تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٠

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٠

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢١٤

لارتدادهم ولكنهم جعلوا يظهرون للمسلمين أنهم معهم. ولعل هذا التظاهر كان بتمالؤ بينهم وبين المشركين فرضوا منهم بأن يختلطوا بالمسلمين ليأتوا المشركين بأخبار المسلمين : فعدهم الله منافقين وتوعدهم بهذه الآية.

وقد أومأ قوله تعالى (مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) إلى أن إيمان هؤلاء لم يرسخ في قلوبهم وأومأ قوله (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ) إلى أن هذا الفريق معذبون بعذاب الله ، وأومأ قوله : (وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) [العنكبوت : ١١] إلى أنهم منافقون يبطنون الكفر ، فلا جرم أنهم من الفريق الذين قال الله تعالى فيهم (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ) [النحل : ١٠٦] ، وأنهم غير الفريق الذين استثنى الله تعالى بقوله (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) [النحل : ١٠٦]. فليس بين هذه الآية وآيات أواخر سورة النحل اختلاف كما قد يتوهم من سكوت المفسرين عن بيان الأحكام المستنبطة من هذه الآية مع ذكرهم الأحكام المستنبطة من آيات سورة النحل.

وحرف الظرفية من قوله (أُوذِيَ فِي اللهِ) مستعمل في معنى التعليل كاللام ، أي أوذي لأجل الله ، أي لأجل اتباع ما دعاه الله إليه.

وقوله (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ) يريد جعلها مساوية لعذاب الله كما هو مقتضى أصل التشبيه ، فهؤلاء إن كانوا قد اعتقدوا البعث والجزاء فمعنى هذا الجعل : أنهم سووا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة كما هو ظاهر التشبيه فتوقوا فتنة الناس وأهملوا جانب عذاب الله فلم يكترثوا به إعمالا لما هو عاجل ونبذا للآجل وكان الأحق بهم أن يجعلوا عذاب الله أعظم من أذى الناس ، وإن كانوا نبذوا اعتقاد البعث تبعا لنبذهم الإيمان ، فمعنى الجعل : أنهم جعلوه كعذاب الله عند المؤمنين الذين يؤمنون بالجزاء.

فالخبر من قوله (وَمِنَ النَّاسِ) إلى قوله (كَعَذابِ اللهِ) مكنى به عن الذم والاستحماق على كلا الاحتمالين وإن كان الذم متفاوتا.

وبيّن الله تعالى نيتهم في إظهارهم الإسلام بأنهم جعلوا إظهار الإسلام عدّة لما يتوقع من نصر المسلمين بإخارة فيجدون أنفسهم متعرضين لفوائد ذلك النصر. وهذا يدل على أن هذه الآية نزلت بقرب الهجرة من مكة حين دخل الناس في الإسلام وكان أمره في ازدياد.

وتأكيد جملة الشرط في قوله (وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَ) باللام الموطئة للقسم لتحقيق حصول الجواب عند حصول الشرط ، وهو يقتضي تحقيق وقوع الأمرين.

١٤١

ففيه وعد بأن الله تعالى ناصر المسلمين وأن المنافقين قائلون ذلك حينئذ ، ولعل ذلك حصل يوم فتح مكة فقال ذلك من كان حيا من هذا الفريق ، وهو قول يريدون به نيل رتبة السابقية في الإسلام. وذكر أهل التاريخ أن الأقرع بن حابس ، وعيينة بن حصن ، وسهيل ابن عمرو ، وجماعة من وجوه العرب كانوا على باب عمر ينتظرون الإذن لهم ، وكان على الباب بلال وسلمان وعمار بن ياسر ، فخرج إذن عمر أن يدخل سلمان وبلال وعمار فتمعرت وجوه البقية فقال لهم سهيل بن عمرو : «لم تتمعر وجوهكم ، دعوا ودعينا فأسرعوا وأبطأنا ولئن حسدتموهم على باب عمر لما أعد الله لهم في الجنة أكثر».

وقوله (أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ) تذييل ، والواو اعتراضية ، والاستفهام إنكاري إنكارا عليهم قولهم (آمَنَّا بِاللهِ) وقولهم (إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) ، لأنهم قالوا قولهم ذلك ظنا منهم أن يروج كذبهم ونفاقهم على رسول الله ، فكان الإنكار عليهم متضمنا أنهم كاذبون في قوليهم المذكورين.

والخطاب موجه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقصد إسماعهم هذا الخطاب فإنهم يحضرون مجالس النبي والمؤمنين ويستمعون ما ينزل من القرآن وما يتلى منه بعد نزوله ، فيشعرون أن الله مطلع على ضمائرهم.

ويجوز أن يكون الاستفهام تقريريا وجه الله به الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صورة التقرير بما أنعم الله به عليه من إنبائه بأحوال الملتبسين بالنفاق. وهذا الأسلوب شائع في الاستفهام التقريري وكثيرا ما يلتبس بالإنكاري ولا يفرق بينهما إلا المقام ، أي فلا تصدق مقالهم.

والتفضيل في قوله (بِأَعْلَمَ) مراعى فيه علم بعض المسلمين ببعض ما في صدور هؤلاء المنافقين ممن أوتوا فراسة وصدق نظر. ولك أن تجعل اسم التفضيل مسلوب المفاضلة ، أي أليس الله عالما علما تفصيليا لا تخفى عليه خافية.

(وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١))

خص بالذكر فريقان هما ممن شمله عموم قوله (الْعالَمِينَ) [العنكبوت : ١٠] اهتماما بهذين الفريقين وحاليهما : فريق الذين آمنوا ، وفريق المنافقين لأن العلم بما في صدور الفريقين من إيمان ونفاق يترتب عليه الجزاء المناسب لحاليهما في العاجل والآجل ، فذلك ترغيب وترهيب.

١٤٢

ووجه تأكيد كلا الفعلين بلام القسم ونون التوكيد أن المقصود من هذا الخبر رد اعتقاد المنافقين أن الله لا يطلع رسوله على ما في نفوسهم ، فالمقصود من الخبرين هو ثانيهما أعني قوله (وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ).

وأما قوله (وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) فهو تمهيد لما بعده وتنصيص على عدم التباس الإيمان المكذوب بالإيمان الحق.

وفي هذا أيضا إرادة المعنى الكنائي من العلم وهو مجازاة كل فريق على حسب ما علم الله من حاله.

وجيء في جانب هاذين بالفعل المضارع المستقبل إذ نون التوكيد لا يؤكد بها الخبر المثبت إلا وهو مستقبل ؛ إما لأن العلم مكنى به عن لازمه وهو مقابلة كل فريق بما يستحقه بحسب ما علم من حاله والمجازاة أمر مستقبل ، وإما لأن المراد علم بمستقبل وهو اختلاف أحوالهم يوم يجيء النصر ، فلعل من كانوا منافقين وقت نزول الآية يكونون مؤمنين يوم النصر ويبقى قوم على نفاقهم.

والمخالفة بين المؤمنين والمنافقين في التعبير عن الأولين بطريق الموصول والصلة الماضوية وعن الآخرين بطريق اللام واسم الفاعل لما يؤذن به الموصول من اشتهارهم بالإيمان وما يؤذن به الفعل الماضي من تمكن الإيمان منهم وسابقيته ، وما يؤذن به التعريف باللام من كونهم عهدوا بالنفاق وطريانه عليهم بعد أن كانوا مؤمنين ، ففيه تعريف بسوء عاقبتهم مع ما في ذلك من التفنن ورعاية الفاصلة.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢))

هذا غرض آخر من أغراض مخالطة المشركين مع المؤمنين وهو محاولة المشركين ارتداد المسلمين بمحاولات فتنة بالشك والمغالطة للذين لم يقدروا على فتنتهم بالأذى والعذاب : إما لعزتهم وخشية بأسهم مثل عمر بن الخطاب فقد قيل : إن هذه المقالة قيلت له ، وإما لكثرتهم حين كثر المسلمون وأعيت المشركين حيل الصدّ عن الإسلام.

والمراد بالذين كفروا طائفة منهم وهم : أبو جهل ، والوليد بن المغيرة ، وأمية بن خلف ، وأبو سفيان بن حرب (قبل أن يسلم) قالوا للمسلمين ومنهم عمر بن الخطاب : لا

١٤٣

نبعث نحن ولا أنتم فإن عسى كان ذلك فإنا نحمل عنكم آثامكم. وإنما قالوا ذلك جهلا وغرورا حاولوا بهما أن يحجّوا المسلمين في إيمانهم بالبعث توهّما منهم بأنهم إن كان البعث واقعا فسيكونون في الحياة الآخرة كما كانوا في الدنيا أهل ذمام وحمالة ونقض وإبرام شأن سادة العرب أنهم إذا شفعوا شفّعوا وإن تحمّلوا حمّلوا.

وهذا كقول العاصي بن وائل لخباب بن الأرتّ : لئن بعثني الله ليكوننّ لي مال فأقضيك دينك ، وهو الذي نزل فيه قوله تعالى (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً) [مريم : ٧٧]. وكل هذا من الجدال بالباطل وهو طريقة جدلية إن بنيت على الحق كما ينسب إلى علي بن أبي طالب في ضد هذا :

زعم المنجم والطبيب كلاهما

لا تحشر الأجساد قلت إليكما

إن صحّ قولكما فلست بخاسر

أو صحّ قولي فالخسار عليكما

وحكى الله عنهم قولهم (وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) بصيغة الأمر بلام الأمر : إما لأنهم نطقوا بمثل ذلك لبلاغتهم ، وإما لإفادة ما تضمنته مقالتهم من تأكيد تحملهم بذلك. فصيغة أمرهم أنفسهم بالحمل آكد من الخبر عن أنفسهم بذلك ، ومن الشرط وما في معناه ، لأن الأمر يستدعي الامتثال فكانت صيغة الأمر دالة على تحقيق الوفاء بالحمالة.

وواو العطف لجملة (وَلْنَحْمِلْ) على جملة (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا) مراد منها المعية بين مضمون الجملتين في الأمر وليس المراد منه الجمع في الحصول فالجملتان في قوة جملتي شرط وجزاء ، والتعويل على القرينة.

فكان هذا القول أدل على تأكيد الالتزام بالحالة إن اتبع المسلمون سبيل المشركين ، من أن يقال : إن تتبعوا سبيلنا نحمل خطاياكم ، بصيغة الشرط ، أو أن يقال : اتبعوا سبيلنا فنحمل خطاياكم ، بفاء السببية.

والحمل : مجاز تمثيلي لحال الملتزم بمشقة غيره بحال من يحمل متاع غيره فيؤول إلى معنى الحمالة والضمان.

ودل قوله (خَطاياكُمْ) على العموم لأنه جمع مضاف وهو من صيغ العموم.

وقوله (وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ) إبطال لقولهم (وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) ، نقض العموم في الإثبات بعموم في النفي ، لأن (شَيْءٍ) في سياق النفي يفيد العموم لأنه نكرة ، وزيادة حرف (مِنْ) تنصيص على العموم.

١٤٤

والحمل المنفي هو ما كان المقصود منه دفع التبعة عن الغير وتبرئته من جناياته ، فلا ينافيه إثبات حمل آخر عليهم هو حمل المؤاخذة على التضليل في قوله (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) [العنكبوت : ١٣].

والكذب المخبر به عنهم هو الكذب فيما اقتضاه أمرهم أنفسهم بأن يحملوا عن المسلمين خطاياهم حسب زعمهم والوفاء بذلك كما كانوا في الدنيا فهو كذب لا شك فيه لأنه مخالف للواقع ولاعتقادهم.

ولذلك فجملة (إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) بدل اشتمال من جملة (وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ) لأن جملة (وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ) تضمنت عروّ قولهم (وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) عن مطابقته للواقع في شيء وذلك يشتمل على أن مضمونها كذب صريح ، فكان مضمون جملة (إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) مما اشتمل عليه مضمون جملة (وَما هُمْ بِحامِلِينَ). وليس مضمون الثانية عين مضمون الأولى بل الثانية أوفى بالدلالة على أن كذبهم محقق وأنه صفة لهم في خبرهم هذا وفي غيره ، ووزان هذه الجملة وزان بيت علم المعاني :

أقول له ارحل لا تقيمن عندنا

إذ جعل الأئمة جملة (لا تقيمن عندنا) بدل اشتمال من جملة (ارحل) لأن جملة (لا تقيمن) أوفى بالدلالة على كراهيته وطلب ارتحاله ، ولهذا لم تعطف جملة (إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) لكمال الاتصال بينها وبين (وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ).

(وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣))

بعد أن كذبهم في قولهم (وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) [العنكبوت : ١٢] وكشف كيدهم بالمسلمين عطف عليه ما أفاد أنهم غير ناجين من حمل تبعات لأقوام آخرين وهم الأقوام الذين أضلوهم وسوّلوا لهم الشرك والبهتان على وجه التأكيد بحملهم ذلك. فذكر الحمل تمثيل. والأثقال مجاز عن الذنوب والتبعات. وهو تمثيل للشقاء والعناء يوم القيامة بحال الذي يحمل متاعه وهو موقر به فيزاد حمل أمتعة أناس آخرين.

وقد علم من مقام المقابلة أن هذا حمل تثقيل وزيادة في العذاب وليس حملا يدفع التبعة عن المحمول عنه ، وأن الأثقال المحمولة مع أثقالهم هي ذنوب الذين أضلوهم

١٤٥

وليس من بينها شيء من ذنوب المسلمين لأن المسلمين سالمون من تضليل المشركين بما كشف الله لهم من بهتانهم.

وجملة (وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) تذييل جامع لمؤاخذتهم بجميع ما اختلقوه من الإفك والتضليل سواء ما أضلوا به أتباعهم وما حاولوا به بتضليل المسلمين فلم يقعوا في أشراكهم ، وقد شمل ذلك كله لفظ الافتراء ، كما عبر عن محاولتهم تغرير المسلمين بأنهم فيه كاذبون.

[١٤ ـ ١٥] (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥))

سيقت هذه القصة واللاتي بعدها شواهد على ما لقي الرسل والذين آمنوا معهم من تكذيب المشركين كما صرح به قوله عقب القصتين (وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) [العنكبوت : ١٨] على أحد الوجهين الآتيين.

وابتدئت القصص بقصة أول رسول بعثه الله لأهل الأرض فإن لأوليات الحوادث وقعا في نفوس المتأمّلين في التاريخ ، وقد تقدم تفصيل قصته في سورة هود.

وزادت هذه الآية أنه لبث في قومه تسعمائة وخمسين سنة. وظاهر الآية أن هذه مدة رسالته إلى قومه ولا غرض في معرفة عمره يوم بعثه الله إلى قومه ، وفي ذلك اختلاف بين المفسرين ، وفائدة ذكر هذه المدة للدلالة على شدة مصابرته على أذى قومه ودوامه على إبلاغ الدعوة تثبيتا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأوثر تمييز (أَلْفَ) ب (سَنَةٍ) لطلب الخفة بلفظ (سَنَةٍ) ، وميز (خَمْسِينَ) بلفظ (عاماً) لئلا يكرر لفظ (سَنَةٍ).

والفاء من قوله : (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ) عطف على (أَرْسَلْنا) كما عطف عليه (فَلَبِثَ) وقد طوي ذكر ما ترتب عليه أخذهم بالطوفان وهو استمرار تكذيبهم.

وجملة (وَهُمْ ظالِمُونَ) حال ، أي أخذهم وهم متلبسون بالظلم ، أي الشرك وتكذيب الرسول ، تلبسا ثابتا لهم متقررا وهذا تعريض للمشركين بأنهم سيأخذهم عذاب.

وفاء (فَأَنْجَيْناهُ) عطف على (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ). وهذا إيماء إلى أن الله منجي المؤمنين من العذاب.

١٤٦

وقوله (وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ) الضمير للسفينة. ومعنى كونها آية أنها دليل على وقوع الطوفان عذابا من الله للمكذبين الرسل ، فكانت السفينة آية ماثلة في عصور جميع الأمم الذين جاءتهم الرسل بعد نوح موعظة للمكذبين وحجة للمؤمنين. وقد أبقى الله بقية السفينة إلى صدر الأمة الإسلامية ففي «صحيح البخاري» : «قال قتادة : بقيت بقايا السفينة على الجودي حتى نظرتها أوائل هذه الأمة». ويقال إنها دامت إلى أوائل الدولة العباسية ثم غمرتها الثلوج. وكان الجودي قرب (باقردى) وهي قرية من جزيرة ابن عمر بالموصل شرقي دجلة (وباقردى بموحدة بعدها ألف ثم قاف مكسورة ويجوز فتحها ودال فألف مقصورة) وقال تعالى في سورة القمر [١٥] (وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ).

وإنما قال (لِلْعالَمِينَ) الشامل لجميع سكان الأرض لأن من لم يشاهد بقايا سفينة نوح يشاهد السفن فيتذكر سفينة نوح وكيف كان صنعها بوحي من الله لإنجاء نوح ومن شاء الله نجاته ، ولأن الذين من أهل قريتها يخبرون عنها وتنقل أخبارهم فتصير متواترة.

هذا وقد وقع في الإصحاح الثامن من سفر التكوين من التوراة «واستقر الفلك على جبال آراراط» ، وقد اختلف الباحثون في تعيين جبال أراراط ، فمنهم من قال : إنه اسم الجودي وعينوا أنه من جبال بلاد الأكراد في الحد الجنوبي لأرمينيا في سهول ما بين النهرين ووصفوه بأن نهر دجلة يجري بين مرتفعاته بحيث لا يمكن العبور بين الجبل ونهر دجلة إلا في الصيف ، وأيدوا قولهم بوجود بقيد سفينة على قمة ذلك الجبل. وبعضهم زعم أن (أراراط) في بلاد إرمينيا وهو قريب من القول الأول لتجاور مواطن الكردستان وإرمينيا وقد تختلف حدود المواطن باختلاف الدول والفتوح.

ويجوز أن يكون ضمير النصب في (وَجَعَلْناها) عائدا إلى الخبر المذكور بتأويل القصة أو الحادثة.

[١٦ ـ ١٧] (وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧))

انتقل من خبر نوح إلى خبر إبراهيم لمناسبة إنجاء إبراهيم من النار كإنجاء نوح من الماء. وفيه تنبيه إلى عظم القدرة إذ أنجت من الماء ومن النار.

١٤٧

و (إِبْراهِيمَ) عطف على (نُوحاً) [العنكبوت : ١٤]. والتقدير : وأرسلنا إبراهيم.

و (إِذْ) ظرف متعلق ب (أرسلنا) المقدّر ، أي في وقت قوله لقومه (اعْبُدُوا اللهَ) إلخ وهو أول زمن دعوته. واقتضى قوله (اعْبُدُوا اللهَ) أنهم لم يكونوا عابدين لله أصلا.

وجملة (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) تعليل للأمر بعبادة الله. وقد أجمل الخبر في هذه الجملة وفصل بقوله (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) الآية.

ومعنى (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) إن كنتم تعلمون أدلة اختصاص الله بالإلهية فمفعول العلم محذوف لدلالة ما قبله عليه. ويجوز جعل فعل (تَعْلَمُونَ) منزلا منزلة اللازم ، أي إن كنتم أهل علم ونظر.

وجملة (إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً) تعليل لجملة (اعْبُدُوا اللهَ). وقصرهم على عبادة الأوثان يجوز أن يكون قصرا على عبادتهم الأوثان ، أي دون أن يعبدوا الله فهو قصر حقيقي إذ كان قوم إبراهيم لا يعبدون الله فالقصر منصب على قوله (مِنْ دُونِ اللهِ) أي إنما تعبدون غير الله وبذلك يكون (مِنْ دُونِ اللهِ) حالا من (أَوْثاناً) ، أي حال كونها معبودة من دون الله ، وهذا مقابل قوله (اعْبُدُوا اللهَ) دون أن يقول لهم : لا تعبدوا إلا الله ؛ لكن قوم إبراهيم قد وصفوا بالشرك في قوله تعالى في سورة الأنعام [٧٨] (قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) فهم مثل مشركي العرب ، فالقصر منصب على عبادتهم الموصوفة بالوثنية ، أي ما تعبدون إلا صورا لا إدراك لها ، فيكون قصر قلب لإبطال اعتقادهم إلهية تلك الصور كما قال تعالى (قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) [الصافات : ٩٥].

وعلى كلا الوجهين يتخرج معنى قوله (مِنْ دُونِ اللهِ) فإن (دُونِ) يجوز أن تكون بمعنى (غير) فتكون (مِنْ) زائدة ، والمعنى : تعبدون أوثانا غير الله. ويجوز أن تكون كلمة (دُونِ) اسما للمكان المباعد فهي إذن مستعارة لمعنى المخالفة فتكون (مِنْ) ابتدائية ، والمعنى : تعبدون أوثانا موصوفة بأنها مخالفة لصفات الله.

والأوثان : جمع وثن بفتحتين ، وهو صورة من حجر أو خشب مجسمة على صورة إنسان أو حيوان. والوثن أخص من الصنم لأن الصنم يطلق على حجارة غير مصورة مثل أكثر أصنام العرب كصنم ذي الخلصة لخثعم ، وكانت أصنام قوم إبراهيم صورا قال تعالى (قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) [الصافات : ٩٥]. وتقدم وصف أصنامهم في سورة الأنبياء.

و (تَخْلُقُونَ) مضارع خلق الخبر ، أي اختلقه ، أي كذبه ووضعه ، أي وتضعون لها

١٤٨

أخبارا ومناقب وأعمالا مكذوبة موهومة.

والإفك : الكذب. وتقدم في قوله (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) في سورة النور [١١].

وجملة (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) إن كان قوم إبراهيم يعترفون لله تعالى بالإلهية والخلق والرزق ولكنهم يجعلون له شركاء في العبادة ليكونوا لهم شفعاء كحال مشركي العرب تكون الجملة تعليلا لجملة (اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ) أي هو المستحق للعبادة التي هي شكر على نعمه ، وإن كان قومه لا يثبتون إلهية لغير أصنامهم كانت جملة (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) مستأنفة ابتدائية إبطالا لاعتقادهم أن آلهتهم ترزقهم ، ويرجح هذا الاحتمال التفريع في قوله (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ). وقد تقدم في سورة الشعراء التردد في حال إشراك قوم إبراهيم وكذلك في سورة الأنبياء.

وتنكير (رِزْقاً) في سياق النفي يدل على عموم نفي قدرة أصنامهم على كل رزق ولو قليلا. وتفريع الأمر بابتغاء الرزق من الله إبطال لظنهم الرزق من أصنامهم أو تذكير بأن الرازق هو الله ، فابتغاء الرزق منه يقتضي تخصيصه بالعبادة كما دل عليه عطف (وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ). وقد سلك إبراهيم مسلك الاستدلال بالنعم الحسية لأن إثباتها أقرب إلى أذهان العموم.

و (عِنْدَ) ظرف مكان وهو مجاز. شبّه طلب الرزق من الله بالبحث عن شيء في مكان يختص به فاستعير له (عِنْدَ) الدالة على المكان المختص بما يضاف إليه الظرف.

وعدّي الشكر باللام جريا على أكثر استعماله في كلام العرب لقصد إفادة ما في اللام من معنى الاختصاص أي الاستحقاق.

ولام التعريف في (الرِّزْقَ) لام الجنس المفيدة للاستغراق بمعونة المقام ، أي فاطلبوا كل رزق قلّ أو كثر من الله دون غيره. والمعرّف بلام الجنس في قوة النكرة فكأنه قيل : فابتغوا عند الله رزقا ، ولذلك لم تكن إعادة لفظ الرزق بالتعريف مقتضية كونه غير الأول ، فلا تنطبق هنا قاعدة النكرة إذا أعيدت معرفة كانت عين الأولى.

وجملة (إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) تعليل للأمر بعبادته وشكره ، أي لأنه الذي يجازي على ذلك ثوابا وعلى ضده عقابا إذ إلى الله لا إلى غيره مرجعكم بعد الموت. وفي هذا إدماج تعليل بالعبادة بإثبات البعث.

١٤٩

(وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨))

يجوز أن تكون هذه الجملة من بقية مقالة إبراهيم عليه‌السلام بأن يكون رأى منهم مخائل التكذيب ففرض وقوعه ، أو يكون سبق تكذيبهم إياه مقالته هذه ، فيكون الغرض من هذه الجملة لازم الخبر وهو أن تكذيبهم إياه ليس بعجيب فلا يضيره ولا يحسبوا أنهم يضيرونه به ويتشفون منه فإن ذلك قد انتاب الرسل قبله من أممهم ، ولذلك أجمع القراء على قراءة فعل (تُكَذِّبُوا) بتاء الخطاب ولم يختلفوا فيه اختلافهم في قراءة قوله (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ) [العنكبوت : ١٩] إلخ.

ويجوز أن تكون الجملة معترضة والواو اعتراضية واعترض هذا الكلام بين كلام إبراهيم وجواب قومه ، فهو كلام موجه من جانب الله تعالى إلى المشركين التفت به من الغيبة إلى الخطاب تسجيلا عليهم ، والمقصود منه بيان فائدة سوق قصة نوح وإبراهيم وأن للرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم إسوة برسل الأمم الذين قبله وخاصة إبراهيم جدّ العرب المقصودين بالخطاب على هذا الوجه.

وجملة (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) إعلام للمخاطبين بأن تكذيبهم لا يلحقه منه ما فيه تشف منه ؛ فإن كان من كلام إبراهيم فالمراد بالرسول إبراهيم سلك مسلك الإظهار في مقام الإضمار لإيذان عنوان الرسول بأن واجبه إبلاغ ما أرسل به بيّنا واضحا ، وإن كان من خطاب الله مشركي قريش فالمراد بالرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد غلب عليه هذا الوصف في القرآن مع الإيذان بأن عنوان الرسالة لا يقتضي إلا التبليغ الواضح.

(أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١٩))

يجري هذا الكلام على الوجهين المذكورين في قوله (وَإِنْ تُكَذِّبُوا) [العنكبوت : ١٨].

ويترجح أن هذا مسوق من جانب الله تعالى إلى المشركين بأن الجمهور قرءوا (أَوَلَمْ يَرَوْا) بياء الغيبة ولم يجر مثل قوله (وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) [العنكبوت: ١٨]. ومناسبة التعرض لهذا هو ما جرى من الإشارة إلى البعث في قوله (إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [العنكبوت : ١٧] تنظيرا لحال مشركي العرب بحال قوم إبراهيم.

١٥٠

وقرأ الجمهور (أَوَلَمْ يَرَوْا) بياء الغائب والضمير عائد إلى (الَّذِينَ كَفَرُوا) [العنكبوت : ١٢] في قوله (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا) [العنكبوت : ١٢] ، أو إلى معلوم من سياق الكلام. وعلى وجه أن يكون قوله (وَإِنْ تُكَذِّبُوا) [العنكبوت : ١٨] إلخ خارجا عن مقالة إبراهيم يكون ضمير الغائب في (أَوَلَمْ يَرَوْا) التفاتا. والالتفات من الخطاب إلى الغيبة لنكتة إبعادهم عن شرف الحضور بعد الإخبار عنهم بأنهم مكذبون.

وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف أولم تروا بالفوقية على طريقة (وَإِنْ تُكَذِّبُوا) [العنكبوت : ١٨] على الوجهين المذكورين.

والهمزة للاستفهام الإنكاري عن عدم الرؤية ، نزلوا منزلة من لم ير فأنكر عليهم.

والرؤية يجوز أن تكون بصرية (١) ، والاستدلال بما هو مشاهد من تجدد المخلوقات في كل حين بالولادة وبروز النبات دليل واضح لكل ذي بصر.

وإبداء الخلق : بدؤه وإيجاده بعد أن لم يكن موجودا. يقال : أبدأ بهمزة في أوله وبدأ بدونها وقد وردا معا في هذه الآية إذ قال (كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ) ثم قال (فَانْظُرُوا (كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) [العنكبوت : ٢٠] ولم يجىء في أسمائه تعالى إلا المبدئ دون البادئ.

وأحسب أنه لا يقال (أبدأ) بهمز في أوله إلا إذا كان معطوفا عليه (يعيد) ولم أر من قيده بهذا.

و (الْخَلْقَ) : مصدر بمعنى المفعول ، أي المخلوق كقوله تعالى (هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) [لقمان : ١١].

وجيء (يُبْدِئُ) بصيغة المضارع لإفادة تجدد بدء الخلق كلما وجه الناظر بصره في المخلوقات ، والجملة انتهت بقوله (يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ). وأما جملة (ثُمَّ يُعِيدُهُ) فهي مستأنفة ابتدائية فليست معمولة لفعل (يَرَوْا) لأن إعادة الخلق بعد انعدامه ليست مرئية لهم ولا هم يظنونها فتعين أن تكون جملة (ثُمَّ يُعِيدُهُ) مستقلة معترضة بين جملة (أَوَلَمْ يَرَوْا) وجملة (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ). و (ثُمَ) للتراخي الرتبي لأن أمر إعادة الخلق أهمّ وأرفع رتبة من بدئه لأنه غير مشاهد ولأنهم ينكرونه ولا ينكرون بدء الخلق قال في «الكشاف» :

__________________

(١) سيجيء مقابل هذا بعد بضعة وعشرين سطرا.

١٥١

هو كقولك : ما زلت أوثر فلانا وأستخلفه على من أخلّفه» يعني فجملة : وأستخلفه ، ليست معطوفة على جملة : أوثر ، ولا داخلة في خبر : ما زلت ، لأنك تقوله قبل أن تستخلفه فضلا عن تكرر الاستخلاف منك. هذه طريقة «الكشاف» وهو يجعل موقع (ثُمَّ يُعِيدُهُ) كموقع التفريع على الاستفهام الإنكاري.

واعلم أن هذين الفعلين (يبدئ ويعيد) وما تصرف منهما مما جرى استعمالهما متزاوجين بمنزلة الاتباع كقوله تعالى (وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) في سورة سبأ [٤٩]. قال في «الكشاف» في سورة سبأ : فجعلوا قولهم : لا يبدئ ولا يعيد ، مثلا في الهلاك ، ومنه قول عبيد :

فاليوم لا يبدي ولا يعيد

ويقال : أبدأ وأعاد بمعنى تصرف تصرفا واسعا ، قال بشار :

فهمومي مظلة

بادءات وعودا

ويجوز أن تكون الرؤية علمية متعدية إلى مفعولين : أنكر عليهم تركهم النظر والاستدلال الموصّل إلى علم كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده لأن أدلة بدء الخلق تفضي بالناظر إلى العلم بأن الله يعيد الخلق فتكون (ثُمَ) عاطفة فعل (يُعِيدُهُ) على فعل (يُبْدِئُ) والجميع داخل في حيز الإنكار.

و (كَيْفَ) اسم استفهام وهي معلّقة فعل (يَرَوْا) عن العمل في معموله أو معموليه. والمعنى : ألم يتأملوا في هذا السؤال ، أي في الجواب عنه. والاستفهام ب (كَيْفَ) مستعمل في التنبيه ولفت النظر لا في طلب الإخبار.

وجملة (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) مبينة لما تضمنه الاستفهام من إنكار عدم الرؤية المؤدية إلى العلم بوقوع الإعادة ، إذ أحالوها مع أن إعادة الخلق إن لم تكن أيسر من الإعادة في العرف فلا أقل من كونها مساوية لها وهذا كقوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧]. والإشارة ب (ذلِكَ) إلى المصدر المفاد من (يُعِيدُهُ) مثل عود الضمير على نظيره في قوله (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧]. ووجه توكيد الجملة ب (إِنَ) ردّ دعواهم أنه مستحيل.

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ

١٥٢

إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠))

اعتراض انتقالي من الإنكار عليهم ترك الاستدلال بما هو بمرأى منهم ، إلى إرشادهم للاستدلال بما هو بعيد عنهم من أحوال إيجاد المخلوقات وتعاقب الأمم وخلف بعضها عن بعض ، فإن تعوّد الناس بما بين أيديهم يصرف عقولهم عن التأمل فيما وراء ذلك من دلائل دقائقها على ما تدل عليه ، فلذلك أمر الله رسوله أن يدعوهم إلى السير في الأرض ليشاهدوا آثار خلق الله الأشياء من عدم فيوقنوا أن إعادتها بعد زوالها ليس بأعجب من ابتداء صنعها.

وإنما أمر بالسير في الأرض لأن السير يدني إلى الرائي مشاهدات جمّة من مختلف الأرضين بجبالها وأنهارها ومحويّاتها ويمر به على منازل الأمم حاضرها وبائدها فيرى كثيرا من أشياء وأحوال لم يعتد رؤية أمثالها ، فإذا شاهد ذلك جال نظر فكره في تكوينها بعد العدم جولانا لم يكن يخطر له ببال حينما كان يشاهد أمثال تلك المخلوقات في ديار قومه ، لأنه لما نشأ فيها من زمن الطفولة فما بعده قبل حدوث التفكير في عقله اعتاد أن يمر ببصره عليها دون استنتاج من دلائلها حتى إذا شاهد أمثالها مما كان غائبا عن بصره جالت في نفسه فكرة الاستدلال ، فالسير في الأرض وسيلة جامعة لمختلف الدلائل فلذلك كان الأمر به لهذا الغرض من جوامع الحكمة. وجيء في جانب بدء الخلق بالفعل الماضي لأن السائر ليس له من قرار في طريقه فندر أن يشهد حدوث بدء مخلوقات ، ولكنه يشهد مخلوقات مبدوءة من قبل فيفطن إلى أن الذي أوجدها إنما أوجدها بعد أن لم تكن وأنه قادر على إيجاد أمثالها فهو بالأحرى قادر على إعادتها بعد عدمها.

والاستدلال بالأفعال التي مضت أمكن لأن للشيء المتقرر تحققا محسوسا.

وجيء في هذا الاستدلال بفعل النظر لأن إدراك ما خلقه الله حاصل بطريق البصر وهو بفعل النظر أولى وأشهر لينتقل منه إلى إدراك أنه ينشئ النشأة الآخرة.

ولذلك أعقب بجملة (ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) فهي جملة مستقلة. (وثم) للترتيب الرتبي كما تقدم في قوله (ثُمَّ يُعِيدُهُ) [العنكبوت : ١٩].

وإظهار اسم الجلالة بعد تقدم ضميره في قوله (كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) وكان مقتضى الظاهر أن يقول : ثم ينشئ. قال في «الكشاف» : لأن الكلام كان واقعا في الإعادة فلما قررهم في الإبداء بأنه من الله احتج عليهم بأن الإعادة إنشاء مثل الإبداء ، فالذي لم يعجزه

١٥٣

الإبداء فهو الذي وجب أن لا تعجزه الإعادة. فكأنه قال : ثم ذاك الذي أنشأ النشأة الأولى هو الذي ينشئ النشأة الآخرة فللتنبيه على هذا المعنى أبرز اسمه وأوقعه مبتدأ اه. يريد أن العدول عن الإضمار إلى الاسم الظاهر لتسجيل وقوع هذا الإنشاء الثاني ، فتكون الجملة مستقلة حتى تكون عنوان اعتقاد بمنزلة المثل لأن في اسم الجلالة إحضارا لجميع الصفات الذاتية التي بها التكوين ، وليفيد وقوع المسند إليه مخبرا عنه بمسند فعلي معنى التقوي.

وجملة (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تذييل ، أي قدير على البعث وعلى كل شيء إذا أراده. وإظهار اسم الجلالة لتكون جملة التذييل مستقلة بنفسها فتجري مجرى الأمثال.

و (النَّشْأَةَ) بوزن فعلة : المرة من النّشء وهو الإيجاد ، وكذلك قرأها الجمهور ، عبر عنها بصيغة المرة لأنها نشأة دفعية تخالف النّشء الأول ويقال : النّشاءة بمد بعد الشين بوزن الكآبة ومثلها الرأفة والرآفة.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو النشاءة بالمدّ. ووصفها ب (الْآخِرَةَ) إيماء بأنها مساوية للنشأة الأولى فلا شبهة لهم في إحالة وقوعها. وأما قوله تعالى (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى) [الواقعة : ٦٢] فذلك على سبيل المشاكلة التقديرية لأن قوله قبله (وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) [الواقعة : ٦١] يتضمن النشأة الآخرة فعبر عن مقابلتها بالنشأة.

(يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١))

لما ذكر النشأة الآخرة أتبع ذكرها بذكر أهم ما تشتمل عليه وما أوجدت لأجله وهو الثواب والعقاب.

وابتدئ بذكر العقاب لأن الخطاب جار مع منكري البعث الذين حظهم فيه هو التعذيب. ومفعولا فعلي المشيئة محذوفان جريا على غالب الاستعمال فيهما. والتقدير : من يشاء تعذيبه ومن يشاء رحمته. والفريقان معلومان من آيات الوعد والوعيد ؛ فأصحاب الوعد شاء الله رحمتهم وأصحاب الوعيد شاء تعذيبهم ، فمن الذين شاء تعذيبهم المشركون ومن الذين شاء رحمتهم المؤمنون ، والمقصود هنا هم الفريقان معا كما دل عليه الخطاب العام في قوله (وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ).

والقلب : الرجوع ، أي وإليه ترجعون.

١٥٤

وتقديم المجرور على عامله للاهتمام والتأكيد إذ ليس المقام للحصر إذ ليس ثمة اعتقاد مردود. وفي هذا إعادة إثبات وقوع البعث وتعريض بالوعيد.

(وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢))

عطف على جملة (وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) [العنكبوت : ٢١] باعتبار ما تضمنته من الوعيد.

والمعجز حقيقته : هو الذي يجعل غيره عاجزا عن فعل ما ، وهو هنا مجاز في الغلبة والانفلات من المكنة ، وقد تقدم عند قوله تعالى (إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) في سورة الأنعام [١٣٤].

فالمعنى : وما أنتم بمفلتين من العذاب. ومفعول (معجزين) محذوف للعلم به ، أي بمعجزين الله.

ويتعلق قوله (فِي الْأَرْضِ بِمُعْجِزِينَ) ، أي ليس لكم انفلات في الأرض ، أي لا تجدون موئلا ينجيكم من قدرتنا عليكم في مكان من الأرض سهلها وجبلها ، وبدوها وحضرها.

وعطف (وَلا فِي السَّماءِ) على (فِي الْأَرْضِ) احتراس وتأييس من الطمع في النجاة وإن كانوا لا مطمع لهم في الالتحاق بالسماء. وهذا كقول الأعشى :

فلو كنت في جبّ ثمانين قامة

ورقّيت أسباب السماء بسلّم

ومنه قوله تعالى (لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) [سبأ : ٢٢] ، ولم تقع مثل هذه الزيادة في آية سورة الشورى [٣٠ ، ٣١] (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ* وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) لأن تلك الآية جمعت خطابا للمسلمين والمشركين بقوله (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى : ٣٠] إذ العفو عن المسلمين. وما هنا من المبالغة المفروضة وهي من المبالغة المقبولة كما في قول أبي بن سلمي الضبي :

ولو طار ذو حافر قبلها

لطارت ولكنه لم يطر

وهي أظهر في قوله تعالى (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا) [الرحمن : ٣٣]. وفي هذه إشارة إلى إبطال اغترارهم بتأخير

١٥٥

الوعيد الذي توعدوه في الدنيا.

ولما آيسهم من الانفلات بأنفسهم في جميع الأمكنة أعقبه بتأييسهم من الانفلات من الوعيد بسعي غيرهم لهم من أولياء يتوسطون في دفع العذاب عنهم بنحو السعاية أو الشفاعة ، أو من نصراء يدافعون عنهم بالمغالبة والقوة.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٣))

بيان لما في قوله (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ) [العنكبوت : ٢١] وإنما عطف لما فيه من زيادة الإخبار بأنهم لا ينالهم الله برحمة وأنه يصيبهم بعذاب أليم.

والكفر بآيات الله : هو كفرهم بالقرآن. والكفر بلقائه : إنكار البعث.

واسم الإشارة يفيد أن ما سيذكره بعده نالهم من أجل ما ذكر قبل اسم الإشارة من أوصاف ، أي أنهم استحقوا اليأس من الرحمة وإصابتهم بالعذاب الأليم لأجل كفرهم بالقرآن وإنكارهم البعث على أسلوب (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥].

وأخبر عن يأسهم من رحمة الله بالفعل المضي تنبيها على تحقيق وقوعه. والمعنى : أولئك سييأسون من رحمة الله لا محالة.

والتعبير بالاسم الظاهر في قوله (بِآياتِ اللهِ) دون ضمير التكلم للتنويه بشأن الآيات حيث أضيفت إلى الاسم الجليل لما في الاسم الجليل من التذكير بأنه حقيق بأن لا يكفر بآياته. والعدول إلى التكلم في قوله (رَحْمَتِي) التفات عاد به أسلوب الكلام إلى مقتضى الظاهر ، وإعادة اسم الإشارة لتأكيد التنبيه على استحقاقهم ذلك.

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤))

لما تمّ الاعتراض الواقع في خلال قصة إبراهيم عاد الكلام إلى بقية القصة بذكر ما أجابه به قومه.

والفاء تفريع على جملة (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ) [العنكبوت : ١٦].

وجيء بصيغة حصر الجواب في قولهم (اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ) للدلالة على أنهم لم

١٥٦

يترددوا في جوابه وكانت كلمتهم واحدة في تكذيبه وإتلافه وهذا من تصلبهم في كفرهم.

ثم ترددوا في طريق إهلاكه بين القتل بالسيف والإتلاف بالإحراق ثم استقر أمرهم على إحراقه لما دل عليه قوله تعالى (فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ) و (جَوابَ قَوْمِهِ) خبر (كانَ) واسمها (أَنْ قالُوا). وغالب الاستعمال أن يؤخر اسمها إذا كان (أَنْ) المصدرية وصلتها كما تقدم في قوله تعالى (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) في آخر سورة النور [٥١] ، ولذلك لم يقرأ الاسم الموالي لفعل الكون في أمثالها في غير القراءات الشاذة إلا منصوبا.

وقد أجمل إنجاؤه من النار هنا وهو مفصل في سورة الأنبياء.

والإشارة ب (ذلِكَ) إلى الإنجاء المأخوذ من (فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ) وجعل ذلك الإنجاء آيات ولم يجعل آية واحدة لأنه آية لكل من شهده من قومه ولأنه يدل على قدرة الله ، وكرامة رسوله ، وتصديق وعده ، وإهانة عدوه ، وأن المخلوقات كلها جليلها وحقيرها مسخرة لقدرة الله تعالى.

وجيء بلفظ (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ليدل على أن إيمانهم متمكن منهم ومن مقومات قوميتهم كما تقدم في قوله (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) في سورة البقرة [١٦٤]. فذلك آيات على عظيم عناية الله تعالى برسله فصدّق أهل الإيمان في مختلف العصور. ففي قوله (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) تعريض بأن تلك الآيات لم يصدق بها قوم إبراهيم لشدة مكابرتهم وكون الإيمان لا يخالط عقولهم.

(وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٥))

يجوز أن تكون مقالته هذه سابقة على إلقائه في النار وأن تكون بعد أن أنجاه الله من النار. والأظهر من ترتيب الكلام أنها كانت بعد أن أنجاه الله من النار ، أراد به إعلان مكابرتهم الحق وإصرارهم على عبادة الأوثان بعد وضوح الحجة عليهم بمعجزة سلامته من حرق النار. وتقدم ذكر الأوثان قريبا.

ومحط القصر ب (إِنَّمَا) هو المفعول لأجله ؛ أما قصر المعبودات من دون الله على

١٥٧

كونها أوثانا فقد سبق في قوله (إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً) [العنكبوت : ١٧] أي ما اتخذتم أوثانا إلا لأجل مودّة بعضكم بعضا. ووجه الحصر أنه لم تبق لهم شبهة في عبادة الأوثان بعد مشاهدة دلالة صدق الرسول الذي جاء بإبطالها فتمحض أن يكون سبب بقائهم على عبادة الأوثان هو مودة بعضهم بعضا الداعية لإباءة المخالفة. والمودة : المحبة والإلف. ويتعين أن يكون ضمير (بَيْنِكُمْ) شاملا للأوثان.

والمودة : المحبة. فهؤلاء القوم يحب بعضهم بعضا فلا يخالفه وإن لاح له أنه على ضلال ، ويحبون الأوثان فلا يتركون عبادتها وإن ظهرت لبعضهم دلالة بطلان إلهيتها قال تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ) [البقرة : ١٦٥].

قال الفخر : أي مودة بين الأوثان وعبدتها فإن من غلبت عليه اللذات الجسمية لا يلتفت إلى اللذات العقلية كالمجنون إذا احتاج إلى قضاء حاجة من أكل أو شرب أو إراقة ماء وهو بين مجمع من الأكابر لا يلتفت إلى اللذة العقلية من الحياء وحسن السيرة بل يحصّل ما فيه لذة جسمه. فهم كانوا قليلي العقول فغلبت عليهم اللذات الجسمية فلم يتسع عقلهم لمعبود غير جسماني ورأوا تلك الأصنام مزينة بألوان وجواهر فأحبوها.

وفعل (اتَّخَذْتُمْ) مراد به الاستمرار والبقاء على اتخاذها بعد وضوح حجة بطلان استحقاقها العبادة.

وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر وخلف (مَوَدَّةَ) منصوبا منونا بدون إضافة ، و (بَيْنِكُمْ) منصوبا على الظرفية. وقرأ حمزة وحفص عن عاصم وروح عن يعقوب (مَوَدَّةَ) منصوبا غير منون بل مضافا إلى (بَيْنِكُمْ) ، و (بَيْنِكُمْ) مجرور أو هو من إضافة المظروف إلى الظرف. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ورويس عن يعقوب مرفوعا مضافا على أن تكون (ما) في (إِنَّمَا) موصولة وحقها أن تكتب مفصولة ، و (مَوَدَّةَ) خبر (إن) تكون كتابة (إِنَّمَا) متصلة من قبيل الرسم غير القياسي فيكون الإخبار عنها بأنها مودة إخبارا مجازيا عقليا باعتبار أن الاتخاذ سبب عن المودة. ولما في المجاز من المبالغة كان فيه تأكيد للخبر بعد تأكيده ب (إن) فيقوم التأكيدان مقام الحصر إذ ليس الحصر إلا تأكيدا على تأكيد كما قال السكاكي ، أي لأنه بمنزلة إعادة الخبر حيث يثبت ثم يؤكد بنفي ما عداه.

والخبر مستعمل في غير إفادة الحكم بل في التنبيه على الخطأ بقرينة قوله عقبه (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً). ونظيره جملة صلة الموصول في

١٥٨

قول عبدة بن الطبيب (١) :

إن الذين ترونهم إخوانكم

يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا

ولما كان في قوله (مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ) شائبة ثبوت منفعة لهم في عبادة الأوثان إذ يكتسبون بذلك مودة بينهم تلذ لنفوسهم قرنه بقوله (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ) إلخ تنبيها لسوء عاقبة هذه المودة وإزالة للغرور والغفلة ، ليعلموا أن اللذات العاجلة لا عبرة بها إن كانت تعقب ندامة آجلة.

ومعنى (يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ) أن المخاطبين يكفرون بالأصنام التي كانوا يعبدونها إذ يجحدون يوم القيامة أنهم كانوا يعبدونها.

ومعنى (وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أن المخاطبين يلعن كل واحد منهم الآخرين ؛ إما لأن الملعونين غرّوا اللاعنين فسوّلوا لهم اتخاذ الأصنام ، وإما لأنهم وافقوهم على ذلك.

وهذه مخاز تلحق بعضهم من بعض ، ثم ذكر ما يعمهم من عذاب الخزي بقوله (وَمَأْواكُمُ النَّارُ).

ثم ذكر ما يعمهم جميعا من انعدام النصير فقال (وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) فنفى عنهم جنس الناصر. وهو من يزيل عنهم ذلك الخزي. وجيء في نفي الناصر بصيغة الجمع هنا خلافا لقوله آنفا (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) [العنكبوت : ٢٢] لأنهم لما تألبوا على إبراهيم وتجمعوا لنصرة أصنامهم كان جزاؤهم حرمانهم من النصراء مطابقة بين الجزاء والحالة التي جوزوا عليها. على أن المفرد والجمع في حيّز النفي سواء في إفادة نفي كل فرد من الجنس.

(فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦))

(فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ).

جملة معترضة بين الإخبار عن إبراهيم اعتراض التفريع ، وأفادت الفاء مبادرة لوط

__________________

(١) لطبيب لقب أبي عبدة واسمه يزيد بن عمرو. وتب في أكثر النسخ من كتب الأدب مخطوطة ومطبوعها : الطبيب بموحدتين بينهما تحتية وفي قليل من كتب الأدب بتحتية بعد الطاء ولم أقف على من حقق ضبطه بوجه لا التباس فيه.

١٥٩

بتصديق إبراهيم ، والاقتصار على ذكر لوط يدل على أنه لم يؤمن به إلا لوط لأنه الرجل الفرد الذي آمن به وأما امرأة إبراهيم وامرأة لوط فلا يشملهما اسم القوم في قوله تعالى (وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) [العنكبوت : ١٦] الآية لأن القوم خاص برجال القبيلة قال زهير:

أقوم آل حصن أم نساء

وفي التوراة أنه كانت معه زوجه (سارة) وزوج لوط واسمها (ملكة). ولوط هو ابن (هاران) أخي إبراهيم ، فلوط يومئذ من أمة إبراهيم عليهما‌السلام.

(وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

عطف على جملة (فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ) [العنكبوت : ٢٤].

فضمير (قالَ) عائد إلى إبراهيم ، أي أعلن أنه مهاجر ديار قومه وذلك لأن الله أمره بمفارقة ديار أهل الكفر.

وهذه أول هجرة لأجل الدين ولذلك جعلها هجرة إلى ربه. والمهاجرة مفاعلة من الهجر : وهو ترك شيء كان ملازما له ، والمفاعلة للمبالغة أو لأن الذي يهجر قومه يكونون هم قد هجروه أيضا.

وحرف (إِلى) في قوله (إِلى رَبِّي) للانتهاء المجازي إذ جعل هجرته إلى الأرض التي أمره الله بأن يهاجر إليها كأنها هجرة إلى ذات الله تعالى فتكون (إِلى) تخييلا لاستعارة مكنية ؛ أو جعل هجرته من المكان الذي لا يعبد أهله الله لطلب مكان ليس فيه مشركون بالله كأنه هجرة إلى الله ، فتكون (إِلى) على هذا الوجه مستعارة لمعنى لام التعليل استعارة تبعية.

ورشحت هذه الاستعارة على كلا الوجهين بقوله (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). وهي جملة واقعة موقع التعليل لمضمون (إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) ، لأن من كان عزيزا يعتز به جاره ونزيله.

واتباع وصف (الْعَزِيزُ) ب (الْحَكِيمُ) لإفادة أن عزته محكمة واقعة موقعها المحمود عند العقلاء مثل نصر المظلوم ، ونصر الداعي إلى الحق ، ويجوز أن يكون (الْحَكِيمُ) بمعنى الحاكم فيكون زيادة تأكيد معنى (الْعَزِيزُ).

وقد مضت قصة إبراهيم وقومه وبلادهم مفصلة في سورة الأنبياء.

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ

١٦٠