تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٠

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٠

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢١٤

ثم تكون جملة (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى) بالنسبة إلى الوجه الأول بمنزلة التفريع على جملة (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) ، أي رادّك إلى يوم المعاد فمظهر المهتدي والضالين ، فيكون علم الله بالمهتدي والضالّ مكنى به عن اتضاح الأمر بلا ريب لأن علم الله تعالى لا يعتريه تلبيس وتكون هذه الكناية تعريضا بالمشركين أنهم الضالون. وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو المهتدي.

ولهذه النكتة عبّر عن جانب المهتدي بفعل (مَنْ جاءَ) للإشارة إلى أن المهتدي هو الذي جاء بهدي لم يكن معروفا من قبل كما يقتضيه : جاء بكذا. وعبر عن جانب الضالين بالجملة الاسمية المقتضية ثبات الضلال المشعر بأن الضلال هو أمرهم القديم الراسخ فيهم مع ما أفاده حرف الظرفية من انغماسهم في الضلال وإحاطته بهم. ويكون المعنى حينئذ على حد قوله تعالى (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ : ٢٤] لظهور أن المبلغ لهذا الكلام لا يفرض في حقه أن يكون هو الشق الضال فيتعين أن الضال من خالفه.

وبالنسبة إلى الوجه الثاني تكون بمنزلة الموادعة والمتاركة وقطع المجادلة. فالمعنى : عدّ عن إثبات هداك وضلالهم وكلّهم إلى يوم ردك إلى معادك يوم يتبين أن الله نصرك وخذلهم. وعلى المعنيين فجملة (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ) مستأنفة استئنافا بيانيا عن جملة (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) جوابا لسؤال سائل يثيره أحد المعنيين.

وفي تقديم جملة (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) على جملة (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى) إعداد لصلاحية الجملة الثانية للمعنيين المذكورين. فهذا من الدلالة على معاني الكلام بمواقعه وترتيب نظامه وتقديم الجمل عن مواضع تأخيرها لتوفير المعاني.

[٨٦ ، ٨٧] (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧))

(وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ).

عطف على جملة : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) [القصص : ٨٥] إلخ باعتبار ما تضمنته من الوعد بالثواب الجزيل أو بالنصر المبين ، أي كما حملك تبليغ القرآن فكان

١٢١

ذلك علامة على أنه أعد لك الجزاء بالنصر في الدنيا والآخرة. كذلك إعطاؤه إياك الكتاب عن غير ترقب منك بل بمحض رحمة ربك ، أي هو كذلك في أنه علامة لك على أن الله لا يترك نصرك على أعدائك فإنه ما اختارك لذلك إلا لأنه أعد لك نصرا مبينا وثوابا جزيلا.

وهذا أيضا من دلالة الجملة على معنى غير مصرح به بل على معنى تعريضي بدلالة موقع الجملة.

وإلقاء الكتاب إليه وحيه به إليه. أطلق عليه اسم الإلقاء على وجه الاستعارة كما تقدم في قوله تعالى : (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) في سورة النحل [٨٦ ، ٨٧].

والاستثناء في (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) استثناء منقطع لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يخامر نفسه رجاء أن يبعثه الله بكتاب من عنده بل كان ذلك مجرد رحمة من الله تعالى به واصطفاء له.

(فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) تفريع على جملة (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) [القصص : ٨٥] وما عطف عليها وما تخلل بينهما مما اقتضى جميعه الوعد بنصره وظهور أمره وفوزه في الدنيا والآخرة ، وأنه جاء من الله إلى قوم هم في ضلال مبين ، وأن الذي رحمه فآتاه الكتاب على غير ترقب منه لا يجعل أمره سدى فأعقب ذلك بتحذيره من أدنى مظاهرة للمشركين فإن فعل الكون لما وقع في سياق النهي وكان سياق النهي مثل سياق النفي لأن النهي أخو النفي في سائر تصاريف الكلام كان وقوع فعل الكون في سياقه مفيدا تعميم النهي عن كل كون من أكوان المظاهرة للمشركين.

والظهير : المعين. والمظاهرة : المعاونة ، وهي مراتب أعلاها النصرة وأدناها المصانعة والتسامح ، لأن في المصانعة على المرغوب إعانة لراغبه. فلما شمل النهي جميع أكوان المظاهرة لهم اقتضى النهي عن مصانعتهم والتسامح معهم ، وهو يستلزم الأمر بضد المظاهرة فيكون كناية عن الأمر بالغلظة عليهم كصريح قوله تعالى (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) [التوبة : ٧٣]. وهذا المعنى يناسب كون هذه الآيات آخر ما نزل قبل الهجرة وبعد متاركته المشركين ومغادرته البلد الذي يعمرونه.

١٢٢

وقيل النهي للتهييج لإثارة غضب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم وتقوية داعي شدته معهم. ووجه تأويل النهي بصرفه عن ظاهره أو عن بعض ظاهره هو أن المنهي عنه لا يفرض وقوعه من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى ينهى عنه فكان ذلك قرينة على أنه مؤوّل.

وتوجيه النهي إليه عن أن يصدوه عن آيات الله في قوله (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ) كناية عن نهيه عن أن يتقبل منهم ما فيه صد عن آيات الله كما يقول العرب : لا أعرفنّك تفعل كذا ، كنوا به عن : أنه لا يفعله. فيعرف المتكلم الناهي فعله. والمقصود : تحذير المسلمين من الركون إلى الكافرين في شيء من شئون الإسلام فإن المشركين يحاولون صرف المسلمين عن سماع القرآن (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت : ٢٦].

وقيل هو للتهييج أيضا ، وتأويل هذا النهي آكد من تأويل قوله (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ).

ويجوز أن يكون النهي في (لا يَصُدُّنَّكَ) نهي صرفة كما كان الأمر في قوله (فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا) [البقرة : ٢٤٣] أمر تكوين. فالمعنى : أن الله قد ضمن لرسوله صرف المشركين عن أن يصدوه عن آيات الله وذلك إذ حال بينه وبينهم بأن أمره بالهجرة ويسّرها له وللمسلمين معه.

والتقييد بالبعدية في قوله (بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ) لتعليل النهي أياما كان المراد منه ، أي لا يجوز أن يصدّوك عن آيات الله بعد إذ أنزلها إليك فإنه ما أنزلها إليك إلا للأخذ بها ودوام تلاوتها ، فلو فرض أن يصدوك عنها لذهب إنزالها إليك بطلا وعبثا كقوله تعالى (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) [البقرة : ٢١٣].

والأمر في قوله (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) مستعمل في الأمر بالدوام على الدعوة إلى الله لا إلى إيجاد الدعوة لأن ذلك حاصل ، أي لا يصرفك إعراض المشركين عن إعادة دعوتهم إعذارا لهم.

ويجوز أن يكون الدعاء مستعملا في الأكمل من أنواعه ، أي أنك بعد الخروج من مكة أشد تمكنا في الدعوة إلى الله مما كنت من قبل لأن تشغيب المشركين عليه كان يرنّق صفاء تفرغه للدعوة.

وجميع هذه النواهي والأوامر داخلة في حيّز التفريع بالفاء في قوله (فَلا تَكُونَنَ

١٢٣

ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ).

أما قوله (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فإن حملت (مِنَ) فيه على معنى التبعيض كان النهي مؤوّلا يمثل ما أولو به النهيين اللذين قبله أنه للتهييج ، أو أن المقصود به المسلمون.

(وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨))

هذا النهي موجه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الظاهر ، والمقصود به إبطال الشرك وإظهار ضلال أهله إذ يزعمون أنهم معترفون بإلهية الله تعالى وأنهم إنما اتخذوا له شركاء وشفعاء ، فبين لهم أن الله لا إله غيره ، وأن انفراده بالإلهية في نفس الأمر يقضي ببطلان الإشراك في الاعتقاد ولو أضعف إشراك ، فجملة (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) في معنى العلة للنهي الذي في الجملة قبلها.

وجملة (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) علة ثانية للنهي لأن هلاك الأشياء التي منها الأصنام وكلّ ما عبد مع الله وأشرك به دليل على انتفاء الإلهية عنها لأن الإلهية تنافي الهلاك وهو العدم.

والوجه مستعمل في معنى الذات. والمعنى : كل موجود هالك إلا الله تعالى. والهلاك : الزوال والانعدام.

وجملة (لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) تذييل فلذلك كانت مفصولة عما قبلها. وتقديم المجرور باللام لإفادة الحصر ، والمحصور فيه هو الحكم الأتم ، أي الذي لا يرده راد.

والرجوع مستعمل في معنى : آخر الكون على وجه الاستعارة ، لأن حقيقته الانصراف إلى مكان قد فارقه فاستعمل في مصير الخلق وهو البعث بعد الموت ؛ شبه برجوع صاحب المنزل إلى منزله ، ووجه الشبه هو الاستقرار والخلود فهو مراد منه طول الإقامة.

وتقديم المجرور ب (إلى) للاهتمام بالخبر لأن المشركين نفوا الرجوع من أصله ولم يقولوا بالشركة في ذلك حتى يكون التقديم للتخصيص.

والمقصود من تعدد هذه الجملة إثبات أن الله منفرد بالإلهية في ذاته وهو مدلول جملة (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ). وذلك أيضا يدل على صفة القدم لأنه لما انتفى جنس الإلهية عن

١٢٤

غيره تعالى تعين أنه لم يوجده غيره فثبت له القدم الأزلي وأن الله تعالى باق لا يعتريه العدم لاستحالة عدم القديم ، وذلك مدلول (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) ، وأنه تعالى منفرد في أفعاله بالتصرف المطلق الذي لا يرده غيره فيتضمن ذلك إثبات الإرادة والقدرة. وفي كل هذا ردّ على المشركين الذين جوزوا شركته في الإلهية ، وأشركوا معه آلهتهم في التصرف بالشفاعة والغوث.

ثم أبطل إنكارهم البعث بقوله (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

١٢٥

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٢٩ ـ سورة العنكبوت

اشتهرت هذه السورة بسورة العنكبوت من عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رواه عكرمة قال : كان المشركون إذا سمعوا تسمية سورة البقرة وسورة العنكبوت يستهزءون بهما ، أي بهذه الإضافة فنزل قوله تعالى (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) [الحجر : ٩٥] يعني المستهزئين بهذا ومثله وقد تقدم الإلماع إلى ذلك عند قوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) في سورة البقرة [٢٦].

ووجه إطلاق هذا الاسم على هذه السورة أنها اختصت بذكر مثل العنكبوت في قوله تعالى فيها (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً) [العنكبوت : ٤١].

وهي مكية كلها في قول الجمهور ، ومدنية كلها في أحد قولي ابن عباس وقتادة ، وقيل بعضها مدني. روى الطبري والواحدي في «أسباب النزول» عن الشعبي أن الآيتين الأوليين منها (أي إلى قوله (وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) [العنكبوت : ٣] نزلتا بعد الهجرة في أناس من أهل مكة أسلموا فكتب إليهم أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المدينة أن لا يقبل منهم إسلام حتى يهاجروا إلى المدينة فخرجوا مهاجرين فاتبعهم المشركون فردّوهم.

وروى الطبري عن عكرمة عن ابن عباس أن قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) إلى قوله (وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) [العنكبوت : ١٠ ، ١١] نزلت في قوم بمكة وذكر قريبا مما روي عن الشعبي.

وفي «أسباب النزول» للواحدي عن مقاتل : نزلت الآيتان الأوليان في مهجع مولى عمر بن الخطاب خرج في جيش المسلمين إلى بدر فرماه عامر بن الحضرمي من المشركين بسهم فقتله فجزع عليه أبوه وامرأته فأنزل الله هاتين الآيتين. وعن علي بن أبي طالب أن

١٢٦

السورة كلها نزلت بين مكة والمدينة.

وقيل : إن آية (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) [العنكبوت : ١٠] نزلت في ناس من ضعفة المسلمين بمكة كانوا إذا مسّهم أذى من الكفار وافقوهم في باطن الأمر وأظهروا للمسلمين أنهم لم يزالوا على إسلامهم كما سيأتي عند تفسيرها.

وقال في «الإتقان» : ويضم إلى ما استثني من المكي فيها قوله تعالى (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) [العنكبوت : ٦٠] لما أخرجه ابن أبي حاتم أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر المؤمنين الذين كانوا بمكة بالمهاجرة إلى المدينة فقالوا كيف نقدم بلدا ليست لنا فيه معيشة فنزلت (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) [العنكبوت : ٦٠].

وقيل : هذه السورة آخر ما نزل بمكة وهو يناكد بظاهره جعلهم هذه السورة نازلة قبل سورة المطففين. وسورة المطففين آخر السور المكية. ويمكن الجمع بأن ابتداء نزول سورة العنكبوت قبل ابتداء نزول سورة المطففين ثم نزلت سورة المطففين كلها في المدة التي كانت تنزل فيها سورة العنكبوت ثم تم بعد ذلك جميع هذه السورة.

وهذه السورة هي السورة الخامسة والثمانون في ترتيب نزول سور القرآن نزلت بعد سورة الروم وقبل سورة المطففين ، وسيأتي عند ذكر سورة الروم ما يقتضي أن العنكبوت نزلت في أواخر سنة إحدى قبل الهجرة فتكون من أخريات السور المكية بحيث لم ينزل بعدها بمكة إلا سورة المطففين.

وآياتها تسع وستون باتفاق أصحاب العدد من أهل الأمصار.

أغراض هذه السورة

افتتاح هذه السورة بالحروف المقطعة يؤذن بأن من أغراضها تحدّي المشركين بالإتيان بمثل سورة منه كما بينا في سورة البقرة ، وجدال المشركين في أن القرآن نزل من عند الله هو الأصل فيما حدث بين المسلمين والمشركين من الأحداث المعبر عنها بالفتنة في قوله هنا (أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) [العنكبوت : ٢]. فتعين أن أول أغراض هذه السورة تثبيت المسلمين الذين فتنهم المشركون وصدّوهم عن الإسلام أو عن الهجرة مع من هاجروا.

ووعد الله بنصر المؤمنين وخذل أهل الشرك وأنصارهم وملقنيهم من أهل الكتاب.

١٢٧

والأمر بمجافاة المشركين والابتعاد منهم ولو كانوا أقرب القرابة.

ووجوب صبر المؤمنين على أذى المشركين وأن لهم في سعة الأرض ما ينجيهم من أذى أهل الشرك.

ومجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن ما عدا الظالمين منهم للمسلمين.

وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالثبات على إبلاغ القرآن وشرائع الإسلام.

والتأسي في ذلك بأحوال الأمم التي جاءتها الرسل ، وأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء بمثل ما جاءوا به.

وما تخلل أخبار من ذكر فيها من الرسل من العبر.

والاستدلال على أن القرآن منزل من عند الله بدليل أميّة من أنزل عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وتذكير المشركين بنعم الله عليهم ليقلعوا عن عبادة ما سواه.

وإلزامهم بإثبات وحدانيته بأنهم يعترفون بأنه خالق من في السموات ومن في الأرض.

والاستدلال على البعث بالنظر في بدء الخلق وهو أعجب من إعادته.

وإثبات الجزاء على الأعمال.

وتوعّد المشركين بالعذاب الذي يأتيهم بغتة وهم يتهكمون باستعجاله.

وضرب المثل لاتخاذ المشركين أولياء من دون الله بمثل وهي بيت العنكبوت.

(الم (١))

تقدم القول في معاني أمثالها مستوفى عند مفتتح سورة البقرة.

واعلم أن التهجي المقصود به التعجيز يأتي في كثير من سور القرآن وليس يلزم أن يقع ذكر القرآن أو الكتاب بعد تلك الحروف وإن كان ذلك هو الغالب في سور القرآن ما عدا ثلاث سور وهي فاتحة سورة مريم وفاتحة هذه السورة وفاتحة سورة الروم. على أن هذه السورة لم تخل من إشارة إلى التحدّي بإعجاز القرآن لقوله تعالى (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) [العنكبوت : ٥١].

١٢٨

(أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢))

الاستفهام في (أَحَسِبَ) مستعمل في الإنكار ، أي إنكار حسبان ذلك. وحسب بمعنى ظن ، وتقدم في قوله تعالى (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) في سورة البقرة [٢١٤]. والمراد بالناس كل الذين آمنوا ، فالقول كناية عن حصول المقول في نفس الأمر ، أي أحسب الناس وقوع تركهم لأن يقولوا آمنا ، فقوله (أَنْ يُتْرَكُوا) مفعول أول ل (حَسِبَ). وقوله (أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا) شبه جملة في محل المفعول الثاني وهو مجرور بلام جر محذوف مع (أن) حذفا مطردا ، والتقدير : أحسب الناس تركهم غير مفتونين لأجل قولهم : آمنا ، فإن أفعال الظن والعلم لا تتعدى إلى الذوات وإنما تتعدى إلى الأحوال والمعاني وكان حقها أن يكون مفعولها واحدا دالا على حالة ، ولكن جرى استعمال الكلام على أن يجعلوا لها اسم ذات مفعولا ، ثم يجعلوا ما يدل على حالة للذات مفعولا ثانيا. ولذلك قالوا : إن مفعولي أفعال القلوب (أي العلم ونحوه) أصلهما مبتدأ وخبر.

والترك : عدم تعهد الشيء بعد الاتصال به.

والترك هنا مستعمل في حقيقته لأن الذين آمنوا قد كانوا مخالطين للمشركين ومن زمرتهم ، فلما آمنوا اختصوا بأنفسهم وخالفوا أحوال قومهم وذلك مظنة أن يتركهم المشركون وشأنهم ، فلما أبى المشركون إلا منازعتهم طمعا في إقلاعهم عن الإيمان وقع ذلك منهم موقع المباغتة والتعجب ، وتقدم الترك المجازي في قوله تعالى (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) أوائل البقرة [١٧].

و (أَنْ يَقُولُوا) في موضع نصب على نزع الخافض الذي هو لام التعليل. والتقدير : لأجل أن يقولوا آمنا.

وجملة (وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) حال ، أي لا يحسبوا أنهم سالمون من الفتنة إذا آمنوا.

والفتن والفتون : فساد حال الناس بالعدوان والأذى في الأنفس والأموال والأهلين. والاسم : الفتنة ، وقد تقدم عند قوله تعالى (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) في سورة البقرة [١٠٢].

وبناء فعلي (يُتْرَكُوا) ... و (يُفْتَنُونَ) للمجهول للاستغناء عن ذكر الفاعل لظهور أن الفاعل قوم ليسوا بمؤمنين ، أي أن يتركوا خالين عن فتون الكافرين إياهم لما هو معروف من الأحداث قبيل نزولها ، ولما هو معلوم من دأب الناس أن يناصبوا العداء من خالفهم

١٢٩

في معتقداتهم ومن ترفع عن رذائلهم. والمعنى : أحسب الذين قالوا آمنا أن يتركهم أعداء الدين دون أن يفتنوهم. ومن فسروا الفتون هنا بما شمل التكاليف الشاقة مثل الهجرة والجهاد قد ابتعدوا عن مهيع المعنى واللفظ وناكدوا ما تفرع عنه من قوله (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) [العنكبوت : ٣].

وإنما لم نقدر فاعل (يُتْرَكُوا) و (يُفْتَنُونَ) أنه الله تعالى تحاشيا مع التشابه مع وجود مندوحة عنه.

وهذه الفتنة مراتب أعظمها التعذيب كما فعل ببلال ، وعمار بن ياسر وأبويه.

(وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣))

انتقال إلى التنويه بالفتون لأجل الإيمان بالله بأنه سنة الله في سالف أهل الإيمان وتأكيد الجملة بلام القسم وحرف التحقيق لتنزيل المؤمنين حين استعظموا ما نالهم من الفتنة من المشركين واستبطئوا النصر على الظالمين ، وذهولهم عن سنة الكون في تلك الحالة منزلة من ينكر أن من يخالف الدهماء في ضلالهم ويتجافى عن أخلاقهم ورذالتهم لا بدّ أن تلحقه منهم فتنة.

ولما كان هذا السنن من آثار ما طبع الله عليه عقول غالب البشر وتفكيرهم غير المعصوم بالدلائل وكان حاصلا في الأمم السالفة كلها أسند فتون تلك الأمم إلى الله تعالى إسنادا مجازيا لأنه خالق أسبابه كما خلق أسباب العصمة منه لمن كان أهلا للعصمة من مثله ، وفي هذا الإسناد إيماء إلى أن الذي خلق أسباب تلك الفتن قريبها وبعيدها قادر على صرفها بأسباب تضادها. وإلى هذا يشير دعاء موسى عليه‌السلام المحكي في سورة يونس [٨٨] (وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) فسأل الله أن يخلق ضد الأسباب التي غرّت فرعون وملأه وغشيت على قلبه بالضلال.

والمقصود التذكير بما لحق صالحي الأمم السالفة من الأذى والاضطهاد كما لقي صالحو النصارى من مشركي الرومان في عصور المسيحية الأولى ، وقد قص القرآن بعض ذلك في سورة البروج.

وحكمها سار في حال كل من يتمسك بالحق بين قوم يستخفون به من المسلمين لأن

١٣٠

نكران الحق أنواع كثيرة.

والواو الداخلة على جملة (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يجوز أن تكون عاطفة على جملة (أَحَسِبَ النَّاسُ) [العنكبوت : ٢] ، ويجوز كونها عاطفة على جملة (وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) [العنكبوت : ٢] فتكون بمعنى الحال ، أي والحال قد فتنا الذين من قبلهم ، وعلى كلا التقديرين فالجملة معترضة بين ما قبلها وما تفرّع عنه من قوله (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا). فلك أن تسمي تلك الواو اعتراضية. وإسناد فعل (فَتَنَّا) إلى الله تعالى لقصد تشريف هذه الفتون بأنه جرى على سنة الله في الأمم. فالفاء في قوله (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا) تفريع على جملة (وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) [العنكبوت : ٢] ، أي يفتنون فيعلم الله الذين صدقوا منهم والكاذبين. والمفرع هو علم الله الحاصل في المستقبل كما يقتضيه توكيد فعل العلم بنون التوكيد التي لا يؤكد بها المضارع إلا مستقبلا. وهو تعلق بالمعلوم شبيه بالتعلق التنجيزي لصفتي الإرادة والقدرة وإن لم يسموه بهذا الاسم.

والمراد بالصدق هنا ثبات الشيء ورسوخه ، وبالكذب ارتفاعه وتزلزله ؛ وذلك أن المؤمنين حين قالوا (آمَنَّا) [العنكبوت : ٢] لم يكن منهم من هو كاذب في إخباره عن نفسه بأنه اعتقد عقيدة الإيمان واتبع رسوله ، فإذا لحقهم الفتون من أجل دخولهم في دين الإسلام فمن لم يعبأ بذلك ولم يترك اتباع الرسول فقد تبين رسوخ إيمانه ورباطة عزمه فكان إيمانه حقا وصدقا ، ومن ترك الإيمان خوف الفتنة فقد استبان من حاله عدم رسوخ إيمانه وتزلزله ، وهذا كقول النابغة :

أولئك قوم بأسهم غير كاذب وقول الأعشى في ضده يصف راحلته :

جماليّة تغتلي بالرّدا

ف إذا كذب الآثمات الهجيرا

وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى : (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) في أول سورة يونس [٢].

ولما كان علم الله بمن يكون إيمانه صادقا عند الفتون ومن يكون إيمانه كاذبا بهذين المعنيين متقررا في الأزل من قبل أن يحصل الفتون والصدق والكذب تعين تأويل فعل (فَلَيَعْلَمَنَ) بمعنى : فليعلمن بكذب إيمانهم بهذا المعنى ، فهو من تعلق العلم بحصول أمر كان في علم الله أنه سيكون وهو شبيه بتعلق الإرادة المعبر عنه بالتعلق التنجيزي ولا مانع

١٣١

من إثبات تعلقين لعلم الله تعالى : أحدهما قديم ، والآخر تنجيزي حادث. ولا يفضي ذلك إلى اتصاف الله تعالى بوصف حادث لأن تعلق الصفة تحقق مقتضاها في الخارج لا في ذات موصوفها ، وتقدم عند قوله تعالى (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) في سورة البقرة [١٤٣] ، وقوله (وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) في آل عمران [١٤٠].

ولك أن تجعل العلم هنا مكنى به عن وعد الصادقين ووعيد الكاذبين لأن العلم سبب للجزاء بما يقتضيه فكانت الكناية مقصودة وهو المعنى الأهم.

وقد عدل في قوله (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ) عن طريق التكلم إلى طريق الغيبة بإظهار اسم الجلالة على أسلوب الالتفات لما في هذا الإظهار من الجلالة ليعلم أن الجزاء على ذلك جزاء مالك الملك.

وتعريف المتصفين بصدق الإيمان بالموصول والصلة الماضوية لإفادة أنهم اشتهروا بحدثان صدق الإيمان وأن صدقهم محقق.

وأما تعريف المتصفين بالكذب بطريق التعريف باللام وبصيغة اسم الفاعل فلإفادة أنهم عهدوا بهذا الوصف وتميزوا به مع ما في ذلك من التفنن والرعاية على الفاصلة.

روى الطبري عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال : نزلت هذه الآية (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا) إلى قوله (وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) [العنكبوت : ١ ـ ٣] في عمار بن ياسر إذ كان يعذّب في الله ، أي وأمثاله عياش بن أبي ربيعة ، والوليد بن الوليد ، وسلمة بن هشام ممن كانوا يعذبون بمكة وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو لهم الله بالنجاة لهم وللمستضعفين من المؤمنين.

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤))

أعقب تثبيت المؤمنين على ما يصيبهم من فتون المشركين وما في ذلك من الوعد والوعيد بزجر المشركين على ما يعملونه من السيئات في جانب المؤمنين وأعظم تلك السيئات فتونهم المسلمين. فالمراد بالذين يعملون السيئات الفاتنون للمؤمنين.

وهذا ووعيدهم بأن الله لا يفلتهم. وفي هذا أيضا زيادة تثبيت للمؤمنين بأن الله ينصرهم من أعدائهم.

ف (أَمْ) للإضراب الانتقالي ويقدر بعدها استفهام إنكاري.

و (السَّيِّئاتِ) : الأعمال السوء. وهي التنكيل والتعذيب وفتون المسلمين.

١٣٢

والسبق : مستعمل مجازا في النجاة والانفلات كقول مرة بن عدّاء الفقعسي :

كأنك لم تسبق من الدهر مرة

إذا أنت أدركت الذي كنت تطلب

وقوله تعالى (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ) [الواقعة : ٦٠ ، ٦١] وقوله (فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) [العنكبوت : ٣٩ ، ٤٠].

وقد تقدم عند قوله تعالى (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا) في سورة الأنفال [٥٩]. والمعنى : أم حسبوا أن قد شفوا غيظهم من المؤمنين ، فهم بذلك غلبوا أولياءنا فغلبونا.

وجملة (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) ذمّ لحسبانهم ذلك وإبطال له. فهي مقررة لمعنى الإنكار في جملة (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) فلها حكم التوكيد فلذلك فصلت.

وهذه الجملة تقتضي أن يكون هذا الحسبان واقعا منهم. ومعنى وقوعه : أنهم اعتقدوا ما يساوي هذا الحسبان لأنهم حين لم يستطع المؤمنون رد فتنتهم قد اغتروا بأنهم غلبوا المؤمنين ، وإذ قد كان المؤمنون يدعون إلى الله دون الأصنام فمن غلبهم فقد حسب أنه غلب من يدعون إليه وهم لا يشعرون بهذا الحسبان ، فافهمه.

والحكم مستعمل في معنى الظن والاعتقاد تهكما بهم بأنهم نصبوا أنفسهم منصب الذي يحكم فيطاع و (ما يَحْكُمُونَ) موصول وصلته ، أي ساء الحكم الذي يحكمونه.

وهذه الآية وإن كانت واردة في شأن المشركين المؤذين للمؤمنين فهي تشير إلى تحذير المسلمين من مشابهتهم في اقتراف السيئات استخفافا بوعيد الله عليها لأنهم في ذلك يأخذون بشيء من مشابهة حسبان الانفلات ، وإن كان المؤمن لا يظن ذلك ولكنه ينزل منزلة من يظنه لإعراضه عن الوعيد حين يقترف السيئة.

(مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥))

هذا مسوق للمؤمنين خاصة لأنهم الذين يرجون لقاء الله ، فالجملة مفيدة التصريح بما أومأ إليه قوله (أَنْ يَسْبِقُونا) [العنكبوت : ٤] من الوعد بنصر المؤمنين على عدوّهم مبينة لها ولذلك فصلت. ولو لا هذا الوقع لكان حق الإخبار بها أن يجيء بواسطة حرف العطف.

ورجاء لقاء الله : ظنّ وقوع الحضور لحساب الله.

و (لِقاءَ اللهِ) : الحشر للجزاء لأن الناس يتلقون خطاب الله المتعلق بهم ، لهم أو عليهم ، مباشرة بدون واسطة ، وقد تقدم في قوله (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) [البقرة :

١٣٣

٤٦] وقوله (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) في سورة البقرة [٢٢٣].

و (أَجَلَ اللهِ) يجوز أن يكون الوقت الذي عينه الله في علمه للبعث والحساب فيكون من الإظهار في مقام الإضمار ، ومقتضى الظاهر أن يقال : فإنه لآت فعدل إلى الإظهار كما في إضافة (أَجَلَ) إلى اسم الجلالة من الإيماء إلى أنه لا يخلف. والمقصود الاهتمام بالتحريض على الاستعداد. ويجوز أن يكون المراد ب (أَجَلَ اللهِ) الأجل الذي عيّنه الله لنصر المؤمنين وانتهاء فتنة المشركين إياهم باستئصال مساعير تلك الفتنة ، وهم صناديد قريش وذلك بما كان من النصر يوم بدر ثم ما عقبه إلى فتح مكة فيكون الكلام تثبيتا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين حين استبطأ المؤمنون النصر للخلاص من فتنة المشركين حتى يعبدوا الله لا يفتنوهم في عبادته. والمعنى عليه : إن كنتم مؤمنين بالبعث إيقانا ينبعث من تصديق وعد الله به فإن تصديقكم بمجيء النصر أجدر لأنه وعدكم به ، ف (مَنْ) شرطية ، وجعل فعل الشرط فعل الكون للدلالة على تمكن هذ الرجاء من فاعل فعل الشرط.

ولهذا كان قوله (فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ) جوابا لقوله (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ) باعتبار دلالته على الجواب المقدر ليلتئم الربط بين مدلول جملة الشرط ومدلول جملة الجزاء.

ولو لا ذلك لاختلّ الربط بين الشرط والجزاء إذ يفضي إلى معنى من لم يكن يرجو لقاء الله فإن أجل الله غير آت. وهذا لا يستقيم في مجاري الكلام فلزم تقدير شيء من باب دلالة الاقتضاء.

وتأكيد جملة الجزاء بحرف التوكيد على الوجه الأول للتحريض والحث على الاستعداد للقاء الله ، وعلى الوجه الثاني لقصد تحقيق النصر الموعود به تنزيلا لاستبطائه منزلة التردد لقصد إذكاء يقينهم بما وعد الله ولا يوهنهم طول المدة الذي يضخمه الانتظار. وبهذا يظهر وقع التذييل بوصفي (السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) دون غيرهما من الصفات العلى للإيماء بوصف (السَّمِيعُ) إلى أن الله تعالى سمع مقالة بعضهم من الدعاء بتعجيل النصر كما أشار إليه قوله تعالى (وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ) [البقرة : ٢١٤]. وكقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة اللهم أنج الوليد بن الوليد اللهم أنج سلمة بن هشام اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين ، اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف».

والإيماء بوصف (الْعَلِيمُ) إلى أن الله علم ما في نفوسهم من استعجال النصر ولو

١٣٤

كان المراد من (أَجَلَ اللهِ) الموت لما كان وجه للإعلام بإتيانه بله تأكيده ، وكذا لو كان المراد منه البعث لكان قوله (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ) كافيا ، فهذا وجه ما أشارت إليه الآيات بالمنطوق والاقتضاء ، والعدول بها عن هذا المهيع وإلى ما في «الكشاف» و «مفاتيح الغيب» أخذا من كلام أبي عبيدة تحويل لها عن مجراها وصرف كلمة الرجاء عن معناها وتفكيك لنظم الكلام عن أن يكون آخذا بعضه بحجز بعض.

وإظهار اسم الجلالة في جملة (فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ) مع كون مقتضى الظاهر الإضمار لتقدم اسم الجلالة في جملة الشرط (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ) لئلا يلتبس معاد الضمير بأن يعاد إلى (مَنْ) إذ المقصود الإعلام بأجل مخصوص وهو وقت النصر الموعود كما في قوله تعالى (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ) [سبأ : ٢٩ ، ٣٠].

وعبّر بفعل الرجاء عن ترقب البعث لأن الكلام مسوق للمؤمنين وهم ممن يرجو لقاء الله لأنهم يترقبون البعث لما يأملون من الخيرات فيه. قال بلال رضي‌الله‌عنه حين احتضاره متمثلا بقول بعض الأشعريين الذين وفدوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

غدا ألقى الأحبة

محمدا وصحبه

(وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦))

أي ومن جاهد ممن يرجون لقاء الله ، فليست الواو للتقسيم ، وليس (مَنْ جاهَدَ) بقسيم لمن كانوا يرجون لقاء الله بل الجهاد من عوارض من كانوا يرجون لقاء الله.

والجهاد : مبالغة في الجهد الذي هو مصدر جهد كمنع ، إذا جدّ في عمله وتكلّف فيه تعبا ، ولذلك شاع إطلاقه على القتال في نصر الإسلام. وهو هنا يجوز أن يكون الصبر على المشاق والأذى اللاحقة بالمسلمين لأجل دخولهم في الإسلام ونبذ دين الشرك حيث تصدى المشركون لأذاهم. فإطلاق الجهاد هنا هو مثل إطلاقه في قوله تعالى بعد هذا (وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي) [العنكبوت : ٨] ، ومثل إطلاقه في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد قفل من إحدى غزواته «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر».

وهذا المحل هو المتبادر في هذه السورة بناء على أنها كلها مكية لأنه لم يكن جهاد القتال في مكة.

١٣٥

ومعنى (فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) على هذا المحمل أن ما يلاقيه من المشاق لفائدة نفسه ليتأتى له الثبات على الإيمان الذي به ينجو من العذاب في الآخرة.

ويجوز أن يراد بالجهاد المعنى المنقول إليه في اصطلاح الشريعة وهو قتال الكفار لأجل نصر الإسلام والذبّ عن حوزته ، ويكون ذكره هنا لإعداد نفوس المسلمين لما سيلجئون إليه من قتال المشركين قبل أن يضطروا إليه فيكون كقوله تعالى (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) [الفتح : ١٦] ومناسبة التعرض له على هذا المحمل هو أن قوله (فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ) [العنكبوت : ٥] تضمن ترقبا لوعد نصرهم على عدوهم فقدم إليهم أن ذلك بعد جهاد شديد وهو ما وقع يوم بدر.

ومعنى (فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) على هذا المحمل هو معناه في المحمل الأول لأن ذلك الجهاد يدافع صدّ المشركين إياهم عن الإسلام ، فكان الدوام على الإسلام موقوفا عليه ، وزيادة معنى آخر وهو أن ذلك الجهاد وإن كان في ظاهر الأمر دفاعا عن دين الله فهو أيضا به نصرهم وسلامة حياة الأحياء منهم وأهلهم وأبنائهم وأساس سلطانهم في الأرض كما قال تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) [النور : ٥٥]. وقال علقمة بن شيبان التميمي :

ونقاتل الأعداء عن أبنائنا

وعلى بصائرنا وإن لم نبصر

والأوفق ببلاغة القرآن أن يكون المحملان مرادين كما قدمنا في المقدمة التاسعة من مقدمات هذا التفسير.

والقصر المستفاد من (إنما) هو قصر الجهاد على الكون لنفس المجاهد ، أي الصالح نفسه إذ العلة لا تتعلق بالنفس بل بأحوالها ، أي جهاد لفائدة نفسه لا لنفع ينجر إلى الله تعالى ، فالقصر الحاصل بأداة (إنما) قصر ادعائي للتنبيه إلى ما يغفلون عنه ـ حين يجاهدون الجهاد بمعنييه ـ من الفوائد المنجرة إلى أنفس المجاهدين ولذلك عقب الرد المستفاد من القصر بتعليله بأن الله غنيّ عن العالمين فلا يكون شيء من الجهاد نافعا لله تعالى ولكن نفعة للأمة.

فموقع حرف التأكيد هنا هو موقع فاء التفريع الذي نبّه عليه صاحب «دلائل الإعجاز» وتقدّم غير مرة.

١٣٦

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧))

يجوز أن يكون عطفا على جملة (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا) [العنكبوت : ٤] لما تضمنته الجملة المعطوف عليها من التهديد والوعيد ، فعطف عليها ما هو وعد وبشارة للذين آمنوا وعملوا الصالحات مع ما أفضى إلى ذكر هذا الوعد من قوله قبله (وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) [العنكبوت : ٦] فإن مضمون جملة (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الآية يفيد بيان كون جهاد من جاهد لنفسه.

ويجوز أن تكون عطفا على جملة (وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) [العنكبوت : ٦ وسلك بها طريق العطف باعتبار ما أومأ إليه الموصول وصلته من أن سبب هذا الجزاء الحسن هو أنهم آمنوا وعملوا الصالحات وهو على الوجه إظهار في مقام الإضمار لنكتة هذا الإيماء.

فالجزاء فضل لأن العبد إذا امتثل أمر الله فإنما دفع عن نفسه تبعة العصيان ؛ فأما الجزاء على طاعة مولاه فذلك فضل من المولى ، وغفران ما تقدم من سيئاتهم فضل عظيم لأنهم كانوا أحقاء بأن يؤاخذوا بما عملوه وبأن إقلاعهم عن ذلك في المستقبل لا يقتضي التجاوز عن الماضي لكنه زيادة في الفضل.

وانتصب (أَحْسَنَ) على أنه وصف لمصدر محذوف هو مفعول مطلق من فعل (لَنَجْزِيَنَّهُمْ). والتقدير : ولنجزينهم جزاء أحسن.

وإضافته إلى (الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) لإفادة عظم الجزاء كله فهو مقدّر بأحسن أعمالهم. وتقدير الكلام : لنجزينهم عن جميع صالحاتهم جزاء أحسن صالحاتهم. وشمل هذا من يكونون مشركين فيؤمنون ويعملون الصالحات بعد نزول هذه الآية.

[٨ ـ ٩] (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩))

لم يترك القرآن فاذّة من أحوال علائق المسلمين بالمشركين إلا بين واجبهم فيها المناسب لإيمانهم ، ومن أشد تلك العلائق علاقة النسب فالنسب بين المشرك والمؤمن

١٣٧

يستدعي الإحسان وطيب المعاشرة ولكن اختلاف الدين يستدعي المناواة والمغاضبة ولا سيما إذا كان المشركون متصلبين في شركهم ومشفقين من أن تأتي دعوة الإسلام على أساس دينهم فهم يلحقون الأذى بالمسلمين ليقلعوا عن متابعة الإسلام ، فبيّن الله بهذه الآية ما على المسلم في معاملة أنسبائه من المشركين. وخص بالذكر منها نسب الوالدين لأنه أقرب نسب فيكون ما هو دونه أولى بالحكم الذي يشرع له.

وحدثت قضية أو قضيتان دعتا إلى تفصيل هذا الحكم.

روي أن سعد بن أبي وقاص حين أسلم قالت له أمه حمنة بنت أبي سفيان يا سعد بلغني أنك صبأت ، فو الله لا يظلني سقف بيت ، وإن الطعام والشراب عليّ حرام حتى تكفر بمحمد ، وبقيت كذلك ثلاثة أيام فشكا سعد ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت هذه الآية فأمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يداريها ويترضاها بالإحسان.

وروي أنه لما أسلم عياش بن أبي ربيعة المخزومي وهاجر مع عمر بن الخطاب إلى المدينة قبل هجرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج أبو جهل وأخوه الحارث وكانا أخوي عياش لأمه فنزلا بعياش وقالا له : إن محمدا يأمر ببر الوالدين وقد تركت أمك وأقسمت أن لا تطعم ولا تشرب ولا تأوي بيتا حتى تراك وهي أشد حبّا لك منها لنا ، فاخرج معنا. فاستشار عمر فقال عمر : هما يخدعانك ، فلم يزالا به حتى عصى نصيحة عمر وخرج معهما. فلما انتهوا إلى البيداء قال أبو جهل : إن ناقتي كلت فاحملني معك. قال عياش : نعم ، ونزل ليوطئ لنفسه ولأبي جهل. فأخذاه وشداه وثاقا وذهبا به إلى أمه فقالت له : لا تزال بعذاب حتى ترجع عن دين محمد وأوثقته عندها ، فقيل : إن هذه الآية نزلت في شأنهما.

والمقصود من الآية هو قوله (وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي) إلى آخره ، وإنما افتتحت ب (وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) لأنه كالمقدمة للمقصود ليعلم أن الوصاية بالإحسان إلى الوالدين لا تقتضي طاعتهما في السوء ونحوه لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» (١). ولقصد تقرير حكم الإحسان للوالدين في كل حال إلا في حال الإشراك حتى لا يلتبس على المسلمين وجه الجمع بين الأمر بالإحسان للوالدين وبين الأمر بعصيانهما إذا أمرا بالشرك لإبطال قول أبي جهل : أليس من دين محمد البر بالوالدين ونحوه.

__________________

(١) رواه أحمد والحاكم بهذا اللفظ. ومعناه ثابت في «الصحيحين» بلفظ أطول.

١٣٨

وهذا من أساليب الجدل وهو الذي يسمى القول بالموجب وهو تسليم الدليل مع بقاء النزاع ، ومنه في القرآن قوله تعالى : (قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) [إبراهيم : ١٠ ، ١١] فعلم أنه لا تعارض بين الإحسان إلى الوالدين وبين إلغاء أمرهما بما لا يرجع إلى شأنهما.

والتوصية : كالإيصاء ، يقال : أوصى ووصّى ، وهي أمر بفعل شيء في مغيب الآمر به ففي الإيصاء معنى التحريض على المأمور به ، وتقدم في قوله تعالى (الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ) [البقرة : ١٨٠] وقوله (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ) في البقرة [١٣٢].

وفعل الوصاية يتعدى إلى الموصى عليه بالباء ، تقول : أوصى بأبنائه إلى فلان ، على معنى أوصى بشئونهم ، ويتعدى إلى الفعل المأمور به بالباء أيضا وهو الأصل مثل (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ) [البقرة : ١٣٢]. فإذا جمع بين الموصى عليه والموصى به تقول : أوصى به خيرا وأصله : أوصى به بخير له فكان أصل التركيب بدل اشتمال. وغلب حذف الباء من البدل اكتفاء بوجودها في المبدل منه فكذلك قوله تعالى هنا (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) تقديره : وصينا الإنسان بوالديه بحسن ، بنزع الخافض.

والحسن : اسم مصدر ، أي بإحسان. والجملة (وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي) عطف على جملة (وَصَّيْنَا) وهو بتقدير قول محذوف لأن المعطوف عليه فيه معنى القول.

والمجاهدة : الإفراط في بذل الجهد في العمل ، أي ألحّا لأجل أن تشرك بي.

والمراد بالعلم في قوله : (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) العلم الحق المستند إلى دليل العقل أو الشرع ، أي أن تشرك بي أشياء لا تجد في نفسك دليلا على استحقاقها العبادة كقوله تعالى (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [هود : ٤٦] ، أي علم بإمكان حصوله. وفي «الكشاف» : أن نفي العلم كناية عن نفي المعلوم ، كأنه قال : أن تشرك بي شيئا لا يصح أن يكون إلها ، أي لا يصح أن يكون معلوما يعني أنه من باب قولهم : هذا ليس بشيء كما صرح به في تفسير سورة لقمان [٣٠] كقوله تعالى (ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ)(١).

وجملة : (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) مستأنفة استئنافا بيانيا لزيادة تحقيق ما أشارت إليه مقدمة

__________________

(١) في المطبوعة (من شيء).

١٣٩

الآية من قوله (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) ، لأن بقية الآية لما آذنت بفظاعة أمر الشرك وحذرت من طاعة المرء والديه فيه كان ذلك مما يثير سؤالا في نفوس الأبناء أنهم هل يعاملون الوالدين بالإساءة لأجل إشراكهما فأنبئوا أن عقابهما على الشرك مفوض إلى الله تعالى فهو الذي يجازي المحسنين والمسيئين.

والمرجع : البعث. والإنباء : الإخبار ، وهو مستعمل كناية عن علمه تعالى بما يعملونه من ظاهر الأعمال وخفيّها ، أي ما يخفونه عن المسلمين وما يكنونه في قلوبهم ، وذلك أيضا كناية عن الجزاء عليه من خير أو شر ، ففي قوله (فَأُنَبِّئُكُمْ) كنايتان : أولاهما إيماء ، وثانيتهما تلويح ، أي فأجازيكم ثوابا على عصيانهما فيما يأمران ، وأجازيهما عذابا على إشراكهما.

فجملة (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) تصريح ببعض ما أفادته الكناية التي في قوله (فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ، اهتماما بجانب جزاء المؤمنين. وقد أشير إلى شرف هذا الجزاء بأنه جزاء الصالحين الكاملين كقوله (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ) النبيئين (وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ) [النساء : ٦٩] ؛ ألا ترى إلى قول سليمان (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) [النمل : ١٩].

ومن لطيف مناسبة هذا الظرف في هذا المقام أن المؤمن لما أمر بعصيان والديه إذا أمراه بالشرك كان ذلك مما يثير بينه وبين أبويه جفاء وتفرقة فجعل الله جزاء عن وحشة تلك التفرقة أنسا بجعله في عداد الصالحين يأنس بهم.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠))

هذا فريق من الذين أسلموا بمكة كان حالهم في علاقاتهم مع المشركين حال من لا يصبر على الأذى فإذا لحقهم أذى رجعوا إلى الشرك بقلوبهم وكتموا ذلك عن المسلمين فكانوا منافقين فأنزل الله فيهم هذه الآية قبل الهجرة ، قاله الضحاك وجابر بن زيد. وقد تقدم في آخر سورة النحل أن من هؤلاء الحارث بن ربيعة بن الأسود ، وأبا قيس بن الوليد ابن المغيرة ، وعلي بن أمية بن خلف ، والعاصي بن منبه بن الحجاج. فهؤلاء استنزلهم الشيطان فعادوا إلى الكفر بقلوبهم لضعف إيمانهم وكان ما لحقهم من الأذى سببا

١٤٠