم أيضا نحا في تفسيره إلى ما يخص اللفظة فتحصل من ذلك معان منها : أن يريد باليمين القوة والشدة (قلت وهو عن ابن عباس والفرّاء) فكأنهم قالوا إنكم كنتم تغروننا بقوة منكم ، ومن المعاني التي تحتملها الآية أن يريدوا : تأتوننا من الجهة التي يحسنها تمويهكم وإغواؤكم وتظهرون فيها أنها جهة الرشد (وهو عن الزجاج والجبّائي) ومما تحتمله الآية أن يريدوا : إنكم كنتم تأتوننا ، أي تقطعون بنا عن أخبار الخير واليمن ، فعبروا عنها باليمين ، ومن المعاني أن يريدوا : أنكم تجيئون من جهة الشهوات وعدم النظر لأن جهة يمين الإنسان فيها كبده وجهة شماله فيها قلبه وأن نظر الإنسان في قلبه وقيل : تحلفون لنا ا. ه.

وجواب الزعماء بقولهم : (بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) إضراب إبطال لزعم الأتباع أنهم الذين صدّوهم عن طريق الخير أي بل هم لم يكونوا ممن يقبل الإيمان لأن تسليط النفي على فعل الكون دون أن يقال : بل لم تؤمنوا ، مشعر بأن الإيمان لم يكن من شأنهم ، أي بل كنتم أنتم الآبين قبول الإيمان. و (ما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) أي من قهر وغلبة حتى نكرهكم على رفض الإيمان ، ولذلك أكدوا هذا المعنى بقولهم : (بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ) ، أي كان الطغيان وهو التكبر عن قبول دعوة رجل منكم شأنكم وسجيتكم ، فلذلك أقحموا لفظ (قَوْماً) بين «كان» وخبرها لأن استحضارهم بعنوان القومية في الطغيان يؤذن بأن الطغيان من مقومات قوميتهم كما قدمنا عند قوله تعالى : (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) في سورة البقرة [١٦٤].

وفرّعوا على كلامهم اعترافهم بأنهم جميعا استحقّوا العذاب فقولهم : (فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ) ، تفريع الاعتراض ، أي كان أمر ربنا بإذاقتنا عذاب جهنم حقّا. وفعل «حقّ» بمعنى ثبت.

وجملة (إِنَّا لَذائِقُونَ) بيان ل (قَوْلُ رَبِّنا). وحكي القول بالمعنى على طريقة الالتفات ولو لا الالتفات لقال : إنكم لذائقون أو إنهم لذائقون. ونكتة الالتفات زيادة التنصيص على المعنيّ بذوق العذاب.

وحذف مفعول «ذائقون» لدلالة المقام عليه وهو الأمر بقوله تعالى : (فَاهْدُوهُمْ إِلى

٢٥

صِراطِ الْجَحِيمِ) [الصافات : ٢٣].

وفرعوا على مضمون ردهم عليهم من قولهم : (بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) إلى (قَوْماً طاغِينَ) قولهم : (فَأَغْوَيْناكُمْ) ، أي ما أكرهناكم على الشرك ولكنّا وجدناكم متمسكين به وراغبين فيه فأغويناكم ، أي فأيدناكم في غوايتكم لأنّا كنّا غاوين فسوّلنا لكم ما اخترناه لأنفسنا فموقع جملة (إِنَّا كُنَّا غاوِينَ) موقع العلة.

و «إن» مغنية غناء لام التعليل وفاء التفريع كما ذكرناه غير مرة.

وزيادة (كُنَّا) للدلالة على تمكين الغواية من نفوسهم ، وقد استبان لهم أن ما كانوا عليه غواية فأقرّوا بها ، وقد قدمنا عند قوله تعالى في سورة المؤمنين [١٠١] : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) أن تساؤلهم المنفي هنالك هو طلب بعضهم من بعض النجدة والنصرة وأن تساؤلهم هنا تساؤل عن أسباب ورطتهم فلا تعارض بين الآيتين.

[٣٣ ـ ٣٤] (فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤))

هذا الكلام من الله تعالى موجه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ، ويشبه أن يكون اعتراضا بين حكاية حوار الله أهل الشرك في القيامة وبين توبيخ الله إياهم بقوله : (إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ) [الصافات : ٣٨].

والفاء للفصيحة لأنها وردت بعد تقرير أحوال وكان ما بعد الفاء نتيجة لتلك الأحوال فكانت الفاء مفصحة عن شرط مقدّر ، أي إذا كان حالهم كما سمعتم فإنهم يوم القيامة في العذاب مشتركون لاشتراكهم في الشرك وتمالئهم ، أي لا عذر للكلام للفريقين لا للزعماء بتسويلهم ولا للدهماء بنصرهم. وقد يكون عذاب الدعاة المغوين أشدّ من عذاب الآخرين وذلك لا ينافي الاشتراك في جنس العذاب كما دلت عليه أدلة أخرى ، لأن المقصود هنا بيان عدم إجداء معذرة كلا الفريقين وتنصّله. وهذه الجملة معترضة بين جمل حكاية موقفهم في الحساب.

وجملة (إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) تعليل لما اقتضته جملة (فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) أي فإن جزاء المجرمين يكون مثل ذلك الجزاء في مؤاخذة التابع المتبوع.

٢٦

والمراد بالمجرمين : المشركون ، أي المجرمين مثل جرمهم ، وقد بينته جملة (إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ) [الصافات : ٣٥].

[٣٥ ـ ٣٦] (إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦))

استئناف بياني أفاد تعليل جزائهم وبيان إجرامهم بذكر ما كانوا عليه من التكبر عن الاعتراف بالوحدانية لله ومن وصف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما هو منزه عنه وصفا يرمون به إلى تكذيبه فيما جاء به. فحرف (إنّ) هنا ليس للتأكيد لأن كونهم كذلك مما لا منازع فيه وإنما هو للاهتمام بالخبر فلذلك تفيد التعليل والربط وتغني غناء فاء التفريع.

وذكر فعل الكون ليدل على أن ما تضمنه الخبر وصف متمكن منهم فهو غير منقطع ولا هم حائدون عنه.

ومعنى (قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) أنه يقال لهم على سبيل الدعوة والتعليم.

وفاعل القول المبنيّ فعله للنائب هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحذف للعلم به.

والاستكبار : شدة الكبر ، فالسين والتاء للمبالغة ، أي يتعاظمون عن أن يقبلوا ذلك من رجل مثلهم ، ولك أن تجعل السين والتاء للطلب ، أي إظهار التكبر ، أي يبدو عليهم التكبر والاشمئزاز من هذا القول.

ويقارن استكبارهم أن يقول بعضهم لبعض : لا نترك آلهتنا لشاعر مجنون ، وأتوا بالنفي على وجه الاستفهام الإنكاري إظهارا لكون ما يدعوهم إليه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر منكر لا يطمع في قبولهم إياه ، تحذيرا لمن يسمع مقالتهم من أن يجول في خاطره تأمل في قول الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا إله إلا الله. وقوّوا هذا التحذير بجعل حرف الإنكار مسلّطا على الجملة الموكّدة بحرف التوكيد للدلالة على أنهم إذا أتوا ما أنكروه كانوا قد تحقّق تركهم آلهتهم تنزيلا لبعض المخاطبين منزلة من يشك في أن الإيمان بتوحيد الإله يفضي إلى ترك آلهتهم ليسدّوا على المخاطبين منافذ التردد أن يتطرق منها إلى خواطرهم.

واللام في (لِشاعِرٍ) لام العلة والأجل ، أي لأجل شاعر ، أي لأجل دعوته.

وقولهم : «شاعر مجنون» قول موزع ، أي يقول بعضهم : هو شاعر ، وبعضهم : هو مجنون ، أو يقولون مرة : شاعر ، ومرة : مجنون ، كما في الآية الأخرى (كَذلِكَ ما أَتَى

٢٧

الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) [الذاريات : ٥٢].

(بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧))

اعتراض في آخر الاعتراض قصدت منه المبادرة بتنزيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما قالوه.

و (بَلْ) إضراب إبطال لقولهم : (لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) [الصافات : ٣٦] وبإثبات صفته الحقّ لبيان حقيقة ما جاء به. وفي وصف ما جاء به أنه الحق ما يكفي لنفي أن يكون شاعرا ومجنونا ، فإن المشركين ما أرادوا بوصفه بشاعر أو مجنون إلا التنفير من اتّباعه فمثلوه بالشاعر من قبيلة يهجو أعداء قبيلته ، أو بالمجنون يقول ما لا يقوله عقلاء قومه ، فكان قوله تعالى : (بَلْ جاءَ بِالْحَقِ) مثبتا لكون الرسول على غير ما وصفوه إثباتا بالبينة.

وأتبع ذلك بتذكيرهم بأنه ما جاء إلا بمثل ما جاءت به الرسل من قبله ، فكان الإنصاف أن يلحقوه بالفريق الذي شابههم دون فريق الشعراء أو المجانين.

وتصديق المرسلين يجمع ما جاء به الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إجمالا وتفصيلا ، لأن ما جاء به لا يعدو أن يكون تقريرا لما جاءت به الشرائع السالفة فهو تصديق له ومصادقة عليه ، أو أن يكون نسخا لما جاءت به بعض الشرائع السالفة ، والإنباء بنسخه وانتهاء العمل به تصديق للرسل الذين جاءوا به في حين مجيئهم به ، فكل هذا مما شمله معنى التصديق ، وأول ذلك هو إثبات الوحدانية بالربوبية لله تعالى. فالمعنى : أن ما دعاكم إليه من التوحيد قد دعت إليه الرسل من قبله ، وهذا احتجاج بالنقل عقب الاحتجاج بأدلة النظر.

[٣٨ ـ ٣٩] (إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩))

هذا من كلام الله يوم القيامة الموجّه إلى المشركين عقب تساؤلهم وتحاورهم فيكون ما بين هذا وبين محاورتهم المنتهية بقولهم : (إِنَّا كُنَّا غاوِينَ) [الصافات : ٣٢] اعتراضا ، أي فلما انتهوا من تحاورهم خوطبوا بما يقطع طمعهم في قبول تنصل كلا الفريقين من تبعات الفريق الآخر ليزدادوا تحققا من العذاب الذي علموه من قولهم : (فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ) [الصافات : ٣١] ، وهذا ما تقتضيه دلالة اسم الفاعل في قوله : (لَذائِقُوا الْعَذابِ) لأن اسم الفاعل حقيقة في الحال ، أي حال التلبس ، فإنه لما قيل لهم هذا كانوا مشرفين على الوقوع في العذاب وذلك زمن حال في العرف العربي.

٢٨

ولما وصف عذابهم بأنه أليم عطف عليه إخبارهم بأن ذلك المقدار لا حيف عليهم فيه لأنه على وفاق أعمالهم التي كانوا يعملونها في الدنيا من آثار الشرك ، والحظّ الأكبر من ذلك الجزاء هو حظ الشرك ولكن كني عن الشرك بأعماله وأما هو فهو أمر اعتقادي. وفي هذا دليل على أن الكفار مجازون على أعمالهم السيئة من الأقوال والأعمال كتمجيد آلهتهم والدعاء لها ، وتكذيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأذاه وأذى المؤمنين ، وقولهم في أصنامهم إنهم شفعاء عند الله ، وفي الملائكة إنهم بنات الله ، ومن قتل الأنفس والغارة على الأموال ووأد البنات والزنا فإن ذلك كله مما يزيدهم عذابا ، وهو يؤيد قول الذين ذهبوا إلى أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة وأن ذلك واقع.

[٤٠ ـ ٤٩] (إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩))

استثناء منقطع في معنى الاستدراك ، والاستدراك تعقيب الكلام بما يضاده ، وهذا الاستدراك تعقيب على قوله : (فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) [الصافات : ٣٣] فإن حال عباد الله المخلصين تام الضدية لحال الذين ظلموا ، وليس يلزم في الاستدراك أن يكون رفع توهّم وإنما ذلك غالب ، فقول بعض العلماء في تعريفه هو : تعقيب الكلام برفع ما يتوهم ثبوته أو نفيه ، تعريف أغلبي ، أو أريد أدنى التوهم لأن الاستثناء المنقطع أعمّ من ذلك ، فقد يكون إخراجا من حكم لا من محكوم عليه ضرورة أنهم صرحوا بأن حرف الاستثناء في المنقطع قائم مقام لكن ، ولذلك يقتصرون على ذكر حرف الاستثناء والمستثنى بل يردفونه بجملة تبين محلّ الاستدراك كقوله تعالى : (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) [الأعراف : ١١] وقوله : (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى) [البقرة : ٣٤] ، وكذلك قوله هنا : (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ* أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ). ولو كان المعنى على الاستثناء لما أتبع المستثنى بأخبار عنه لأنه حينئذ يثبت له نقيض حكم المستثنى منه بمجرد الاستثناء ، فإن ذلك مفاد (إِلَّا) ، ونظيره مع (لكِنِ) قوله تعالى : (أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ) الآية في سورة الزّمر [١٩ ، ٢٠].

وذكر المؤمنين بوصف العبودية المضافة لله تعالى تنويه بهم وتقريب ، وذلك اصطلاح

٢٩

غالب في القرآن في إطلاق العبد والعباد مضافا إلى ضميره تعالى كقوله : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ) [ص : ١٧](وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ)[ص : ٤٥] يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) [الزخرف : ٦٨] ، وربما أطلق العبد غير مضاف مرادا به التقريب أيضا كقوله : (وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ) [ص : ٣٠] ، أي العبد لله ، ألا ترى أنه لما أريد ذكر قوم من عباد الله من المشركين لم يؤت بلفظ العباد مضافا كما في قوله تعالى : (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ)[الإسراء : ٥] إلّا بقرينة مقام التوبيخ في قوله : (أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ) [الفرقان : ١٧] لأن صفة الإضلال قرينة على أن الإضافة ليست للتقريب ، وقوله : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) [الحجر : ٤٢] فقرينة التغليب هي مناط استثناء الغاوين من قوله (عِبادِي) وينسب إلى الشافعي :

ومما زادني شرفا وفخرا

وكدت بأخمصي أطأ الثريا

دخولي تحت قولك يا عبادي

وأن أرسلت أحمد لي نبيا

والمراد بهم هنا الذين آمنوا بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنهم الذين يخطرون بالبال عند ذكر أحوال المشركين الذين كفروا به وقالوا فيه ما هو منه بريء خطور الضد بذكر ضده.

و (الْمُخْلَصِينَ) صفة عباد الله وهو بفتح اللام إذا أريد الذين أخلصهم الله لولايته ، وبكسرها أي الذين أخلصوا دينهم لله. فقرأه نافع وعاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر وخلف بفتح اللام. وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب بكسر اللام.

و (أُولئِكَ) إشارة إلى (عِبادَ اللهِ) قصد منه التنبيه على أنهم استحقوا ما بعد اسم الإشارة لأجل مما أثبت لهم من صفة الإخلاص كما ذلك من مقتضيات تعريف المسند إليه بالإشارة كقوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥] بعد قوله : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) الآية في سورة البقرة [٢ ، ٣].

والرزق : الطعام قال تعالى : (وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) [آل عمران : ٣٧] ، وقال : (لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ) [يوسف : ٣٧]. والمعلوم : الذي لا يتخلف عن ميعاده ولا ينتظره أهله.

و (فَواكِهُ) عطف بيان من (رِزْقٌ). والمعنى : أن طعامهم كله من الأطعمة التي يتفكه بها لا مما يؤكل لأجل الشبع. والفواكه : الثمار والبقول اللذيذة.

(وَهُمْ مُكْرَمُونَ) عطف على (لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ) ، أي يعاملون بالحفاوة والبهجة

٣٠

فإنه وسط في أثناء وصف ما أعد لهم من النعيم الجسماني أن لهم نعيم الكرامة وهو أهم لأن به انتعاش النفس مع ما في ذلك من خلوص النعمة ممن يكدرها وذلك لأن الإحسان قد يكون غير مقترن بمدح وتعظيم ولا بأذى وهو الغالب ، وقد يكون مقترنا بأذى وذلك يكدّر من صفوه ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) [البقرة: ٢٦٤] فإذا كان الإحسان مع عبارات الكرامة وحسن التلقّي فذلك الثواب.

و (سُرُرٍ) : جمع سرير وهو ككرسيّ واسع يمكن الاضطجاع عليه ، وكان الجلوس على السرير من شعار الملوك وأضرابهم ، وذلك جلوس أهل النعيم لأن الجالس على السرير لا يجد مللا لأنه يغيّر جلسته كيف تتيسّر له.

و (مُتَقابِلِينَ) كل واحد قبالة الآخر. وهذا أتم للأنس لأن فيه أنس الاجتماع وأنس نظر بعضهم إلى بعض فإن رؤية الحبيب والصديق تؤنس النفس.

والظاهر : أن معنى كونهم متقابلين تقابل أفراد كل جماعة مع أصحابهم ، وأنهم جماعات على حسب تراتيبهم في طبقات الجنة ، وأن أهل كل طبقة يقسمون جماعات على حسب قرابتهم في الجنة كما قال تعالى : (هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ) [يس : ٥٦] وكثرة كل جماعة لا تنافي تقابلهم على السرر والأرائك وتحادثهم لأن شئون ذلك العالم غير جارية على المتعارف في الدنيا.

ومعنى (يُطافُ) يدار عليهم وهم في مجالسهم. والكأس (بهمزة بعد الكاف) : إناء الخمر ، مؤنث ، وهي إناء بلا عروة ولا أنبوب واسعة الفم ، أي محل الصب منها ، تكون من فضة ومن ذهب ومن خزف ومن زجاج ، وتسمى قدحا وهو مذكر. وجمع كأس : كاسات وكئوس وأكؤس. وكانت خاصة بسقي الخمر حتى كانت الكأس من أسماء الخمر تسمية باسم المحلّ ، وجعلوا منه قول الأعشى :

وكأس شربت على لذة

وأخرى تداويت منها بها

وقد قيل : لا يسمى ذلك الإناء كأسا إلا إذا كانت فيه الخمر وإلا فهو قدح. والمعنيّ بها في الآية الخمر لأنه أفرد الكأس مع أن المطوف عليهم كثيرون ، ولأنها وصفت بأنها (مِنْ مَعِينٍ). وروى ابن أبي شيبة والطبري عن الضحّاك أنه قال : كل كأس في القرآن إنما عني بها الخمر. وروي مثله عن ابن عباس وقال به الأخفش.

و (مَعِينٍ) بفتح الميم ، قيل أصله : معيون. فقيل : ميمه أصلية ، وهو مشتق من معن

٣١

يقال : ماء معن ، فيكون (مَعِينٍ) بوزن فعيل مثال مبالغة من المعن وهو الإبعاد في الفعل شبّه جريه بالإبعاد في المشي ، وهذا أظهر في الاشتقاق. وقيل : ميمه زائدة وهو مشتق من عانه ، إذا أبصره لأنه يظهر على وجه الأرض في سيلانه فوزنه مفعول ، وأصله معيون فهو مشتق من اسم جامد وهو اسم العين ، وليس فعل عان مستعملا استغنوا عنه بفعل عاين.

و (بَيْضاءَ) صفة ل «كأس». وإذ قد أريد بالكأس الخمر الذي فيها كان وصف (بَيْضاءَ) للخمر. وإنما جرى تأنيث الوصف تبعا للتعبير عن الخمر بكلمة كأس ، على أن اسم الخمر يذكر ويؤنث وتأنيثها أكثر. روى مالك عن زيد بن أسلم : لونها مشرق حسن فهي لا كخمر الدنيا في منظرها الرديء من حمرة أو سواد.

واللذة : اسم معناه إدراك ملائم نفس المدرك ، يقال : لذّه ولذّ به ، والمصدر : اللذة واللذاذة. وفعله من باب فرح ، تقول : لذذت بالشيء ويقال : شيء لذّ ، أي لذيذ فهو وصف بالمصدر فإذا جاء بهاء التأنيث كما في هذه الآية فهو الاسم لا محالة لأن المصدر الوصف لا يؤنث بتأنيث موصوفه ، يقال : امرأة عدل ولا يقال : امرأة عدلة. ووصف الكأس بها كالوصف بالمصدر يفيد المبالغة في تمكن الوصف ، فقوله تعالى : (لَذَّةٍ) هو أقصى مما يؤدي شدة الالتذاذ بكلمة واحدة ، لأنه عدل به عن الوصف الأصلي لقصد المبالغة ، وعدل عن المصدر إلى الاسم لما في المصدر من معنى الاشتقاق.

وجملة (لا فِيها غَوْلٌ) صفة رابعة لكأس باعتبار إطلاقه على الخمر.

والغول ، بفتح الغين : ما يعتري شارب الخمر من الصداع والألم ، اشتق من الغول مصدر غاله ، إذا أهلكه. وهذا في معنى قوله تعالى : (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها)[الواقعة : ١٩].

وتقديم الظرف المسند على المسند إليه لإفادة التخصيص ، أي هو منتف عن خمر الجنة فقط دون ما يعرف من خمر الدنيا ، فهو قصر قلب. ووقوع (غَوْلٌ) وهو نكرة بعد (لا) النافية أفاد انتفاء هذا الجنس من أصله ، ووجب رفعه لوقوع الفصل بينه وبين حرف النفي بالخبر.

وجملة (وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) معطوفة على جملة (لا فِيها غَوْلٌ).

وقدّم المسند عليه على المسند ، والمسند فعل ليفيد التقديم تخصيص المسند إليه بالخبر الفعلي ، أي بخلاف شاربي الخمر من أهل الدنيا.

و (يُنْزَفُونَ) مبني للمجهول في قراءة الجمهور يقال : نزف الشارب ، بالبناء

٣٢

للمجهول إذا كان مجردا (ولا يبنى للمعلوم) فهو منزوف ونزيف ، شبهوا عقل الشارب بالدم يقال : نزف دم الجريح ، أي أفرغ. وأصله من : نزف الرجل ماء البئر متعديا ، إذا نزحه ولم يبق منه شيئا. وقرأه حمزة والكسائي وخلف (يُنْزَفُونَ) بضم الياء وكسر الزاي من أنزف الشارب ، إذا ذهب عقله ، أي صار ذا نزف ، فالهمزة للصيرورة لا للتعدية.

و (قاصِراتُ الطَّرْفِ) أي حابسات أنظارهن حياء وغنجا. والطرف : العين ، وهو مفرد لا جمع له من لفظه لأن أصل الطرف مصدر : طرف بعينه من باب ضرب ، إذا حرّك جفنيه ، فسمّيت العين طرفا ، فالطرف هنا الأعين ، أي قاصرات الأعين ، وتقدم عند قوله تعالى : (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) في سورة إبراهيم [٤٣] ، وقوله : (قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) في سورة النمل [٤٠].

وذكر «عند» لإفادة أنهن ملابسات لهم في مجالسهم التي تدار عليهم فيها كأس الجنة ، وكان حضور الجواري مجالس الشراب من مكملات الأنس والطرب عند سادة العرب ، قال طرفة :

نداماي بيض كالنجوم وقينة

تروح علينا بين برد ومجسد

و (عِينٌ) جمع : عيناء ، وهي المرأة الواسعة العين النجلاوتها.

والبيض المكنون : هو بيض النعام ، والنعام يكنّ بيضه في حفر في الرمل ويفرش لها من دقيق ريشه ، وتسمى تلك الحفر : الأداحيّ ، واحدتها أدحية بوزن أثفية. فيكون البيض شديد لمعان اللون وهو أبيض مشوب بياضه بصفرة وذلك اللون أحسن ألوان النساء ، وقديما شبهوا الحسان ببيض النعام ، قال امرؤ القيس :

وبيضة خدر لا يرام خباؤها

تمتعت من لهو بها غير معجل

[٥٠ ـ ٥٧] (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧))

الفاء للتفريع لأن شأن المتجالسين في مسرّة أن يشرعوا في الحديث فإن في الحديث مع الأصحاب والمنتدمين لذة كما قال محمد بن فياض :

٣٣

وما بقيت من اللذات إلا

أحاديث الكرام على الشراب

فإذا استشعروا أن ما صاروا إليه من النعيم كان جزاء على ما سبق من إيمانهم وإخلاصهم تذكر بعضهم من كان يجادله في ثبوت البعث والجزاء فحمد الله على أن هداه لعدم الإصغاء إلى ذلك الصّادّ فحدث بذلك جلساءه وأراهم إياه في النار ، فلذلك حكي إقبال بعضهم على بعض بالمساءلة بفاء التعقيب. وهذا يدلّ على أن الناس في الآخرة تعود إليهم تذكراتهم التي كانت لهم في الدنيا مصفاة من الخواطر السيّئة والأكدار النفسانية مدركة الحقائق على ما هي عليه. وجيء في حكاية هذه الحالة بصيغ الفعل الماضي مع أنها مستقبلة لإفادة تحقيق وقوع ذلك حتى كأنه قد وقع على نحو قوله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ)[النحل : ١] ، والقرينة هي التفريع على الأخبار المتعلقة بأحوال الآخرة.

والتساؤل : أن يسأل بعضهم بعضا ، وحذف المتساءل عنه لدلالة ما بعده عليه ، وقد بين نحوا منه قوله تعالى : (فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) [المدثر : ٤٠ ، ٤٢].

وجملة (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) بدل اشتمال من جملة (يَتَساءَلُونَ) ، أي قال أحدهم في جواب سؤال بعضهم ، فإن معنى التساؤل يشتمل على معنى الجواب فلذلك جعلناه بدل اشتمال لا بدل بعض ولا عطف بيان ، والقرين مراد به الجنس ، فإن هذا القول من شأنه أن يقوله كثير من خلطاء المشركين قبل أن يسلموا.

والقرين : المصاحب الملازم شبهت الملازمة الغالبة بالقرن بين شيئين بحيث لا ينفصلان ، أي يقول له صاحبه لما أسلم وبقي صاحبه على الكفر يجادله في الإسلام ويحاول تشكيكه في صحته رجاء أن يرجع به إلى الكفر كما قال سعيد بن زيد : «لقد رأيتني وأنّ عمر لموثقي على الإسلام» أي جاعلني في وثاق لأجل أني أسلمت ، وكان سعيد صهر عمر زوج أخته.

والاستفهام في (أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) مستعمل في الإنكار ، أي ما كان يحق لك أن تصدّق بهذا ، وسلط الاستفهام على حرف التوكيد لإفادة أنه بلغه تأكّد إسلام قرينه فجاء ينكر عليه ما تحقق عنده ، أي أن إنكاره إسلامه بعد تحقق خبره ، ولو لا أنه تحققه لما ظنّ به ذلك. والمصدّق هو : الموقن بالخبر.

وجملة (أَإِذا مِتْنا) بيان لجملة (أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) بينت الإنكار المجمل بإنكار

٣٤

مفصل وهو إنكار أن يبعث الناس بعد تفرق أجزائهم وتحوّلها ترابا بعد الموت ثم يجازوا.

وجملة (إِنَّا لَمَدِينُونَ) جواب (إِذا). وقرنت بحرف التوكيد للوجه الذي علمته في قوله : (أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ).

والمدين : المجازى يقال : دانه يدينه ، إذا جازاه ، والأكثر استعماله في الجزاء على السوء ، والدين : الجزاء كما في سورة الفاتحة. وقيل هنا (أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) وفي أول السورة (إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) [الصافات : ١٦] لاختلاف القائلين.

وقرأ الجميع (أَإِنَّكَ) بهمزتين. وقرأ من عدا ابن عامر (أَإِذا مِتْنا) بهمزتين وابن عامر بهمزة واحدة وهي همزة (إِذا) اكتفاء بهمزة (أَإِنَّا لَمَدِينُونَ) في قراءته. وقرأ نافع (إِنَّا لَمَدِينُونَ) بهمزة واحدة اكتفاء بالاستفهام الداخل على شرطها. وقرأه الباقون بهمزتين.

وجملة (قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ) بدل اشتمال من جملة (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ) لأن قوله : (هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ) المحكي بها هو مما اشتمل عليه قوله الأول إذ هو تكملة للقول الأول. والاستفهام بقوله (هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ) مستعمل في العرض ، عرض على رفقائه أن يتطلعوا إلى رؤية قرينه وما صار إليه ، وذلك : إمّا لأنه علم أن قرينه مات على الكفر بأن يكون قد سبقه بالموت ، وإمّا لأنه ألقي في روعه أن قرينه صار إلى النار ، وهو موقن بأن خازن النار يطلعهم على هذا القرين لعلمهم بأن لأهل الجنة ما يتساءلون قال تعالى : (وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) [يس : ٥٧].

وحذف متعلق (مُطَّلِعُونَ) لدلالة آخر الكلام عليه بقوله : (فِي سَواءِ الْجَحِيمِ). فالتقدير : هل أنتم مطلعون على أهل النار لننظره فيهم.

وفي قوله : (فَاطَّلَعَ) اكتفاء ، أي فاطّلع واطّلعوا فرآه ورأوه في سواء الجحيم إذ هو إنما عرض عليهم الاطّلاع ليعلموا تحقيق ما حدّثهم عن قرينه. واقتصر على ذكر اطلاعه هو دون ذكر اطلاع رفقائه لأنه ابتدأ بالاطّلاع ليميز قرينه فيريه لرفقائه.

و (سَواءِ الْجَحِيمِ) وسطها قال بلعاء بن قيس :

عضبا أصاب سواء الرأس فانفلقا

وجملة (قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) مستأنفة استئنافا بيانيّا لأن وصف هذه الحالة

٣٥

يثير في نفس السامع أن يسأل : فما ذا حصل حين اطلع؟ فيجاب بأنه حين رأى قرينه أخذ يوبخه على ما كان يحاوله منه حتى كاد أن يلقيه في النار مثله. وهذا التوبيخ يتضمن تنديمه على محاولة إرجاعه عن الإسلام.

والقسم بالتاء من شأنه أن يقع فيما جواب قسمه غريب ، كما تقدم في قوله تعالى : (قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ) في سورة يوسف [٧٣] ، وقوله : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) في سورة الأنبياء [٥٧]. ومحل الغرابة هو خلاصه من شبكة قرينه واختلاف حال عاقبتيهما مع ما كانا عليه من شدة الملازمة والصحبة وما حفّه من نعمة الهداية وما تورط قرينه في أو حال الغواية.

و (إِنْ) مخففة من الثقيلة واتصل بها الفعل الناسخ على ما هو الغالب في أحوالها إذا أهملت. واللام الداخلة على خبر كاد هي الفارقة بين (إِنْ) المخففة والنافية. و «ترديني» توقعني في الرّدى وهو الهلاك ، وأصل الردى : الموت ثم شاعت استعارته لسوء الحال تشبيها بالموت لما شاع من اعتبار الموت أعظم ما يصاب به المرء.

والمعنى : أنك قاربت أن تفضي بي إلى حال الردى بإلحاحك في صرفي عن الإيمان بالبعث لفرط الصحبة. ولو لا نعمة هداية الله وتثبيته لكنت من المحضرين معك في العذاب.

وقرأ الجمهور (لَتُرْدِينِ) بنون مكسورة في آخره دون ياء المتكلم على التخفيف ، وهو حذف شائع في الاستعمال الفصيح وهو لغة أهل نجد. وكتب في المصاحف بدون ياء. وقرأه ورش عن نافع بإثبات الياء ولا ينافي رسم المصحف لأن كثيرا من الياءات لم تكتب في المصحف ، وقرأ القراء بإثباتها فإن كتّاب المصحف قد حذفوا مدودا كثيرة من ألفات وياءات.

والمحضرون : أريد بهم المحضرون في النار ، أي لكنت من المحضرين معك للعذاب. وقد كثر إطلاق المحضر ونحوه على الذي يحضر لأجل العقاب. وقد فسر بعض المفسرين القرين هنا بالشيطان الذي يلازم الإنسان لإضلاله وإغوائه. وطريق حكاية تصدّي القائل من أهل الجنة لإخبار أهل مجلسه بحاله يبطل هذا التفسير لأنه لو كان المراد الشيطان لكان إخباره به غير مفيد فما من أحد منهم إلا كان له قرين من الشياطين ، وما منهم إلا عالم بأن مصير الشياطين إلى النار.

٣٦

وقيل : نزلت في شريكين هما المشار إليهما في قوله تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ) في سورة الكهف [٣٢].

وروي عن عطاء الخراساني : أنها نزلت في أخوين مؤمن وكافر ، كانا غنيين ، وكان المؤمن ينفق ماله في الصدقات وكان الكافر ينفق ماله في اللذات. وفي هذه الآية عبرة من الحذر من قرناء السوء ووجوب الاحتراس مما يدعون إليه ويزيّنونه من المهالك.

[٥٨ ـ ٦٠] (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠))

عطفت الفاء الاستفهام على جملة (قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ) [الصافات : ٥٤] ، فالاستفهام موجه من هذا القائل إلى بعض المتسائلين. وهو مستعمل في التقرير المراد به التذكير بنعمة الخلود فإنه بعد أن أطلعهم على مصير قرينه السوء أقبل على رفاقه بإكمال حديثه تحدثا بالنعمة واغتباطا وابتهاجا بها ، وذكرا لها فإن لذكر الأشياء المحبوبة لذة فما ظنك بذكر نعمة قد انغمسوا فيها وأيقنوا بخلودها. ولعل نظم هذا التذكر في أسلوب الاستفهام التقريري لقصد أن يسمع تكرر ذكر ذلك حين يجيبه الرفاق بأن يقولوا : نعم ما نحن بميتين.

والاستثناء في قوله : (إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى) منقطع لأن الموت المنفي هو الموت في الحال ، أو الاستقبال كما هو شأن اسم الفاعل فتعيّن أن المستثنى غير داخل في المنفي فهو منقطع ، أي لكن الموتة الأولى. وذلك الاستدراك تأكيد للنفي. وانتصابه لأجل الانقطاع لا لأجل النفي.

وعطف (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) ليتمحّض الاستفهام للتحدث بالنعمة لأن المشركين أيضا ما هم بميتين ولكنهم معذّبون فحالهم شرّ من الموت. قيل لبعض الحكماء : ما شرّ من الموت؟ فقال : الذي يتمنى فيه الموت.

والظاهر أن جملة (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) حكاية لبقية كلام القائل لرفاقه ، فهي بمنزلة التذييل والفذلكة لحالتهم المشاهد بعضها والمتحدث عن بعضها بقوله : (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ).

و (الْفَوْزُ) : الظفر بالمطلوب ، أي حالنا هو النجاح والظفر العظيم. وقد أبدع في

٣٧

تصوير حسن حالهم بحصر الفوز فيه حتى كان كل فوز بالنسبة إليه ليس بفوز ، فالحصر للمبالغة لعدم الاعتداد بغيره ثم ألحقوا ذلك الحصر بوصفه ب (الْعَظِيمُ).

(لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (٦١))

هذا تذييل لحكاية حال عباد الله المخلصين فهو كلام من جانب الله تعالى للتنويه بما فيه عباد الله المخلصون ، وللتحريض على العمل بمثل ما عملوه مما أوجب لهم إخلاص الله إياهم ، فالإشارة في قوله : (لِمِثْلِ هذا) إلى ما تضمنه قوله : (أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ) [الصافات : ٤١] الآيات ، أي لمثل نعيمهم وأنسهم ومسرتهم ولذّاتهم وبهجتهم وخلود ذلك كله.

والمراد بمثله : نظيره من نعيم لمخلصين آخرين. والمراد بالعاملين : الذين يعملون الخير ويسيرون على ما خطّت لهم شريعة الإسلام ، فحذف مفعول «يعمل» اختصارا لظهوره من المقام.

واللام في (لِمِثْلِ) لام التعليل. وتقديم المجرور على عامله لإفادة القصر ، أي لا لعمل غيره ، وهو قصر قلب للرد على المشركين الذين يحسبون أنهم يعملون أعمالا صالحة يتفاخرون بها من الميسر ، قال تعالى : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) [الكهف : ١٠٣ ـ ١٠٤].

والمعنى : لنوال مثل هذا ، فحذف مضاف لدلالة اللام على معناه.

والفاء للتفريع على مضمون القصة المذكورة قبلها من قوله : (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) [الصافات : ٤٠] الآيات.

والأمر في (فَلْيَعْمَلِ) للإرشاد الصادق بالواجبات والمندوبات.

[٦٢ ـ ٦٨] (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦) ُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨))

استئناف بعد تمام قصة المؤمن ورفاقه قصد منه التنبيه إلى البون بين حال المؤمن

٣٨

والكافر جرى على عادة القرآن في تعقيب القصص والأمثال بالتنبيه إلى مغازيها ومواعظها.

فالمقصود بالخبر هو قوله : (إِنَّا جَعَلْناها) ، أي شجرة الزقوم (فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ) إلى آخرها. وإنما صيغ الكلام على هذا الأسلوب للتشويق إلى ما يرد فيه.

والاستفهام مكنى به عن التنبيه على فضل حال المؤمن وفوزه وخسار الكافر. وهو خطاب لكل سامع.

والإشارة ب (أَذلِكَ) إلى ما تقدم من حال المؤمنين في النعيم والخلود ، وجيء باسم الإشارة مفردا بتأويل المذكور ، بعلامة بعد المشار إليه لتعظيمه بالبعد ، أي بعد المرتبة وسموّها لأن الشيء النفيس الشريف يتخيل عاليا والعالي يلازمه البعد عن المكان المعتاد وهو السفل ، وأين الثريا من الثرى.

والنزل : بضمتين ، ويقال : نزل بضم وسكون هو في أصل اللغة : المكان الذي ينزل فيه النازل ، قاله الزجاج. وجرى عليه صاحب «اللسان» وصاحب «القاموس» ، وأطلق إطلاقا شائعا كثيرا على الطعام المهيّأ للضيف لأنه أعدّ له لنزوله تسمية باسم مكانه نظير ما أطلقوا اسم السكن بسكون الكاف على الطعام المعدّ للساكن الدار إذ المسكن يقال فيه : سكن أيضا. واقتصر عليه أكثر المفسرين ولم يذكر الراغب غيره. ويجوز أن يكون المراد من النزل هنا طعام الضيافة في الجنة. ويجوز أن يراد به مكان النزول على تقدير مضاف في قوله : (أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) بتقدير : أم مكان شجرة الزقوم.

وعلى الوجهين فانتصاب (نُزُلاً) على الحال من اسم الإشارة ومتوجه الإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى ما يناسب الوجهين مما تقدم من قوله : (رِزْقٌ مَعْلُومٌ* فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ* فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) [الصافات : ٤١ ـ ٤٣].

ويجري على الوجهين معنى معادل الاستفهام فيكون إمّا أن تقدّر : أم منزل شجرة الزقوم على حدّ قوله تعالى : (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) [مريم : ٧٣] فقد ذكر مكانين ، وإما أن نقدر : أم نزل شجرة الزقوم ، وعلى هذا الوجه الثاني تكون المعادلة مشاكلة تهكما لأن طعام شجرة الزقوم لا يحق له أن يسمى نزلا.

وشجرة الزقوم ذكرت هنا ذكر ما هو معهود من قبل لورودها معرفة بالإضافة ولوقوعها في مقام التفاوت بين حالي خير وشر فيناسب أن تكون الحوالة على مثلين معروفين ، فأما أن يكون اسما جعله القرآن لشجرة في جهنم ويكون سبق ذكرها في (ثُمَ

٣٩

إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ* لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ) في سورة الواقعة [٥١ ـ ٥٢] ، وكان نزولها قبل نزول سورة الصافات. ويبين هذا ما رواه الكلبي أنه لما نزلت هذه الآية (أي آية سورة الواقعة) قال ابن الزّبعرى : أكثر الله في بيوتكم الزقوم ، فإن أهل اليمن يسمّون التمر والزبد بالزقوم. فقال أبو جهل لجاريته : زقمينا فأتته بزبد وتمر فقال : تزقموا.

وعن ابن سيده : بلغنا أنه لما نزلت : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ* طَعامُ الْأَثِيمِ) (أي في سورة الدخان [٤٣ ـ ٤٤]) لم يعرفها قريش. فقال أبو جهل : يا جارية هاتي لنا تمرا وزبدا نزدقمه ، فجعلوا يأكلون ويقولون : أفبهذا يخوفنا محمد في الآخرة ا. ه. والمناسب أن يكون قولهم هذا عند ما سمعوا آية سورة الواقعة لا آية سورة الدخان وقد جاءت فيها نكرة. وإمّا أن يكون اسما لشجر معروف هو مذموم ، قيل : هو شجر من أخبث الشجر يكون بتهامة وبالبلاد المجدبة المجاورة للصحراء كريهة الرائحة صغيرة الورق مسمومة ذات لبن إذا أصاب جلد الإنسان تورّم ومات منه في الغالب. قاله قطرب وأبو حنيفة.

وتصدّي القرآن لوصفها المفصّل هنا يقتضي أنها ليست معروفة عندهم فذكرها مجملة في سورة الواقعة فلما قالوا ما قالوا فصّل أو صافها هنا بهذه الآية وفي سورة الدخان بقوله : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ* طَعامُ الْأَثِيمِ* كَالْمُهْلِ) تغلي (فِي الْبُطُونِ* كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) [الدخان: ٤٣ ـ ٤٦].

وقد سماها القرآن بهذه الإضافة كأنها مشتقة من الزقمة بضم الزاء وسكون القاف وهو اسم الطاعون ، وقال ابن دريد : لم يكن الزقوم اشتقاقا من التزقم وهو الإفراط في الأكل حتى يكرهه. وهو يريد الرد على من قال : إنها مشتقة من التزقم وهو البلع على جهد لكراهة الشيء. واستأنف وصفها بأن الله جعلها (فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ) ، أي عذابا مثل ما في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) [البروج : ١٠] ، أي عذبوهم بأخدود النار.

وفسرت الفتنة أيضا بأن خبر شجرة الزقوم كان فتنة للمشركين إذ أغراهم بالتكذيب والتهكم فيكون معنى (جَعَلْناها) جعلنا ذكرها وخبرها ، أي لما نزلت آية سورة الواقعة ، أي جعلنا ذكرها مثيرا لفتنتهم بالتكذيب والتهكم دون تفهم ، وذلك مثل قوله : (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) [المدثر : ٣١] ، فإنه لما نزل قوله تعالى في وصف جهنم : (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) [المدثر : ٣٠] قال أبو جهل لقريش : ثكلتكم أمهاتكم إن ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدّهم أيعجز كل

٤٠