تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٠

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٠

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢١٤

وناسب السمع دليل فرض سرمدة الليل لأن الليل لو كان دائما لم تكن للناس رؤية فإن رؤية الأشياء مشروطة بانتشار شيء من النور على سطح الجسم المرئي ، فالظلمة الخالصة لا ترى فيها المرئيات. ولذلك جيء في جانب فرض دوام الليل بالإنكار على عدم سماعهم ، وجيء في جانب فرض دوام النهار بالإنكار على عدم إبصارهم.

وليس قوله (أَفَلا تُبْصِرُونَ) تذييلا.

(وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣))

تصريح بنعمة تعاقب الليل والنهار على الناس بقوله (لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) ، وذلك مما دلت عليه الآية السابقة بطريق الإدماج بقوله (يَأْتِيكُمْ) [القصص : ٧١ وبقوله (تَسْكُنُونَ فِيهِ) [القصص : ٧٢] كما تقدم آنفا.

وجملة (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) إلخ معطوفة على جملة (أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً) [القصص : ٧١].

و (مِنْ) تبعيضية فإن رحمة الله بالناس حقيقة كلية لها تحقق في وجود أنواعها وآحادها العديدة ، والمجرور ب (مِنْ) يتعلق بفعل (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ) ، وكذلك يتعلق به (لَكُمُ) ، والمقصود إظهار أن هذا رحمة من الله وأنه بعض من رحمته التي وسعت كل شيء ليتذكروا بهما نعما أخرى.

وقدم المجرور ب (مِنْ رَحْمَتِهِ) على عامله للاهتمام بمنة الرحمة.

وقد سلك في قوله (لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) طريقة اللف والنشر المعكوس فيعود (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) إلى الليل ، ويعود (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) إلى النهار ، والتقدير : ولتبتغوا من فضله فيه ، فحذف الضمير وجاره إيجازا اعتمادا على المقابلة.

والابتغاء من فضل الله : كناية عن العمل والطلب لتحصيل الرزق قال تعالى (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ) [المزمل : ٢٠]. والرزق : فضل من الله. وتقدم في قوله تعالى (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) في سورة البقرة [١٩٨]. ولام (لِتَسْكُنُوا) ولام (وَلِتَبْتَغُوا) للتعليل ، ومدخولاهما علتان للجعل المستفاد من فعل (جَعَلَ).

١٠١

وعطف على العلتين رجاء شكرهم على هاتين النعمتين اللتين هما من جملة رحمته بالناس فالشأن أن يتذكروا بذلك مظاهر الرحمة الربانية وجلائل النعم فيشكروه بإفراده بالعبادة. وهذا تعريض بأنهم كفروا فلم يشكروا.

وقرأ الجمهور (أَرَأَيْتُمْ) [القصص : ٧١] بألف بعد الراء تخفيفا لهمزة رأى. وقرأ الكسائي بحذف الهمزة زيادة في التخفيف وهي لغة.

[٧٤ ـ ٧٥] (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥))

كررت جملة (يَوْمَ يُنادِيهِمْ) مرة ثانية لأن التكرير من مقتضيات مقام التوبيخ فلذلك لم يقل : ويوم ننزع من كل أمة شهيدا ، فأعيد ذكر أن الله يناديهم بهذا الاستفهام التقريعي وينزع من كل أمة شهيدا ، فظاهر الآية أن ذلك النداء يكرر يوم القيامة. ويحتمل أنه إنما كررت حكايته وأنه نداء واحد يقع عقبه جواب الذين حق عليهم القول من مشركي العرب ويقع نزع شهيد من كل أمة عليهم فهو شامل لمشركي العرب وغيرهم من الأمم. وجيء بفعل المضي في (نَزَعْنا) : إما للدلالة على تحقيق وقوعه حتى كأنه قد وقع ، وإما لأن الواو للحال وهي يعقبها الماضي ب (قد) وبدون (قد) أي يوم يكون ذلك النداء وقد أخرجنا من كل أمة شهيدا عليهم وأخرجنا من هؤلاء شهيدا وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قال تعالى (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً) (عَلى هؤُلاءِ) [النحل : ٨٩]. وشهيد كل أمة رسولها.

والنزع : جذب شيء من بين ما هو مختلط به واستعير هنا لإخراج بعض من جماعة كما في قوله تعالى (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) في سورة مريم [٦٩]. وذلك أن الأمم تأتي إلى المحشر تتبع أنبياءها ، وهذا المجيء الأول ، ثم تأتي الأنبياء مع كل واحد منهم من آمنوا به كما ورد في الحديث «يأتي النبي معه الرهط والنبي وحده ما معه أحد».

والتفت من الغيبة إلى التكلم في (وَنَزَعْنا) لإظهار عظمة التكلم ، وعطف (فَقُلْنا) على (وَنَزَعْنا) لأنه المقصود. والمخاطب ب (هاتُوا) هم المشركون ، أي هاتوا برهانكم على إلهية أصنامكم.

١٠٢

و (هاتُوا) اسم فعل معناه ناولوا ، وهات مبني على الكسر. وقد تقدم في قوله تعالى (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في سورة البقرة [١١١] ، واستعيرت المناولة للإظهار.

والأمر مستعمل في التعجيز فهو يقتضي أنهم على الباطل فيما زعموه من الشركاء ، ولما علموا عجزهم من إظهار برهان لهم في جعل الشركاء لله أيقنوا أن الحق مستحق لله تعالى ، أي علموا علم اليقين أنهم لا حق لهم في إثبات الشركاء وأن الحق لله إذ كان ينهاهم عن الشرك على لسان الرسول في الدنيا ، وأن الحق لله إذ ناداهم بأمر التعجيز في قوله (هاتُوا بُرْهانَكُمْ).

و (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) يشمل ما كانوا يكذبونه من المزاعم في إلهية الأصنام وما كانوا يفترون له الإلهية من الأصنام ، كل ذلك كانوا يفترونه.

والضلال : أصله عدم الاهتداء إلى الطريق. واستعير هنا لعدم خطور الشيء في البال ولعدم حضوره في المحضر من استعمال اللفظ في مجازيه.

و (عَنْهُمْ) متعلق بفعل (ضَلَ). والمراد : ضل عن عقولهم وعن مقامهم ؛ مثلوا بالمقصود للسائر في طريق حين يخطئ الطريق فلا يبلغ المكان المقصود. وعلق بالضلال ضمير ذواتهم ليشمل ضلال الأمرين فيفيد أنهم لم يجدوا حجة يروجون بها زعمهم إلهية الأصنام ، ولم يجدوا الأصنام حاضرة للشفاعة فيهم فوجموا عن الجواب وأيقنوا بالمؤاخذة.

[٧٦ ، ٧٧] (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧))

(إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ).

كان من صنوف أذى أئمة الكفر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين ، ومن دواعي تصلبهم في إعراضهم عن دعوته اعتزازهم بأموالهم وقالوا (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ

١٠٣

الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] أي على رجل من أهل الثروة فهي عندهم سبب العظمة ونبزهم المسلمين بأنهم ضعفاء القوم ، وقد تكرر في القرآن توبيخهم على ذلك كقوله (وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً) [سبأ : ٣٥] وقوله (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ) [المزمل : ١١] الآية. روى الواحدي عن ابن مسعود وغيره بأسانيد : إن الملأ من قريش وسادتهم منهم عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والمطعم بن عدي والحارث بن نوفل. قالوا : «أيريد محمد أن نكون تبعا لهؤلاء (يعنون خبابا ، وبلالا ، وعمارا ، وصهيبا) فلو طرد محمد عنه موالينا وعبيدنا كان أعظم له في صدورنا وأطمع له عندنا وأرجى لاتباعنا إياه وتصديقنا له فأنزل الله تعالى (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) إلى قوله (بِالشَّاكِرِينَ) [الأنعام : ٥٢ ، ٥٣]. وكان فيما تقدم من الآيات قريبا قوله تعالى (وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها) إلى قوله (مِنَ الْمُحْضَرِينَ) [القصص : ٦٠ ، ٦١] كما تقدم.

وقد ضرب الله الأمثال للمشركين في جميع أحوالهم بأمثال نظرائهم من الأمم السالفة فضرب في هذه السورة لحال تعاظمهم بأموالهم مثلا بحال قارون مع موسى وأن مثل قارون صالح لأن يكون مثلا لأبي لهب ولأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قبل إسلامه في قرابتهما من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأذاهما إياه ، وللعاصي بن وائل السهمي في أذاه لخباب بن الأرتّ وغيره ، وللوليد بن المغيرة من التعاظم بماله وذويه. قال تعالى (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً) [المدثر : ١١ ، ١٢] فإن المراد به الوليد بن المغيرة.

فقوله (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى) استئناف ابتدائي لذكر قصة ضربت مثلا لحال بعض كفار مكة وهم سادتهم مثل الوليد بن المغيرة وأبي جهل بن هشام ولها مزيد تعلق بجملة (وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها) إلى قوله (ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) [القصص : ٦٠ ، ٦١].

ولهذه القصة اتصال بانتهاء قصة جند فرعون المنتهية عند قوله تعالى (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا) [القصص : ٤٦] الآية.

و (قارُونَ) اسم معرب أصله في العبرانية (قورح) بضم القاف مشبعة وفتح الراء ، وقع في تعريبه تغيير بعض حروفه للتخفيف ، وأجري وزنه على متعارف الأوزان العربية مثل طالوت ، وجالوت ، فليست حروفه حروف اشتقاق من مادة قرن.

و (قورح هذا ابن عم موسى عليه‌السلام دنيا) ، فهو قورح بن يصهار بن قهات بن

١٠٤

لاوى بن يعقوب. وموسى هو ابن عمرم المسمى عمران في العربية ابن قاهت فيكون يصاهر أخا عمرم ، وورد في الإصحاح السادس عشر من سفر العدد أن (قورح) هذا تألب مع بعض زعماء بني إسرائيل مائتين وخمسين رجلا منهم على موسى وهارون عليهما‌السلام حين جعل الله الكهانة في بني هارون من سبط (لاوى) فحسدهم قورح إذ كان ابن عمهم وقال لموسى وهارون : ما بالكما ترتفعان على جماعة الرب إن الجماعة مقدسة والرب معها فغضب الله على قورح وأتباعه وخسف بهم الأرض وذهبت أموال (قورح) كلها ، وكان ذلك حين كان بنو إسرائيل على أبواب (أريحا) قبل فتحها. وذكر المفسرون أن فرعون كان جعل (قورح) رئيسا على بني إسرائيل في مصر وأنه جمع ثروة عظيمة.

وما حكاه القرآن يبين سبب نشوء الحسد في نفسه لموسى لأن موسى لما جاء بالرسالة وخرج ببني إسرائيل زال تأمّر (قارُونَ) على قومه فحقد على موسى. وقد أكثر القصاص من وصف بذخة قارون وعظمته ما ليس في القرآن. وما لهم به من برهان. وتلقفه المفسرون حاشا ابن عطية.

وافتتاح الجملة بحرف التوكيد يجوز أن يكون لإفادة تأكيد خبر (إِنَ) وما عطف عليه وتعلق به مما اشتملت عليه القصة وهو سوء عاقبة الذين تغرهم أموالهم وتزدهيهم فلا يكترثون بشكر النعمة ويستخفون بالدين ، ويكفرون بشرائع الله لظهور أن الإخبار عن قارون بأنه من قوم موسى ليس من شأنه أن يتردد فيه السامع حتى يؤكد له ، فمصب التأكيد هو ما بعد قوله (إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ) إلى آخر القصة المنتهية بالخسف.

ويجوز أن تكون (إِنَ) لمجرد الاهتمام بالخبر ومناط الاهتمام هو مجموع ما تضمنته القصة من العبر التي منها أنه من قوم موسى فصار عدوا له ولأتباعه ، فأمره أغرب من أمر فرعون.

وعدل عن أن يقال : كان من بني إسرائيل ، لما في إضافة (قَوْمِ) إلى (مُوسى) من الإيماء إلى أن لقارون اتصالا خاصا بموسى فهو اتصال القرابة.

وجملة (فَبَغى عَلَيْهِمْ) معترضة بين جملة (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى) وجملة (وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ) ، والفاء فيها للترتيب والتعقيب ، أي لم يلبث أن بطر النعمة واجترأ على ذوي قرابته ، للتعجيب من بغي أحد على قومه كما قال طرفة :

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة

على المرء من وقع الحسام المهنّد

١٠٥

والبغي : الاعتداء ، والاعتداء على الأمة الاستخفاف بحقوقها ، وأول ذلك خرق شريعتها. وفي الإخبار عنه بأنه (مِنْ قَوْمِ مُوسى) تمهيد للكناية بهذا الخبر عن إرادة التنظير بما عرض لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بغي بعض قرابته من المشركين عليه.

وفي قوله (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى) محسّن بديعي وهو ما يسمى النثر المتزن ، أي النثر الذي يجيء بميزان بعض بحور الشعر ، فإن هذه الجملة جاءت على ميزان مصراع من بحر الخفيف ، ووجه وقوع ذلك في القرآن أن الحال البلاغي يقتضي التعبير بألفاظ وتركيب يكون مجموعه في ميزان مصراع من أحد بحور الشعر.

وجملة (إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ) صلة (ما) الموصولة عند نحاة البصرة الذين لا يمنعون أن تقع (إِنَ) في افتتاح صلة الموصول. ومنع الكوفيون من ذلك واعتذر عنهم بأن ذلك غير مسموع في كلام العرب ولذلك تأولوا (ما) هنا بأنها نكرة موصوفة وأن الجملة بعدها في محل الصفة.

والمفاتح : جمع مفتح بكسر الميم وفتح المثناة الفوقية وهو آلة الفتح ، ويسمى المفتاح أيضا. وجمعه مفاتيح وقد تقدم عند قوله تعالى (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) في سورة الأنعام [٥٩].

و (الْكُنُوزِ) : جمع كنز وهو مختزن المال من صندوق أو خزانة ، وتقدم في قوله تعالى (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ) في سورة هود [١٢] ، وأنه كان يقدر بمقدار من المال مثل ما يقولون : بدرة مال ، وأنه كان يجعل لذلك المقدار خزانة أو صندوق يسعه ولكل صندوق أو خزانة مفتاحه. وعن أبي رزين لقيط بن عامر العقيلي أحد الصحابة أنه قال «يكفي الكوفة مفتاح» أي مفتاح واحد ، أي كنز واحد من المال له مفتاح ، فتكون كثرة المفاتيح كناية عن كثرة الخزائن وتلك كناية عن وفرة المال فهو كناية بمرتبتين مثل :

جبان الكلب مهزول الفصيل

(وتنوء) : تثقل. ويظهر أن الباء في قوله (بِالْعُصْبَةِ) باء الملابسة أن تثقل مع العصبة الذين يحملونها فهي لشدة ثقلها تثقل مع أن حملتها عصبة أولو قوة وليست هذه الباء باء السببية كالتي في قول امرئ القيس :

وأردف إعجازا وناء بكلكل

ولا كمثال صاحب «الكشاف» : ناء به الحمل ، إذا أثقله الحمل حتى أماله.

١٠٦

وأما قول أبي عبيدة بأن تركيب الآية فيه قلب ، فلا يقبله من كان له قلب.

والعصبة : الجماعة ، وتقدم في سورة يوسف. وأقرب الأقوال في مقدارها قول مجاهد أنه من عشرة إلى خمسة عشر. وكان اكتسب الأموال في مصر وخرج بها.

(إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ).

(إِذْ) ظرف منصوب بفعل (بغى عليهم) والمقصود من هذا الظرف القصة وليس القصد به توقيت البغي ولذلك قدره بعض المفسرين متعلقا ب (أذكر) محذوفا وهو المعني في نظائره من القصص.

والمراد بالقوم بعضهم إما جماعة منهم وهم أهل الموعظة وإما موسى عليه‌السلام أطلق عليه اسم القوم لأن أقواله قدوة للقوم فكأنهم قالوا قوله.

والفرح يطلق على السرور كما في قوله تعالى (وَفَرِحُوا بِها) في يونس [٢٢]. ويطلق على البطر والازدهاء ، وهو الفرح المفرط المذموم ، وتقدم في قوله تعالى (وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) في سورة الرعد [٢٦] وهو التمحض للفرح. والفرح المنهيّ عنه هو المفرط منه ، أي الذي تمحض للتعلق بمتاع الدنيا ولذات النفس به لأن الانكباب على ذلك يميت من النفس الاهتمام بالأعمال الصالحة والمنافسة لاكتسابها فينحدر به التوغل في الإقبال على اللذات إلى حضيض الإعراض عن الكمال النفساني والاهتمام بالآداب الدينية ، فحذف المتعلق بالفعل لدلالة المقام على أن المعنى لا تفرح بلذات الدنيا معرضا عن الدين والعمل للآخرة كما أفصح عنه قوله (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ). وأحسب أن الفرح إذا لم يعلق به شيء دل على أنه صار سجية الموصوف فصار مرادا به العجب والبطر. وقد أشير إلى بيان المقصود تعضيدا لدلالة المقام بقوله (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) ، أي المفرطين في الفرح فإن صيغة (فعل) صيغة مبالغة مع الإشارة إلى تعليل النهي ، فالجملة علة للتي قبلها ، والمبالغة في الفرح تقتضي شدة الإقبال على ما يفرح به وهي تستلزم الإعراض عن غيره فصار النهي عن شدة الفرح رمزا إلى الإعراض عن الجد والواجب في ذلك.

وابتغاء الدار الآخرة طلبها ، أي طلب نعيمها وثوابها. وعلق بفعل الابتغاء قوله (فِيما آتاكَ اللهُ) بحرف الظرفية ، أي اطلب بمعظمه وأكثره. والظرفية مجازية للدلالة على تغلغل ابتغاء الدار الآخرة في ما آتاه الله وما آتاه هو كنوز المال ، فالظرفية هنا كالتي في

١٠٧

قوله تعالى (وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ) [النساء : ٥] أي منها ومعظمها ، وقول سبرة بن عمرو الفقعسي :

نحابي بها أكفاءنا ونهينها

ونشرب في أثمانها ونقامر

أي اطلب بكنوزك أسباب حصول الثواب بالإنفاق منها في سبيل الله وما أوجبه ورغب فيه من القربان ووجوه البر.

(وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا).

جملة معترضة بين الجملتين الحافتين بها ، والواو اعتراضية.

والنهي في (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ) مستعمل في الإباحة. والنسيان كناية عن الترك كقوله في حديث الخيل «ولم ينس حق الله في رقابها» ، أي لا نلومك على أن تأخذ نصيبك من الدنيا أي الذي لا يأتي على نصيب الآخرة. وهذا احتراس في الموعظة خشية نفور الموعوظ من موعظة الواعظ لأنهم لما قالوا لقارون (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ) أوهموا أن يترك حظوظ الدنيا فلا يستعمل ماله إلا في القربات ، فأفيد أن له استعمال بعضه في ما هو متمحض لنعيم الدنيا إذا آتى حق الله في أمواله. فقيل : أرادوا أن لك أن تأخذ ما أحلّ الله لك.

والنصيب : الحظ والقسط ، وهو فعيل من النصب لأن ما يعطى لأحد ينصب له ويميز ، وإضافة النصيب إلى ضميره دالة على أنه حقه وأن للمرء الانتفاع بماله في ما يلائمه في الدنيا خاصة مما ليس من القربات ولم يكن حراما. قال مالك : في رأيي معنى (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) تعيش وتأكل وتشرب غير مضيق عليك. وقال قتادة : نصيب الدنيا هو الحلال كلّه. وبذلك تكون هذه الآية مثالا لاستعمال صيغة النهي لمعنى الإباحة. و (مِنْ) للتبعيض. والمراد بالدنيا نعيمها. فالمعنى : نصيبك الذي هو بعض نعيم الدنيا.

(وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ).

الإحسان داخل في عموم ابتغاء الدار الآخرة ولكنه ذكر هنا ليبنى عليه الاحتجاج بقوله (كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ).

والكاف للتشبيه ، و (ما) مصدرية ، أي كإحسان الله إليك ، والمشبه هو الإحسان المأخوذ من (أَحْسِنْ) أي إحسانا شبيها بإحسان الله إليك. ومعنى الشبه : أن يكون الشكر على كل نعمة من جنسها. وقد شاع بين النحاة تسمية هذه الكاف كاف التعليل ، ومثلها

١٠٨

قوله تعالى (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) [البقرة : ١٩٨]. والتحقيق أن التعليل حاصل من معنى التشبيه وليس معنى مستقلا من معاني الكاف.

وحذف متعلق الإحسان لتعميم ما يحسن إليه فيشمل نفسه وقومه ودوابه ومخلوقات الله الداخلة في دائرة التمكن من الإحسان إليها. وفي الحديث : «إن الله كتب الإحسان على كل شيء» فالإحسان في كل شيء بحسبه ، والإحسان لكل شيء بما يناسبه حتى الأذى المأذون فيه فبقدره ويكون بحسن القول وطلاقة الوجه وحسن اللقاء.

وعطف (لا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) للتحذير من خلط الإحسان بالفساد فإن الفساد ضد الإحسان ، فالأمر بالإحسان يقتضي النهي عن الفساد وإنما نص عليه لأنه لما تعددت موارد الإحسان والإساءة فقد يغيب عن الذهن أن الإساءة إلى شيء مع الإحسان إلى أشياء يعتبر غير إحسان.

والمراد بالأرض أرضهم التي هم حالّون بها ، وإذ قد كانت جزءا من الكرة الأرضية فالإفساد فيها إفساد مظروف في عموم الأرض. وقد تقدمت نظائره منها في قوله تعالى (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها) في سورة البقرة [٢٠٥].

وجملة (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) علة للنهي عن الإفساد ، لأن العمل الذي لا يحبه الله لا يجوز لعباده عمله ، وقد كان (قارُونَ) موحّدا على دين إسرائيل ولكنه كان شاكّا في صدق مواعيد موسى وفي تشريعاته.

(قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨))

جواب عن موعظة واعظيه من قومه. وقد جاء على أسلوب حكاية المحاورات فلم يعطف وهو جواب متصلف حاول به إفحامهم وأن يقطعوا موعظتهم لأنها أمرّت بطره وازدهاءه.

و (إِنَّما) هذه هي أداة الحصر المركبة من (إنّ) و (ما) الكافة مصيّرتين كلمة واحدة وهي التي حقها أن تكتب موصولة النون بميم (ما). والمعنى : ما أوتيت هذا المال إلا على علم علمته.

وضمير (أُوتِيتُهُ) عائد إلى (ما) الموصولة في قولهم (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ

١٠٩

الْآخِرَةَ) [القصص : ٧٧]. وبني الفعل للنائب للعلم بالفاعل من كلام واعظيه.

و (عَلى عِلْمٍ) في موضع الحال من الضمير المرفوع.

و (عَلى) للاستعلاء المجازي بمعنى التمكن والتحقق ، أي ما أوتيت المال الذي ذكرتموه في حال من الأحوال إلا في حال تمكني من علم راسخ ، فيجوز أن يكون المراد من العلم علم أحكام إنتاج المال من التوراة ، أي أنا أعلم منكم بما تعظونني به ، يعني بذلك قولهم له (لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ* وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ) ـ (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) [القصص : ٧٦ ، ٧٧]. وقد كان قارون مشهورا بالعلم بالتوراة ولكنه أضلّه الله على علم فأراد بهذا الجواب قطع موعظتهم نظير جواب عمرو بن سعيد بن العاص الملقب بالأشدق لأبي شريح الكعبي حين قدم إلى المدينة أميرا من قبل يزيد بن معاوية سنة ستين فجعل يجهز الجيوش ويبعث البعوث إلى مكة لقتال عبد الله بن الزبير الذي خرج على يزيد ، فقال أبو شريح له : ائذن لي أيها الأمير أحدّثك قولا قام به رسول الله الغد من يوم الفتح فسمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال : «إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد شجرة فإن أحد ترخص لقتال رسول الله فقولوا : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما أذن لي ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس وليبلّغ الشاهد الغائب» فقال عمرو بن سعيد : أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا فارّا بخربة.

ويجوز أن يكون المراد بالعلم علم اكتساب المال من التجارة ونحوها ، فأراد بجوابه إنكار قولهم : آتاك الله صلفا منه وطغيانا.

وقوله (عِنْدِي) صفة ل (عِلْمٍ) تأكيدا لتمكنه من العلم وشهرته به. هذا هو الوجه في تفسير هذه الجملة من الآية وهو الذي يستقيم مع قوله تعالى عقبه (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ) الآية ، كما ستعرفه. وذكر المفسرون وجوها تسفر عن أشكال أخرى من تركيب نظم الآية في محمل معنى (عَلى) ومحمل المراد من (العلم) ومحمل (عِنْدِي) فلا نطيل بذكرها فهي منك على طرف الثمام.

وقوله (أَوَلَمْ يَعْلَمْ) الآية إقبال على خطاب المسلمين.

والهمزة في (أَوَلَمْ يَعْلَمْ) للاستفهام الإنكاري التعجيبي تعجيبا من عدم جريه على

١١٠

موجب علمه بأن الله أهلك أمما على بطرهم النعمة وإعجابهم لقوتهم ونسيانه حتى صار كأنه لم يعلمه تعجيبا من فوات مراعاة ذلك منه مع سعة علمه بغيره من باب «حفظت شيئا وغابت عنك أشياء».

وعطف هذا الاستفهام على جملة (قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ). وهذه جملة معترضة بين أجزاء القصة.

والقوة : ما به يستعان على الأعمال الصعبة تشبيها لها بقوة الجسم التي تخول صاحبها حمل الأثقال ونحوها قال تعالى (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) [الأنفال : ٦٠].

والجمع : الجماعة من الناس. قيل : كان أشياع قارون مائتين وخمسين من بني إسرائيل رؤساء جماعات.

وجملة (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) تذييل للكلام فهو استئناف وليس عطفا على أن الله قد أهلك من قبله. والسؤال المنفي السؤال في الدنيا وليس سؤال الآخرة. والمعنى : يحتمل أن يكون السؤال كناية عن عدم الحاجة إلى السؤال عن ذنوبهم فهو كناية عن علم الله تعالى بذنوبهم ، وهو كناية عن عقابهم على إجرامهم فهي كناية بوسائط. والكلام تهديد للمجرمين ليكونوا بالحذر من أن يؤخذوا بغتة ، ويحتمل أن يكون السؤال بمعناه الحقيقي ، أي لا يسأل المجرم عن جرمه قبل عقابه لأن الله قد بين للناس على ألسنة الرسل بحدي الخير والشر ، وأمهل المجرم فإذا أخذه أخذه بغتة وهذا كقوله تعالى (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) [الأنعام : ٤٤] وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الله يمهل الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته».

(فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩))

عطف على جملة (وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ) [القصص : ٧٦] إلى آخرها مع ما عطف عليها وتعلق بها ، فدلت الفاء على أن خروجه بين قومه في زينته بعد ذلك كله كان من أجل أنه لم يقصر عن شيء من سيرته ولم يتعظ بتلك المواعظ ولا زمنا قصيرا بل أعقبها بخروجه هذه الخرجة المليئة صلفا وازدهاء. فالتقدير : قال إنما أوتيته على علم عندي فخرج ، أي رفض الموعظة بقوله وفعله. وتعدية (خرج) بحرف (عَلى) لتضمينه معنى النزول إشارة إلى أنه خروج متعال مترفّع ، و (فِي زِينَتِهِ) حال من ضمير (خرج).

١١١

والزينة : ما به جمال الشيء والتباهي به من الثياب والطيب والمراكب والسلاح والخدم ، وتقدم قوله تعالى (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) في سورة النور [٣١]. وإنما فصلت جملة (قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) ولم تعطف لأنها تتنزل منزلة بدل الاشتمال لما اشتملت عليه الزينة من أنها مما يتمناه الراغبون في الدنيا. وذلك جامع لأحوال الرفاهية وعلى أخصر وجه لأن الذين يريدون الحياة الدنيا لهم أميال مختلفة ورغبات متفاوتة فكل يتمنى أمنية مما تلبس به قارون من الزينة ، فحصل هذا المعنى مع حصول الأخبار عن انقسام قومه إلى مغترين بالزخارف العاجلة عن غير علم ، وإلى علماء يؤثرون الآجل على العاجل ، ولو عطفت جملة (قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ) بالواو وبالفاء لفاتت هذه الخصوصية البليغة فصارت الجملة إما خبرا من جملة الأخبار عن حال قومه ، أو جزء خبر من قصته.

و (الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) لما قوبلوا ب (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) [القصص : ٨٠] كان المعنيّ بهم عامة الناس وضعفاء اليقين الذين تلهيهم زخارف الدنيا عما يكون في مطاويها من سوء العواقب فتقصر بصائرهم عن التدبر إذا رأوا زينة الدنيا فيتلهفون عليها ولا يتمنون غير حصولها فهؤلاء وإن كانوا مؤمنين إلا أن إيمانهم ضعيف فلذلك عظم في عيونهم ما عليه قارون من البذخ فقالوا (إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) أي إنه لذو بخت وسعادة.

وأصل الحظ : القسم الذي يعطاه المقسوم له عند العطاء ، وأريد به هنا ما قسم له من نعيم الدنيا.

والتوكيد في قوله (إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) كناية عن التعجب حتى كأن السامع ينكر حظه فيؤكده المتكلم.

(وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (٨٠))

(وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً).

عطف على جملة (قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) [القصص : ٧٩] فهي مشاركة لها في معناها لأن ما تشتمل عليه خرجة قارون ما تدل عليه ملامحه من فتنة ببهرجته وبزته دالة على قلة اعتداده بثواب الله وعلى تمحضه للإقبال على لذائذ الدنيا ومفاخرها الباطلة ففي كلام (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) تنبيه على ذلك وإزالة لما تستجلبه حالة قارون من نفوس المبتلين بزخارف الدنيا.

١١٢

و (ويل) اسم للهلاك وسوء الحال ، وتقدم الكلام عليه عند قوله تعالى (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) في سورة البقرة [٧٩]. ويستعمل لفظ (ويل) في التعجب المشوب بالزجر ، فليس (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) داعين بالويل على الذين يريدون الحياة الدنيا لأن المناسب لمقام الموعظة لين الخطاب ليكون أعون على الاتعاظ ، ولكنهم يتعجبون من تعلق نفوس أولئك بزينة الحياة الدنيا واغتباطهم بحال قارون دون اهتمام بثواب الله الذي يستطيعون تحصيله بالإقبال على العمل بالدين والعمل النافع وهم يعلمون أن قارون غير متخلق بالفضائل الدينية.

وتقديم المسند إليه في قوله (ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ) ليتمكن الخبر في ذهن السامعين لأن الابتداء بما يدل على الثواب المضاف إلى أوسع الكرماء كرما مما تستشرف إليه النفس.

وعدل عن الإضمار إلى الموصولية في قوله (لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) دون : خير لكم ، لما في الإظهار من الإشارة إلى أن ثواب الله إنما يناله المؤمنون الذين يعملون الصالحات وأنه على حسب صحة الإيمان ووفرة العمل ، مع ما في الموصول من الشمول لمن كان منهم كذلك ولغيرهم ممن لم يحضر ذلك المقام.

(وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ).

يجوز أن تكون الواو للعطف فهي من كلام (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) ، أمروا الذين فتنهم حال قارون بأن يصبروا على حرمانهم مما فيه قارون.

ويجوز أن تكون الواو اعتراضية والجملة معترضة من جانب الله تعالى علّم بها عباده فضيلة الصبر.

وضمير (يُلَقَّاها) عائد إلى مفهوم من الكلام يجري على التأنيث ، أي الخصلة وهي ثواب الله أو السيرة القويمة ، وهي سيرة الإيمان والعمل الصالح.

والتلقية : جعل الشيء لاقيا ، أي مجتمعا مع شيء آخر. وتقدم عند قوله تعالى (وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً) في سورة الفرقان [٧٥]. وهو مستعمل في الإعطاء على طريقة الاستعارة ، أي لا يعطى تلك الخصلة أو السيرة إلا الصابرون ؛ لأن الصبر وسيلة لنوال الأمور العظيمة لاحتياج السعي لها إلى تجلد لما يعرض في خلاله من مصاعب وعقبات كأداء فإن لم يكن المرء متخلقا بالصبر خارت عزيمته فترك ذاك لذاك.

١١٣

(فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١))

دلت الفاء على تعقيب ساعة خروج قارون في ازدهائه وما جرى فيها من تمني قوم أن يكونوا مثله ، وما أنكر عليهم علماؤهم من غفلتهم عن التنافس في ثواب الآخرة بتعجيل عقابه في الدنيا بمرأى من الذين تمنوا أن يكونوا مثله.

والخسف : انقلاب بعض ظاهر الأرض إلى باطنها ، وعكسه. يقال : خسفت الأرض وخسف الله الأرض فانخسفت ، فهو يستعمل قاصرا ومتعديا ، وإنما يكون الخسف بقوة الزلزال. وأما قولهم : خسفت الشمس فذلك على التشبيه. والباء في قوله (فَخَسَفْنا بِهِ) باء المصاحبة ، أي خسفنا الأرض مصاحبة له ولداره ، فهو وداره مخسوفان مع الأرض التي هو فيها ، وتقدم قوله تعالى (أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ) في سورة النحل [٤٥].

وهذا الخسف خارق للعادة لأنه لم يتناول غير قارون ومن ظاهره ، وهما رجلان من سبط (روبين) وغير دار قارون ، فهو معجزة لموسى عليه‌السلام.

جاء في الإصحاح السادس عشر من سفر العدد أن قورح (وهو قارون) ومن معه لما آذوا موسى كما تقدم ، وذكرهم موسى بأن الله أعطاهم مزية خدمة خيمته ولكنه أعطى الكهانة بني هارون ولم تجد فيهم الموعظة غضب موسى عليهم ودعا عليهم ثم أمر الناس بأن يبتعدوا من حوالي دار قورح (قارون) وخيام جماعته. وقال موسى : إن مات هؤلاء كموت عامة الناس فاعلموا أن الله لم يرسلني إليكم وان ابتدع الله بدعة ففتحت الأرض فاها وابتلعتهم وكل مالهم فهبطوا أحياء إلى الهاوية تعلمون أن هؤلاء قد ازدروا بالرب. فلما فرغ موسى من كلامه انشقت الأرض التي هم عليها وابتلعتهم وبيوتهم وكل ما كان لقورح مع كل أمواله وخرجت نار من الأرض أهلكت المائتين والخمسين رجلا. وقد كان قارون معتزا على موسى بالطائفة التي كانت شايعته على موسى وهم كثير من رؤساء جماعة اللاويين وغيرهم ، فلذلك قال الله تعالى (فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ) ، إذ كان قد أعدهم للنصر على موسى رسول الله فخسف بهم معه وهو يراهم ، (وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ) كما كان يحسب. يقال : انتصر فلان ، إذا حصل له النصر ، أي فما نصره أنصاره ولا حصل له النصر بنفسه.

(وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ

١١٤

يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢))

(أَصْبَحَ) هنا بمعنى صار.

و (الأمس) مستعمل في مطلق زمن مضى قريبا على طريقة المجاز المرسل. و (مكان) مستعمل مجازا في الحالة المستقر فيها صاحبها ، وقد يعبر عن الحالة أيضا بالمنزلة.

ومعنى (يَقُولُونَ) أنهم يجهرون بذلك ندامة على ما تمنوه ورجوعا إلى التفويض لحكمة الله فيما يختاره لمن يشاء من عباده. وحكي مضمون مقالاتهم بقوله تعالى (وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) الآية.

وكلمة (وَيْكَأَنَ) عند الأخفش وقطرب مركبة من ثلاث كلمات : (وي) وكاف الخطاب و (أن). فأما (وي) فهي اسم فعل بمعنى : أعجب ، وأما الكاف فهي لتوجيه الخطاب تنبيها عليه مثل الكاف اللاحقة لأسماء الإشارة ، وأما (أن) فهي (أن) المفتوحة الهمزة أخت (إن) المكسورة الهمزة فما بعدها في تأويل مصدر هو المتعجب منه فيقدر لها حرف جرّ ملتزم حذفه لكثرة استعماله وكان حذفه مع (أن) جائزا فصار في هذا التركيب واجبا وهذا الحرف هو اللام أو (من) فالتقدير : أعجب يا هذا من بسط الله الرزق لمن يشاء.

وكل كلمة من هذه الكلمات الثلاث تستعمل بدون الأخرى فيقال : وي بمعنى أعجب ، ويقال (ويك) بمعناه أيضا قال عنترة :

ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها

قيل الفوارس ويك عنتر أقدم

ويقال : (وَيْكَأَنَ) ، كما في هذه الآية وقول سعيد بن زيد أو نبيه بن الحجاج السهمي :

ويكأنّ من يكن له نشب يح

بب ومن يفتقر يعش عيش ضرّ

فخفّف (أن) وكتبوها متصلة لأنها جرت على الألسن كذلك في كثير الكلام فلم يتحققوا أصل تركيبها وكان القياس أن تكتب (ويك) مفصولة عن (أن) وقد وجدوها مكتوبة مفصولة في بيت سعيد بن زيد. وذهب الخليل ويونس وسيبويه والجوهري والزمخشري إلى أنها مركبة من كلمتين (وي) و (كأن) التي للتشبيه.

والمعنى : التعجب من الأمر وأنه يشبه أن يكون كذا والتشبيه مستعمل في الظن واليقين. والمعنى : أما تعجب كأن الله يبسط الرزق.

١١٥

وذهب أبو عمرو بن العلاء والكسائي والليث وثعلب ونسبه في «الكشاف» إلى الكوفيين (وأبو عمرو بصري) أنها مركبة من أربع كلمات كلمة (ويل) وكاف الخطاب وفعل (اعلم) و (أن). وأصله : ويلك أعلم أنه كذا ، فحذف لام الويل وحذف فعل (اعلم) فصار (ويكأنّه). وكتابتها متصلة على هذا الوجه متعينة لأنها صارت رمزا لمجموع كلماته فكانت مثل النحت.

ولاختلاف هذه التقادير اختلفوا في الوقف فالجمهور يقفون على (وَيْكَأَنَّهُ) بتمامه والبعض يقف على (وي) والبعض يقف على (ويك).

ومعنى الآية على الأقوال كلها أن الذين كانوا يتمنون منزلة قارون ندموا على تمنيهم لما رأوا سوء عاقبته وامتلكهم العجب من تلك القصة ومن خفي تصرفات الله تعالى في خلقه وعلموا وجوب الرضى بما قدر للناس من الرزق فخاطب بعضهم بعضا بذلك وأعلنوه.

والبسط : مستعمل مجازا في السعة والكثرة.

و (يَقْدِرُ) مضارع قدر المتعدي ، وهو بمعنى : أعدى بمقدار ، وهو مجاز في القلة لأن التقدير يستلزم قلة المقدر لعسر تقدير الشيء الكثير قال تعالى (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) [الطلاق : ٧].

وفائدة البيان بقوله (مِنْ عِبادِهِ) الإيماء إلى أنه في بسطة الأرزاق وقدرها متصرف تصرف المالك في ملكه إذ المبسوط لهم والمقدور عليهم كلهم عبيده فحقهم الرضى بما قسم لهم مولاهم.

ومعنى (لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا) : لو لا أن منّ الله علينا فحفظنا من رزق كرزق قارون لخسف بنا ، أي لكنا طغينا مثل طغيان قارون فخسف بنا كما خسف به ، أو لو لا أن منّ الله علينا بأن لم نكن من شيعة قارون لخسف بنا كما خسف به وبصاحبيه ، أو لو لا أن منّ الله علينا بثبات الإيمان.

وقرأ الجمهور (لَخَسَفَ بِنا) على بناء فعل «خسف» للمجهول للعلم بالفاعل من قولهم : لو لا أن منّ الله علينا. وقرأه يعقوب بفتح الخاء والسين ، أي لخسف الله الأرض بنا.

وجملة (وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) تكرير للتعجيب ، أي قد تبين أن سبب هلاك

١١٦

قارون هو كفره برسول الله.

(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣))

انتهب قصة قارون بما فيها من العبر من خير وشر ، فأعقبت باستئناف كلام عن الجزاء على الخير وضده في الحياة الأبدية وأنها معدة للذين حالهم بضد حال قارون ، مع مناسبة ذكر الجنة بعنوان الدار لذكر الخسف بدار قارون للمقابلة بين دار زائلة ودار خالدة.

وابتدئ الكلام بابتداء مشوق وهو اسم الإشارة إلى غير مذكور من قبل ليستشرف السامع إلى معرفة المشار إليه فيعقبه بيانه بالاسم المعرف باللام الواقع بيانا أو بدلا من اسم الإشارة كما في قول عبيدة بن الأبرص :

تلك عرسي غضبي تريد زيالي

ألبين تريد أم لدلال ..

الأبيات.

وجملة (نَجْعَلُها) هو خبر المبتدأ وكاف الخطاب الذي في اسم الإشارة غير مراد به مخاطب معيّن موجّه إلى كل سامع من قراء القرآن. ويجوز أن يكون خطابا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمقصود تبليغه إلى الأمة شأن جميع آي القرآن.

و (الدَّارُ) : محل السكنى ، كقوله تعالى (لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ) في الأنعام [١٢٧]. وأما إطلاق الدار على جهنم في قوله تعالى (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) [إبراهيم : ٢٨] فهو تهكّم كقول أبي الغول الطهوي :

ولا يرعون أكناف الهوينا

إذا نزلوا ولا روض الهدون

فاستعمال الروض للهدون تهكّم لأن المقام مقام تعريض.

و (الْآخِرَةُ) : مراد به الدائمة ، أي التي لا دار بعدها ، فاللفظ مستعمل في صريح معناه وكنايته.

ومعنى جعلها لهم أنها محضرة لأجلهم ليس لهم غيرها. وأما من عداهم فلهم أحوال ذات مراتب أفصحت عنها آيات أخرى وأخبار نبوية فإن أحكام الدين لا يقتصر في استنباطها على لوك كلمة واحدة.

١١٧

وعن الفضيل بن عياض أنه قرأ هذه الآية ثم قال : ذهبت الأماني هاهنا ، أي أماني الذين يزعمون أنه لا يضر مع الإيمان شيء وأن المؤمنين كلهم ناجون من العقاب ، وهذا قول المرجئة قال قائلهم :

كن مسلما ومن الذنوب فلا تخف

حاشا المهيمن أن يري تنكيدا

لو شاء أن يصليك نار جهنم

ما كان ألهم قلبك التوحيدا

ومعنى (لا يُرِيدُونَ) كناية عن : لا يفعلون ، لأن من لا يريد الفعل لا يفعله إلا مكرها. وهذا من باب (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) كما تقدم في أول هذه السورة [٥].

والعلوّ : التكبر عن الحق وعلى الخلق ، والطغيان في الأعمال ، والفساد : ضد الصلاح ، وهو كل فعل مذموم في الشريعة أو لدى أهل العقول الراجحة.

وقوله (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) تذييل وهو معطوف على جملة (تِلْكَ الدَّارُ) وبه صارت جملة (تِلْكَ الدَّارُ) كلها تذييلا لما اشتملت عليه من إثبات الحكم للعام بالموصول من قوله (لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ) والمعرف بلام الاستغراق.

و (الْعاقِبَةُ) : وصف عومل معاملة الأسماء لكثرة الوصف به وهي الحالة الآخرة بعد حالة سابقة وغلب إطلاقها على عاقبة الخير. وتقدم عند قوله تعالى (ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) في أول الأنعام [١١].

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤))

تتنزل جملة (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) منزلة بدل الاشتمال لجملة (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص : ٨٣] لأن العاقبة ذات أحوال من الخير ودرجات من النعيم وهي على حسب ما يجيء به المتقون من الحسنات فتفاوت درجاتهم بتفاوتها.

وفي اختيار فعل (جاءَ) في الموضعين هنا إشارة إلى أن المراد من حضر بالحسنة ومن حضر بالسيئة يوم العرض على الحساب. ففيه إشارة إلى أن العبرة بخاتمة الأمر وهي مسألة الموافاة. وأما اختيار فعل (عَمِلُوا) في قوله (الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ) فلما فيه من التنبيه على أن عملهم هو علة جزائهم زيادة في التنبيه على عدل الله تعالى.

١١٨

ومعنى (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) أن كل حسنة تحتوي على خير لا محالة يصل إلى نفس المحسن أو إلى غيره فللجائي بالحسنة خير أفضل مما في حسنته من الخير ، أو فله من الله إحسان عليها خير من الإحسان الذي في الحسنة قال تعالى في آيات أخرى (فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [الأنعام : ١٦٠] أي فله من الجزاء حسنات أمثالها وهو تقدير يعلمه الله.

ولما ذكر جزاء الإحسان أعقب بضد ذلك مع مقابلة فضل الله تعالى على المحسن بعدله مع المسيء على عادة القرآن من قرن الترغيب بالترهيب.

و (مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) ما صدقه الذين عملوا السيئات ، و (الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ) الثاني هو عين (مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) فكان المقام مقام الإضمار بأن يقال : ومن جاء بالسيئة فلا يجزون إلخ ؛ ولكنه عدل عن مقتضى الظاهر لأن في التصريح بوصفهم ب (عَمِلُوا السَّيِّئاتِ) تكريرا لإسناد عمل السيئات إليهم لقصد تهجين هذا العمل الذميم وتبغيض السيئة إلى قلوب السامعين من المؤمنين.

وفي قوله (إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) استثناء مفرغ عن فعل (يُجْزَى) المنفي المفيد بالنفي عموم أنواع الجزاء ، والمستثنى تشبيه بليغ ، أي جزاء شبه الذي كانوا يعملونه. والمراد المشابهة والمماثلة في عرف الدين ، أي جزاء وفاقا لما كانوا يعملون وجاريا على مقداره لا حيف فيه وذلك موكول إلى العلم الإلهي.

(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥))

ابتداء كلام للتنويه بشأن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتثبيت فؤاده ووعده بحسن العاقبة في الدنيا والآخرة ، وأن إنكار أهل الضلال رسالته لا يضيره لأن الله أعلم بأنه على هدى وأنهم على ضلال بعد أن قدم لذلك من أحوال رسالة موسى عليه‌السلام ما فيه عبرة بالمقارنة بين حالي الرسولين وما لقياه من المعرضين.

وافتتاح الكلام بحرف التأكيد للاهتمام به. وجيء بالمسند إليه اسم موصول دون اسمه تعالى العلم لما في الصلة من الإيماء إلى وجه بناء الخبر. وأنه خبر الكرامة والتأييد أي أن الذي أعطاك القرآن ما كان إلا مقدّرا نصرك وكرامتك ؛ لأن إعطاء القرآن شيء لا نظير له فهو دليل على كمال عناية الله بالمعطى. قال كعب بن زهير :

مهلا هداك الذي أعطاك نافلة ال

قرآن فيها مواعيظ وتفصيل

١١٩

وفيه إيماء إلى تعظيم شأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومعنى (فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) اختاره لك من قولهم : فرض له كذا ، إذا عيّن له فرضا ، أي نصيبا. ولما ضمن (فَرَضَ) معنى (أنزل) لأن فرض القرآن هو إنزاله ، عدّي فرض بحرف (على).

والردّ : إرجاع شيء إلى حاله أو مكانه. والمعاد : اسم مكان العود ، أي الأول كما يقتضيه حرف الانتهاء. والتنكير في (مَعادٍ) للتعظيم كما يقتضيه مقام الوعد والبشارة ، وموقعهما بعد قوله (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها)(١) [القصص : ٨٤] ، أي إلى معاد أيّ معاد.

والمعاد يجوز أن يكون مستعملا في معنى آخر أحوال الشيء وقراره الذي لا انتقال منه تشبيها بالمكان العائد إليه بعد أن صدر منه أو كناية عن الإخارة فيكون مرادا به الحياة الآخرة. قال ابن عطية : وقد اشتهر يوم القيامة بالمعاد لأنه معاد الكل اه. أي فأبشر بما تلقى في معادك من الكرامة التي لا تعادلها كرامة والتي لا تعطى لأحد غيرك. فتنكير (مَعادٍ) أفاد أنه عظيم الشأن ، وترتبه على الصلة أفاد أنه لا يعطى لغيره مثله كما أن القرآن لم يفرض على أحد مثله.

ويجوز أن يراد بالمعاد معناه المشهود القريب من الحقيقة. وهو ما يعود إليه المرء إن غاب عنه ، فيراد به هنا بلده الذي كان به وهو مكة. وهذا الوجه يقتضي أنه كناية عن خروجه منه ثم عوده إليه لأن الرد يستلزم المفارقة. وإذ قد كانت السورة مكية ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في مكة فالوعد بالرد كناية عن الخروج منه قبل أن يردّ عليه. وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أري في النوم أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل كما في حديث البخاري ، وكان قال له ورقة ابن نوفل : يا ليتني أكون معك إذ يخرجك قومك وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزّرا ، فما كان ذلك كله ليغيب عن علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أنه قد قيل : إن هذه الآية نزلت عليه وهو في الجحفة في طريقه إلى الهجرة كما تقدم في أول السورة فوعد بالرد عليها وهو دخوله إليها فاتحا لها ومتمكنا منها. فقد روي عن ابن عباس تفسير المعاد بذلك وكلا الوجهين يصح أن يكون مرادا على ما تقرر في المقدمة التاسعة.

__________________

(١) في المطبوعة (عشر أمثالها).

١٢٠