تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٠

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٠

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢١٤

فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧))

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ).

هذا الكلام عقبت به قصة إبراهيم تبيانا لفضلة إذ لا علاقة له بالقصة. والظاهر أن يكون المراد ب (وَهَبْنا) ، و (جَعَلْنا) الإعلام بذلك فيكون من تمام القصة كما في سورة هود. وتقدم نظير هذه الآية في الأنعام في ذكر فضائل إبراهيم. و (الْكِتابَ) مراد به الجنس فالتوراة ، والإنجيل ، والزبور ، والقرآن كتب نزلت في ذرية إبراهيم.

(وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ).

جمع الله له أجرين : أجرا في الدنيا بنصره على أعدائه وبحسن السمعة وبث التوحيد ووفرة النسل ، وأجرا في الآخرة وهو كونه في زمرة الصالحين ، والتعريف للكمال ، أي من كمل الصالحين.

[٢٨ ـ ٣٠] (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠))

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ)

الانتقال من رسالة إبراهيم إلى قومه إلى رسالة لوط لمناسبة أنه شابه إبراهيم في أن أنجاه الله من عذاب الرجز. والقول في صدر هذه الآية كالقول في آية (وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) [العنكبوت : ١٦] المتقدم آنفا. وتقدم نظيرها في سورة النمل وفي سورة الشعراء.

وما بين الآيات من تفاوت هو تفنن في حكاية القصة للغرض الذي ذكرته في المقدمة السابعة ، إلا قوله هنا (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) فإنه لم يقع له نظير فيما مضى.

وقوم لوط من الكنعانيين وتقدم ذكرهم في سورة الأعراف.

وتوكيد الجملة ب (إن) واللام توكيد لتعلق النسبة بالمفعول لا تأكيد للنسبة ، فالمقصود

١٦١

تحقيق أن الذي يفعلونه فاحشة ، أي عمل قبيح بالغ الغاية في القبح ، لأن الفحش بلوغ الغاية في شيء قبيح لأنهم كانوا غير شاعرين بشناعة عملهم وقبحه.

وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم وأبو جعفر (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) بهمزة واحدة على الإخبار المستعمل في التوبيخ. وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ويعقوب وخلف بهمزتين : همزة الاستفهام وهمزة (إنّ). وقرأ الجميع (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ) بهمزتين. وفي «الكشاف» : قال أبو عبيد : وجدت الأول أي (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) في الإمام بحرف واحد بغير ياء ، أي بغير الياء التي تكتب الهمزة المكسورة على صورتها ورأيت الثاني (أي (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ)) بحرفي الياء والنون اه. (يعني الياء بعد همزة الاستفهام والنون نون إن). ولعله يعني بالإمام مصحف البصرة أو الكوفة فتكون قراءة قرائهما رواية مخالفة لصورة الرسم.

وجملة (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ) إلخ بدل اشتمال من مضمون جملة (لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) ، باعتبار ما عطف على جملة (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ) من قوله (وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ) إلخ لأن قطع السبيل وإتيان المنكر في ناديهم مما يشتمل عليه إتيان الفاحشة.

وأدخل استفهام الإنكار على جميع التفصيل وأعيد حرف التأكيد لتتطابق جملة البدل مع الجملة المبدل منها لأنها الجزء الأول من هذه الجملة المبدلة عند قطع النظر عما عطف عليها تكون من الجملة المبدل منها بمنزلة البدل المطابق.

وقطع السبيل : قطع الطريق ، أي التصدي للمارين فيه بأخذ أموالهم أو قتل أنفسهم أو إكراههم على الفاحشة. وكان قوم لوط يقعدون بالطرق ليأخذوا من المارة من يختارونه.

فقطع السبيل فساد في ذاته وهو أفسد في هذا المقصد. وأما إتيان المنكر في ناديهم فإنهم جعلوا ناديهم للحديث في ذكر هذه الفاحشة والاستعداد لها ومقدماتها كالتغازل برمي الحصى اقتراعا بينهم على من يرومونه ، والتظاهر بتزيين الفاحشة زيادة في فسادها وقبحها لأنه معين على نبذ التستر منها ومعين على شيوعها في الناس.

وفي قوله (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) تشديد في الإنكار عليهم في أنهم الذين سنوا هذه الفاحشة السيئة للناس وكانت لا تخطر لأحد ببال ، وإن كثيرا من المفاسد تكون الناس في غفلة عن ارتكابها لعدم الاعتياد بها حتى إذا أقدم أحد على فعلها وشوهد

١٦٢

ذلك منه تنبهت الأذهان إليها وتعلقت الشهوات بها.

والنادي : المكان الذي ينتدي فيه الناس ، أي يجتمعون نهارا للمحادثة والمشاورة وهو مشتق من الندو بوزن العفو وهو الاجتماع نهارا. وأما مكان الاجتماع ليلا فهو السامر ، ولا يقال للمجلس ناد إلا ما دام فيه أهله فإذا قاموا عنه لم يسم ناديا.

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ).

الكلام فيه كالقول في نظيره المتقدم آنفا في قوله (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ) [العنكبوت : ٢٤] الآية ، والأمر في (ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ) للتعجيز وهو يقتضي أنه أنذرهم العذاب في أثناء دعوته. ولم يتقدم ذكر ذلك في قصة لوط فيما مضى لكن الإنذار من شئون دعوة الرسل.

وأراد بالنصر عقاب المكذبين ليريهم صدق ما أبلغهم من رسالة الله.

ووصفهم ب (الْمُفْسِدِينَ) لأنهم يفسدون أنفسهم بشناعات أعمالهم ويفسدون الناس بحملهم على الفواحش وتدريبهم بها ، وفي هذا الوصف تمهيد للإجابة بالنصر لأن الله لا يحب المفسدين.

[٣١ ـ ٣٢] (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢))

(لَمَّا) أداة تدل على التوقيت ، والأصل أنها ظرف ملازم الإضافة إلى جملة. ومدلولها وجود لوجود ، أي وجود مضمون الجملة التي تضاف إليها عند وجود الجملة التي تتعلق بها فهي تستلزم جملتين : أولاهما فعلية ماضوية وتضاف إليها (لَمَّا) ، والثانية فعلية أو اسمية مشتملة على ما يصلح لأن يتعلق به الظرف من فعل أو اسم مشتق ، ويطلق على الجملة الثانية الواقعة بعد (لَمَّا) اسم الجزاء تسامحا.

ولما كانت (لَمَّا) ظرفا مبهما تعين أن يكون مضمون الجملة التي تضاف إليها (لَمَّا) معلوما للسامع ، إذ التوقيت الإعلام بمقارنة زمن مجهول بزمن معلوم. فوجود (لَمَّا) هنا يقتضي أن مجيء الملائكة بالبشرى أمر معلوم للسامع مع أنه لم يتقدم ذكر

١٦٣

للبشرى ، فتعين أن يكون التعريف في البشرى تعريف العهد لاقتضاء (لَمَّا) أن تكون معلومة ، فالبشرى هي ما دل عليه قوله تعالى آنفا (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ) النبوءة والكتاب [العنكبوت : ٢٧] كما تقدم بيانه.

والبشرى : اسم للبشارة وهي الإخبار بما فيه مسرة للمخبر ـ بفتح الباء ـ وتقدم ذكر البشارة عند قوله تعالى (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً) في سورة البقرة [١١٩].

ومن لطف الله بإبراهيم أن قدّم له البشرى قبل إعلامه بإهلاك قوم لوط لعلمه تعالى بحلم إبراهيم. والمعنى : قالوا لإبراهيم إنا مهلكو أهل هذه القرية إلخ.

والقرية هي (سدوم) قرية قوم لوط. وقد تقدم ذكرها في سورة الأعراف.

وجملة (إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ) تعليل للإهلاك وقصد به استئناس إبراهيم لقبول هذا الخبر المحزن ، وأيضا لأن العدل يقتضي أن لا يكون العقاب إلا على ذنب يقتضيه.

والظلم : ظلمهم أنفسهم بالكفر والفواحش ، وظلمهم الناس بالغصب على الفواحش والتدرب بها.

وقوله (إِنَّ فِيها لُوطاً) خبر مستعمل في التذكير بسنة الله مع رسله من الإنجاء من العذاب الذي يحل بأقوامهم. فهو من التعريض للملائكة بتخصيص لوط ممن شملتهم القرية في حكم الإهلاك ، ولوط وإن لم يكن من أهل القرية بالأصالة إلا أن كونه بينهم يقتضي الخشية عليه من أن يشمله الإهلاك. ولهذا قال (إِنَّ فِيها لُوطاً) بحرف الظرفية ولم يقل : إن منها.

وجواب الملائكة إبراهيم بأنهم أعلم بمن فيها يريدون أنهم أعلم منه بأحوال من في القرية ، فهو جواب عما اقتضاه تعريضه بالتذكير بإنجاء لوط ، أي نحن أعلم منك باستحقاق لوط النجاة عند الله ، واستحقاق غيره العذاب فإن الملائكة لا يسبقون الله بالقول وهم بأمره يعملون وكان جوابهم مطمئنا إبراهيم. فالمراد من علمهم بمن في القرية علمهم باختلاف أحوال أهلها المرتب عليها استحقاق العذاب ، أو الكرامة بالنجاة.

وإنما كان الملائكة أعلم من إبراهيم بذلك لأن علمهم سابق على علمه ولأنه علم يقين ملقى من وحي الله فيما سخر له أولئك الملائكة إذ كان إبراهيم لم يوح الله إليه بشيء في ذلك ، ولأنه علم تفصيلي لا إجمالي ، وعمومي لا خصوصي. فلأجل هذا الأخير أجابوا ب (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها). ولم يقولوا : نحن أعلم بلوط ، وكونهم أعلم من إبراهيم

١٦٤

في هذا الشأن لا يقتضي أنهم أعلم من إبراهيم في غيره فإن لإبراهيم علم النبوءة والشريعة وسياسة الأمة ، والملائكة يسبحون الليل والنهار لا يفترون ولا يشتغلون بغير ذلك إلا متى سخرهم الله لعمل. وبالأولى لا يقتضي كونهم أعلم بهذا منه أن يكونوا أفضل من إبراهيم ، فإن قول أهل الحق إن الرسل أفضل من الملائكة ، والمزية لا تقتضي الأفضلية ، ولكل فريق علم أطلعه الله عليه وخصه به كما خص الخضر بما لم يعلمه موسى ، وخص موسى بما لا يعلمه الخضر ، ولذلك عتب الله على موسى لما سئل : هل يوجد أعلم منك؟ فقال : لا ، لأنه كان حق الجواب أن يفكر في أنواع العلم.

وجملة (لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ) بيان لجملة (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها) فلذلك لم تعطف عليها وفصلت ، فقد علموا بإذن الله أن لا ينجو إلا لوط وأهله ، أي بنتاه لا غير ويهلك الباقون حتى امرأة لوط.

وفعل (كانَتْ) مستعمل في معنى تكون ، فعبر بصيغة الماضي تشبيها للفعل المحقق وقوعه بالفعل الذي مضى مثل قوله (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١] ، ويجوز أن يكون مرادا به الكون في علم الله وتقديره ، كما في آية النمل [٥٧] (قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ) فتكون صيغة الماضي حقيقة.

وتقدم الكلام على نظير قوله (إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) في سورة النمل.

(وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣))

قد أشعر قوله (إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) [العنكبوت : ٣١] أن الملائكة يحلون بالقرية واقتضى ذلك أن يخبروا لوطا بحلولهم بالقرية ، وأنهم مرسلون من عند الله استجابة لطلب لوط النصر على قومه ، فكان هذا المجيء مقدرا حصوله ، فمن ثم جعل شرطا لحرف (لَمَّا) كما تقدم آنفا في قوله (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى) [العنكبوت : ٣١].

و (أَنْ) حرف مزيد للتوكيد وأكثر ما يزاد بعد (لَمَّا) وهو يفيد تحقيق الربط بين مضمون الجملتين اللتين بعد (لَمَّا) ، فهي هنا لتحقيق الربط بين مجيء الرسل ومساءة لوط بهم. ومعنى تحقيقه هنا سرعة الاقتران والتوقيت بين الشرط والجزاء تنبيها على أن الإساءة عقبت مجيئهم وفاجأته من غير ريث ، وذلك لما يعلم من عادة معاملة قومه مع الوافدين على قريتهم فلم يكون لوط عالما بأنهم ملائكة لأنهم جاءوا في صورة رجال فأريد هنا

١٦٥

التنبيه على أن ما حدث به من المساءة وضيق الذرع كان قبل أن يعلم بأنهم ملائكة جاءوا لإهلاك أهل القرية وقبل أن يقولوا (لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ).

ولم تقع (أَنْ) المؤكدة في آية سورة هود لأن في تلك السورة تفصيلا لسبب إساءته وضيق ذرعه فكان ذلك مغنيا عن التنبيه عليه في هذه الآية فكان التأكيد هنا ضربا من الإطناب. وقد تقدم تفصيل ذلك في سورة هود وتفسيرها هناك.

وبناء فعل (سِيءَ) للمجهول لأن المقصود حصول المفعول دون فاعله.

وعطف عليه جملة (وَقالُوا لا تَخَفْ) لأنها من جملة ما وقع عقب مجيء الرسل لوطا. وقد طويت جمل دل عليها قوله (إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ) وهي الجمل التي ذكرت معانيها في قوله (وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ) إلى قوله (قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) في سورة هود [٧٨ ـ ٨١]. وقدّموا تأمينه قبل إعلامه بأنهم منزلون العذاب على أهل القرية تعجيلا بتطمينه.

وعطف (وَلا تَحْزَنْ) على (لا تَخَفْ) جمع بين تأمينه من ضرّ العذاب وبين إعلامه بأن الذين سيهلكون ليسوا أهلا لأن يحزن عليهم ، ومن أولئك امرأته لأنه لا يحزن على من ليس بمؤمن به.

وجملة (إِنَّا مُنَجُّوكَ) تعليل للنهي عن الأمرين.

واستثناء امرأته من عموم أهله استثناء من التعليل لا من النهي ، ففي ذلك معذرة له بما عسى أن يحصل له من الحزن على هلاك امرأته مع أنه كان يحسبها مخلصة له ، وقد بيّنا وجه ذلك في تفسير سورة هود.

وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي (مُنَجُّوكَ) بسكون النون. وقرأ الباقون بفتح النون وتشديد الجيم.

(إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤))

جملة مستأنفة وقعت بيانا لما في جملة (لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ) [العنكبوت : ٣٣] من الإيذان بأن ثمة حادثا يخاف منه ويحزن له.

والرجز : العذاب المؤلم. ومعنى كونه من السماء أنه أنزل عليهم من الأفق وقد

١٦٦

مضى بيانه في سورة هود.

(وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥))

عطف على جملة (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) [العنكبوت : ٢٨] إلخ عطف آية على آية لأن قصة لوط آية بما تضمنته من الخبر ، وآثار قرية قومه آية أخرى بما يمكن مشاهدته لأهل البصر. ويجوز أن تكون جملة معترضة في آخر القصة. وعلى كلا الوجهين فهو من كلام الله. ونون المتكلم المعظم ضمير الجلالة وليست ضمير الملائكة. والآية : العلامة الدالة على أمر.

ومفعول (تَرَكْنا) يجوز أن يكون (آيَةً) فيجعل (من) حرف جر وهو مجرور وصفا ل (آيَةً) قدّم على موصوفه للاهتمام فيجعل حالا من (آيَةً).

ويجوز أن تكون (من) للابتداء ، أي تركنا آية صادرة من آثارها ومعرفة خبرها ، وهي آية واضحة دائمة على طول الزمان إلى الآن ولذلك وصفت ب (بَيِّنَةً) ، ولم توصف آية السفينة ب (بَيِّنَةً) في قوله (وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ) [العنكبوت : ١٥] ، لأن السفينة قد بليت ألواحها وحديدها أو بقي منها ما لا يظهر إلا بعد تفتيش إن كان.

ويجوز جعل (من) اسما بمعنى بعض على رأي من رأى ذلك من المحققين ، فتكون (من) مفعولا مضافا إلى ضمير (قرية). وتقدم بيان ذلك عند قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) الآية في سورة البقرة [٨]. والمعنى : ولقد تركنا من القرية آثارا دالة لقوم يستعملون عقولهم في الاستدلال بالآثار على أحوال أهلها. وهذه العلامة هي بقايا قريتهم مغمورة بماء بحيرة لوط تلوح من تحت المياه شواهد القرية ، وبقايا لون الكبريت والمعادن التي رجمت بها قريتهم وفي ذلك عدة أدلة باختلاف مدارك المستدلين.

ويتعلق قوله (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) بقوله (تَرَكْنا) ، أو يجعل ظرفا مستقرا صفة ل (آيَةً).

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦))

عطف على (وَلُوطاً) [العنكبوت : ٢٨] المعطوف على (نُوحاً) [العنكبوت: ١٤] المعمول ل (أَرْسَلْنا) [العنكبوت : ١٤]. فالتقدير : وأرسلنا إلى مدين أخاهم شعيبا.

والمناسبة في الانتقال من قصة لوط وقومه إلى قصة مدين ورسولهم أن مدين كان

١٦٧

من أبناء إبراهيم وأن الله أنجاه من العذاب كما أنجى لوطا.

وتقديم المجرور في قوله (إِلى مَدْيَنَ) ليتأتى الإيجاز في وصف شعيب بأنه أخوهم لأن هذا الوصف غير موجود في نوح وإبراهيم ولوط. وتقدم معنى كونه أخا لهم في سورة هود.

وقوله (فَقالَ) عطف على الفعل المقدر ، أي أرسلناه فعقب إرساله بأن قال.

والرجاء : الترقب واعتقاد الوقوع في المستقبل. وأمره إياهم بترقب اليوم الآخر دل على أنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث وتقدم الكلام على نظير قوله (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) عند قوله تعالى (كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) في سورة البقرة [٦٠]. وتقدمت قصة شعيب في سورة هود.

(فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧))

الأخذ : الإعدام والإهلاك ؛ شبه الإعدام بالأخذ بجامع الإزالة.

و (الرَّجْفَةُ) : الزلزال الشديد الذي ترتجف منه الأرض ، وفي سورة هود سميت بالصيحة لأن لتلك الرجفة صوتا شديدا كالصيحة. وتقدم تفسير ذلك.

وقد أشير في قصة إبراهيم ولوط إلى ما له تعلق بالغرض المسوق فيه ، وهو المصابرة على إبلاغ الرسالة ، والصبر على أذى الكافرين ، ونصر الله إياهما ، وتعذيب الكافرين وإنجاء المؤمنين.

(وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨))

لما جرى ذكر أهل مدين وقوم لوط أكملت القصص بالإشارة إلى عاد وثمود إذ قد عرف في القرآن اقتران هذه الأمم في نسق القصص. والواو عاطفة قصة على قصة.

وانتصاب (عاداً) يجوز أن يكون بفعل مقدّر يدل عليه السياق ، تقديره : وأهلكنا عادا ، لأن قوله تعالى آنفا (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) [العنكبوت : ٣٧] يدل على معنى الإهلاك ، قاله الزجاج وتبعه الزمخشري. ومعلوم أنه إهلاك خاص من بطش الله تعالى ، فظهر تقدير : وأهلكنا عادا.

١٦٨

ويجوز أن يقدر فعل (واذكر) كما هو ظاهر ومقدر في كثير من قصص القرآن.

ويجوز أن يكون معطوفا على ضمير (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) [العنكبوت : ٣٧] والتقدير : وأخذت عادا وثمودا. وعن الكسائي أنه منصوب بالعطف على (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من قوله تعالى (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [العنكبوت : ٣]. وهذا بعيد لطول بعد المعطوف عليه. والأظهر أن نجعله منصوبا بفعل تقديره (وأخذنا) يفسره قوله (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) [العنكبوت : ٤٠] لأن (كلا) اسم يعم المذكورين فلما جاء منتصبا ب (أَخَذْنا) تعين أن ما قبله منصوب بمثله وتنوين العوض الذي لحق (كلا) هو الرابط وأصل نسج الكلام : وعادا وثمودا وقارون وفرعون إلخ ... كلهم أخذنا بذنبه.

وجملة (وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ) في موضع الحال أو هي معترضة. والمعنى : تبين لكم من مشاهدة مساكنهم أنهم كانوا فيها فأهلكوا عن بكرة أبيهم.

ومساكن عاد وثمود معروفة عند العرب ومنقولة بينهم أخبارها وأحوالها ويمرون عليها في أسفارهم إلى اليمن وإلى الشام.

والضمير المستتر في (تَبَيَّنَ) عائد إلى المصدر المأخوذ من الفعل المقدر ، أي يتبين لكم إهلاكهم أو أخذنا إياهم.

وجملة (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) معطوفة على جملة (وَعاداً وَثَمُودَ).

والتزيين : التحسين. والمراد : زين لهم أعمالهم الشنيعة فأوهمهم بوسوسته أنها حسنة. وقد تقدم عند قوله تعالى (كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ) في سورة الأنعام [١٠٨].

والصد : المنع عن عمل. و (السَّبِيلِ) هنا : ما يوصل إلى المطلوب الحق وهو السعادة الدائمة ، فإن الشيطان بتسويله لهم كفرهم قد حرمهم من السعادة الأخروية فكأنه منعهم من سلوك طريق يبلغهم إلى المقر النافع.

والاستبصار : البصارة بالأمور ، والسين والتاء للتأكيد مثل : استجاب واستمسك واستكبر. والمعنى : أنهم كانوا أهل بصائر ، أي عقول فلا عذر لهم في صدهم عن السبيل. وفي هذه الجملة اقتضاء أن ضلال عاد كان ضلالا ناشئا عن فساد اعتقادهم وكفرهم المتأصل فيهم والموروث عن آبائهم وأنهم لم ينجوا من عذاب الله لأنهم كانوا يستطيعون النظر في دلائل الوحدانية وصدق رسلهم.

١٦٩

(وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩))

كما ضرب الله المثل لقريش بالأمم التي كذبت رسلها فانتقم الله منها ، كذلك ضرب المثل لصناديد قريش مثل أبي جهل ، وأمية بن خلف ، والوليد بن المغيرة ، وأبي لهب ، بصناديد بعض الأمم السالفة كانوا سبب مصاب أنفسهم ومصاب قومهم الذين اتبعوهم ، إنذارا لقريش بما عسى أن يصيبهم من جراء تغرير قادتهم بهم وإلقائهم في خطر سوء العاقبة. وهؤلاء الثلاثة جاءهم موسى بالبينات. وتقدمت قصصهم وقصة قارون في سورة القصص.

فأما ما جاء به موسى من البينات لفرعون وهامان فهي المعجزات التي تحداهم بها على صدقه فأعرض فرعون عنها واتبعه هامان وقومه. وأما ما جاء به موسى لقارون فنهيه عن البطر.

وأومأ قوله تعالى (فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ) إلى أنهم كفروا عن عناد وكبرياء لا عن جهل وغلواء كما قال تعالى (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) [الجاثية : ٢٣] فكان حالهم كحال صناديد قريش الذين لا يظن أن فطنتهم لم تبلغ بهم إلى تحقق أن ما جاء به محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم صدق وأن ما جاء به القرآن حقّ ولكن غلبت الأنفة. وموقع جملة (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى) كموقع جملة (وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ) [العنكبوت : ٣٨].

والاستكبار : شدة الكبر ، فالسين والتاء للتأكيد كقوله (وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) [العنكبوت : ٣٨].

وتعليق قوله (فِي الْأَرْضِ) ب (فَاسْتَكْبَرُوا) للإشعار بأن استكبار كل منهم كان في جميع البلاد التي هو منها ، فيومئ ذلك أن كل واحد من هؤلاء كان سيدا مطاعا في الأرض.

فالتعريف في (الْأَرْضِ) للعهد ، فيصح أن يكون المعهود هو أرض كل منهم ، أو أن يكون المعهود الكرة الأرضية مبالغة في انتشار استكبار كل منهم في البلاد حتى كأنه يعم الدنيا كلها.

ومعنى السبق في قوله (وَما كانُوا سابِقِينَ) الانفلات من تصريف الحكم فيهم. وقد

١٧٠

تقدم في قوله تعالى ولا تحسبن (الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا) في سورة الأنفال [٥٩] ، فالواو للحال ، أي استكبروا في حال أنهم لم يفدهم استكبارهم.

وإقحام فعل الكون بعد النفي لأن المنفي هو ما حسبوه نتيجة استكبارهم ، أي أنهم لا ينالهم أحد لعظمتهم. ومثل هذا الحال مثل أبي جهل حين قتله ابنا عفراء يوم بدر فقال له عبد الله بن مسعود حين وجده محتضرا : أنت أبو جهل؟ فقال : وهل أعمد من رجل قتلتموه لو غير أكّار قتلني (أي زراع يعني رجلا من الأنصار لأن الأنصار أهل حرث وزرع).

(فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠))

أفادت الفاء التفريع على الكلام السابق لما اشتمل عليه من أن الشيطان زين لهم أعمالهم ومن استكبار الآخرين ، أي فكان من عاقبة ذلك أن أخذهم الله بذنوبهم العظيمة الناشئة عن تزيين الشيطان لهم أعمالهم وعن استكبارهم في الأرض ، وليس المفرّع هو أخذ الله إياهم بذنوبهم لأن ذلك قد أشعر به ما قبل التفريع ، ولكنه ذكر ليفضى بذكره إلى تفصيل أنواع أخذهم وهو قوله (فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً) إلى آخره ، فالفاء في قوله (فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ) إلخ لتفريع ذلك التفصيل على الإجمال الذي تقدمه فتحصل خصوصية الإجمال ثم التفصيل ، وللدلالة على عظيم تصرف الله.

فأما الذين أرسل عليهم حاصب فهم عاد. والحاصب : الريح الشديدة ، سميت حاصبا لأنها تقلع الحصباء من الأرض. قال أبو وجرة السعدي :

صببت عليكم حاصبي فتركتكم

كأصرام عاد حين جلّلها الرّمد

فجعل الحاصب مما أصاب عادا. وليس المراد بهم قوم لوط كالذي في قوله تعالى (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ) [القمر : ٣٤] لأن قوم لوط مر آنفا الكلام على عذابهم مفصلا فلا يدخلون في هذا الإجمال.

والذين أخذتهم الصيحة هم ثمود. والذين خسفت بهم الأرض هو قارون وأهله. وقد تقدم ذكر الخسف في سورة القصص [٨١ ، ٨٢]. والذين أغرقهم : فرعون وهامان ومن

١٧١

معهما من قومهما. وقد جاء هذا على طريقة النشر على ترتيب اللف.

والأخذ : الإتلاف والإهلاك ؛ شبه الإعدام بالأخذ بجامع إزالة الشيء من مكانه فاستعير له فعل (أَخَذْنا). وقد نفي عن الله تعالى ظلم هؤلاء لأن إيلامهم كان جزاء على أعمالهم وكل ما كان من نوع الجزاء يوصف بالعدل وقد نفى الله عن نفسه الوصف بالظلم فوجب الإيمان به سمعا لا عقلا في مقام الجزاء ، وأما في مقام التكوين فلا. وظلمهم أنفسهم هو تسببهم في عذاب أنفسهم فجرّوا إليها العقاب لأن النفس أولى الأشياء برأفة صاحبها بها وتفكيره في أسباب خيرها.

والاستدراك ناشئ عن نفي الظلم عن الله في عقابهم لأنه يتوهم منه انتفاء موجب العقاب فالاستدراك لرفع هذا التوهم.

(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١))

لما بينت لهم الأشباه والأمثال من الأمم التي اتخذت الأصنام من دون الله فما أغنت عنهم أصنامهم لما جاءهم عذاب الله أعقب ذلك بضرب المثل لحال جميع أولئك وحال من ماثلهم من مشركي قريش في اتخاذهم ما يحسبونه دافعا عنهم وهو أضعف من أن يدفع عن نفسه ، بحال العنكبوت تتخذ لنفسها بيتا تحسب أنها تعتصم به من المعتدي عليها فإذا هو لا يصمد ولا يثبت لأضعف تحريك فيسقط ويتمزق. والمقصود بهذا الكلام مشركو قريش ، وتعلم مساواة غيرهم لهم في ذلك بدلالة لحن الخطاب ، والقرينة قوله بعده (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما) تدعون (مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) [العنكبوت : ٤٢] فضمير (اتَّخَذُوا) عائد إلى معلوم من سياق الكلام وهم مشركو قريش.

وجملة (اتَّخَذَتْ بَيْتاً) حال من (الْعَنْكَبُوتِ) وهي قيد في التشبيه. وهذه الهيئة المشبه بها مع الهيئة المشبهة قابلة لتفريق التشبيه على أجزائها فالمشركون أشبهوا العنكبوت في الغرور بما أعدوه ، وأولياؤهم أشبهوا بيت العنكبوت في عدم الغناء عمن اتخذوها وقت الحاجة إليها وتزول بأقل تحريك ، وأقصى ما ينتفعون به منها نفع ضعيف وهو السكنى فيها وتوهم أن تدفع عنهم كما ينتفع المشركون بأوهامهم في أصنامهم. وهو تمثيل بديع من مبتكرات القرآن كما سيأتي قريبا عند قوله (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ) في

١٧٢

هذه السورة [٤٣].

و (الْعَنْكَبُوتِ) : صنف من الحشرات ذات بطون وأرجل وهي ثلاثة أصناف ، منها صنف يسمى ليث العناكب وهو الذي يفترس الذباب ، وكلها تتخذ لأنفسها نسيجا تنسجه من لعابها يكون خيوطا مشدودة بين طرفين من الشجر أو الجدران ، وتتخذ في وسط تلك الخيوط جانبا أغلظ وأكثر اتصال خيوط تحتجب فيه وتفرّخ فيه. وسمي بيتا لشبهه بالخيمة في أنه منسوج ومشدود من أطرافه فهو كبيت الشعر.

وجملة (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ) معترضة مبينة وجه الشبه. وهذه الجملة تجري مجرى المثل فيضرب لقلة جدوى شيء فاقتضى ذلك أن الأديان التي يعبد أهلها غير الله هي أحقر الديانات وأبعدها عن الخير والرشد وإن كانت متفاوتة فيما يعرض لتلك العبادات من الضلالات كما تتفاوت بيوت العنكبوت في غلظها بحسب تفاوت الدويبات التي تنسجها في القوة والضعف.

وجملة (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) متصلة بجملة (كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ) لا بجملة (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ). فتقدير جواب (لَوْ) هكذا : لو كانوا يعلمون أن ذلك مثلهم ، أي ولكنهم لا يعلمون انعدام غناء ما اتخذوه عنهم. وأما أوهنية بيت العنكبوت فلا يجهلها أحد.

(إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢))

لما نفى عنهم العلم بما تضمنه التمثيل من حقارة أصنامهم التي يعبدونها وقلة جدواها بقوله (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت : ٤١] المفيد أنهم لا يعلمون ، أعقبه بإعلامهم بعلمه بدقائق أحوال تلك الأصنام على اختلافها واختلاف معتقدات القبائل التي عبدتها ، وأن من آثار علمه بها ضرب ذلك المثل لحال من عبدوها وحالها أيضا دفعا بهم إلى أن يتهموا عقولهم وأن عليهم النظر من حقائق الأشياء تعريضا بقصور علمهم كقوله تعالى (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٢١٦] ، فهذا توقيف لهم على تفريطهم في علم حقائق الأمور التي علمها الله وأبلغهم دلائلها النظرية ونظائرها التاريخية ، وقربها إليهم بالتمثيلات الحسية فعموا وصموا عن هذا وذاك.

و (ما) من قوله ما تدعون يجوز أن تكون نافية معلّقة فعل (يَعْلَمُ) عن العمل ،

١٧٣

وتكون (مِنْ) زائدة لتوكيد النفي ، ومجرورها مفعول في المعنى لتدعون ظهرت عليه حركة حرف الجر الزائد. ومعنى الكلام : أن الله يعلم أنكم لا تدعون موجودا ولكنكم تدعون أمورا عدمية ، ففيه تحقير لأصنامهم بجعلها كالعدم لأنها خلو عن جميع الصفات اللائقة بالإلهية. فهي في بابها كالعدم فلما شابهت المعدومات في انتفاء الفائدة المزعومة لها استعمل لها التركيب الدال على نفي الوجود على طريقة التمثيلية. ولا يتوهم السامع أن المراد نفي أن يكونوا قد دعوا أولياء من دون الله ، لأن سياق الكلام سابقه ولاحقه يأباه وهذا كقوله تعالى (لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ) في سورة البقرة [١١٣] ، و (لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ) في سورة المائدة [٦٨] ، وكقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما سئل عن الكهان : إنهم ليسوا بشيء ، أي ليسوا بشيء فيما يدعونه من معرفة الغيب.

وحاصل المعنى : أن من علمه تعالى بأنها موجودات كالعدم ضرب لها مثلا ببيت العنكبوت ولعبدتها مثلا بالعنكبوت الذي اتخذها ، وعلى هذا الوجه فالكلام صريح في إبطال إلهية الأصنام وفي أنها كالعدم.

ويجوز أن تكون (ما) استفهامية معلّقة فعل (يَعْلَمُ) عن العمل من باب قولهم: علمت هل زيد قائم ، أي علمت جوابه. و (مِنْ) بيانية لما في (ما) الاستفهامية من الإبهام ، أي من شيء من المدعوات العديدة في الأمم. ففيه تعريض بأن المشركين لا يعلمون جواب سؤال السائل «ما تدعون من دون الله» ، أي قد علم الله ذلك ، ومن علمه بذلك أنه ضرب لهم المثل بالعنكبوت اتخذت بيتا ، وللمعبودات مثلا ببيت العنكبوت ، وأنتم لو سئلتم : ما تدعون من دون الله ، لتلعثمتم ولم تحيروا جوابا ؛ فإن شأن العقائد الباطلة والأفهام السقيمة أن لا يستطيع صاحبها بيانها بالقول وشرحها ، لأنها لما كانت تتألف من تصديقات غير متلائمة لا يستطيع صاحبها تقريرها فلا يلبث قليلا حتى يفتضح فاسد معتقده من تعذر إفصاحه عنه.

وجعل بعض المفسرين (يَعْلَمُ) هنا متعديا إلى مفعول واحد وأنه بمعنى (يعرف) وجعل (ما) موصولة مفعول (يَدْعُونَ) والعائذ محذوفا ، ويعكر عليه أن إسناد العلم بمعنى المعرفة وهو المتعدي إلى مفعول واحد إلى الله يؤول إلى إسناد فعل المعرفة إلى الله بناء على إثبات الفرق بين فعل (علم) وفعل (عرف) عند من فسر المعرفة بإدراك الشيء بواسطة آثاره وخصائصه المحسوسة ، وأنها أضعف من العلم لأن العلم شاع في معرفة حقائق الأشياء ونسبها.

١٧٤

وعن الخليل بن أحمد (١) «العلم معرفتان مجتمعان ، ففي قولك : عرفت زيدا قائما ، يكون (قائما) حالا من (زيدا) ، وفي قولك : علمت زيدا قائما ، يكون (قائما) مفعولا ثانيا ل (علمت) اه. يريد أن فعل (عرف) يدل على إدراك واحد وهو إدراك الذات ، وفعل (علم) يدل على إدراكين هما إدراك الذات وإدراك ثبوت حكم لها ، على نحو ما قاله أهل المنطق في التصور والتصديق ، فلذلك لم يرد في الكتاب والسنة إسناد فعل المعرفة إلى الله فكيف يسند إليه ما يؤوّل بمعناها.

وجملة (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) تذييل لجملة (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ) لأن الجملة على كلا المعنيين في معاني (ما) تدل على أن الذي بيّن حقارة حال الأصنام واختلال عقول عابديها فلم يعبأ بفضحها وكشفها بما يسوءها مع وفرة أتباعها ومع أوهام أنها لا يمسها أحد بسوء إلا كانت ألبا عليه ؛ فلو كان للأصنام حظ في الإلهية لما سلّم من ضرّها من يحقرها كقوله تعالى (قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما) تقولون (إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) [الإسراء : ٤٢] كما تقدم ، وأنه لما فضح عقول عبادها لم يخشهم على أوليائه بله ذاته ، فهو عزيز لا يغلب ، وحكيم لا تنطلي عليه الأوهام والسفاسط بخلاف حال هاتيك وأولئك.

وقرأ الجمهور تدعون بالفوقية على طريقة الالتفات. وقرأه أبو عمرو وعاصم ويعقوب بالتحتية.

(وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣))

بعد أن بين الله لهم فساد معتقدهم في الأصنام ، وأعقبه بتوقيفهم على جهلهم بذلك ، نعى عليهم هنا أنهم ليسوا بأهل لتفهم تلك الدلائل التي قربت إليهم بطريقة التمثيل ، فاسم الإشارة يبيّنه الاسم المبدل منه وهو (الْأَمْثالُ).

والإشارة إلى حاضر في الأذهان فإن كل من سمع القرآن حصل في ذهنه بعض تلك الأمثال. واسم الإشارة للتنويه بالأمثال المضروبة في القرآن التي منها هذا المثل بالعنكبوت.

وجملة (نَضْرِبُها لِلنَّاسِ) خبر عن اسم الإشارة. وهذه الجملة الخبرية مستعملة في الامتنان والطول لأن في ضرب الأمثال تقريبا لفهم الأمور الدقيقة. قال الزمخشري :

__________________

(١) نقله عنه أبو بكر بن العربي في كتاب «العواصم من القواصم».

١٧٥

«ولضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء المثل والنظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خبيئات المعاني ورفع الأستار عن الحقائق حتى تريك المتخيل في صورة المتحقق والغائب كالمشاهد». وقد تقدم بيان مزية ضرب الأمثال عند قوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) في سورة البقرة [٢٦].

ولهذا اتبعت هذه الجملة بجملة (وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ). والعقل هنا بمعنى الفهم ، أي لا يفهم مغزاها إلا الذين كملت عقولهم فكانوا علماء غير سفهاء الأحلام. وفي هذا تعريض بأن الذين لم ينتفعوا بها جهلاء العقول ، فما بالك بالذين اعتاضوا عن التدبر في دلالتها باتخاذها هزءا وسخرية ، فقالت قريش لما سمعوا قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) [الحج : ٧٣] ، وقوله (كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً) [العنكبوت : ٤١] قالوا : ما يستحيي محمد أن يمثل بالذباب والعنكبوت والبعوض. وهذا من بهتانهم ، وإلا فقد علم البلغاء أن لكل مقام مقالا ، ولكل كلمة مع صاحبتها مقام.

(خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤))

بعد أن بيّن الله تعالى عدم انتفاع المشركين بالحجة ومقدماتها ونتائجها الموصلة إلى بطلان إلهية الأصنام مستوفاة مغنية لمن يريد التأمل والتدبر في صحة مقدماتها بإنصاف نقل الكلام إلى مخاطبة المؤمنين لإفادة التنويه بشأن المؤمنين إذ انتفعوا بما هو أدق من ذلك وهو حالة النظر والفكر في دلالة الكائنات على أن خالقها هو الله ، وأن لا شيء غيره حقيقا بمشاركته في إلهيته ، فأفاد أن المؤمنين قد اهتدوا إلى العلم ببطلان إلهية الأصنام خلافا للمشركين الذين لم يهتدوا بذلك. فأفهم ذلك أن من لم يعقلوها ليسوا بعالمين أخذا من مفهوم الصفة في قوله (لِلْمُؤْمِنِينَ) إذا اعتبر المعنى الوصفي من قوله (لِلْمُؤْمِنِينَ) ، أو أخذا من الاقتصار على ذكر المؤمنين في قوله (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) إذا اعتبر عنوان المؤمنين لقبا.

والاقتصار عند ذكر دليل الوحدانية على انتفاع المؤمنين بتلك الدلالة المفيد بأن المشركين لم ينتفعوا بذلك يشبه الاحتباك بين الآيتين.

والباء في (بِالْحَقِ) للملابسة ، أي خلقهما على أحوالهما كلها بما ليس بباطل. والباطل في كل شيء لا وفاء فيه بما جعل هو له. وضد الباطل الحق ، فالحق في كل

١٧٦

عمل هو إتقانه وحصول المراد منه ، قال تعالى (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) [ص : ٢٧].

والمراد بالسماوات والأرض ما يشمل ذاتهما والموجودات المظروفة فيهما. وهذا الخلق المتقن الذي لا تقصير فيه عما أريد منه هو آية على وحدانية الخالق وعلى صفات ذاته وأفعاله.

[٤٥]

(اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (٤٥))

بعد أن ضرب الله للناس المثل بالأمم السالفة جاء بالحجة المبيّنة فساد معتقد المشركين ، ونوه بصحة عقائد المؤمنين بمنتهى البيان الذي ليس وراءه مطلب أقبل على رسوله بالخطاب الذي يزيد تثبيته على نشر الدعوة وملازمة الشرائع وإعلان كلمة الله بذلك ، وما فيه زيادة صلاح المؤمنين الذين انتفعوا بدلائل الوحدانية. وما الرسول عليه الصلاة والسلام إلا قدوة للمؤمنين وسيّدهم فأمره أمر لهم كما دل عليه التذييل بقوله (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) بصيغة جمع المخاطبين كقوله (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ) [هود : ١١٢] قرآن إذ ما فرط فيه من شيء من الإرشاد.

وحذف متعلق فعل (اتْلُ) ليعم التلاوة على المسلمين وعلى المشركين. وهذا كقوله تعالى (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها) إلى قوله (وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ)(١) [النمل : ٩١ ، ٩٢].

وأمره بإقامة الصلاة لأن الصلاة عمل عظيم ، وهذا الأمر يشمل الأمة فقد تكرر الأمر بإقامة الصلاة في آيات كثيرة.

وعلل الأمر بإقامة الصلاة بالإشارة إلى ما فيها من الصلاح النفساني فقال (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) ، فموقع (إِنَ) هنا موقع فاء التعليل ولا شك أن هذا التعليل موجّه إلى الأمة لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معصوم من الفحشاء والمنكر فاقتصر على تعليل الأمر بإقامة الصلاة دون تعليل الأمر بتلاوة القرآن لما في هذا الصلاح الذي جعله الله في الصلاة من سرّ إلهي لا يهتدي إليه الناس إلا بإرشاد منه تعالى ؛ فأخبر أن الصلاة تنهى عن

__________________

(١) في المطبوعة (فإنما يضل عليها).

١٧٧

الفحشاء والمنكر ، والمقصود أنها تنهى المصلي.

وإذ قد كانت حقيقة النهي غير قائمة بالصلاة تعيّن أن فعل (تَنْهى) مستعمل في معنى مجازي بعلاقة أو مشابهة. والمقصود : أن الصلاة تيسر للمصلي ترك الفحشاء والمنكر. وليس المعنى أن الصلاة صارفة المصلي عن أن يرتكب الفحشاء والمنكر فإن المشاهد يخالفه إذ كم من مصلّ يقيم صلاته ويقترف بعض الفحشاء والمنكر.

كما أنه ليس يصح أن يكون المراد أنها تصرف المصلي عن الفحشاء والمنكر ما دام متلبسا بأداء الصلاة لقلة جدوى هذا المعنى. فإن أكثر الأعمال يصرف المشتغل به عن الاشتغال بغيره.

وإذ كانت الآية مسوقة للتنويه بالصلاة وبيان مزيتها في الدين تعين أن يكون المراد أن الصلاة تحذر من الفحشاء والمنكر تحذيرا هو من خصائصها.

وللمفسرين طرائق في تعليل ذلك منها ما قاله بعضهم : إن المراد به ما للصلاة من ثواب عند الله ، فإن ذلك غرض آخر وليس منصبا إلى ترك الفحشاء والمنكر ولكنه من وسائل توفير الحسنات لعلها أن تغمر السيئات ، فيتعين لتفسير هذه الآية تفسيرا مقبولا أن نعتبر حكمها عاما في كل صلاة فلا يختص بصلوات الأبرار ، وبذلك تسقط عدة وجوه مما فسروا به الآية.

قال ابن عطية : «وذلك عندي بأن المصلي إذا كان على الواجب من الخشوع والإخبات صلحت بذلك نفسه وخامرها ارتقاب الله تعالى فاطرد ذلك في أقواله وأفعاله وانتهى عن الفحشاء والمنكر» اه. وفيه اعتبار قيود في الصلاة لا تناسب التعميم وإن كانت من شأن الصلاة التي يحق أن يلقنها المسلمون في ابتداء تلقينهم قواعد الإسلام.

والوجه عندي في معنى الآية : أن يحمل فعل (تَنْهى) على المجاز الأقرب إلى الحقيقة وهو تشبيه ما تشتمل عليه الصلاة بالنهي ، وتشبيه الصلاة في اشتمالها عليه بالناهي ، ووجه الشبه أن الصلاة تشتمل على مذكّرات بالله من أقوال وأفعال من شأنها أن تكون للمصلي كالواعظ المذكر بالله تعالى إذ ينهى سامعه عن ارتكاب ما لا يرضي الله. وهذا كما يقال : صديقك مرآة ترى فيها عيوبك. ففي الصلاة من الأقوال تكبير لله وتحميده وتسبيحه والتوجيه إليه بالدعاء والاستغفار وقراءة فاتحة الكتاب المشتملة على التحميد والثناء على الله والاعتراف بالعبودية له وطلب الإعانة والهداية منه واجتناب ما يغضبه وما هو ضلال ، وكلها تذكر بالتعرض إلى مرضاة الله والإقلاع عن عصيانه وما يفضي إلى غضبه فذلك صدّ عن الفحشاء والمنكر.

١٧٨

وفي الصلاة أفعال هي خضوع وتذلل لله تعالى من قيام وركوع وسجود وذلك يذكر بلزوم اجتلاب مرضاته والتباعد عن سخطه. وكل ذلك مما يصد عن الفحشاء والمنكر.

وفي الصلاة أعمال قلبية من نية واستعداد للوقوف بين يدي الله وذلك يذكر بأن المعبود جدير بأن تمتثل أوامره وتجتنب نواهيه.

فكانت الصلاة بمجموعها كالواعظ الناهي عن الفحشاء والمنكر ، فإن الله قال (تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) ولم يقل تصدّ وتحول ونحو ذلك مما يقتضي صرف المصلي عن الفحشاء والمنكر.

ثم الناس في الانتهاء متفاوتون ، وهذا المعنى من النهي عن الفحشاء والمنكر هو من حكمة جعل الصلوات موزعة على أوقات من النهار والليل ليتجدد التذكير وتتعاقب المواعظ ، وبمقدار تكرر ذلك تزداد خواطر التقوى في النفوس وتتباعد النفس من العصيان حتى تصير التقوى ملكة لها. ووراء ذلك خاصية إلهية جعلها الله في الصلاة يكون بها تيسير الانتهاء عن الفحشاء والمنكر.

روى أحمد وابن حبّان والبيهقي عن أبي هريرة قال : «جاء رجل إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن فلانا يصلي بالليل فإذا أصبح سرق ، فقال : سينهاه ما تقول» أي صلاته بالليل.

واعلم أن التعريف في قوله (الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) تعريف الجنس فكلما تذكر المصلي عند صلاته عظمة ربه ووجوب طاعته وذكر ما قد يفعله من الفحشاء والمنكر كانت صلاته حينئذ قد نهته عن بعض أفراد الفحشاء والمنكر.

و (الْفَحْشاءِ) : اسم للفاحشة ، والفحش : تجاوز الحد المقبول. فالمراد من الفاحشة : الفعلة المتجاوزة ما يقبل بين الناس. وتقدم في قوله تعالى (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ) في سورة البقرة [١٦٩]. والمقصود هنا من الفاحشة : تجاوز الحد المأذون فيه شرعا من القول والفعل ، وبالمنكر : ما ينكره الشرع ولا يرضى بوقوعه.

وكأنّ الجمع بين الفاحشة والمنكر منظور فيه إلى اختلاف جهة ذمه والنهي عنه.

وقوله (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) يجوز أن يكون عطفا على جملة (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) فيكون عطف علة على علة ، ويكون المراد بذكر الله هو الصلاة كما في قوله تعالى (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) [الجمعة : ٩] أي صلاة الجمعة. ويكون العدول عن لفظ الصلاة الذي هو كالاسم لها إلى التعبير عنها بطريق الإضافة للإيماء إلى تعليل أن الصلاة

١٧٩

تنهى عن الفحشاء والمنكر ، أي إنما كانت ناهية عن الفحشاء والمنكر لأنها ذكر الله وذكر الله أمر كبير ، فاسم التفضيل مسلوب المفاضلة مقصود به قوة الوصف كما في قولنا : الله أكبر ، لا تريد أنه أكبر من كبير آخر.

ويجوز أن يكون عطفا على جملة (اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ). والمعنى : واذكر الله فإن ذكر الله أمر عظيم ، فيصح أن يكون المراد من الذكر تذكّر عظمة الله تعالى. ويجوز أن يكون المراد ذكر الله باللسان ليعمّ ذكر الله في الصلاة وغيرها. واسم التفضيل أيضا مسلوب المفاضلة ويكون في معنى قول معاذ بن جبل «ما عمل آدمي عملا أنجى له من عذاب الله من ذكر الله».

ويجوز أن يكون المراد بالذكر تذكر ما أمر الله به ونهى عنه ، أي مراقبة الله تعالى وحذر غضبه ، فالتفضيل على بابه ، أي ولذكر الله أكبر في النهي عن الفحشاء والمنكر من الصلاة في ذلك النهي ، وذلك لإمكان تكرار هذا الذكر أكثر من تكرر الصلاة فيكون قريبا من قول عمر رضي‌الله‌عنه : أفضل من شكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه.

ولك أن تقول : ذكر الله هو الإيمان بوجوده وبأنه واحد. فلما أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأراد أمر المؤمنين بعملين عظيمين من البر أردفه بأن الإيمان بالله هو أعظم من ذلك إذ هو الأصل كقوله تعالى (فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) [البلد : ١٣ ـ ١٧]. وذلك من ردّ العجز على الصدر عاد به إلى تعظيم أمر التوحيد وتفظيع الشرك من قوله (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما) تدعون (مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) [العنكبوت : ٤٢] إلى هنا.

وقوله (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) تذييل لما قبله ، وهو وعد ووعيد باعتبار ما اشتمل عليه قوله (اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ) وقوله (تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ).

والصنع : العمل.

(وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦))

عطف على جملة (اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) [العنكبوت : ٤٥] الآية ، باعتبار ما

١٨٠