تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٠

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٠

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢١٤

تستلزمه تلك من متاركة المشركين والكف عن مجادلتهم بعد قوله تعالى (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) [العنكبوت : ٤٣] كما تقدم آنفا. وقد كانت هذه توطئة لما سيحدث من الدعوة في المدينة بعد هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأن مجادلة أهل الكتاب لا تعرض للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا للمؤمنين في مكة ، ولكن لما كان النبي عليه الصلاة والسلام في إبان نزول أواخر هذه السورة على وشك الهجرة إلى المدينة وكانت الآيات السابقة مجادلة للمشركين غليظة عليهم من تمثيل حالهم بحال العنكبوت ، وقوله (وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) هيأ الله لرسوله عليه الصلاة والسلام طريقة مجادلة أهل الكتاب. فهذه الآية معترضة بين محاجّة المشركين والعود إليها في قوله تعالى (وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) [العنكبوت : ٤٧] الآيات.

وجيء في النهي بصيغة الجمع ليعمّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين إذ قد تعرض للمسلمين مجادلات مع أهل الكتاب في غير حضرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو قبل قدومه المدينة.

والمجادلة : مفاعلة من الجدل ، وهو إقامة الدليل على رأي اختلف فيه صاحبه مع غيره ، وقد تقدم في قوله تعالى : (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) في سورة النساء [١٠٧]. وبهذا يعلم أن لا علاقة لهذه الآية بحكم قتال أهل الكتاب حتى ينتقل من ذلك إلى أنها هل نسخت أم بقي حكمها لأن ذلك خروج بها عن مهيعها. والمجادلة تعرض في أوقات السلم وأوقات القتال.

و (أَهْلَ الْكِتابِ) : اليهود والنصارى في اصطلاح القرآن. والمقصود هنا اليهود فهم الذين كانوا كثيرين في المدينة والقرى حولها. ويشمل النصارى إن عرضت مجادلتهم مثل ما عرض مع نصارى نجران.

و (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) مستثنى من محذوف دل عليه المستثنى ، تقديره : لا تجادلوهم بجدال إلا بجدال بالتي هي أحسن. و (أَحْسَنُ) اسم تفضيل يجوز ان يكون على بابه فيقدر المفضّل عليه مما دلت عليه القرينة ، أي بأحسن من مجادلتكم المشركين ، أو بأحسن من مجادلتهم إياكم كما تدل عليه صيغة المفاعلة. ويجوز كون اسم التفضيل مسلوب المفاضلة لقصد المبالغة في الحسن ، أي إلا بالمجادلة الحسنى كقوله تعالى (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) في آخر سورة النحل [١٢٥]. فالله جعل الخيار للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مجادلة المشركين بين أن يجادلهم بالحسنى كما اقتضته آية سورة النحل ، وبين أن يجادلهم بالشدة كقوله : يا أيها النبي (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) [التوبة : ٧٣] ، فإن الإغلاظ

١٨١

شامل لجميع المعاملات ومنها المجادلات ولا يختص بخصوص الجهاد فإن الجهاد كله إغلاظ فلا يكون عطف الإغلاظ على الجهاد إلّا إغلاظا غير الجهاد.

ووجه الوصاية بالحسنى في مجادلة أهل الكتاب أن أهل الكتاب مؤمنون بالله غير مشركين به فهم متأهّلون لقبول الحجة غير مظنون بهم المكابرة ولأن آداب دينهم وكتابهم أكسبتهم معرفة طريق المجادلة فينبغي الاقتصار في مجادلتهم على بيان الحجة دون إغلاظ حذرا من تنفيرهم ، بخلاف المشركين فقد ظهر من تصلبهم وصلفهم وجلافتهم ما أيأس من إقناعهم بالحجة النظرية وعيّن أن يعاملوا بالغلظة وأن يبالغ في تهجين دينهم وتفظيع طريقتهم لأن ذلك أقرب نجوعا لهم.

وهكذا ينبغي أن يكون الحال في ابتداء مجادلة أهل الكتاب ، وبقدر ما يسمح به رجاء الاهتداء من طريق اللين ، فإن هم قابلوا الحسنى بضدها انتقل الحكم إلى الاستثناء الذي في قوله : (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ). و (الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) هم الذين كابروا وأظهروا العداء للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمسلمين وأبوا أن يتلقوا الدعوة فهؤلاء ظلموا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين حسدا وبغضا على أن جاء الإسلام بنسخ شريعتهم ، وجعلوا يكيدون للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ونشأ منهم المنافقون وكل هذا ظلم واعتداء.

وقد كان اليهود قبل هجرة المسلمين إلى المدينة مسالمين الإسلام وكانوا يقولون : إن محمدا رسول الأميين كما قال ابن صياد لما قال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتشهد أني رسول الله؟ فقال : أشهد أنك رسول الأميين». فلما جاء المدينة دعاهم في أول يوم قدم فيه وهو اليوم الذي أسلم فيه عبد الله بن سلام فأخذوا من يومئذ يتنكرون للإسلام.

وعطف (وَقُولُوا آمَنَّا) إلى آخر الآية تعليم لمقدمة المجادلة (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).

وهذا مما يسمى تحرير محل النزاع وتقريب شقة الخلاف وذلك تأصيل طرق الإلزام في المناظرة وهو أن يقال قد اتفقنا على كذا وكذا فلنحتجّ على ما عدا ذلك ، فإن ما أمروا بقوله هنا مما اتفق عليه الفريقان فينبغي أن يكون هو السبيل إلى الوفاق وليس هو بداخل في حيّز المجادلة لأن المجادلة تقع في موضع الاختلاف ولأن ما أمروا بقوله هنا هو إخبار عمّا يعتقده المسلمون وإنما تكون المجادلة فيما يعتقده أهل الكتاب مما يخالف عقائد المسلمين مثل قوله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) إلى قوله : (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). [آل عمران : ٦٥ ـ ٦٧]. ولأجل أن مضمون هذه الآية لا يدخل في حيّز المجادلة عطفت على ما قبلها ولو كانت مما

١٨٢

شملته المجادلة لكان ذلك مقتضيا فصلها لأنها مثل بدل الاشتمال.

ومعنى (بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا) القرآن. والتعبير عنه بهذه الصلة للتنبيه على خطأ أهل الكتاب إذ جحدوا أن ينزل الله كتابا على غير أنبيائهم ، ولذلك عقب بقوله : (وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ). وقوله : (وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) عطف صلة اسم موصول محذوف دل عليه ما قبله. والتقدير : والذي أنزل إليكم ، أي الكتاب وهو «التوراة» بقرينة قوله (إِلَيْكُمْ). والمعنى: إننا نؤمن بكتابكم فلا ينبغي أن تنحرفوا عنا وهذا كقوله تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ) [المائدة : ٥٩] ، وكذلك قوله : (وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ) تذكير بأن المؤمنين واليهود يؤمنون بإله واحد. فهذان أصلان يختلف فيهما كثير من أهل الأديان.

وقوله : (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) مراد به كلا الفريقين ، فريق المتكلمين وفريق المخاطبين. فيشمل المسلمين وأهل الكتاب فيكون المراد بوصف (مُسْلِمُونَ) أحد إطلاقيه وهو إسلام الوجه إلى الله ، أي عدم الإشراك به ، أي وكلانا مسلمون لله تعالى لا نشرك معه غيره. وتقديم المجرور على عامله في قوله : (لَهُ مُسْلِمُونَ) لإفادة الاختصاص تعريضا بالمشركين الذين لم يفردوا الله بالإلهية.

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (٤٧))

هذا عود إلى مجادلة المشركين في إثبات أن القرآن منزل من الله على رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فالمعنى : ومثل ذلك التنزيل البديع أنزلنا إليك الكتاب ، فهو بديع في فصاحته ، وشرف معانيه ، وعذوبة تراكيبه ، وارتفاعه على كل كلام من كلام البلغاء ، وفي تنجيمه ، وغير ذلك. وقد تقدم بيان مثل هذه الإشارة عند قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) في سورة البقرة [١٤٣].

وقد تفرع على بداعة تنزيله الإخبار بأن الذين علمهم الله الكتاب يؤمنون به أي يصدقون أنه من عند الله لأنهم أدرى بأساليب الكتب المنزّلة على الرسل والأنبياء وأعلم بسمات الرسل وشمائلهم. وإنما قال : (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) دون أن يقول : فأهل الكتاب ، لأن في (آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) تذكيرا لهم بأنهم أمناء عليه كما قال تعالى : (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ) [المائدة : ٤٤].

١٨٣

وجيء بصيغة المضارع للدلالة على أنه سيقع في المستقبل أو للدلالة على تجدد إيمان هذا الفريق به ، أي إيمان من آمن منهم مستمرّ يزداد عدد المؤمنين يوما فيوما.

والإشارة ب (هؤُلاءِ) إلى أهل مكة بتنزيلهم منزلة الحاضرين عند نزول الآية لأنهم حاضرون في الذهن بكثرة ممارسة أحوالهم وجدالهم. وهكذا اصطلاح القرآن حيث يذكر (هؤُلاءِ) بدون سبق ما يصلح للإشارة إليه ، وهذا قد ألهمني الله إليه ، وتقدم عند قوله تعالى : (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ) في سورة الأنعام [٨٩]. والمعنى : ومن مشركي أهل مكة من يؤمن به ، أي بأن القرآن منزل من الله ، وهؤلاء هم الذين أسلموا والذين يسلمون من بعد ، ومنهم من يؤمن به في باطنه ولا يظهر ذلك عنادا وكبرا مثل الوليد بن المغيرة.

وقد أشار قوله تعالى : (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ) إلى أن من هؤلاء الذين يؤمنون بالقرآن من أهل الكتاب وأهل مكة من يكتم إيمانه جحودا منهم لأجل تصلبهم في الكفر. فالتعريف في (الْكافِرُونَ) للدلالة على معنى الكمال في الوصف المعرّف ، أي إلا المتوغلون في الكفر الراسخون فيه ، ليظهر وجه الاختلاف بين (ما يَجْحَدُ) وبين (الْكافِرُونَ) إذ لو لا الدلالة على معنى الكمال لصار معنى الكلام : وما يجحد إلا الجاحدون.

وعبر عن (الْكِتابَ) ب (الآيات) لأنه آيات دالة على أنه من عند الله بسبب إعجازه وتحدّيه وعجز المعاندين عن الإتيان بسورة مثله. وهذا يتوجه ابتداء إلى المشركين لأن جحودهم واقع ، وفيه تهيئة لتوجهه إلى من عسى أن يجحد به من أهل الكتاب من دون أن يواجههم بأنهم كافرون لأنه لم يعرف منهم ذلك الآن فإن فعلوه فقد أوجبوا ذلك على أنفسهم.

(وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨))

هذا استدلال بصفة الأمية المعروف بها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودلالتها على أنه موحى إليه من الله أعظم دلالة وقد ورد الاستدلال بها في القرآن في مواضع كقوله : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) [الشورى : ٥٢] وقوله : (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ). [يونس : ١٦].

ومعنى : (ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ) أنك لم تكن تقرأ كتابا حتى يقول أحد :

١٨٤

هذا القرآن الذي جاء به هو مما كان يتلوه من قبل.

و (لا تَخُطُّهُ) أي لا تكتب كتابا ولو كنت لا تتلوه ، فالمقصود نفي حالتي التعلم ، وهما التعلم بالقراءة والتعلّم بالكتابة استقصاء في تحقيق وصف الأمية فإن الذي يحفظ كتابا ولا يعرف يكتب لا يعدّ أميا كالعلماء العمي ، والذي يستطيع أن يكتب ما يلقى إليه ولا يحفظ علما لا يعدّ أميا مثل النسّاخ فبانتفاء التلاوة والخط تحقق وصف الأمية.

و (إِذاً) جواب وجزاء لشرط مقدّر ب (لو) لأنه مفروض دل عليه قوله : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا وَلا تَخُطُّهُ). والتقدير : لو كنت تتلو قبله كتابا أو تخطه لارتاب المبطلون. ومجيء جواب (إِذاً) مقترنا باللام التي يغلب اقتران جواب (لو) بها دليل على أن المقدر شرط ب (لو) كما في قول قريظ العنبري :

لو كنت من مازن لم تستبح إبلي

بنو اللقيطة من ذهل ابن شيبانا

إذن لقام بنصري معشر خشن

عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا

قال المرزوقي في «شرح الحماسة» : (إذن) هو أنه أخرج البيت الثاني مخرج جواب قائل قال له : ولو استباحوا إبلك ما ذا كان يفعل بنو مازن؟ فقال :

إذن لقام بنصري معشر خشن

ويجوز أن يكون أيضا : إذن لقام ، جواب (لو) كأنه أجيب بجوابين. وهذا كما تقول : لو كنت حرا لاستقبحت ما يفعله العبيد إذن لاستحسنت ما يفعله الأحرار اه. يعني يجوز أن تكون جملة : إذن لقام ، بدلا من جملة : لم تستبح. وقد تقدم الكلام على نظيره في قوله تعالى : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ) في سورة المؤمنين [٩١]. والارتياب : حصول الريب في النفس وهو الشك.

ووجه التلازم بين التلاوة والكتابة المتقدمين على نزول القرآن ، وبين حصول الشك في نفوس المشركين أنه لو كان ذلك واقعا لاحتمل عندهم أن يكون القرآن من جنس ما كان يتلوه من قبل من كتب سالفة وأن يكون مما خطّه من قبل من كلام تلقّاه فقام اليوم بنشره ويدعو به. وإنما جعل ذلك موجب ريب دون أن يكون موجب جزم بالتكذيب لأن نظم القرآن وبلاغته وما احتوى عليه من المعاني يبطل أن يكون من نوع ما سبق من الكتب والقصص والخطب والشعر ، ولكن ذلك لما كان مستدعيا تأملا لم يمنع من خطور خاطر الارتياب على الإجمال قبل إتمام النظر والتأمل بحيث يكون دوام الارتياب بهتانا ومكابرة.

١٨٥

وتقييد (تَخُطُّهُ) بقيد (بِيَمِينِكَ) للتأكيد لأن الخط لا يكون إلّا باليمين فهو كقوله : (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨].

ووصف المكذبين بالمبطلين منظور فيه لحالهم في الواقع لأنهم كذبوا مع انتفاء شبهة الكذب فكان تكذيبهم الآن باطلا ، فهم مبطلون متوغلون في الباطل ، فالقول في وصفهم بالمبطلين كالقول في وصفهم بالكافرين.

(بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (٤٩))

(بَلْ) إبطال لما اقتضاه الفرض من قوله : (إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) [العنكبوت : ٤٨] ، أي بل القرآن لا ريب يتطرقه في أنه من عند الله ، فهو كله آيات دالة على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه من عند الله لما اشتمل عليه من الإعجاز في لفظه ومعناه ولما أيّد ذلك الإعجاز من كون الآتي به أمّيّا لم يكن يتلو من قبله كتابا ولا يخطّ ، أي بل القرآن آيات ليست مما كان يتلى قبل نزوله بل هو آيات في صدر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فالمراد من : (صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) صدر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبّر عنه بالجمع تعظيما له.

و (الْعِلْمَ) الذي أوتيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو النبوءة كقوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً) [النمل : ١٥]. ومعنى الآية أن كونه في صدر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو شأن كل ما ينزل من القرآن حين نزوله ، فإذا أنزل فإنه يجوز أن يخطّه الكاتبون ، وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اتخذ كتّابا للوحي فكانوا ربما كتبوا الآية في حين نزولها كما دل عليه حديث زيد بن ثابت في قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) [النساء : ٩٥] وكذلك يكون بعد نزوله متلوّا ، فالمنفي هو أن يكون متلوا قبل نزوله. هذا الذي يقتضيه سياق الإضراب عن أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتلو كتابا قبل هذا القرآن بحيث يظن أن ما جاء به من القرآن مما كان يتلوه من قبل فلما انتفى ذلك ناسب أن يكشف عن حال تلقي القرآن ، فذلك هو موقع قوله : (فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) كما قال : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ) [الشعراء : ١٩٣ ، ١٩٤] وقال : (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) [الفرقان : ٣٢].

وأما الإخبار بأنه آيات بيّنات فذلك تمهيد للغرض وإكمال لمقتضاه ، ولهذا فالوجه أن يكون الجار والمجرور في قوله : (فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) خبرا ثانيا عن

١٨٦

الضمير. ويلتئم التقدير هكذا : وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك بل هو ألقي في صدرك وهو آيات بيّنات. ويجوز أن يكون المراد ب (صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) صدور أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحفّاظ المسلمين ، وهذا يقتضي أن يكون قوله : (فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) تتميما للثناء على القرآن وأن الغرض هو الإخبار عن القرآن بأنه آيات بيّنات فيكون المجرور صفة ل (آياتٌ) والإبطال مقتصر على قوله : (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ).

وجملة (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ) تذييل يؤذن بأن المشركين جحدوا آيات القرآن على ما هي عليه من وضوح الدلالة على أنها من عند الله لأنهم ظالمون لا إنصاف لهم وشأن الظالمين جحد الحق ، يحملهم على جحده هوى نفوسهم للظلم ، كما قال تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) [النمل : ١٤] فهم متوغلون في الظلم كما تقدم في وصفهم بالكافرين والمبطلين.

(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠))

لما ذكر الجاحدين لآية القرآن ثلاث مرات ووصفهم بالكافرين والمبطلين والظالمين انتقل الكلام إلى مقالتهم الناشئة عن جحودهم ، وذلك طلبهم أن يأتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بآيات مرئية خارقة للعادة تدل على أن الله خلقها تصديقا للرسول كما خلق ناقة صالح وعصا موسى ، وهذا من جلافتهم أن لا يتأثروا إلا للأمور المشاهدة وهم يحسبون أن الرسول عليه الصلاة والسلام ينتصب للمعاندة معهم فهم يقترحون عليه ما يرغبونه ليجعلوا ما يسألونه من الخوارق حديث النوادي حتى يكون محضر الرسول عليه الصلاة والسلام فيهم كمحضر المشعوذين وأصحاب الخنقطرات. وقد قدمت بيان هذا الوهم عند قوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ) آيات من ربه في سورة الأنعام [٣٧].

ومعنى (عِنْدَ اللهِ) أنها من عمل القدرة الذي يجري على وفق إرادته تعالى فلكونها منوطة بإرادته شبهت بالشيء المحفوظ عند مالكه.

وأفادت (إِنَّمَا) قصر النبي عليه الصلاة والسّلام على صفة النذارة ، أي الرسالة لا يتجاوزها إلى خلق الآيات أو اقتراحها على ربّه ، فهو قصر إفراد ردّا على زعمهم أن من حق الموصوف بالرسالة أن يأتي بالخوارق المشاهدة.

١٨٧

والمعنى : أنه لا يسلّم أن التبليغ يحتاج إلى الإتيان بالخوارق على حسب رغبة الناس واقتراحهم حتى يكونوا معذورين في عدم تصديق الرسول إذا لم يأتهم بآية حسب اقتراحهم. وخصّ بالذكر من أحوال الرسالة وصف النذير تعريضا بالمشركين بأن حالهم يقتضي الإنذار وهو توقع الشر.

والمبين : الموضح للإنذار بالدلائل العقلية الدالة على صدق ما يخبر به.

وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم وأبو جعفر ويعقوب : (آياتٌ). وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف : آية. والجمع والإفراد في هذا سواء لأن القصد إلى الجنس ، فالآية الواحدة كافية في التصديق.

(أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١))

عطف على جملة : (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) [العنكبوت : ٥٠] وهو ارتقاء في المجادلة.

والاستفهام تعجيبي إنكاري. والمعنى : وهل لا يكفيهم من الآيات آيات القرآن فإن كل مقدار من مقادير إعجازه آية على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن آيات القرآن زهاء ستة آلاف آية. ومقدار كل ثلاث آيات مقدار معجز ، فيحصل من القرآن مقدار ألفي معجزة وذلك لم يحصل لأحد من رسل الله.

و (الْكِتابَ) : القرآن ، وعدل عن لفظ القرآن الذي هو كالعلم عليه إلى لفظ الكتاب المعهود لإيمائه إلى معنى تعظيمه بأنه المشتهر من بين كتب الأنبياء.

وجملة : (يُتْلى عَلَيْهِمْ) مستأنفة أو حال ، لأن الكتاب معلوم غير محتاج للوصف لما تشعر به مادة التلاوة من الانتشار والشيوع. واختير المضارع دون الوصف بأن يقال : متلوا عليهم ، لما يؤذن به المضارع من الاستمرار ، فحصل من مادة (يُتْلى) ومن صيغة المضارع دلالة على عموم الأمكنة والأزمنة. وقد أشار قوله : (يُتْلى عَلَيْهِمْ) وما بعده إلى خمس مزايا للقرآن على غيره من المعجزات.

المزية الأولى : ما أشار إليه قوله (يُتْلى عَلَيْهِمْ) من انتشار إعجازه وعمومه في المجامع والآفاق والأزمان المختلفة بحيث لا يختص بإدراك إعجازه فريق خاص في زمن

١٨٨

خاص شأن المعجزات المشهودة مثل عصا موسى وناقة صالح وبرء الأكمة ، فهو يتلى ، ومن ضمن تلاوته الآيات التي تحدّت الناس بمعارضته وسجلت عليهم عجزهم عن المعارضة من قبل محاولتهم إياها فكان كما قال فهو معجزة باقية والمعجزات الأخرى معجزات زائلة.

المزية الثانية : كونه مما يتلى ، فإن ذلك أرفع من كون المعجزات الأخرى أحوالا مرئية لأن إدراك المتلوّ إدراك عقلي فكري وهو أعلى من المدركات الحسية فكانت معجزة القرآن أليق بما يستقبل من عصور العلم التي تهيأت إليها الإنسانية.

المزية الثالثة : ما أشار إليه قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً) فإنها واردة مورد التعليل للتعجيب من عدم اكتفائهم بالكتاب وفي التعليل تتميم لما اقتضاه التعبير بالكتاب وب (يُتْلى عَلَيْهِمْ) ، فالإشارة ب (ذلِكَ) إلى (الْكِتابَ) ليستحضر بصفاته كلها وللتنويه به بما تقتضيه الإشارة من التعظيم. وتنكير (رحمة) للتعظيم ، أي لا يقادر قدرها. فالكتاب المتلو مشتمل على ما هو رحمة لهم اشتمال الظرف على المظروف لأنه يشتمل على إقامة الشريعة وهي رحمة وصلاح للناس في دنياهم ، فالقرآن مع كونه معجزة دالّة على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومرشدة إلى تصديقه مثل غيره من المعجزات وهو أيضا وسيلة علم وتشريع وآداب للمتلو عليهم وبذلك فضل غيره من المعجزات التي لا تفيد إلا تصديق الرسول الآتي بها.

المزية الرابعة : ما أشار إليه قوله : (وَذِكْرى) فإن القرآن مشتمل على مواعظ ونذر وتعريف بعواقب الأعمال ، وإعداد إلى الحياة الثانية ، ونحو ذلك مما هو تذكير بما في تذكره خير الدارين ، وبذلك فضل غيره من المعجزات الصامتة التي لا تفيد أزيد من كون الآتية على يديه صادقا.

المزية الخامسة : أن كون القرآن كتابا متلوا مستطاعا إدراك خصائصه لكل عربي ، ولكل من حذق العربية من غير العرب مثل أئمة العربية ، يبعده عن مشابهة نفثات السحرة والطلاسم ، فلا يستطيع طاعن أن يزعم أنه تخيلات كما قال قوم فرعون لموسى : (يا أَيُّهَا السَّاحِرُ) [الزخرف : ٤٩] وقال تعالى حكاية عن المشركين حين رأوا معجزة انشقاق القمر : (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) [القمر : ٢] ، فأشار قوله : (يُعْرِضُوا) إلى أن ذلك القول صدر عنهم في معجزة مرئية.

وعلق بالرحمة والذكرى قوله : (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) للإشارة إلى أن تلك منافع من القرآن

١٨٩

زائدة على ما في المعجزات الأخرى من المنفعة التي هي منفعة الإيمان بما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فهذه مزايا عظيمة لمعجزة القرآن حاصلة في حضرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيبته ومستقلة عن الحاجة إلى بيانه وتكميله بالدعوة وبتكريرها.

واستحضار المؤمنين بعنوان : (قوم يؤمنون) دون أن يقال : للمؤمنين ، لما في لفظ قوم من الإيماء إلى أن الإيمان من مقومات قوميتهم ، أي لقوم شعارهم أن يؤمنوا ، يعني لقوم شعارهم النظر والإنصاف فإذا قامت لهم دلائل الإيمان آمنوا ولم يكابروا ظلما وعلوّا ، فالفعل مراد به الحال القريبة من الاستقبال. وفيه تعريض بالذين لم يكتفوا بمعجزته واقترحوا آيات أخرى لا نسبة بينه وبينها.

(قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢))

(قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

بعد أن ألقمهم حجر الحجّة الدامغة أمر بأن يجعل الله حكما بينه وبينهم لما استمر تكذيبهم بعد الدلائل القاطعة. وهذا من الكلام المنصف المقصود منه استدراج المخاطب.

و (كَفى بِاللهِ) بمعنى هو كاف لي في إظهار الحق ، والباء مزيدة للتوكيد وقد تقدم نظيره في قوله : (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) في سورة النساء [٧٩].

والشهيد : الشاهد ، ولما ضمن معنى الحاكم عدّي بظرف (بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ). قال الحارث بن حلزة في عمرو بن هند الملك :

وهو الرّب والشهيد على يو

م الحيارين والبلاء بلاء

وجملة : (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) مقررة لمعنى الاكتفاء به شهيدا فهي تتنزل منها منزلة التوكيد.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ).

بعد أن أنصفهم بقوله : (كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً) استمر في الانتصاف بما لا يستطيعون إنكاره وهو أن الذين اعتقدوا الباطل وكفروا بالله هم الخاسرون في الحكومة والقضية الموكولة إلى الله تعالى ؛ فهم إن تأملوا في إيمانهم بالله حقّ التأمّل وجدوا أنفسهم غير مؤمنين بإلهيته لأنهم أشركوا معه ما ليس حقيقا بالإلهية فعلموا أنهم كفروا بالله فتعين

١٩٠

أنهم آمنوا بالباطل فالكلام موجه كقوله : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ : ٢٤] ، وقول حسان في أبي سفيان بن حرب أيام جاهليته :

أتهجوه ولست له بكفء

فشركما لخيركما الفداء

وفي الجمع بين (آمَنُوا) و (كَفَرُوا) محسّن المضادة وهو الطّباق.

والباطل : ضد الحق ، أي ما ليس بحقيق أن يؤمن به ، أي ما ليس بإله حق ولكنهم يدّعون له الإلهية وذلك إيمانهم بإلهية الأصنام. وأما كفرهم بالله فلأنهم أشركوا معه في الإلهية فكفروا بأعظم صفاته وهي الوحدانية. واسم الإشارة يفيد التنبيه على أن المشار إليهم أحرياء بالحكم الوارد بعد اسم الإشارة لأجل الأوصاف التي ذكرت لهم قبل اسم الإشارة مثل : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥].

والقصر المستفاد من تعريف جزأي جملة (هُمُ الْخاسِرُونَ) قصر ادعائيّ للمبالغة في اتصافهم بالخسران العظيم بحيث إن كل خسران في جانب خسرانهم كالعدم ؛ فكأنهم انفردوا بالخسران فأطلق عليهم المركب المفيد قصر الخسران عليهم وذلك لأنهم حقت عليهم الشقاوة العظمى الأبدية. واستعير الخسران لانعكاس المأمول من العمل المكدّ تشبيها بحال من كد في التجارة لينال مالا فأفنى رأس ماله ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) [البقرة : ١٦]. [٥٣ ـ ٥٥]

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥))

عطف على جملة : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ) [العنكبوت : ٥٠] استقصاء في الرد على شبهاتهم وإبطالا لتعلّات إعراضهم الناشئ عن المكابرة ، وهم يخيلون أنهم إنما أعرضوا لعدم اقتناعهم بآية صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومناسبة وقوعه هذا أنه لما ذكر كفرهم بالله وكان النبي عليه الصلاة والسلام ينذرهم على ذلك بالعذاب وكانوا يستعجلونه به ذكر توركهم عليه عقب ذكر الكفر. واستعجال العذاب : طلب تعجيله وهو العذاب الذي توعدوا به. وقصدهم من ذلك الاستخفاف بالوعيد. وتقدم الكلام على تركيب : (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) في قوله تعالى : (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ) في سورة [يونس : ١١] ، وقوله : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ

١٩١

قَبْلَ الْحَسَنَةِ) في سورة [الرعد : ٦]. والتعريف في (العذاب) تعريف الجنس. وحكي استعجالهم العذاب بصيغة المضارع لاستحضار حال استعجالهم لإفادة التعجيب منها كما في قوله تعالى : (يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ) [هود : ٧٤].

وقد أبطل ما قصدوه بقوله : (وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ) وذلك أن حلول العذاب ليس بيد الرسول عليه الصلاة والسلام ، ولا جاريا على طلبهم واستبطائهم فإن الله هو المقدر لوقت حلوله بهم في أجل قدره بعلمه.

والمسمّى أريد به المعيّن المحدود أي في علم الله تعالى. وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) في سورة الحج [٥].

والمعنى : لو لا الأجل المعين لحلول العذاب بهم لجاءهم العذاب عاجلا لأن كفرهم يستحق تعجيل عقابهم ولكن أراد الله تأخيره لحكم علمها ، منها إمهالهم ليؤمن منهم من آمن بعد الوعيد ، وليعلموا أن الله لا يستفزه استعجالهم العذاب لأنه حكيم لا يخالف ما قدره بحكمته ، حليم يمهل عباده. فالمعنى : لو لا أجل مسمى لجاءهم العذاب في وقت طلبهم تعجيله ، ثم أنذرهم بأنه آتيهم بغتة وأن إتيانه محقق لما دل عليه لام القسم ونون التوكيد وذلك عند حلول الأجل المقدّر له. وقد حل بهم عذاب يوم بدر بغتة كما قال تعالى: (وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ) [الأنفال : ٤٢] فاستأصل صناديدهم يومئذ وسقط في أيديهم.

وإذ قد كان الله أعد لهم عذابا أعظم من عذاب يوم بدر وهو عذاب جهنم الذي يعم جميعهم أعقب إنذارهم بعذاب يوم بدر بإنذارهم بالعذاب الأعظم. وأعيد لأجله ذكر استعجالهم بالعذاب معترضا بين المتعاطفين إيماء إلى أن ذلك جواب استعجالهم فإنهم استعجلوا العذاب فأنذروا بعذابين ، أحدهما أعجل من الآخر. وفي إعادة : (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) تهديد وإنذار بأخذهم ، فجملة : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ) معطوفة على جملة : (وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً) فهما عذابان كما هو مقتضى ظاهر العطف.

والإحاطة كناية عن عدم إفلاتهم منها.

والمراد (بِالْكافِرِينَ) المستعجلون ، واستحضروا بوصف الكافرين للدلالة على أنه موجب إحاطة العذاب بهم. واستعمل اسم الفاعل في الإحاطة المستقبلة مع أن شأن اسم الفاعل أن يفيد الاتصاف في زمن الحال ، تنزيلا للمستقبل منزلة زمان الحال تنبيها على تحقيق وقوعه لصدوره عمن لا خلاف في إخباره.

١٩٢

ويتعلق : (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ) ب (محيطة) ، أي تحيط بهم يوم يغشاهم العذاب. وفي قوله : (يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) تصوير للإحاطة. والغشيان : التغطية والحجب.

وقوله : (مِنْ فَوْقِهِمْ) بيان للغشيان لتصويره تفظيعا لحاله كقوله : (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨] وتأكيدا لمعنى الغشيان لرفع احتمال المجاز ، فهو في موضع الحال من (الْعَذابُ) وهي حال مؤكدة.

وقوله : (وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) احتراس عما قد يوهمه الغشيان من الفوقية خاصة ، أي تصيبهم نار من تحتهم تتوهج إليهم وهم فوقها ، ولما كان معطوفا على الحال بالواو وكان غير صالح لأن يكون قيدا ل (يَغْشاهُمُ) لأن الغشيان هو التغطية فتقتضي العلو تعين تقدير فعل يتعلق به (مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) ، وهو أن يقدر عامل محذوف. وقد عدّ هذا العمل من خصائص الواو في العطف أن تعطف عاملا محذوفا دل عليه معموله ـ كقول عبد الله بن الزبعرى :

يا ليت زوجك قد غدا

متقلدا سيفا ورمحا

يريد : وممسكا رمحا لأن الرمح لا يتقلد ـ يصلح أن يكون مفعولا معه وأبو عبيدة والأصمعي والجرمي واليزيدي ، ومن وافقهم يجعلون هذا من قبيل تضمين الفعل معنى فعل صالح للتعلق بالمذكور فيقدر في هذه الآية تضمين فعل (يَغْشاهُمُ) معنى (يصيبهم) و (يأخذهم). والمقصود من هذا الكناية عن أن العذاب محيط بهم ، فلذلك لم يذكر الجانبان الأيمن والأيسر لأن الغرض من الكناية قد حصل. والمقام مقام إيجاز لأنه مقام غضب وتهديد بخلاف قوله تعالى : (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) [الأعراف : ١٧] لأنه حكاية لإلحاح الشيطان في الوسوسة.

وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي : (وَيَقُولُ) بالياء التحتية والضمير عائد إلى معلوم من المقام. فالتقدير : ويقول الله. وعدل عن ضمير التكلم على خلاف مقتضى الظاهر على طريقة الالتفات على رأي كثير من أئمة البلاغة ، أو يقدر : ويقول الملك الموكل بجهنم ، أو التقدير : ويقول العذاب ، بأن يجعل الله للنار أصواتا كأنها قول القائل : (ذُوقُوا). وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب بالنون وهي نون العظمة.

ومعنى : (ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) جزاؤه لأن الجزاء لما كان بقدر المجزي أطلق عليه

١٩٣

اسمه مجازا مرسلا أو مجازا بالحذف.

(يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦))

استئناف ابتدائي وقع اعتراضا بين الجملتين المتعاطفتين : جملة : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) [العنكبوت : ٥٢] ، وجملة : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً) [العنكبوت : ٥٨] الآية. وهذا أمر بالهجرة من دار الكفر. ومناسبته لما قبله أن الله لما ذكر عناد المشركين في تصديق القرآن وذكر إيمان أهل الكتاب به آذن المؤمنين من أهل مكة أن يخرجوا من دار المكذبين إلى دار الذين يصدقون بالقرآن وهم أهل المدينة فإنهم يومئذ ما بين مسلمين وبين يهود فيكون المؤمنون في جوارهم آمنين من الفتن يعبدون ربهم غير مفتونين. وقد كان فريق من أهل مكة مستضعفين قد آمنوا بقلوبهم ولم يستطيعوا إظهار إيمانهم خوفا من المشركين مثل الحارث بن ربيعة بن الأسود كما تقدم عند قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) في أول هذه السورة [العنكبوت : ١٠] ، وكان لهم العذر حين كانوا لا يجدون ملجأ سالما من أهل الشرك ، وكان فريق من المسلمين استطاعوا الهجرة إلى الحبشة من قبل ، فلما أسلم أهل المدينة زال عذر المؤمنين المستضعفين إذ أصبح في استطاعتهم أن يهاجروا إلى المدينة فلذلك قال الله تعالى : (إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ). فقوله : (إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ) كلام مستعمل مجازا مركبا في التذكير بأن في الأرض بلادا يستطيع المسلم أن يقطنها آمنا ، فهو كقول إياس بن قبيصة الطائي :

ألم تر أن الأرض رحب فسيحة

فهل تعجزني بقعة من بقاعها

ألا تراه كيف فرع على كونها رحبا قوله : فهل تعجزني بقعة. وكذلك في الآية فرع على كونها واسعة الأمر بعبادة الله وحده للخروج مما كان يفتن به المستضعفون من المؤمنين إذ يكرهون على عبادة الأصنام كما تقدم في قوله تعالى : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) [النحل : ١٠٦].

فالمعنى : أن أرضي التي تأمنون فيها من أهل الشرك واسعة ، وهي المدينة والقرى المجاورة لها مثل خيبر والنضير وقريظة وقينقاع ، وما صارت كلها مأمنا إلا بعد أن أسلم أهل المدينة لأن تلك القرى أحلاف لأهل المدينة من الأوس والخزرج.

وأشعر قوله : (فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) أن علة الأمر لهم بالهجرة هي تمكينهم من إظهار

١٩٤

التوحيد وإقامة الدين. وهذا هو المعيار في وجوب الهجرة من البلد الذي يفتن فيه المسلم في دينه وتجري عليه فيه أحكام غير إسلامية. والنداء بعنوان التعريف بالإضافة لتشريف المضاف. ومصطلح القرآن أن (عباد) إذا أضيف إلى ضمير الجلالة فالمراد بهم المؤمنون غالبا إلا إذا قامت قرينة كقوله : (أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ) [الفرقان : ١٧] ، وعليه فالوصف ب (الَّذِينَ آمَنُوا) لما في الموصول من الدلالة على أنهم آمنوا بالله حقا ولكنهم فتنوا إلى حد الإكراه على إظهار الكفر.

والفاء في قوله : (فَإِيَّايَ) فاء التفريع والفاء في قوله : (فَاعْبُدُونِ) إما مؤكدة للفاء الأولى للدلالة على تحقيق التفريع في الفعل وفي معموله ، أي فلا تعبدوا غيري فاعبدون ؛ وإما مؤذنة بمحذوف هو ناصب ضمير المتكلم تأكيدا للعبادة. والتقدير : وإياي اعبدوا فاعبدون ، وهو أنسب بدلالة التقديم على الاختصاص لأنه لما أفاد الأمر بتخصيصه بالعبادة كان ذكر الفاء علامة تقدير على تقدير فعل محذوف قصد من تقديره التأكيد ، وقد تقدم في قوله تعالى : (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) في أوائل سورة البقرة [٤٠].

وحذفت ياء المتكلم بعد نون الوقاية تخفيفا ، وللرعاية على الفاصلة. ونظائره كثيرة.

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧))

اعتراض ثان بين الجملتين المتعاطفتين قصد منها تأكيد الوعيد الذي تضمنته جملة : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ) [العنكبوت : ٥٢] إلى آخرها ، والوعد الذي تضمنته جملة : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً) [العنكبوت : ٥٨] أي الموت مدرك جميع الأنفس ثم يرجعون إلى الله. وقصد منها أيضا تهوين ما يلاقيه المؤمنون من الأذى في الله ولو بلغ إلى الموت بالنسبة لما يترقبهم من فضل الله وثوابه الخالد ، وفيه إيذان بأنهم يترقبهم جهاد في سبيل الله.

وقرأ الجمهور (تُرْجَعُونَ) بتاء الخطاب على أنه خطاب للمؤمنين في قوله : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) [العنكبوت : ٥٦]. وقرأه أبو بكر عن عاصم بياء الغيبة تبعا لقوله: (يَغْشاهُمُ الْعَذابُ) [العنكبوت : ٥٥].

[٥٨ ـ ٥٩] (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩))

١٩٥

عطف على جملة : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ) [العنكبوت : ٥٢].

وجيء بالموصول للإيماء إلى وجه بناء الخبر ، أي نبوّئنهم غرفا لأجل إيمانهم وعملهم الصالح.

والتبوئة : الإنزال والإسكان ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) في سورة يونس [٩٣]. وقرأ الجمهور : (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) بموحدة بعد نون العظمة وهمزة بعد الواو. وقرأ حمزة والكسائي وخلف : لنثوينهم بمثلثة بعد النون وتحتية بعد الواو من أثواه بهمزة التعدية إذا جعله ثاويا ، أي مقيما في مكان.

والغرف : جمع غرفة ، وهو البيت المعتلى على غيره. وتقدم عند قوله تعالى : (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ) في آخر سورة الفرقان [٧٥].

وجملة : (نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) إلخ ... إنشاء ثناء وتعجيب على الأجر الذي أعطوه ، فلذلك قطعت عن العطف. وقوله : (الَّذِينَ صَبَرُوا) خبر مبتدأ محذوف اتباعا للاستعمال ، والتقدير : هم الذين صبروا. والمراد : صبرهم على إقامة الدين وتحمل أذى المشركين ، وقد علموا أنهم لاقوه فتوكلوا على ربّهم ولم يعبئوا بقطيعة قومهم ولا بحرمانهم من أموالهم ثم فارقوا أوطانهم فرارا بدينهم من الفتن.

ومن اللطائف مقابلة غشيان العذاب للكفار من فوقهم ومن تحت أرجلهم بغشيان النعيم للمؤمنين من فوقهم بالغرف ومن تحتهم بالأنهار.

وتقديم المجرور على متعلّقه من قوله : (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) للاهتمام. وتقدم معنى التوكل عند قوله تعالى : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) في سورة آل عمران [١٥٩] [٦٠]

(وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠))

عطف على جملة : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) [العنكبوت : ٥٧] فإن الله لما هوّن بها أمر الموت في مرضاة الله وكانوا ممن لا يعبأ بالموت علم أنهم يقولون في أنفسهم : إنّا لا نخاف الموت ولكنا نخاف الفقر والضيعة. واستخفاف العرب بالموت سجية فيهم كما أن خشية المعرّة من سجاياهم كما بيناه عند قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) [الإسراء : ٣١] فأعقب ذلك بأن ذكّرهم بأن رزقهم على الله وأنه لا يضيعهم. وضرب لهم

١٩٦

المثل برزق الدواب ، وللمناسبة في قوله تعالى : (إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ) [العنكبوت : ٥٦] من توقع الذين يهاجرون من مكة أن لا يجدوا رزقا في البلاد التي يهاجرون إليها ، وهو أيضا مناسب لوقوعه عقب ذكر التوكل في قوله : (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [العنكبوت : ٥٩] ، وفي الحديث : «لو توكلتم على الله حق توكّله لرزقتم كما ترزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا». ولعل ما في هذه الآية وما في الحديث مقصود به المؤمنون الأولون ؛ ضمن الله لهم رزقهم لتوكلهم عليه في تركهم أموالهم بمكة للهجرة إلى الله ورسوله. وتوكلهم هو حق التوكل ، أي أكمله وأحزمه فلا يضع نفسه في هذه المرتبة من لم يعمل عملهم.

وتقدم الكلام على (كَأَيِّنْ) عند قوله تعالى : وكأين من نبيء (قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) في سورة آل عمران [١٤٦].

وقوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) خبر غير مقصود منه إفادة الحكم ، بل هو مستعمل مجازا مركبا في لازم معناه وهو الاستدلال على ضمان رزق المتوكلين من المؤمنين. وتمثيله للتقريب بضمان رزق الدوابّ الكثيرة التي تسير في الأرض لا تحمل رزقها ، وهي السوائم الوحشية ، والقرينة على هذا الاستعمال هو قوله : (اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ) الذي هو استئناف بياني لبيان وجه سوق قوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) ولذلك عطف (وَإِيَّاكُمْ) على ضمير (دَابَّةٍ). والمقصود : التمثيل في التيسير والإلهام للأسباب الموصلة وإن كانت وسائل الرزق مختلفة.

والحمل في قوله : (لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) يجوز أن يكون مستعملا في حقيقته ، أي تسير غير حاملة رزقها لا كما تسير دواب القوافل حاملة رزقها ، وهو علفها فوق ظهورها بل تسير تأكل من نبات الأرض. ويجوز أن يستعمل مجازا في التكلف له ، مثل قول جرير :

حمّلت أمرا عظيما فاصطبرت له

أي لا تتكلف لرزقها. وهذا حال معظم الدواب عدا النملة والفأرة ، قيل وبعض الطير كالعقعق.

وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله : (اللهُ يَرْزُقُها) دون أن يقول : يرزقها الله ، ليفيد بالتقديم معنى الاختصاص ، أي الله يرزقها لا غيره ، فلما ذا تعبدون أصناما ليس بيدها رزق.

وجملة : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) عطف على جملة : (اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ). فالمعنى :

١٩٧

الله يرزقكم وهو السميع لدعائكم العليم بما في نفوسكم من الإخلاص لله في أعمالكم وتوكلكم ورجائكم منه الرزق.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١))

هذا الكلام عائد إلى قوله (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) [العنكبوت : ٥٢] تعجيبا من نقائض كفرهم ، أي هم كفروا بالله وإن سألهم سائل عمن خلق السماوات والأرض يعترفوا بأن الله هو خالق ذلك ولا يثبتون لأصنامهم شيئا من الخلق فكيف يلتقي هذا مع ادعائهم الإلهية لأصنامهم. ولذلك قال الله (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي كيف يصرفون عن توحيد الله وعن إبطال إشراكهم به ما لا يخلق شيئا.

وهذا الإلزام مبني على أنهم لا يستطيعون إذا سئلوا إلا الاعتراف لأنه كذلك في الواقع ولأن القرآن يتلى عليهم كلما نزل منه شيء يتعلق بهم ويتلوه المسلمون على مسامعهم فلو استطاعوا إنكار ما نسب إليهم لصدعوا به.

وضمير جمع الغائبين عائد إلى الذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله واستعجلوا بالعذاب بقرينة قوله (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ). والاستفهام في قوله (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) إنكار وتعجيب. وتخصيص تسخير الشمس والقمر بالذكر من بين مظاهر خلق السماوات والأرض لما في حركتهما من دلالة على عظيم القدرة ، مع ما في ذلك من المنة على الناس إذ ناط بحركتهما أوقات الليل والنهار وضبط المشهور والفصول.

وتسخير الشيء : إلجاؤه لعمل شديد. وأحسب أنه حقيقة سواء كان المسخّر ـ بالفتح ـ ذا إرادة أم كان جمادا. وقد تقدم عند قوله تعالى (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) في سورة الأعراف [٥٤].

(اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢))

هذا إلزام آخر لهم بإبطال شركهم وافتضاح تناقضهم فإنهم كانوا معترفين بأن الرازق هو الله تعالى (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) إلى قوله (فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) في سورة يونس [٣١]. وإنما جاء أسلوب هذا الاستدلال

١٩٨

مخالفا لأسلوب الذي قبله والذي بعده فعدل عن تركيب (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) [العنكبوت : ٦١] تفننا في الأساليب لتجديد نشاط السامع.

وأدمج في الاستدلال على انفراده تعالى بالرزق التذكير بأنه تعالى يرزق عباده على حسب مشيئته دليلا على أنه المختار في تصرفه وليس ذلك على مقادير حاجاتهم ولا على ما يبدو من الانتفاع بما يرزقونه.

وبسط الرزق : إكثاره ، وقدره : تقليله وتقتيره. والمقصود : أنه الرازق لأحوال الرزق ، وقد تقدم في قوله تعالى (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) في سورة الرعد [٢٦]. فجاءت هذه الآية على وزان قوله في سورة الروم [٣٧] (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فجمع بين ضمير المشركين في أولها وبين كون الآيات للمؤمنين في آخرها.

وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ) لإفادة الاختصاص ، أي الله لا غيره يبسط الرزق ويقدر. والتعبير بالمضارع لإفادة تجدد البسط والقدر. وزيادة (لَهُ) بعد (وَيَقْدِرُ) في هذه الآية دون آية سورة الرعد وآية القصص للتعريض بتبصير المؤمنين الذين ابتلوا في أموالهم من اعتداء المشركين عليها كما أشار إليه قوله آنفا : (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) [العنكبوت : ٦٠] بأن ذلك القدر في الرزق هو لهم لا عليهم لما ينجر لهم منه من الثواب ورفع الدرجات ، فغلّب في هذا الغرض جانب المؤمنين ولهذا لم يعدّ (يَقْدِرُ) بحرف (على) كما هو مقتضى معنى القدر كما في قوله تعالى : (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) [الطلاق : ٧]. وقال بعض المفسرين : إن المشركين عيروا المسلمين بالفقر ، وقيل : إن بعض المسلمين قالوا : إن هاجرنا لم نجد ما ننفق.

والضمير المجرور باللام عائد إلى (من يشاء من عباده) باعتبار أن (من يشاء) عام ليس بشخص معين لا سيما وقد بيّن عمومه بقوله (مِنْ عِبادِهِ). والمعنى : أنه يبسط الرزق لفريق ويقدر لفريق.

والتذييل بقوله (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لإفادة أن ذلك كله جار على حكمة لا يطلع عليها الناس ، وأن الله يعلم صبر الصابرين وجزع الجازعين كما تقدم في قوله في أول السورة : (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) [العنكبوت : ٣] ، قال تعالى: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ

١٩٩

أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [آل عمران : ١٨٦].

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٦٣))

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ).

أعيد أسلوب السؤال والجواب ليتصل ربط الأدلة بعضها ببعض على قرب. فقد كان المشركون لا يدّعون أن الأصنام تنزل المطر كما صرحت به الآية فقامت الحجة عليهم ولم ينكروها وهي تقرع أسماعهم.

وأدمج في الاستدلال عليهم بانفراده تعالى بإنزال المطر أن الله أحيا به الأرض بعد موتها وإن كان أكثر المشركين ينسبون المسببات إلى أسبابها العادية كما تبين في بحث الحقيقة والمجاز العقليين في قولهم : أنبت الربيع البقل ، أنه حقيقة عقلية في كلام أهل الشرك لأنهم مع ذلك لا ينسبون الإنبات إلى أصنامهم ، وقد اعترفوا بأن سبب الإنبات وهو المطر منزل من عند الله فيلزمهم أن الإنبات من الله على كل تقدير. وفي هذا الإدماج استدلال تقريبي لإثبات البعث كما قال : (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الروم : ٥٠] وقال : (وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) [الروم : ١٩].

ولما كان سياق الكلام هنا في مساق التقرير كان المقام مقتضيا للتأكيد بزيادة (مِنْ) في قوله (مِنْ بَعْدِ مَوْتِها) إلجاء لهم إلى الإقرار بأن فاعل ذلك هو الله دون أصنامهم فلذلك لم يكن مقتضى لزيادة (من) في آية البقرة ، وفي الجاثية [٥] (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها).

وقد أشار قوله (مِنْ بَعْدِ مَوْتِها) إلى موت الأرض ، أي موت نباتها يكون بإمساك المطر عنها في فصول الجفاف أو في سنين الجدب لأنه قابله بكون إنزال المطر لإرادته إحياء الأرض بقوله (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ) ، فلا جرم أن يكون موتها بتقدير الله للعلم بأن موت الأرض كان بعد حياة سبقت من نوع هذه الحياة ، فصارت الآية دالة على أنه المتصرف بإحياء الأرض وإماتتها ، ويعلم منه أن محيي الحيوان ومميته بطريقة لحن الخطاب. فانتظم من هذه الآيات المفتتحة بقوله (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [العنكبوت : ٦١] إلى هنا أصول صفات أفعال الله تعالى ، وهي : الخلق ، والرزق ،

٢٠٠