تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٠

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٠

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢١٤

المعذرة ، فروي عن ابن عباس أن الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف وناسا من قريش جاءوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال الحارث «إنا لنعلم أن قولك حق ولكنا نخاف إن اتبعنا الهدى معك ونؤمن بك أن يتخطفنا العرب من أرضنا ولا طاقة لنا بهم وإنما نحن أكلة رأس» (أي أن جمعنا يشبعه الرأس الواحد من الإبل وهذه الكلمة كناية عن القلة) فهؤلاء اعترفوا في ظاهر الأمر بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو إلى الهدى.

والتخطف : مبالغة في الخطف ، وهو انتزاع شيء بسرعة ، وتقدم في قوله تعالى (تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ) في سورة الأنفال [٢٦]. والمراد : يأسرنا الأعداء معهم إلى ديارهم ، فرد الله عليهم بأن قريشا مع قلتهم عدّا وعدة أتاح الله لهم بلدا هو حرم آمن يكونون فيه آمنين من العدو على كثرة قبائل العرب واشتغالهم بالغارة على جيرتهم وجبى إليهم ثمرات كثيرة قرونا طويلة ، فلو اعتبروا لعلموا أن لهم منعة ربانية وأن الله الذي أمنهم في القرون الخالية يؤمنهم إن استجابوا لله ورسوله.

والتمكين : الجعل في مكان ، وتقدم في قوله تعالى (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) في سورة الأنعام [٦] ، وقوله في أول هذه السورة [٦] (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ). واستعمل هنا مجازا في الإعداد والتيسير.

والجبي : الجمع والجلب ومنه جباية الخراج.

والاستفهام إنكار أن يكون الله لم يمكن لهم حرما. ووجه الإنكار أنهم نزلوا منزلة من ينفي أن ذلك الحرم من تمكين الله فاستفهموا على هذا النفي استفهام إنكار.

وهذا الإنكار يقتضي توبيخا على هذه الحالة التي نزلوا لأجلها منزلة من ينفي أن الله مكن لهم حرما.

والواو عطفت جملة الاستفهام على جملة (وَقالُوا). والتقدير : ونحن مكنا لهم حرما.

و (كُلِّ شَيْءٍ) عام في كل ذي ثمرة وهو عموم عرفي ، أي ثمر كل شيء من الأشياء المثمرة المعروفة في بلادهم والمجاورة لهم أو استعمل (كُلِ) في معنى الكثرة.

و (رِزْقاً) حال من (ثَمَراتُ) وهو مصدر بمعنى المفعول.

ومعنى (مِنْ لَدُنَّا) من عندنا ، والعندية مجاز في التكريم والبركة ، أي رزقا قدرناه

٨١

لهم إكراما فكأنه رزق خاص من مكان شديد الاختصاص بالله تعالى.

وقد حصل في خلال الرد لقولهم إدماج للامتنان عليهم بهذه النعمة ليحصل لهم وازعان عن الكفر بالمنعم : وازع إبطال معذرتهم عن الكفر ، ووازع التذكير بنعمة المكفور به.

وموقع الاستدراك في قوله (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أنه متعلق بالكلام المسوق مساق الرد على قولهم (إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) إذ التقدير : أن تلك نعمة ربانية ولكن أكثرهم لا علم لهم فلذلك لم يتفطنوا إلى كنه هذه النعمة فحسبوا أن الإسلام مفض إلى اعتداء العرب عليهم ظنّا بأن حرمتهم بين العرب مزيّة ونعمة أسداها إليهم قبائل العرب.

وفعل (لا يَعْلَمُونَ) منزّل منزلة اللازم فلا يقدّر له مفعول ، أي ليسوا ذوي علم ونظر بل هم جهلة لا يتدبّرون الأحوال. ونفي العلم عن أكثرهم لأن بعضهم أصحاب رأي فلو نظروا وتدبروا لما قالوا مقالتهم تلك.

ولو قدر لفعل (يَعْلَمُونَ) مفعول دل عليه الكلام ، أي لا يعلمون تمكين الحرم لهم وأن جلب الثمرات إليهم من فضلنا لما استقام إسناد نفي العلم إلى أكثرهم بل كان يسند إلى جميعهم لإطباق كلمتهم على مقالة (إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا).

وقرأ نافع وأبو جعفر ورويس عن يعقوب تجبى بالمثناة الفوقية. وقرأ الباقون بالياء التحتية مراعاة للمضاف إليه وهو (كُلِّ شَيْءٍ) فأكسب المضاف تأنيثا.

(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨))

عطف على جملة (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً) [القصص : ٥٧] باعتبار ما تضمنته من الإنكار والتوبيخ ، فإن ذلك يقتضي التعرض للانتقام شأن الأمم التي كفرت بنعم الله فهو تخويف لقريش من سوء عاقبة أقوام كانوا في مثل حالهم من الأمن والرزق فغمطوا النعمة وقابلوها بالبطر.

والبطر : التكبر. وفعله قاصر من باب فرح ، فانتصاب (مَعِيشَتَها) بعد (بَطِرَتْ) على تضمين (بَطِرَتْ) معنى (كفرت) لأن البطر وهو التكبر يستلزم عدم الاعتراف بما

٨٢

يسدى إليه من الخير.

والمراد : بطرت حالة معيشتها ، أي نعمة عيشها.

والمعيشة هنا اسم مصدر بمعنى العيش والمراد حالته فهو على حذف مضاف دل عليه المقام ، ويعلم أنها حالة حسنة من قوله : (بَطِرَتْ) وهي حالة الأمن والرزق.

والإشارة ب (تلك) إلى (مَساكِنُهُمْ) الذي بيّن به اسم الإشارة لأنه في قوة تلك المساكن. وبذلك صارت الإشارة إلى حاضر في الذهن منزّل منزلة الحاضر بمرأى السامع ، ولذلك فقوله : (لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ) خبر عن اسم الإشارة والتقدير : فمساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا.

والسكنى : الحلول في البيت ونحوه في الأوقات المعروفة بقصد الاستمرار زمنا طويلا.

ومعنى (لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ) لم يتركوا فيها خلفا لهم. وذلك كناية عن انقراضهم عن بكرة أبيهم.

وقوله (إِلَّا قَلِيلاً) احتراس أي إلا إقامة المارين بها المعتبرين بهلاك أهلها.

وانتصب (قَلِيلاً) على الاستثناء من عموم أزمان محذوفة. والتقدير : إلا زمانا قليلا ، أو على الاستثناء من مصدر محذوف. والتقدير : لم تسكن سكنا إلّا سكنا قليلا ، والسّكن القليل : هو مطلق الحلول بغير نية إطالة فهي إلمام لا سكنى. فإطلاق السكنى على ذلك مشاكلة ليتأتى الاستثناء ، أي لم تسكن إلا حلول المسافرين أو إناخة المنتجعين مثل نزول جيش غزوة تبوك بحجر ثمود واستقائهم من بئر الناقة. والمعنى : فتلك مساكنهم خاوية خلاء لا يعمرها عامر ، أي أن الله قدر بقاءها خالية لتبقى عبرة وموعظة بعذاب الله في الدنيا.

وبهذه الآية يظهر تأويل قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين مرّ في طريقه إلى تبوك بحجر ثمود فقال : «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبك مثل ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين»

أي خائفين أي اقتصارا على ضرورة المرور لئلا يتعرضوا إلى تحقق حقيقة السكنى التي قدر الله انتفاءها بعد قومها فربما قدر إهلاك من يسكنها تحقيقا لقدره.

وجملة (وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) عطف على جملة (لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ) وهو يفيد

٨٣

أنها لم تسكن من بعدهم فلا يحلّ فيها قوم آخرون بعدهم فعبّر عن تداول السكنى بالإرث على طريقة الاستعارة.

وقصر إرث تلك المساكن على الله تعالى حقيقي ، أي لا يرثها غيرنا. وهو كناية عن حرمان تلك المساكن من الساكن. وتلك الكناية رمز إلى شدة غضب الله تعالى على أهلها الأولين بحيث تجاوز غضبه الساكنين إلى نفس المساكن فعاقبها بالحرمان من بهجة المساكن لأن بهجة المساكن سكانها ، فإن كمال الموجودات هو به قوام حقائقها.

(وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩))

أعقب الاعتبار بالقرى المهلكة ببيان أشراط هلاكها وسببه ، استقصاء للإعذار لمشركي العرب ، فبين لهم أن ليس من عادة الله تعالى أن يهلك القرى المستأهلة الإهلاك حتى يبعث رسولا في القرية الكبرى منها لأن القرية الكبرى هي مهبط أهل القرى والبوادي المجاورة لها فلا تخفى دعوة الرسول فيها ولأن أهلها قدوة لغيرهم في الخير والشر فهم أكثر استعدادا لإدراك الأمور على وجهها فهذا بيان أشراط الإهلاك.

و (الْقُرى) : هي المنازل لجماعات من الناس ذوات البيوت المبنية ، وتقدم عند قوله تعالى (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) في البقرة [٥٨].

وخصت بالذكر لأن العبرة بها أظهر لأنها إذا أهلكت بقيت آثارها وأطلالها ولم ينقطع خبرها من الأجيال الآتية بعدها ويعلم أن الحلل والخيام مثلها بحكم دلالة الفحوى.

وإفراغ النفي في صيغة ما كان فاعلا ونحوه من صيغ الجحود يفيد رسوخ هذه العادة واطرادها كما تقدم في نظائره منها قوله تعالى (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ) في سورة آل عمران [٧٩] وقوله (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ) في سورة يونس [٣٧].

وقرى بلاد العرب كثيرة مثل مكة وجدة ومنى والطائف ويثرب وما حولها من القرى وكذلك قرى اليمن وقرى البحرين. وأم القرى هي القرية العظيمة منها وكانت مكة أعظم بلاد العرب شهرة وأذكرها بينهم وأكثرها مارة وزوارا لمكان الكعبة فيها والحج لها.

٨٤

والمراد بإهلاك القرى إهلاك أهلها. وإنما علق الإهلاك بالقرى للإشارة إلى أن شدة الإهلاك بحيث يأتي على الأمة وأهلها وهو الإهلاك بالحوادث التي لا تستقر معها الديار بخلاف إهلاك الأمة فقد يكون بطاعون ونحوه فلا يترك أثرا في القرى.

وإسناد الخبر إلى الله بعنوان ربوبيته للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إيماء إلى أن المقصود بهذا الإنذار هم أمة محمد الذين كذبوا فالخطاب للنبي عليه‌السلام لهذا المقصد. ولهذا وقع الالتفات عنه إلى ضمير المتكلم في قوله (آياتِنا) للإشارة إلى أن الآيات من عند الله وأن الدين دين الله.

وضمير (عَلَيْهِمْ) عائد إلى المعلوم من القرى وهو أهلها كقوله (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) [يوسف : ٨٢] ، ومنه قوله (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) [العلق : ١٧].

وقد حصل في هذه الجملة تفنن في الأساليب إذ جمعت الاسم الظاهر وضمائر الغيبة والخطاب والتكلم.

ثم بين السبب بقوله (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) أي ما كان من عادتنا في عبادنا أن نهلك أهل القرى في حالة إلا في حالة ظلمهم أنفسهم بالإشراك ، فالإشراك سبب الإهلاك وإرسال رسول شرطه ، فيتم ظلمهم بتكذيبهم الرسول.

وجملة (وَأَهْلُها ظالِمُونَ) في موضع الحال ، وهو حال مستثنى من أحوال محذوفة اقتضاها الاستثناء المفرغ ، أي ما كنا مهلكي القرى في حال إلا في حال ظلم أهلها.

(وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠))

لما ذكرهم الله بنعمه عليهم تذكيرا أدمج في خلال الرد على قولهم (إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) [القصص : ٥٧] بقوله تجبى (إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا) [القصص : ٥٧] أعقبه بأن كل ما أوتوه من نعمة هو من متاع الحياة الدنيا كالأمن والرزق ، ومن زينتها كاللباس والأنعام والمال ، وأما ما عند الله من نعيم الآخرة من ذلك وأبقى لئلا يحسبوا أن ما هم فيه من الأمن والرزق هو الغاية المطلوبة فلا يتطلبوا ما به تحصيل النعيم العظيم الأبدي ، وتحصيله بالإيمان. ولا يجعلوا ذلك موازنا لاتباع الهدى وإن كان في اتباع الهدى تقويت ما هم فيه من أرضهم وخيراتها لو سلّم ذلك. هذا وجه مناسبة هذه الآية لما قبلها.

٨٥

و (مِنْ شَيْءٍ) بيان ل (ما أُوتِيتُمْ) والمراد من أشياء المنافع كما دل عليه المقام لأن الإيتاء شائع في إعطاء ما ينفع.

وقد التفت الكلام من الغيبة من قوله (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً) [القصص : ٥٧] إلى الخطاب في قوله (أُوتِيتُمْ) لأن ما تقدم من الكلام أوجب توجيه التوبيخ مواجهة إليهم.

والمتاع : ما ينتفع به زمنا ثم يزول.

والزينة : ما يحسن الأجسام.

والمراد بكون ما عند الله خيرا ، أن أجناس الآخرة خير مما أوتوه في كمال أجناسها ، وأما كونه أبقى فهو بمعنى الخلود.

وتفرع على هذا الخبر استفهام توبيخي وتقريري على عدم عقل المخاطبين لأنهم لما لم يستدلوا بعقولهم على طريق الخير نزّلوا منزلة من أفسد عقله فسئلوا : أهم كذلك؟.

وقرأ الجمهور (تَعْقِلُونَ) بتاء الخطاب. وقرأ أبو عمرو ويعقوب يعقلون بياء الغيبة على الالتفات عن خطابهم لتعجب المؤمنين من حالهم ، وقيل : لأنهم لما كانوا لا يعقلون نزلوا منزلة الغائب لبعدهم عن مقام الخطاب.

(أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١))

أحسب أن موقع فاء التفريع هنا أن مما أومأ إليه قوله (وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) [القصص : ٦٠] ما كان المشركون يتبجحون به على المسلمين من وفرة الأموال ونعيم الترف في حين كان معظم المسلمين فقراء ضعفاء قال تعالى (وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا) فاكهين [المطففين : ٣١] أي منعمين ، وقال (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) [المزمل : ١١] فيظهر من آيات القرآن أن المشركين كان من دأبهم التفاخر بما هم فيه من النعمة قال تعالى (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ) [هود : ١١٦] وقال (وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ) [الأنبياء : ١٣] فلما أنبأهم الله بأن ما هم فيه من الترف إن هو إلا متاع قليل ، قابل ذلك بالنعيم الفائق الخالد الذي أعد للمؤمنين ، وهي تفيد مع ذلك تحقيق معنى الجملة التي قبلها لأن الثانية زادت الأولى بيانا بأن ما أوتوه زائل زوالا معوضا بضد المتاع والزينة وذلك قوله (ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ).

٨٦

فما صدق (مِنَ) الأولى هم الذين وعدهم الله الوعد الحسن وهم المؤمنون ، وما صدق (مِنَ) الثانية جمع هم الكافرون. والاستفهام مستعمل في إنكار المشابهة والمماثلة التي أفادها كاف التشبيه فالمعنى أن الفريقين ليسوا سواء إذ لا يستوي أهل نعيم عاجل زائل وأهل نعيم آجل خالد.

وجملة (فَهُوَ لاقِيهِ) معترضة لبيان أنه وعد محقق ، والفاء للتسبب.

وجملة (ثُمَّ هُوَ) إلخ عطف على جملة (مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) فهي من تمام صلة الموصول. و (ثُمَ) للتراخي الرتبي لبيان أن رتبة مضمونها في الخسارة أعظم من مضمون التي قبلها ، أي لم تقتصر خسارتهم على حرمانهم من نعيم الآخرة بل تجاوزت إلى التعويض بالعذاب الأليم.

ومعنى (مِنَ الْمُحْضَرِينَ) أنه من المحضرين للجزاء على ما دل عليه التوبيخ في (أَفَلا تَعْقِلُونَ) [القصص : ٦٠]. والمقابلة في قوله (أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً) المقتضية أن الفريق المعين موعودون بضد الحسن ، فحذف متعلق (الْمُحْضَرِينَ) اختصارا كما حذف في قوله (وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) [الصافات : ٥٧] وقوله (فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) [الصافات : ١٢٧ ، ١٢٨].

[٦٢ ـ ٦٣] (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (٦٣))

تخلص من إثبات بعثة الرسل وبعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى إبطال الشركاء لله ، فالجملة معطوفة على جملة (أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً) [القصص : ٦١] مفيدة سبب كونهم من المحضرين ، أي لأنهم اتخذوا من دون الله شركاء ، وزعموا أنهم يشفعون لهم فإذا هم لا يجدونهم يوم يحضرون للعذاب ، فلك أن تجعل مبدأ الجملة قوله (يُنادِيهِمْ) فيكون عطفا على جملة (ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) [القصص : ٦١] أي يحضرون و (يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ : أَيْنَ شُرَكائِيَ) إلخ. ولك أن تجعل مبدأ الجملة قوله (يَوْمَ يُنادِيهِمْ). ولك أن تجعله عطف مفردات فيكون (يَوْمَ يُنادِيهِمْ) عطفا على (يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) [القصص : ٦١] فيكون (يَوْمَ يُنادِيهِمْ) عين (يَوْمَ الْقِيامَةِ) وكان حقه أن يأتي بدلا من (يَوْمَ الْقِيامَةِ) لكنه عدل عن الإبدال إلى العطف لاختلاف حال ذلك اليوم باختلاف العنوان ، فنزل منزلة يوم مغاير زيادة في تهويل ذلك اليوم.

٨٧

ولك أن تجعل (يَوْمَ يُنادِيهِمْ) منصوبا بفعل مقدر بعد واو العطف بتقدير : اذكر ، أو بتقدير فعل دل عليه معنى النداء. واستفهام التوبيخ من حصول أمر فضيع ، تقديره : يوم يناديهم يكون ما لا يوصف من الرعب.

وضمير (يُنادِيهِمْ) المرفوع عائد إلى الله تعالى. وضمير الجمع المنصوب عائد إلى المتحدث عنهم في الآيات السابقة ابتداء من قوله (وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) [القصص : ٥٧] فالمنادون جميع المشركين كما اقتضاه قوله تعالى (أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ).

والاستفهام بكلمة (أَيْنَ) ظاهره استفهام عن المكان الذي يوجد فيه الشركاء ولكنه مستعمل كناية عن انتفاء وجود الشركاء المزعومين يومئذ ، فالاستفهام مستعمل في الانتفاء.

ومفعولا (تَزْعُمُونَ) محذوفان دل عليهما (شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أي تزعمونهم شركائي ، وهذا الحذف اختصار وهو جائز في مفعولي (ظن).

وجردت جملة (قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) عن حرف العطف لأنها وقعت في موقع المحاورة فهي جواب عن قوله تعالى (أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ).

والذين تصدوا للجواب هم بعض المنادين ب (أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) علموا أنهم الأحرياء بالجواب. وهؤلاء هم أئمة أهل الشرك من أهل مكة مثل أبي جهل وأمية بن خلف وسدنة أصنامهم كسادن العزى. ولذلك عبّر عنهم ب (الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) ولم يعبر عنهم ب (قالوا).

ومعنى (حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) يجوز أن يكون (حَقَ) بمعنى تحقق وثبت ويكون القول قولا معهودا وهو ما عهد للمسلمين من قوله تعالى (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي (١) لَأَمْلَأَنَّجَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [السجدة : ١٣] وقوله (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ) [الزمر : ١٩ فالذين حق عليهم القول هم الذين حل الإبان الذي يحق عليهم فيه هذا القول. والمعنى : أن الله ألجأهم إلى الاعتراف بأنهم أضلوا الضالين وأغووهم.

ويجوز أن يكون (حَقَ) بمعنى وجب وتعين ، أي حق عليهم الجواب لأنهم علموا أن قوله تعالى (فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) موجه إليهم فلم يكن لهم بد من

__________________

(١) في المطبوعة : «حقّت كلمة ربك لأملان ...».

٨٨

إجابة ذلك السؤال. ويكون المراد بالقول جنس القول ، أي الكلام الذي يقال في ذلك المقام وهو الجواب عن الاستفهام بقوله (أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) وعلى كلا الاحتمالين فالذين حق عليهم القول هم أئمة الكفر كما يقتضيه قوله تعالى (هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا ...) إلخ.

والتعريف في (الْقَوْلُ) الأظهر أنه تعريف الجنس وهو ما دل عليه (قالَ) ، أي قال الذين حق عليهم أن يقولوا ، أي الذين كانوا أحرى بأن يجيبوا لعلمهم بأن تبعة المسئول عنه واقعة عليهم لأنه لما وجه التوبيخ إلى جملتهم تعين أن يتصدى للجواب الفريق الذين ثبتوا العامة على الشرك وأضلوا الدهماء.

وابتدءوا جوابهم بتوجيه النداء إلى الله بعنوان أنه ربهم ، نداء أريد منه الاستعطاف بأنه الذي خلقهم اعترافا منهم بالعبودية وتمهيدا للتنصل من أن يكونوا هم المخترعين لدين الشرك فإنهم إنما تلقوه عن غيرهم من سلفهم ، والإشارة ب (هؤُلاءِ) إلى بقية المنادين معهم قصدا لأن يتميزوا عمن سواهم من أهل الموقف وذلك بإلهام من الله ليزدادوا رعبا ، وأن يكون لهم مطمع في التخليص. و (الَّذِينَ أَغْوَيْنا) خبر عن اسم الإشارة وهو اعتراف بأنهم أغووهم.

وجملة (أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) استئناف بياني لجملة (الَّذِينَ أَغْوَيْنا) لأن اعترافهم بأنهم أغووهم يثير سؤال سائل متعجب كيف يعترفون بمثل هذا الجرم فأرادوا بيان الباعث لهم على إغواء إخوانهم وهو أنهم بثوا في عامة أتباعهم الغواية المستقرة في نفوسهم وظنوا أن ذلك الاعتراف يخفف عنهم من العذاب بقرينة قولهم (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ).

وإنما لم يقتصر على جملة (أَغْوَيْناهُمْ) بأن يقال : هؤلاء الذين أغويناهم كما غوينا ، لقصد الاهتمام بذكر هذا الإغواء بتأكيده اللفظي ، وبإجماله في المرة الأولى وتفصيله في المرة الثانية ، فليست إعادة فعل (أَغْوَيْنا) لمجرد التأكيد. قال ابن جني في كتاب «التنبيه» على إعراب الحماسة عند قول الأحوص :

فإذا تزول تزول عن متخمط

تخشى بوادره على الأقران

إنما جاز أن يقول : فإذا تزول تزول ، لما اتصل بالفعل الثاني من حرف الجر المفاد منه الفائدة ، ومثله قول الله تعالى (هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) ولو قال :

٨٩

هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم لم يفد القول شيئا ، لأنه كقولك : الذي ضربته ضربته ، والتي أكرمتها أكرمتها ، ولكن لما اتصل ب (أَغْوَيْناهُمْ) الثانية قوله (كَما غَوَيْنا) أفاد الكلام كقولك : الذي ضربته ضربته لأنه جاهل. وقد كان أبو علي امتنع في هذه الآية مما اخترناه غير أن الأمر فيها عندي على ما عرفتك» اه. وقد تقدم بيان كلامه عند قوله تعالى (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) في سورة الاسراء [٧] ، وقوله (وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) في سورة الشعراء [١٣٠] ، وقوله (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) في سورة الفرقان [٧٢] ، فإن تلك الآيات تطابق بيت الأحوص لاشتمالهن على (إذا).

و (كَما غَوَيْنا) صفة لمصدر ، أي إغواء يوقع في نفوسهم غيّا مثل الغي الذي في قلوبنا. ووجه الشبه في أنهم تلقوا الغواية من غيرهم فأفاد التشبيه أن المجيبين أغواهم مغوون قبلهم ، وهم يحسبون هذا الجواب يدفع التبعة عنهم ويتوهمون أن السير على قدم الغاوين يبرر الغواية ، وهذا كما حكى عنهم في سورة الشعراء [٩٦ ، ٩٩] : (قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ). وحذف مفعول فعل (أَغْوَيْنا) الأول وهو العائد من الصلة إلى الموصول لكثرة حذف أمثاله من كل عائد صلة هو ضمير نصب متصل وناصبه فعل أو وصف شبيه بالفعل ، لأن اسم الموصول مغن عن ذكره ودال عليه فكان حذف العائد اختصارا. وذكر مفعول فعل (أَغْوَيْناهُمْ) الثاني اهتماما بذكره لعدم الاستغناء عنه في الاستعمال.

وجملة (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ) استئناف. والتبرؤ : تفعل من البراءة وهي انتفاء ما يصم ، فالتبرؤ : معالجة إثبات البراءة وتحقيقها. وهو يتعدى إلى من يحاول إثبات البراءة لأجله بحرف (إلى) الدال على الانتهاء المجازي ؛ يقال : إني أبرأ إلى الله من كذا ، أي أوجه براءتي إلى الله ، كما يتعدى إلى الشيء الذي يصم بحرف (من) الاتصالية التي هي للابتداء المجازي قال تعالى (فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا) [الأحزاب : ٦٩]. وقد تدخل (من) على اسم ذات باعتبار مضاف مقدر نحو قوله تعالى (وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ) [الأنفال : ٤٨] أي من كفركم. والتقدير : من أعمالكم وشئونكم إما من أعمال خاصة يدل عليها المقام أو من عدة أعمال.

فالمعنى هنا تحقق التبرؤ لديك والمتبرأ منه هو مضمون جملة (ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) فهي بيان لإجمال التبرؤ.

والمقصود : أنهم يتبرءون من أن يكونوا هم المزعوم أنهم شركاء وإنما قصارى

٩٠

أمرهم أنهم مضلون وكان هذا المقصد إلجاء من الله إياهم ليعلنوا تنصلهم من ادعاء أنهم شركاء على رءوس الملأ ، أو حملهم على ذلك ما يشاهدون من فظاعة عذاب كل من ادعى المشركون له الإلهية باطلا لما سمعوا قوله تعالى (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٩٨]. هذا ما انطوت عليه هذه الآية من المعاني.

وتقديم (إِيَّانا) على (يَعْبُدُونَ) دون أن يقال يعبدوننا للاهتمام بهذا التبرؤ مع الرعاية على الفاصلة.

(وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤))

هذا موجه إلى جميع الذين نودوا بقوله (أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) [القصص : ٦٢] فإن ذلك النداء كان توبيخا لهم على اتخاذهم آلهة شركاء لله تعالى. فلما شعروا بالمقصد من ندائهم وتصدى كبراؤهم للاعتذار عن اتخاذهم أتبع ذلك بهذا القول.

وأسند فعل القول إلى المجهول لأن الفاعل معلوم مما تقدم ، أي وقال الله. والأمر مستعمل في الإطماع لتعقب الإطماع باليأس.

وإضافة الشركاء إلى ضمير المخاطبين لأنهم الذين ادعوا لهم الشركة كما في آية الأنعام [٩٤] (الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ). والدعاء دعاء الاستغاثة حسب زعمهم أنهم شفعاؤهم عند الله في الدنيا. وقوله (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) هو محل التأييس المقصود من الكلام.

وأما قوله تعالى (وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) فيحتمل معاني كثيرة فرضها المفسرون : وجماع أقوالهم فيها أخذا وردا أن نجمعها في أربعة وجوه :

أحدها : أن يكون عطفا على جملة (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ). والرؤية بصرية ، والعذاب عذاب الآخرة ، أي أحضر لهم آلة العذاب ليعلموا أن شركاءهم لا يغنون عنهم شيئا.

وعلى هذا تكون جملة (لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) مستأنفة ابتدائية مستقلة عن جملة (وَرَأَوُا الْعَذابَ).

الثاني : أن تكون الواو للحال والرؤية أيضا بصرية والعذاب عذاب الآخرة ، أي وقد رأوا العذاب فارتبكوا في الاهتداء إلى سبيل الخلاص فقيل لهم : ادعوا شركاءكم

٩١

لخلاصكم ، وتكون جملة (لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) كذلك مستأنفة ابتدائية.

الثالث : أن تكون الرؤية علمية ، وحذف المفعول الثاني اختصارا ، والعذاب عذاب الآخرة. والمعنى : وعلموا العذاب حائقا بهم ، والواو للعطف أو الحال. وجملة (لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) مستأنفة استئنافا بيانيا كأن سائلا سأل : ما ذا صنعوا حين تحققوا أنهم معذبون؟ فأجيب بأنهم لو أنهم كانوا يهتدون سبيلا لسلكوه ولكنهم لا سبيل لهم إلى النجاة.

وعلى هذه الوجوه الثلاثة تكون (لَوْ) حرف شرط وجوابها محذوفا دل عليه حذف مفعول (يَهْتَدُونَ) أي يهتدون خلاصا أو سبيلا. والتقدير : لتخلصوا منه. وعلى الوجوه الثلاثة ففعل (كانُوا) مزيد في الكلام لتوكيد خبر (أنّ) أي لو أنهم يهتدون اهتداء متمكنا من نفوسهم ، وفي ذلك إيماء أنهم حينئذ لا قرارة لنفوسهم. وصيغة المضارع في (يَهْتَدُونَ) دالة على التجدد فالاهتداء منقطع عنهم وهو كناية عن عدم الاهتداء من أصله.

الوجه الرابع : أن تكون (لَوْ) للتمني المستعمل في التحسر عليهم. والمراد اهتداؤهم في حياتهم الدنيا كيلا يقعوا في هذا العذاب ، وفعل (كانُوا) حينئذ في موقعه الدال على الاتصاف بالخبر في الماضي ، وصيغة المضارع في (يَهْتَدُونَ) لقصد تجدد الهدى المتحسر على فواته عنهم فإن الهدى لا ينفع صاحبه إلا إذا استمر إلى آخر حياته.

ووجه خامس عندي : أن يكون المراد بالعذاب عذاب الدنيا ، والكلام على حذف مضاف تقديره : ورأوا آثار العذاب. والرؤية بصرية ، أي وهم رأوا العذاب في حياتهم أي رأوا آثار عذاب الأمم الذين كذبوا الرسل وهذا في معنى قوله تعالى في سورة إبراهيم [٤٥ (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ) ؛ وجملة (لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) شرط جوابه محذوف دل عليه (لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) أي بالاتعاظ وبالاستدلال بحلول العذاب في الدنيا على أن وراءه عذابا أعظم منه لاهتدوا فأقلعوا عن الشرك وصدقوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهذا لأنه يفيد معنى زائدا على ما أفادته جملة (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ). فهذه عدة معان يفيدها لفظ الآية ، وكلها مقصودة ، فالآية من جوامع الكلم.

[٦٥ ـ ٦٦] (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (٦٦))

هو (يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) [القصص : ٦٢]. كرر

٩٢

الحديث عنه باعتبار تعدد ما يقع فيه لأن مقام الموعظة يقتضي الإطناب في تعداد ما يستحق به التوبيخ. وكررت جملة (يَوْمَ يُنادِيهِمْ) لأن التكرار من مقتضيات مقام الموعظة. وهذا توبيخ لهم على تكذيبهم الرسل بعد انقضاء توبيخهم على الإشراك بالله.

والمراد : ما ذا أجبتم المرسلين في الدعوة إلى توحيد الله وإبطال الشركاء. والمراد ب (الْمُرْسَلِينَ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما في قوله تعالى في سورة سبأ [٤٥] (فَكَذَّبُوا رُسُلِي). وله نظائر في القرآن منها قوله (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) يريد محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم في سورة يونس [١٠٣] وقوله (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) الآيات في سورة الشعراء [١٠٥] ، وإنما كذب كل فريق من أولئك رسولا واحدا. والذي اقتضى صيغة الجمع أن جميع المكذبين إنما كذبوا رسلهم بعلة استحالة رسالة البشر إلى البشر فهم إنما كذبوا بجنس المرسلين ، ولام الجنس إذا دخلت على (جميع) أبطلت منه معنى الجمعية.

والاستفهام ب (ما ذا) صوري مقصود منه إظهار بلبلتهم. و (ذا) بعد (ما) الاستفهامية تعامل معاملة الموصول ، أي ما الذي أجبتم المرسلين ، أي ما جوابكم. و (الْأَنْباءُ) : جمع نبأ ، وهو الخبر عن أمر مهم ، والمراد به هنا الجواب عن سؤال (ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) لأن ذلك الجواب إخبار عما وقع منهم مع رسلهم في الدنيا.

والمعنى : عميت الأنباء على جميع المسئولين فسكتوا كلهم ولم ينتدب زعماؤهم للجواب كفعلهم في تلقي السؤال السابق : (أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) [القصص: ٦٢].

ومعنى (فَعَمِيَتْ) خفيت عليهم وهو مأخوذ من عمى البصر لأنه يجعل صاحبه لا يتبين الأشياء ، فتصرفت من العمى معان كثيرة متشابهة يبينها تعدية الفعل كما عدي هنا بحرف (على) المناسب للخفاء. ويقال : عمي عليه الطريق. إذا لم يعرف ما يوصل منه ، قال عبد الله بن رواحة :

أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا

به موقنات أن ما قال واقع

والمعنى : خفيت عليهم الأنباء ولم يهتدوا إلى جواب وذلك من الحيرة والوهل فإنهم لما نودوا (أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) [القصص : ٦٢] انبرى رؤساؤهم فلفقوا جوابا عدلوا به عن جادة الاستفهام إلى إنكار أن يكونوا هم الذين سنوا لقومهم عبادة الأصنام ، فلما سئلوا عن جواب دعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عيوا عن الجواب فلم يجدوا مغالطة لأنهم لم

٩٣

يكونوا مسبوقين من سلفهم بتكذيب الرسول فإن الرسول بعث إليهم أنفسهم.

ولهذا تفرع على (عميت عليهم الأنباء) قوله (فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) أي لا يسأل بعضهم بعضا لاستخراج الآراء وذلك من شدة البهت والبغت على الجميع أنهم لا متنصل لهم من هذا السؤال فوجموا.

وإذ كان الاستفهام لتمهيد أنهم محقوقون بالعذاب علم من عجزهم عن الجواب عنه أنهم قد حق عليهم العذاب.

(فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧))

تخلل بين حال المشركين ذكر حال الفريق المقابل وهو فريق المؤمنين على طريقة الاعتراض لأن الأحوال تزداد تميزا بذكر أضدادها ، والفاء للتفريع على ما أفاده قوله (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ) [القصص : ٦٦] من أنهم حق عليهم العذاب.

ولما كانت (أما) تفيد التفصيل وهو التفكيك والفصل بين شيئين أو أشياء في حكم فهي مفيدة هنا أن غير المؤمنين خاسرون في الآخرة وذلك ما وقع الإيماء إليه بقوله (فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) [القصص : ٦٦] فإنه يكتفى بتفصيل أحد الشيئين عن ذكر مقابله ومنه قوله تعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ) [النساء : ١٧٥] أي وأما الذين كفروا بالله فيضد ذلك.

والتوبة هنا : الإقلاع عن الشرك والندم على تقلده. وعطف الإيمان عليها لأن المقصود حصول إقلاع عن عقائد الشرك وإحلال عقائد الإسلام محلها ولذلك عطف عليه (وَعَمِلَ صالِحاً) لأن بعض أهل الشرك كانوا شاعرين بفساد دينهم وكان يصدهم عن تقلد شعائر الإسلام أسباب مغرية من الأعراض الزائلة التي فتنوا بها.

و (عسى) ترج لتمثيل حالهم بحال من يرجى منه الفلاح. و (أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) أشد في إثبات الفلاح من : أن يفلح ، كما تقدم غير مرة.

(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨))

(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ).

٩٤

هذا من تمام الاعتراض وهي جملة (فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) [القصص: ٦٧] وظاهر عطفه على ما قبله أن معناه آيل إلى التفويض إلى حكمة الله تعالى في خلق قلوب منفتحة للاهتداء ولو بمراحل ، وقلوب غير منفتحة له فهي قاسية صماء ، وأنه الذي اختار فريقا على فريق. وفي «أسباب النزول» للواحدي «قال أهل التفسير نزلت جوابا للوليد بن المغيرة حين قال فيما أخبر الله عنه (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] اه. يعنون بذلك الوليد بن المغيرة من أهل مكة وعروة بن مسعود الثقفي من أهل الطائف. وهما المراد بالقريتين. وتبعه الزمخشري وابن عطية. فإذا كان كذلك كان اتصال معناها بقوله (ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) [القصص : ٦٥] ، فإن قولهم (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) هو من جملة ما أجابوا به دعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والمعنى : أن الله يخلق ما يشاء من خلقه من البشر وغيرهم ويختار من بين مخلوقاته لما يشاء مما يصلح له جنس ما منه الاختيار ، ومن ذلك اختياره للرسالة من يشاء إرساله ، وهذا في معنى قوله (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ) رسالاته [الأنعام : ١٢٤] ، وأن ليس ذلك لاختيار الناس ورغباتهم ؛ والوجهان لا يتزاحمان.

والمقصود من الكلام هو قوله (وَيَخْتارُ) فذكر (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) إيماء إلى أنه أعلم بمخلوقاته.

وتقديم المسند إليه على خبره الفعلي يفيد القصر في هذا المقام إن لوحظ سبب النزول أي ربك وحده لا أنتم تختارون من يرسل إليكم.

وجوز أن يكون (ما) من قوله (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) موصولة مفعولا لفعل (يَخْتارُ) وأن عائد الموصول مجرور ب (في) محذوفين. والتقدير : ويختار ما لهم فيه الخير ، أي يختار لهم من الرسل ما يعلم أنه صالح بهم لا ما يشتهونه من رجالهم.

وجملة (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) استئناف مؤكد لمعنى القصر لئلا يتوهم أن الجملة قبله مفيدة مجرد التقوي. وصيغة (ما كانَ) تدل على نفي للكون يفيد أشد مما يفيد لو قيل : ما لهم الخيرة ، كما تقدم في قوله تعالى (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) في سورة مريم [٦٤].

والابتداء بقوله (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) تمهيد للمقصود وهو قوله (وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) أي كما أن الخلق من خصائصه فكذلك الاختيار.

و (الْخِيَرَةُ) بكسر الخاء وفتح التحتية : اسم لمصدر الاختيار مثل الطيرة اسم لمصدر

٩٥

التطير. قال ابن الأثير : ولا نظير لهما. وفي «اللسان» ما يوهم أن نظيرهما : سبي طيبة ، إذا لم يكن فيه غدر ولا نقض عهد. ويحتمل أنه أراد التنظير في الزنة لا في المعنى ، لأنها زنة نادرة.

واللام في (لَهُمُ) للملك ، أي ما كانوا يملكون اختيارا في المخلوقات حتى يقولوا (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١]. ونفي الملك عنهم مقابل لقوله (ما يَشاءُ) لأن (ما يَشاءُ) يفيد معنى ملك الاختيار.

وفي ذكر الله تعالى بعنوان كونه ربا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إشارة إلى أنه اختاره لأنه ربه وخالقه فهو قد علم استعداده لقبول رسالته.

(سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ).

استئناف ابتدائي لإنشاء تنزيه الله وعلوه على طريقة الثناء عليه بتنزهه عن كل نقص وهي معترضة بين المتعاطفين. و (سُبْحانَ) مصدر نائب مناب فعله كما تقدم في قوله (قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا) في سورة البقرة [٣٢]. وأضيف (سُبْحانَ) إلى اسمه العلم دون أن يقال : وسبحانه ، بعد أن قال (وَرَبُّكَ يَعْلَمُ) [القصص : ٦٩] لأن اسم الجلالة مختص به تعالى وهو مستحق للتنزيه بذاته لأن استحقاق جميع المحامد مما تضمنه اسم الجلالة في أصل معناه قبل نقله إلى العلمية.

والمجرور يتنازعه كلا الفعلين. ووجه تقييد التنزيه والترفيع ب (ما يشركون) أنه لم يجترئ أحد أن يصف الله تعالى بما لا يليق به ويستحيل عليه إلا أهل الشرك بزعمهم أن ما نسبوه إلى الله إنما هو كمال مثل اتخاذ الولد أو هو مما أنبأهم الله به ، و (إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها) [الأعراف : ٢٨]. وزعموا أن الآلهة شفعاؤهم عند الله. وقالوا في التلبية : لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك. وأما ما عدا ذلك فهم معترفون بالكمال لله ، قال تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : ٢٥]. و (ما) مصدرية أي سبحانه وتعالى عن إشراكهم.

(وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٦٩))

عطف على (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ) [القصص : ٦٨] أي هو خالقهم ومركبهم على النظام الذي تصدر عنه الأفعال والاعتقادات فيكونون مستعدين لقبول الخير والشر وتغليب أحدهما على الآخر اعتقادا وعملا ، وهو يعلم ما تخفيه صدورهم ، أي نفوسهم

٩٦

وما يعلنونه من أقوالهم وأفعالهم. فضمير (صُدُورُهُمْ) عائد إلى (ما) من قوله (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) [القصص : ٦٨] باعتبار معناها ، أي ما تكنّ صدور المخلوقات وما يعلنون. وحيث أجريت عليهم ضمائر العقلاء فقد تعين أن المقصود البشر من المخلوقات وهم المقصود من العموم في (ما يَشاءُ) [القصص : ٦٨] فبحسب ما يعلم منهم يختارهم ويجازيهم فحصل بهذا إيماء إلى علة الاختيار وإلى الوعد والوعيد. وهذا منتهى الإيجاز.

وفي إحضار الجلالة بعنوان (وَرَبُّكَ) إيماء إلى أن مما تكنه صدورهم بغض محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم. وتقدم (ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) آخر النمل [٧٤].

(وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠))

عطف على جملة (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ) [القصص : ٦٨] الآية. والمقصود هو قوله (وَلَهُ الْحُكْمُ) وإنما قدم عليه ما هو دليل على أنه المنفرد بالحكم مع إدماج صفات عظمته الذاتية المقتضية افتقار الكل إليه.

ولذلك ابتدئت الجملة بضمير الغائب ليعود إلى المتحدث عنه بجميع ما تقدم من قوله (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) [القصص : ٥٨] إلى هنا ، أي الموصوف بتلك الصفات العظيمة والفاعل لتلك الأفعال الجليلة. والمذكور بعنوان (رَبُّكَ) [القصص : ٦٩] هو المسمى الله اسما جامعا لجميع معاني الكمال. فضمير الغيبة مبتدأ واسم الجلالة خبره ، أي فلا تلتبسوا فيه ولا تخطئوا بادعاء ما لا يليق باسمه. وقريب منه قوله (فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُ) [يونس : ٣٢].

وقوله (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) خبر ثان عن ضمير الجلالة ، وفي هذا الخبر الثاني زيادة تقرير لمدلول الخبر الأول فإن اسم الجلالة اختص بالدلالة على الإله الحق إلا أن المشركين حرفوا أو أثبتوا الإلهية للأصنام مع اعترافهم بأنها إلهية دون إلهية الله تعالى فكان من حق النظر أن يعلم أن لا إله إلا هو ، فكان هذا إبطالا للشرك بعد إبطاله بحكاية تلاشيه عن أهل ملته يوم القيامة بقوله (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) [القصص : ٦٤].

وأخبر عن اسم الجلالة خبرا ثانيا بقوله (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ) وهو استدلال على انتفاء إلهية غيره بحجة أن الناس مؤمنهم وكافرهم لا يحمدون في الدنيا إلا

٩٧

الله فلا تسمع أحدا من المشركين يقول : الحمد للعزى ، مثلا.

فاللام في (لَهُ) للملك ، أي لا يملك الحمد غيره ، وتقديم المجرور لإفادة الاختصاص وهو اختصاص حقيقي.

وتعريف (الْحَمْدُ) تعريف الجنس المفيد للاستغراق ، أي له كل حمد.

و (الْأُولى) هي الدنيا وتخصيص الحمد به في الدنيا اختصاص لجنس الحمد به لأن حمد غيره مجاز كما تقدم في أول الفاتحة.

وأما الحمد في الآخرة فهو ما في قوله (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) [الإسراء:٥٢]. واختصاص الجنس به في الآخرة حقيقة.

وقوله (وَلَهُ الْحُكْمُ) اللام فيه أيضا للملك. والتقديم للاختصاص أيضا. و (الْحُكْمُ) : القضاء وهو تعيين نفع أو ضر للغير. وحذف المتعلق بالحكم لدلالة قوله (فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ) عليه ، أي له الحكم في الدارين. والاختصاص مستعمل في حقيقته ومجازه لأن الحكم في الدنيا يثبت لغير الله على المجاز ، وأما الحكم في الآخرة فمقصور على الله. وفي هذا إبطال لتصرف آلهة المشركين فيما يزعمونه من تصرفاتها وإبطال لشفاعتها التي يزعمونها في قولهم (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] أي في الآخرة إن كان ما زعمتم من البعث.

وأما جملة (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فمسوقة مساق التخصيص بعد التعميم ، فبعد أن أثبت لله كل حمد وكل حكم ، أي أنكم ترجعون إليه في الآخرة فتمجدونه ويجري عليكم حكمه. والمقصود بهذا إلزامهم بإثبات البعث.

وتقديم المجرور في (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) للرعاية على الفاصلة وللاهتمام بالانتهاء إليه أي إلى حكمه.

[٧١ ـ ٧٢] (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢))

انتقال من الاستدلال على انفراده تعالى بالإلهية بصفات ذاته إلى الاستدلال على ذلك ببديع مصنوعاته ، وفي ضمن هذا الاستدلال إدماج الامتنان على الناس وللتعريض

٩٨

بكفر المشركين جلائل نعمه.

ومن أبدع الاستدلال أن اختير للاستدلال على وحدانية الله هذا الصنع العجيب المتكرر كل يوم مرتين ، والذي يستوي في إدراكه كل مميز ، والذي هو أجلى مظاهر التغير في هذا العالم فهو دليل الحدوث وهو مما يدخل في التكيف به جميع الموجودات في هذا العالم حتى الأصنام فهي تظلم وتسود أجسامها بظلام الليل وتشرق وتضيء بضياء النهار ، وكان الاستدلال بتعاقب الضياء والظلمة على الناس أقوى وأوضح من الاستدلال بتكوين أحدهما لو كان دائما ، لأن قدرة خالق الضدين وجاعل أحدهما ينسخ الآخر كل يوم أظهر منها لو لم يخلق إلا أقواهما وأنفعهما ، ولأن النعمة بتعاقبهما دوما أشد من الأنعام بأفضلهما وأنفعهما لأنه لو كان دائما لكان مسئوما ولحصلت منه طائفة من المنافع ، وفقدت منافع ضده. فالتنقل في النعم مرغوب فيه ولو كان تنقلا إلى ما هو دون. وسيق إليهم هذا الاستدلال بأسلوب تلقين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقوله لهم اهتماما بهذا التذكير لهذا الاستدلال ولاشتماله على ضدين متعاقبين ، حتى لو كانت عقولهم قاصرة عن إدراك دلالة أحد الضدين لكان في الضد الآخر تنبيه لهم ، ولو قصروا عن حكمة كل واحد منهما كان في تعاقبهما ما يكفي للاستدلال.

وجيء في الشرطين بحرف (إِنْ) لأن الشرط مفروض فرضا مخالفا للواقع. وعلم أنه قصد الاستدلال بعبرة خلق النور ، فلذلك فرض استمرار الليل ، والمقصود ما بعده وهو قوله (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ).

والسرمد : الدائم الذي لا ينقطع. قال في «الكشاف» : من السرد وهو المتابعة ومنه قولهم في الأشهر الحرم : ثلاثة سرد وواحد فرد. والميم مزيدة ووزنه فعمل ، ونظيره دلامص من الدلاص اه. دلامص (بضم الدال وكسر الميم) من صفات الدرع وأصلها دلاص (بدال مكسورة) أي براقة. ونسب إلى صاحب «القاموس» وبعض النحاة أن ميم سرمد أصلية وأن وزنه فعلل. والمراد بجعل الليل سرمدا أن لا يكون الله خلق الشمس ويكون خلق الأرض فكانت الأرض مظلمة.

والرؤية قلبية. والاستفهام في (أَرَأَيْتُمْ) تقريري ، والاستفهام في (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ) إنكاري وهم معترفون بهذا الانتفاء وأن خالق الليل والنهار هو الله تعالى لا غيره.

والمراد بالغاية في قوله (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) إحاطة أزمنة الدنيا وليس المراد انتهاء

٩٩

جعله سرمدا.

والإتيان بالضياء وبالليل مستعار للإيجاد ؛ شبه إيجاد الشيء الذي لم يكن موجودا بالإجاءة بشيء من مكان إلى مكان ، ووجه الشبه المثول والظهور.

والضياء : النور. وهو في هذا العالم من شعاع الشمس قال تعالى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً). وتقدم في سورة يونس [٥]. وعبر بالضياء دون النهار لأن ظلمة الليل قد تخف قليلا بنور القمر فكان ذكر الضياء إيماء إلى ذلك.

وفي تعدية فعل (يَأْتِيكُمْ) في الموضعين إلى ضمير المخاطبين إيماء إلى أن إيجاد الضياء وإيجاد الليل نعمة على الناس. وهذا إدماج للامتنان في أثناء الاستدلال على الانفراد بالإلهية. وإذ قد استمر المشركون على عبادة الأصنام بعد سطوع هذا الدليل وقد علموا أن الأصنام لا تقدر على إيجاد الضياء جعلوا كأنهم لا يسمعون هذه الآيات التي أقامت الحجة الواضحة على فساد معتقدهم ، ففرع على تلك الحجة الاستفهام الإنكاري عن انتفاء سماعهم بقوله (أَفَلا تَسْمَعُونَ) أي أفلا تسمعون الكلام المشتمل على التذكير بأن الله هو خالق الليل والضياء ومنه هذه الآية. وليس قوله (أَفَلا تَسْمَعُونَ) تذييلا.

وكرر الأمر بالقول في مقام التقرير لأن التقرير يناسبه التكرير مثل مقام التوبيخ ومقام التهويل.

وعكس الاستدلال الثاني بفرض أن يكون النهار وهو انتشار نور الشمس ، سرمدا بأن خلق الله الأرض غير كروية الشكل بحيث يكون شعاع الشمس منتشرا على جميع سطح الأرض دوما.

ووصف الليل ب (تَسْكُنُونَ فِيهِ) إدماج للمنة في أثناء الاستدلال للتذكير بالنعمة المشتملة على نعم كثيرة وتلك هي نعمة السكون فيه فإنها تشمل لذة الراحة ، ولذة الخلاص من الحر ، ولذة استعادة نشاط المجموع العصبي الذي به التفكير والعمل ، ولذة الأمن من العدوّ.

ولم يوصف الضياء بشيء لكثرة منافعه واختلاف أنواعها.

وتفرع على هذا الاستدلال أيضا تنزيلهم منزلة من لا يبصرون الأشياء الدالة على عظيم صنع الله وتفرده بصنعها وهي منهم بمرأى الأعين.

١٠٠