تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٠

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٠

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢١٤

تشبيها بقبضة تؤخذ باليد كقوله تعالى (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) [الحاقة : ١٤] وقوله (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الزمر : ٦٧]. ويجوز أن يجعل جميع ذلك استعارة تمثيلية كما لا يخفى.

وقوله (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) اعتبار بسوء عاقبتهم لأجل ظلمهم أنفسهم بالكفر وظلمهم الرسول بالاستكبار عن سماع دعوته. وهذا موضع العبرة من سوق هذه القصة ليعتبر بها المشركون فيقيسوا حال دعوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحال دعوة موسى عليه‌السلام ويقيسوا حالهم بحال فرعون وقومه ، فيوقنوا بأن ما أصاب فرعون وقومه من عقاب سيصيبهم لا محالة. وهذا من جملة محل العبرة بهذا الجزء من القصة ابتداء من قوله تعالى (فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ) [القصص : ٣٦] ليعتبر الناس بأن شأن أهل الضلالة واحد فإنهم يتلقون دعاة الخير بالإعراض والاستكبار واختلاق المعاذير فكما قال فرعون وقومه (ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) [القصص : ٣٦] قالت قريش (بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ) [الأنبياء : ٥] ، وقالوا (ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) [ص : ٧] أي التي أدركناها.

وكما طمع فرعون أن يبلغ إلى الله استكبارا منه في الأرض سأل المشركون (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) [الفرقان : ٢١] وظنوا أنهم لا يرجعون إلى الله كما ظن أولئك فيوشك أن يصيبهم من الاستئصال ما أصاب أولئك.

(وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (٤١))

عطف على جملة (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ) [القصص : ٣٩] أي استكبروا فكانوا ينصرون الضلال ويبثونه ، أي جعلناه وجنوده أئمة للضلالة المفضية إلى النار فكأنهم يدعون إلى النار فكل يدعو بما تصل إليه يده ؛ فدعوة فرعون أمره ، ودعوة كهنته باختراع قواعد الضلالة وأوهامها ، ودعوة جنوده بتنفيذ ذلك والانتصار له.

والأئمة : جمع إمام وهو من يقتدى به في عمل من خير أو شر قال تعالى (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) [الأنبياء : ٧٣]. ومعنى جعلهم أئمة يدعون إلى النار : خلق نفوسهم منصرفة إلى الشر ومعرضة عن الإصغاء للرشد وكان وجودهم بين ناس ذلك شأنهم. فالجعل جعل تكويني بجعل أسباب ذلك ، والله بعث إليهم الرسل لإرشادهم فلم

٦١

ينفع ذلك فلذلك أصروا على الكفر.

والدعاء إلى النار هو الدعاء إلى العمل الذي يوقع في النار فهي دعوة إلى النار بالمآل. وإذا كانوا يدعون إلى النار فهم من أهل النار بالأحرى فلذلك قال (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) أي لا يجدون من ينصرهم فيدفع عنهم عذاب النار. ومناسبة عطف (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) هي أن الدعاء يقتضي جندا وأتباعا يعتزون بهم في الدنيا ولكنهم لا يجدون عنهم يوم القيامة (وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا) [البقرة : ١٦٧].

(وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢))

اتباعهم باللعنة في الدنيا جعل اللعنة ملازمة لهم في علم الله تعالى ؛ فقدر لهم هلاكا لا رحمة فيه ، فعبر عن تلك الملازمة بالاتباع على وجه الاستعارة لأن التابع لا يفارق متبوعه ، وكانت تلك عاقبة تلك اللعنة إلقاءهم في اليم. ويجوز أن يراد باللعنة لعن الناس إياهم ، يعني أن أهل الإيمان يلعنونهم.

وجزاؤهم يوم القيامة أنهم (مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) ، والمقبوح المشتوم بكلمة (قبح) ، أي قبحه الله أو الناس ، أي جعله قبيحا بين الناس في أعماله أي مذموما ، يقال : قبحه بتخفيف الباء فهو مقبوح كما في هذه الآية ويقال : قبّحه بتشديد الباء إذا نسبه إلى القبيح فهو مقبّح ، كما في حديث أم زرع مما قالت العاشرة : «فعنده أقول فلا أقبّح» أي فلا يجعل قولي قبيحا عنده غير مرضي.

والإشارة إلى الدنيا ب (هذِهِ) لتهوين أمر الدنيا بالنسبة للآخرة.

والتخالف بين صيغتي قوله (وَأَتْبَعْناهُمْ) وقوله (هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) ، لأن اللعنة في الدنيا قد انتهى أمرها بإغراقهم ، أو لأن لعن المؤمنين إياهم في الدنيا يكون في أحيان يذكرونهم ، فكلا الاحتمالين لا يقتضي الدوام فجيء معه بالجملة الفعلية. وأما تقبيح حالهم يوم القيامة فهو دائم معهم ملازم لهم فجيء في جانبه بالاسمية المقتضية الدوام والثبات.

وضمير (هُمْ) في قوله (هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) ليس ضمير فصل ولكنه ضمير مبتدأ وبه كانت الجملة اسمية دالة على ثبات التقبيح لهم يوم القيامة.

٦٢

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣))

المقصود من الآيات السابقة ابتداء من قوله (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ) [القصص : ٣٠] إلى هنا الاعتبار بعاقبة المكذبين القائلين (ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) [القصص : ٣٦] ليقاس النظير على النظير ، فقد كان المشركون يقولون مثل ذلك يريدون إفحام الرسول عليه الصلاة والسلام بأنه لو كان الله أرسله حقا لكان أرسل إلى الأجيال من قبله ، ولما كان الله يترك الأجيال التي قبلهم بدون رسالة رسول ثم يرسل إلى الجيل الأخير ، فكان قوله (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) إتماما لتنظير رسالة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم برسالة موسى عليه‌السلام في أنها جاءت بعد فترة طويلة لا رسالة فيها ، مع الإشارة إلى أن سبق إرسال الرسل إلى الأمم شيء واقع بشهادة التواتر ، وأنه قد ترتب على تكذيب الأمم رسلهم إهلاك القرون الأولى فلم يكن ذلك موجبا لاستمرار إرسال الرسل متعاقبين بل كانوا يجيئون في أزمنة متفرقة ؛ فإذا كان المشركون يحاولون بقولهم (ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) [القصص : ٣٦] إبطال رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعلة تأخر زمانها سفسطة ووهما فإن دليلهم مقدوح فيه بقادح القلب بأن الرسل قد جاءوا إلى الأمم من قبل ثم جاء موسى بعد فترة من الرسل. وقد كان المشركون لما بهرهم أمر الإسلام لاذوا باليهود يسترشدونهم في طرق المجادلة الدينية فكان المشركون يخلطون ما يلقنهم اليهود من المغالطات بما استقر في نفوسهم من تضليل أئمة الشرك فيأتون بكلام يلعن بعضه بعضا ، فمرة يقولون (ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) [القصص : ٣٦] وهو من مجادلات الأميين ، ومرة يقولون (لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) [القصص : ٤٨] وهو من تلقين اليهود ، ومرة يقولون (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٩١] ، فكان القرآن يدمغ باطلهم بحجة الحق بإلزامهم تناقض مقالاتهم. وهذه الآية من ذلك فهي حجة بتنظير رسالة محمد برسالة موسى عليهما الصلاة والسلام والمقصود منها ذكر القرون الأولى.

وأما ذكر إهلاكهم فهو إدماج للنذارة في ضمن الاستدلال. وجملة (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) تخلص من قصة بعثة موسى عليه‌السلام إلى تأييد بعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والمقصود قوله (من بعد القرون الأولى).

ثم إن القرآن أعرض عن بيان حكمة الفتر التي تسبق إرسال الرسل ، واقتصر على بيان الحكمة في الإرسال عقبها لأنه المهم في مقام نقض حجة المبطلين للرسالة أو اكتفاء

٦٣

بأن ذلك أمر واقع لا يستطاع إنكاره وهو المقصود هنا ، وأما حكمة الفصل بالفتر فشيء فوق مراتب عقولهم. فأشار بقوله (بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) إلى بيان حكمة الإرسال عقب الفترة. وأشار بقوله (مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) إلى الأمم التي استأصلها الله لتكذيبها رسل الله.

فتأكيد الجملة بلام القسم وحرف التحقيق لتنزيل المخاطبين منزلة المنكرين لوقوع ذلك حتى يحتاج معهم إلى التأكيد بالقسم ، فموقع التأكيد هو قوله (مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى).

و (الْكِتابَ) : التوراة التي خاطب الله بها موسى عليه‌السلام. والبصائر : جمع بصيرة ، وهي إدراك العقل. سمي بصيرة اشتقاقا من بصر العين ، وجعل الكتاب بصائر باعتبار عدة دلائله وكثرة بيّناته ، كما في الآية الأخرى قال (لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) [الإسراء : ١٠٢].

و (الْقُرُونَ الْأُولى) : قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط. والقرن : الأمة ، قال تعالى (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) [الأنعام : ٦]. وفي الحديث «خير القرون قرني».

والناس هم الذين أرسل إليهم موسى من بني إسرائيل وقوم فرعون ، ولمن يريد أن يهتدي بهديه مثل الذين تهودوا من عرب اليمن ، و (هُدىً وَرَحْمَةً) لهم ، ولمن يقتبس منهم قال تعالى (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ) [المائدة : ٤٤]. ومن جملة ما تشتمل عليه التوراة تحذيرها من عبادة الأصنام.

وضمير (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) عائد إلى الناس الذين خوطبوا بالتوراة ، أي فكذلك إرسال محمد لكم هدى ورحمة لعلكم تتذكرون.

(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤))

لما بطلت شبهتهم التي حاولوا بها إحالة رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نقل الكلام إلى إثبات رسالته بالحجة الدامغة ؛ وذلك بما أعلمه الله به من أخبار رسالة موسى مما لا قبل له بعلمه لو لا أن ذلك وحي إليه من الله تعالى. فهذا تخلص من الاعتبار بدلالة الالتزام في قصة موسى إلى الصريح من إثبات نبوءة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٦٤

وجيء في الاستدلال بطريقة المذهب الكلامي حيث بني الاستدلال على انتفاء كون النبي عليه الصلاة والسلام موجودا في المكان الذي قضى الله فيه أمر الوحي إلى موسى ، لينتقل منه إلى أن مثله ما كان يعمل ذلك إلا عن مشاهدة لأن طريق العلم بغير المشاهدة له مفقود منه ومن قومه إذ لم يكونوا أهل معرفة بأخبار الرسل كما كان أهل الكتاب ، فلما انتفى طريق العلم المتعارف لأمثاله تعين أن طريق علمه هو إخبار الله تعالى إياه بخبر موسى.

ولما كان قوله (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِ) نفيا لوجوده هناك وحضوره تعين أن المراد من الشاهدين أهل الشهادة ، أي الخبر اليقين ، وهم علماء بني إسرائيل لأنهم الذين أشهدهم الله على التوراة وما فيها ، ألا ترى أنه ذمهم بكتمهم بعض ما تتضمنه التوراة من البشارة بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ) [البقرة : ١٤٠]. والمعنى ما كنت من أهل ذلك الزمن ولا ممن تلقى أخبار ذلك بالخبر اليقين المتواتر من كتبهم يومئذ فتعين أن طريق علمك بذلك وحي الله تعالى.

والأمر المقضي : هو أمر النبوءة لموسى إذ تلقاها موسى.

وقوله (بِجانِبِ الْغَرْبِيِ) هو من إضافة الموصوف إلى صفته ، وأصله بالجانب الغربي ، وهو كثير في الكلام العربي وإن أنكره نحاة البصرة وأكثروا من التأويل ، والحق جوازه.

والجانب الغربي هو الذي ذكر آنفا بوصف (شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ) [القصص : ٣٠] أي على بيت القبلة.

(وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥))

(وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ).

خفي اتصال هذا الاستدراك بالكلام الذي قبله وكيف يكون استدراكا وتعقيبا للكلام الأول برفع ما يتوهم ثبوته.

فبيانه أن قوله (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) [القصص : ٤٣] مسوق مساق إبطال تعجب المشركين من رسالة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم حين لم يسبقها رسالة رسول

٦٥

إلى آبائهم الأولين ، كما علمت مما تقدم آنفا ، فذكرهم بأن الله أرسل موسى كذلك بعد فترة عظيمة ، وأن الذين أرسل إليهم موسى أثاروا مثل هذه الشبهة فقالوا (ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) [القصص : ٣٦] فكما كانت رسالة موسى عليه‌السلام بعد فترة من الرسل كذلك كانت رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فالمعنى : فكان المشركون حقيقين بأن ينظروا رسالة محمد برسالة موسى ولكن الله أنشأ قرونا أي أمما بين زمن موسى وزمنهم فتطاول الزمن فنسي المشركون رسالة موسى فقالوا (ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) [ص : ٧]. وحذف بقية الدليل وهو تقدير : فنسوا ، للإيجاز لظهوره من قوله (فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) كما قال تعالى عن اليهود حين صاروا يحرفون الكلم عن مواضعه (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) [المائدة : ١٣] ، وقال عن النصارى (أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) [المائدة: ١٤] وقال لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا تكونوا (كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) [الحديد : ١٦] ، فضمير الجمع في قوله (عَلَيْهِمُ) عائد إلى المشركين لا إلى القرون.

فتبين أن الاستدراك متصل بقوله (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) [القصص : ٤٣] وأن ما بين ذلك وبين هذا استطراد. وهذا أحسن في بيان اتصال الاستدراك مما احتفل به صاحب «الكشاف». ولله دره في استشعاره ، وشكر الله مبلغ جهده. وهو بهذا مخالف لموقع الاستدراكين الآتيين بعده من قوله (وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) وقوله (وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) [القصص : ٤٦]. و (الْعُمُرُ) الأمد كقوله (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ) [يونس : ١٦].

(وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ).

هذا تكرير للدليل بمثل آخر مثل ما في قوله (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِ) [القصص : ٤٤] أي ما كنت مع موسى في وقت التكليم ولا كنت في أهل مدين إذ جاءهم موسى وحدث بينه وبين شعيب ما قصصنا عليك.

والثواء : الإقامة.

وضمير (عَلَيْهِمُ) عائد إلى المشركين من أهل مكة لا إلى أهل مدين لأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يتلو آيات الله على المشركين.

والمراد بالآيات ، الآيات المتضمنة قصة موسى في أهل مدين من قوله (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ) إلى قوله (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ) [القصص : ٢٢ ـ ٢٩]. وبمثل

٦٦

هذا المعنى قال مقاتل وهو الذي يستقيم به نظم الكلام ، ولو جعل الضمير عائدا إلى أهل مدين لكان أن يقال : تشهد فيهم آياتنا.

وجملة (تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) على حسب تفسير مقاتل في موضع الحال من ضمير (كُنْتَ) وهي حال مقدرة لاختلاف زمنها مع زمن عاملها كما هو ظاهر. والمعنى : ما كنت مقيما في أهل مدين كما يقيم المسافرون فإذا قفلوا من أسفارهم أخذوا يحدثون قومهم بما شاهدوا في البلاد الأخرى.

والاستدراك في قوله (وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) ظاهر ، أي ما كنت حاضرا في أهل مدين فتعلم خبر موسى عن معاينة ولكنا كنا مرسليك بوحينا فعلّمناك ما لم تكن تعلمه أنت ولا قومك من قبل هذا.

وعدل عن أن يقال : ولكنا أوحينا بذلك ، إلى قوله (وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) لأن المقصد الأهم هو إثبات وقوع الرسالة من الله للرد على المشركين في قولهم وقول أمثالهم (ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) [القصص : ٣٦] وتعلم رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدلالة الالتزام مع ما يأتي من قوله (وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً) [القصص : ٤٦] الآية فالاحتجاج والتحدي في هذه الآية والآية التي قبلها تحد بما علمه النبي عليه الصلاة والسلام من خبر القصة الماضية.

(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦))

جانب الطور : هو الجانب الغربي ، وهو الجانب الأيمن المتقدم وصفه بذينك الوصفين ، فعري عن الوصف هنا لأنه صار معروفا ، وقيد الكون المنفي بظرف (نادَيْنا) أي بزمن ندائنا.

وحذف مفعول النداء لظهور أنه نداء موسى من قبل الله تعالى وهو النداء لميقات أربعين ليلة وإنزال ألواح التوراة عقب تلك المناجاة كما حكي في الأعراف وكان ذلك في جانب الطور إذ كان بنو إسرائيل حول الطور كما قال تعالى (يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ) [طه : ٨٠] وهو نفس المكان الذي نودي فيه موسى للمرة الأولى في رجوعه من ديار مدين كما تقدم ، فالنداء الذي في قوله هنا (إِذْ نادَيْنا) غير النداء الذي في قوله (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ) إلى قوله (أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ) [القصص : ٣٠] الآية لئلا يكون تكرارا مع قوله : (وَما كُنْتَ

٦٧

بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) [القصص : ٤٤]. وهذا الاحتجاج بما علمه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من خبر استدعاء موسى عليه‌السلام للمناجاة. وتلك القصة لم تذكر في هذه السورة وإنما ذكرت في سورة أخرى مثل سورة الأعراف.

وقوله (وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) كلمة (لكِنْ) بسكون النون هنا باتفاق القراء فهي حرف لا عمل له فليس حرف عطف لفقدان شرطيه : تقدم النفي أو النهي ، وعدم الوقوع بعد واو عطف. وعليه فحرف (لكِنْ) هنا لمجرد الاستدراك لا عمل له وهو معترض. والواو التي قبل (لكِنْ) اعتراضية.

والاستدراك في قوله (وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) ناشئ عن دلالة قوله (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ) على معنى : ما كان علمك بذلك لحضورك ، ولكن كان علمك رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك.

فانتصاب (رَحْمَةً) مؤذن بأنه معمول لعامل نصب مأخوذ من سياق الكلام : إما على تقدير كون محذوف يدل عليه نفي الكون في قوله (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ) ، والتقدير : ولكن كان علمك رحمة منا ؛ وإما على المفعول المطلق الآتي بدلا من فعله ، والتقدير : ولكن رحمناك رحمة بأن علمناك ذلك بالوحي رحمة ، بقرينة قوله (لِتُنْذِرَ قَوْماً).

ويجوز أن يكون (رَحْمَةً) منصوبا على المفعول لأجله معمولا لفعل (لِتُنْذِرَ) فيكون فعل (لِتُنْذِرَ) متعلقا بكون محذوف هو مصب الاستدراك. وفي هذه التقادير توفير معان وذلك من بليغ الإيجاز. وعدل عن : رحمة منا ، إلى (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) بالإظهار في مقام الإضمار لما يشعر به معنى الرب المضاف إلى ضمير المخاطب من العناية به عناية الرب بالمربوب.

ويتعلق (لِتُنْذِرَ قَوْماً) بما دل عليه مصدر (رَحْمَةً) على الوجوه المتقدمة. واللام للتعليل. والقوم : قريش والعرب ، فهم المخاطبون ابتداء بالدين وكلهم لم يأتهم نذير قبل محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأما إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام فكانا نذيرين حين لم تكن قبيلة قريش موجودة يومئذ ولا قبائل العرب العدنانية ، وأما القحطانية فلم يرسل إليهم إبراهيم لأن اشتقاق نسب قريش كان من عدنان وعدنان بينه وبين إسماعيل قرون كثيرة.

وإنما اقتصر على قريش أو على العرب دون سائر الأمم التي بعث إليها النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأن المنة عليهم أوفى إذ لم تسبق لهم شريعة من قبل فكان نظامهم مختلا غير مشوب

٦٨

بإثارة من شريعة معصومة ، فكانوا في ضرورة إلى إرسال نذير ، وللتعريض بكفرانهم هذه النعمة ، وليس في الكلام ما يقتضي تخصيص النذارة بهم ولا ما يقتضي أن غيرهم ممن أنذرهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يأتهم نذير من قبله مثل اليهود والنصارى وأهل مدين.

وفي قوله (لِتُنْذِرَ) مع قوله (ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ) إشارة إلى أنهم بلغوا بالكفر حدا لا يتجاوزه حلم الله تعالى.

والتذكر : هو النظر العقلي في الأسباب التي دعت إلى حكمة إنذارهم وهي تناهي ضلالهم فوق جميع الأمم الضالة إذ جمعوا إلى الإشراك مفاسد جمة من قتل النفوس ، وارتزاق بالغارات وبالمقامرة ، واختلاط الأنساب ، وانتهاك الأعراض. فوجب تذكيرهم بما فيه صلاح حالهم.

وتقدم آنفا نظير قوله (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ).

(وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧))

هذا متصل بقوله (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [القصص : ٤٦] ، لأن الإنذار يكون بين يدي عذاب.

و (لَوْ لا) الأولى حرف امتناع لوجود ، أي انتفاء جوابها لأجل وجود شرطها وهو حرف يلزم الابتداء فالواقع بعده مبتدأ والخبر عن المبتدأ الواقع بعد (لَوْ لا) واجب الحذف وهو مقدر بكون عام. والمبتدأ هنا هو المصدر المنسبك من (أَنْ) وفعل (تُصِيبَهُمْ) والتقدير : لو لا إصابتهم بمصيبة ، وقد عقب الفعل المسبوك بمصدر بفعل آخر وهو (فَيَقُولُوا) ، فوجب أن يدخل هذا الفعل المعطوف في الانسباك بمصدر ، وهو معطوف بفاء التعقيب. فهذا المعطوف هو المقصود مثل قوله تعالى (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) [البقرة : ٢٨٢] فالمقصود هو «أن تذكر إحداهما الأخرى».

وإنما حيك نظم الكلام على هذا المنوال ولم يقل : ولو لا أن يقولوا ربنا إلخ حين تصيبهم مصيبة إلى آخره ، لنكتة الاهتمام بالتحذير من إصابة المصيبة فوضعت في موضع المبتدأ دون موضع الظرف لتساوي المبتدأ المقصود من جملة شرط (لَوْ لا) فيصبح هو وظرفه عمدتين في الكلام ، فالتقدير هنا : ولو لا إصابتهم بمصيبة يعقبها قولهم (رَبَّنا لَوْ لا

٦٩

أَرْسَلْتَ) إلخ لما عبأنا بإرسالك إليهم لأنهم أهل عناد وتصميم على الكفر.

فجواب (لَوْ لا) محذوف دل عليه ما تقدم من قوله (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِ) إلى قوله (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) [القصص : ٤٤ ـ ٤٦] ، أي ولكنا أعذرنا إليهم بإرسالك لنقطع معذرتهم. وجواب (لَوْ لا) محذوف دل عليه الكلام السابق ، أي لو لا الرحمة بهم بتذكيرهم وإنذارهم لكانوا مستحقين حلول المصيبة بهم.

و (لَوْ لا) الثانية حرف تحضيض ، أي هلا أرسلت إلينا قبل أن تأخذنا بعذاب فتصلح أحوالنا وأنت غني عن عذابنا. وانتصب (فَنَتَّبِعَ) (بأن) مضمرة وجوبا في جواب التحضيض.

وضمير (تُصِيبَهُمْ) عائد إلى القوم الذين لم يأتهم نذير من قبل. والمراد (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) ما سلف من الشرك.

والمصيبة : ما يصيب الإنسان ، أي يحل به من الأحوال ، وغلب اختصاصها بما يحل بالمرء من العقوبة والأذى.

والباء في (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) للسببية ، أي عقوبة كان سببها ما سبق على أعمالهم السيئة. والمراد بها هنا عذاب الدنيا بالاستئصال ونحوه ، وتقدم عند قوله تعالى (فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) في سورة النساء [٦٢]. وهي ما يجترحونه من الأعمال الفاحشة.

و (ما قدمت أيديهم) ما اعتقدوه من الإشراك وما عملوه من آثار الشرك.

والأيدي مستعار للعقول المكتسبة لعقائد الكفر. فشبه الاعتقاد القلبي بفعل اليد تشبيه معقول بمحسوس.

وهذه الآية تقتضي أن المشركين يستحقون العقاب بالمصائب في الدنيا ولو لم يأتهم رسول لأن أدلة وحدانية الله مستقرة في الفطرة ومع ذلك فإن رحمة الله أدركتهم فلم يصبهم بالمصائب حتى أرسل إليهم رسولا.

ومعنى الآية على أصول الأشعري وما بينه أصحاب طريقته مثل القشيري وأبي بكر ابن العربي : أن ذنب الإشراك لا عذر فيه لصاحبه لأن توحيد الله قد دعي إليه الأنبياء والرسل من عهد آدم بحيث لا يعذر بجهله عاقل فإن الله قد وضعه في الفطرة إذ أخذ عهده

٧٠

به على ذرية آدم كما أشار إليه قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ) ذرياتهم (وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) كما بيناه في سورة الأعراف [١٧٢].

ولكن الله يرأف بعباده إذا طالت السنون وانقرضت القرون وصار الناس مظنة الغفلة فيتعهدهم ببعثة الرسل للتذكير بما في الفطرة وليشرعوا لهم ما به صلاح الأمة.

فالمشركون الذين انقرضوا قبل البعثة المحمدية مؤاخذون بشركهم ومعاقبون عليه في الآخرة ولو شاء الله لعاقبهم عليه بالدنيا بالاستئصال ولكن الله أمهلهم ، والمشركون الذين جارتهم الرسل ولم يصدقوهم مستحقون عذاب الدنيا زيادة على عذاب الآخرة ، قال تعالى (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [السجدة : ٢١].

وأما الفرق الذين يعدّون دليل توحيد الله بالإلهية عقليا مثل الماتريدية والمعتزلة فمعنى الآية على ظاهره ، وهو قول ليس ببعيد.

(فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨))

الفاء فصيحة كالفاء في قول عباس بن الأحنف :

قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا

ثم القفول فقد جئنا خراسانا

وتقدير الكلام : فإن كان من معذرتهم أن يقولوا ذلك فقد أرسلنا إليهم رسولا بالحق فلما جاءهم الحق لفقوا المعاذير وقالوا : لا نؤمن به حتى نؤتى مثل ما أوتي موسى.

و (الْحَقُ) : هو ما في القرآن من الهدى.

وإثبات المجيء إليه استعارة بتشبيه الحق بشخص وتشبيه سماعه بمجيء الشخص ، أو هو مجاز عقلي وإنما الجائي الرسول الذي يبلغه عن الله ، فعبر عنه بالحق لإدماج الثناء عليه في ضمن الكلام.

ولما بهرتهم آيات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يجدوا من المعاذير إلا ما لقنهم اليهود وهو أن يقولوا : (لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) ، أي بأن تكون آياته مثل آيات موسى التي يقصها عليهم اليهود وقص بعضها القرآن.

وضمير (يَكْفُرُوا) عائد إلى القوم من قوله (لِتُنْذِرَ قَوْماً) [القصص : ٤٦] لتتناسق الضمائر من قوله (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ) [القصص : ٤٧] وما بعده من الضمائر أمثاله.

٧١

فيشكل عليه أن الذين كفروا بما أوتي موسى هو قوم فرعون دون مشركي العرب فقال بعض المفسرين هذا من إلزام المماثل بفعل مثيله لأن الإشراك يجمع الفريقين فتكون أصول تفكيرهم واحدة ويتحد بهتانهم ، فإن القبط أقدم منهم في دين الشرك فهم أصولهم فيه والفرع يتبع أصله ويقول بقوله ، كما قال تعالى (كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) [الذاريات : ٥٢ ، ٥٣] أي متماثلون في سبب الكفر والطغيان فلا يحتاج بعضهم إلى وصية بعض بأصول الكفر. وهذا مثل قوله تعالى (غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) [الروم : ٢ ـ ٣ ثم قال (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ) [الروم : ٤ ـ ٥] أي بنصر الله إياهم إذ نصر المماثلين في كونهم غير مشركين إذ كان الروم يومئذ على دين المسيح.

فقولهم (لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) من باب التسليم الجدلي ، أو من اضطرابهم في كفرهم فمرة يكونون معطلين ومرة يكونون مشترطين. والوجه أن المشركين كانوا يجحدون رسالة الرسل قاطبة. وكذلك حكاية قولهم ساحران تظاهرا من قول مشركي مكة في موسى وهارون لما سمعوا قصتهما أو في موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام. وهو الأظهر وهو الذي يلتئم مع قوله بعده (وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما) [القصص : ٤٨ ـ ٤٩].

وقرأ الجمهور ساحران تثنية ساحر. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف (قالُوا سِحْرانِ) على أنه من الإخبار بالمصدر للمبالغة ، أي قالوا : هما ذوا سحر.

والتظاهر : التعاون.

والتنوين في (بِكُلٍ) تنوين عوض عن المضاف إليه فيقدر المضاف إليه بحسب الاحتمالين إما بكل من الساحرين ، وإما أن يقدر بكل من ادعى رسالة وهو أنسب بقول قريش لأنهم قالوا (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٩١].

[٤٩ ـ ٥٠] (قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠))

أي أجب كلامهم المحكي من قولهم ساحران [القصص : ٤٨] وقولهم (إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ) [القصص : ٤٨].

٧٢

ووصف (كتاب) ب (مِنْ عِنْدِ اللهِ) إدماج لمدح القرآن والتوراة بأنهما كتابان من عند الله. والمراد بالتوراة ما تشتمل عليه الأسفار الأربعة المنسوبة إلى موسى من كلام الله إلى موسى أو من إسناد موسى أمرا إلى الله لا كل ما اشتملت عليه تلك الأسفار فإن فيها قصصا وحوادث ما هي من كلام الله. فيقال للمصحف هو كلام الله بالتحقيق ولا يقال لأسفار العهدين كلام الله إلا على التغليب إذ لم يدع ذلك المرسلان بكتابي العهد. وقد تحداهم القرآن في هذه الآية بما يشتمل عليه القرآن من الهدى ببلاغة نظمه. وهذا دليل على أن مما يشتمل عليه من العلم والحقائق هو من طرق إعجازه كما قدمناه في المقدمة العاشرة.

فمعنى (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ) إن لم يستجيبوا لدعوتك ، أي إلى الدين بعد قيام الحجة عليهم بهذا التحدي ، فاعلم أن استمرارهم على الكفر بعد ذلك ما هو إلا اتباع للهوى ولا شبهة لهم في دينهم.

ويجوز أن يراد بعدم الاستجابة عدم الإتيان بكتاب أهدى من القرآن لأن فعل الاستجابة يقتضي دعاء ولا دعاء في قوله (فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما) بل هو تعجيز ، فالتقدير : فإن عجزوا ولم يستجيبوا لدعوتك بعد العجز فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ، أي لا غير. واعلم أن فعل الاستجابة بزيادة السين والتاء يتعدى إلى الدعاء بنفسه ويتعدى إلى الداعي باللام ، وحينئذ يحذف لفظ الدعاء غالبا فقلما قيل : استجاب الله له دعاءه ، بل يقتصر على : استجاب الله له ، فإذا قالوا : دعاه فاستجابه كان المعنى فاستجاب دعاءه. وهذا كقوله (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) في سورة هود [١٤].

و (أَنَّما) المفتوحة الهمزة تفيد الحصر مثل (إنما) المكسورة الهمزة لأن المفتوحة الهمزة فرع عن المكسورتها لفظا ومعنى فلا محيص من إفادتها مفادها ، فالتقدير فاعلم أنهم ما يتبعون إلا أهواءهم. وجيء بحرف (إن) الغالب في الشرط المشكوك على طريقة التهكم أو لأنها الحرف الأصلي. وإقحام فعل (فَاعْلَمْ) للاهتمام بالخبر الذي بعده كما تقدم في قوله تعالى (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) في سورة الأنفال [٢٤].

وقوله (أَتَّبِعْهُ) جواب (فَأْتُوا) أي إن تأتوا به أتبعه ، وهو مبالغة في التعجيز لأنه إذا وعدهم بأن يتبع ما يأتون به فهو يتبعهم أنفسهم وذلك مما يوفر دواعيهم على محاولة الإتيان بكتاب أهدى من كتابه لو استطاعوه فإن لم يفعلوا فقد حق عليهم الحق ووجبت

٧٣

عليهم المغلوبية فكان ذلك أدل على عجزهم وأثبت في إعجاز القرآن.

وهذا من التعليق على ما تحقق عدم وقوعه ، فالمعلق حينئذ ممتنع الوقوع كقوله (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) [الزخرف : ٨١]. ولكونه ممتنع الوقوع أمر الله رسوله أن يقوله. وقد فهم من قوله (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا) ومن إقحام (فَاعْلَمْ) أنهم لا يأتون بذلك البتة وهذا من الإعجاز بالإخبار عن الغيب.

وجاء في آخر الكلام تذييل عجيب وهو أنه لا أحد أشد ضلالا من أحد اتبع هواه المنافي لهدى الله.

و (مَنْ) اسم استفهام عن ذات مبهمة وهو استفهام الإنكار فأفاد الانتفاء فصار معنى الاسمية الذي فيه في معنى نكرة في سياق النفي أفادت العموم فشمل هؤلاء الذين اتبعوا أهواءهم وغيرهم. وبهذا العموم صار تذييلا وهو كقوله تعالى (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ) في سورة البقرة [١٤٠].

وأطلق الاتباع على العمل بما تمليه إرادة المرء الناشئة عن ميله إلى المفاسد والأضرار تشبيها للعمل بالمشي وراء السائر ، وفيه تشبيه الهوى بسائر ، والهوى مصدر لمعنى المفعول كقول جعفر بن علبة :

هواي مع الركب اليمانين مصعد

وقوله (بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ) الباء فيه للملابسة وهو في موضع الحال من فاعل (اتَّبَعَ هَواهُ) وهو حال كاشفة لتأكيد معنى الهوى لأن الهوى لا يكون ملابسا للهدى الرباني ولا صاحبه ملابسا له لأن الهدى يرجع إلى معنى إصابة المقصد الصالح.

وجعل الهدى من الله لأنه حق الهدى لأنه وارد من العالم بكل شيء فيكون معصوما من الخلل والخطأ.

ووجه كونه لا أضل منه أن الضلال في الأصل خطأ الطريق وأنه يقع في أحوال متفاوتة في عواقب المشقة أو الخطر أو الهلاك بالكلية ، على حسب تفاوت شدة الضلال. واتباع الهوى مع إلغاء إعمال النظر ومراجعته في النجاة يلقي بصاحبه إلى كثير من أحوال الضرّ بدون تحديد ولا انحصار.

فلا جرم يكون هذا الاتباع المفارق لجنس الهدى أشد الضلال فصاحبه أشد الضالين

٧٤

ضلالا.

ثم ذيل هذا التذييل بما هو تمامه إذ فيه تعيين هذا الفريق المبهم الذي هو أشد الضالين ضلالا فإنه الفريق الذين كانوا قوما ظالمين ، أي كان الظلم شأنهم وقوام قوميتهم ولذلك عبر عنهم بالقوم.

والمراد بالظالمين : الكاملون في الظلم ، وهو ظلم الأنفس وظلم الناس ، وأعظمه الإشراك وإتيان الفواحش والعدوان ، فإن الله لا يخلق في نفوسهم الاهتداء عقابا منه على ظلمهم فهم باقون في الضلال يتخبطون فيه ، فهم أضل الضالين ، وهم مع ذلك متفاوتون في انتفاء هدى الله عنهم على تفاوتهم في التصلب في ظلمهم ؛ فقد يستمر أحدهم زمانا على ضلاله ثم يقدر الله له الهدى فيخلق في قلبه الإيمان. ولأجل هذا التفاوت في قابلية الإقلاع عن الضلال استمرت دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياهم للإيمان في عموم المدعوين إذ لا يعلم إلا الله مدى تفاوت الناس في الاستعداد لقبول الهدى ، فالهدى المنفي عن أن يتعلق بهم هنا هو الهدى التكويني.

وأما الهدى بمعنى الإرشاد فهو من عموم الدعوة. وهذا معنى قول الأئمة من الأشاعرة أن الله يخاطب بالإيمان من يعلم أنه لا يؤمن مثل أبي جهل لأن التعلق التكويني غير التعلق التشريعي.

وبين (هَواهُ) و (هُدىً) جناس محرف وجناس خط.

(وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١))

عطف على جملة (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) [القصص : ٤٧] الآية ، وما عطف عليها من قوله (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) [القصص : ٤٨].

والتوصيل : مبالغة في الوصل ، وهو ضم بعض الشيء إلى بعض يقال : وصل الحبل إذا ضم قطعه بعضها إلى بعض فصار حبلا.

والقول مراد به القرآن قال تعالى (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ) [الطارق : ١٣] وقال (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) [الحاقة : ٤٠] ، فالتعريف للعهد ، أي القول المعهود. وللتوصيل أحوال كثيرة فهو باعتبار ألفاظه وصل بعضه ببعض ولم ينزل جملة واحدة ، وباعتبار معانيه وصل أصنافا

٧٥

من الكلام : وعدا ، ووعيدا ، وترغيبا ، وترهيبا ، وقصصا ومواعظ وعبرا ، ونصائح يعقب بعضها بعضا وينتقل من فن إلى فن وفي كل ذلك عون على نشاط الذهن للتذكر والتدبر.

واللام و (قد) كلاهما للتأكيد ردا عليه إذ جهلوا حكمة تنجيم نزول القرآن وذكرت لهم حكمة تنجيمه هنا بما يرجع إلى فائدتهم بقوله (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ). وذكر في آية سورة الفرقان [٣٢] حكمة أخرى راجعة إلى فائدة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا (١)لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) وفهم من ذلك أنهم لم يتذكروا. وضمير (لَهُمُ) عائد إلى المشركين.

[٥٢ ـ ٥٣] (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣))

لمّا أفهم قوله (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [القصص : ٥١] أنهم لم يفعلوا ولم يكونوا عند رجاء الراجي عقب ذلك بهذه الجملة المستأنفة استئنافا بيانيا لأنها جواب لسؤال من يسأل هل تذكر غيرهم بالقرآن أو استوى الناس في عدم التذكر به. فأجيب بأن الذين أوتوا الكتاب من قبل نزول القرآن يؤمنون به إيمانا ثابتا.

والمراد بالذين أوتوا الكتاب طائفة معهودة من أهل الكتاب شهد الله لهم بأنهم يؤمنون بالقرآن ويتدبرونه وهم بعض النصارى ممن كان بمكة مثل ورقة بن نوفل ، وصهيب ، وبعض يهود المدينة مثل عبد الله بن سلام ورفاعة بن رفاعة القرظي ممن بلغته دعوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يهاجر النبي إلى المدينة فلما هاجر أظهروا إسلامهم.

وقيل : أريد بهم وفد من نصارى الحبشة اثنا عشر رجلا بعثهم النجاشي لاستعلام أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة فجلسوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فآمنوا به وكان أبو جهل وأصحابه قريبا منهم يسمعون إلى ما يقولون فلما قاموا من عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تبعهم أبو جهل ومن معه فقال لهم : خيّبكم الله من ركب وقبحكم من وفد لم تلبثوا أن صدقتموه ، فقالوا : سلام عليكم لم نأل أنفسنا رشدا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم. وبه ظهر أنهم لما رجعوا أسلم النجاشي وقد أسلم بعض نصارى الحبشة لما وفد إليهم أهل الهجرة إلى الحبشة وقرءوا عليهم القرآن وأفهموهم الدين.

__________________

(١) في المطبوعة وقالوا لو لا.

٧٦

وضمير (مِنْ قَبْلِهِ) عائد إلى القول من (وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ) [القصص : ٥١] ، وهو القرآن. وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في (هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) لتقوي الخبر. وضمير الفصل مقيد للقصر الإضافي ، أي هم يوقنون بخلاف هؤلاء الذين وصلنا لهم القول.

ومجيء المسند مضارعا للدلالة على استمرار إيمانهم وتجدده.

وحكاية إيمانهم بالمضي في قوله (آمَنَّا بِهِ) مع أنهم يقولون ذلك عند أول سماعهم القرآن : إما لأن المضي مستعمل في إنشاء الإيمان مثل استعماله في صيغ العقود ، وإما للإشارة إلى أنهم آمنوا به من قبل نزوله ، أي آمنوا بأنه سيجيء رسول بكتاب مصدق لما بين يديه ، يعني إيمانا إجماليا يعقبه إيمان تفصيلي عند سماع آياته. وينظر إلى هذا المعنى قوله (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) ، أي مصدقين بمجيء رسول الإسلام.

ويجوز أن يراد ب (مُسْلِمِينَ) موحدين مصدقين بالرسل فإن التوحيد هو الإسلام كما قال إبراهيم (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [البقرة : ١٣٢].

وجملة (إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا) في موقع التعليل لجملة (آمَنَّا بِهِ).

وجملة (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) بيان لمعنى (آمَنَّا بِهِ).

[٥٤ – ٥٥] (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥))

التعبير عنهم باسم الإشارة هنا للتنبيه على أنهم أحرياء بما سيذكر بعد اسم الإشارة من أجل الأوصاف التي ذكرت قبل اسم الإشارة مثل ما تقدم في قوله (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) في سورة البقرة [٥].

عدّ الله لهم سبع خصال من خصال أهل الكمال :

إحداها : أخروية ، وهي (يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) أي أنهم يؤتون أجرين على إيمانهم ، أي يضاعف لهم الثواب لأجل أنهم آمنوا بكتابهم من قبل ثم آمنوا بالقرآن ، فعبر عن مضاعفة الأجر ضعفين بالمرتين تشبيها للمضاعفة بتكرير الإيتاء وإنما هو إيتاء واحد.

٧٧

وفائدة هذا المجاز إظهار العناية حتى كأن المثيب يعطي ثم يكرر عطاءه ففي (يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) تمثيلة. وفي الصحيح عن أبي موسى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيئه وأدركني فآمن بي واتبعني وصدقني فله أجران ، وعبد مملوك أدى حق الله تعالى وحق سيده فله أجران ، ورجل كانت له أمة فغذاها فأحسن غذاءها ثم أدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران». رواه الشعبي وقال لعطاء الخراساني : خذه بغير شيء فقد كان الرجل يرحل فيما دون هذا إلى المدينة.

والثانية : الصبر ، والصبر من أعظم خصال البر وأجمعها للمبرات ، وأعونها على الزيادة والمراد بالصبر صبرهم على أذى أهل ملتهم أو صبرهم على أذى قريش ، وهذا يتحقق في مثل الوفد الحبشي. ولعلهم المراد من هذه الآية ولذلك أتبع بقوله (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) وقوله (وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ).

والخصلة الثالثة : درؤهم السيئة بالحسنة وهي من أعظم خصال الخير وأدعاها إلى حسن المعاشرة قال تعالى (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [فصلت : ٣٤] ، فيحصل بذلك فائدة دفع مضرة المسيء. عن النفس ، وإسداء الخير إلى نفس أخرى ، فهم لم يردوا جلافة أبي جهل بمثلها ولكن بالإعراض مع كلمة حسنة وهي (سَلامٌ عَلَيْكُمْ).

وأما الإنفاق فلعلهم كانوا ينفقون على فقراء المسلمين بمكة ، وهو الخصلة الرابعة ولا

يخفى مكانها من البر.

والخصلة الخامسة : الإعراض عن اللغو ، وهو الكلام العبث الذي لا فائدة فيه ، وهذا الخلق من مظاهر الحكمة ، إذ لا ينبغي للعاقل أن يشغل سمعه ولبّه بما لا جدوى له وبالأولى يتنزه عن أن يصدر منه ذلك.

والخصلة السادسة : الكلام الفصل وهو قولهم (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) وهذا من أحسن ما يجاب به السفهاء وهو أقرب لإصلاحهم وأسلم من تزايد سفههم.

ولقد أنطقهم الله بحكمة جعلها مستأهلة لأن تنظم في سلك الإعجاز فألهمهم تلك الكلمات ثم شرّفها بأن حيكت في نسج القرآن ، كما ألهم عمر قوله (عَسى رَبُّهُ إِنْ

٧٨

طَلَّقَكُنَ) [التحريم : ٥] الآية.

ومعنى (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) أن أعمالنا مستحقة لنا كناية عن ملازمتهم إياها وأما قولهم (وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) فهو تتميم على حد (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الكافرون : ٦].

والمقصود من السلام أنه سلام المتاركة المكنى بها عن الموادعة أن لا نعود لمخاطبتكم قال الحسن : كلمة : السلام عليكم ، تحية بين المؤمنين ، وعلامة الاحتمال من الجاهلين. ولعل القرآن غير مقالتهم بالتقديم والتأخير لتكون مشتملة على الخصوصية المناسبة للإعجاز لأن تأخير الكلام الذي فيه المتاركة إلى آخر الخطاب أولى ليكون فيه براعة المقطع.

وحذف القرآن قولهم : لم نأل أنفسنا رشدا ، للاستغناء عنه بقولهم (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ).

السابعة : ما أفصح عنه قولهم (لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) من أن ذلك خلقهم أنهم يتطلبون العلم ومكارم الأخلاق. والجملة تعليل للمتاركة ، أي لأنا لا نحب مخالطة أهل الجهالة بالله وبدين الحق وأهل خلق الجهل الذي هو ضد الحلم ، فاستعمل الجهل في معنييه المشترك فيها ولعله تعريض بكنية أبي جهل الذي بذا عليهم بلسانه.

والظاهر أن هذه الكلمة يقولونها بين أنفسهم ولم يجهروا بها لأبي جهل وأصحابه بقرينة قوله (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) وقوله (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) وبذلك يكون القول المحكي قولين : قول وجهوه لأبي جهل وصحبه ، وقول دار بين أهل الوفد.

(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦))

لما ذكر معاذير المشركين وكفرهم بالقرآن ، وأعلم رسوله أنهم يتبعون أهواءهم وأنهم مجردون عن هدى الله ، ثم أثنى على فريق من أهل الكتاب أنهم يؤمنون بالقرآن ، وكان ذلك يحزن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعرض قريش وهم أخص الناس به عن دعوته أقبل الله على خطاب نبيئهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بما يسلي نفسه ويزيل كمده بأن ذكّره بأن الهدى بيد الله. وهو كناية عن الأمر بالتفويض في ذلك إلى الله تعالى.

والجملة استئناف ابتدائي. وافتتاحها بحرف التوكيد اهتمام باستدعاء إقبال النبيعليه‌السلام على علم ما تضمنته على نحو ما قررناه آنفا في قوله (فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ

٧٩

أَهْواءَهُمْ) [القصص : ٥٠]. ومفعول (أَحْبَبْتَ) محذوف دل عليه (لا تَهْدِي).

والتقدير : من أحببت هداه أو اهتداءه. وما صدق (مَنْ) الموصولة كل من دعاه النبي إلى الإسلام فإنه يحب اهتداءه.

وقد تضافرت الروايات على أن من أول المراد بذلك أبا طالب عم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد اغتم لموته على غير الإسلام كما في الأحاديث الصحيحة. قال الزجاج : أجمع المسلمون أنها نزلت في أبي طالب. وقال الطبري : وذكر أن هذه الآية نزلت من أجل امتناع أبي طالب عمه من إجابته إذ دعاه إلى الإيمان بالله وحده. قال القرطبي : وهو نص حديث البخاري ومسلم وقد تقدم ذلك في براءة.

وهذا من العام النازل على سبب خاص فيعمه وغيره وهو يقتضي أن تكون هذه السورة نزلت عقب موت أبي طالب وكانت وفاة أبي طالب سنة ثلاث قبل الهجرة ، أو كان وضع هذه الآية عقب الآيات التي قبلها بتوقيف خاص.

ومعنى (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أنه يخلق من يشاء قابلا للاهتداء في مدى معين وبعد دعوات محدودة حتى ينشرح صدره للإيمان فإذا تدبر ما خلقه الله عليه وحدده كثر في علمه وإرادته جعل منه الاهتداء ، فالمراد الهداية بالفعل. وأما قوله تعالى (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشورى : ٥٢] فهي الهداية بالدعوة والإرشاد فاختلف الإطلاقان.

ومفعول فعل المشيئة محذوف لدلالة ما قبله عليه ، أي من يشاء اهتداءه ، والمشيئة تعرف بحصول الاهتداء وتتوقف على ما سبق من علمه وتقديره.

وفي قوله (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) إيماء إلى ذلك ، أي هو أعلم من كل أحد بالمهتدين في أحوالهم ومقادير استعدادهم على حسب ما تهيأت إليه فطرهم من صحيح النظر وقبول الخير واتقاء العاقبة والانفعال لما يلقى إليها من الدعوة ودلائلها. ولكل ذلك حال ومدى ولكليهما أسباب تكوينية في الشخص وأسلافه وأسباب نمائه أو ضعفه من الكيان والوسط والعصر والتعقل.

(وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧))

هذه بعض معاذيرهم قالها فريق منهم ممن غلبه الحياء على أن يكابر ويجاهر بالتكذيب ، وغلبه إلف ما هو عليه من حال الكفر على الاعتراف بالحق ، فاعتذروا بهذه

٨٠