تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٠

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٠

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢١٤

فَقِيرٌ). والفقير : المحتاج فقوله (إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ) شكر على نعم سلفت.

وقوله (إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ) ثناء على الله بأنه معطي الخير.

والخير : ما فيه نفع وملاءمة لمن يتعلق هو به فمنه خير الدنيا ومنه خير الآخرة الذي قد يرى في صورة مشقة فإن العبرة بالعواقب ، قال تعالى (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ) [التوبة : ٨٥].

وقد أراد النوعين كما يرمز إلى ذلك التعبير عن إيتائه الخير بفعل (أَنْزَلْتَ) المشعر برفعة المعطى. فأول ذلك إيتاء الحكمة والعلم.

ومن الخير إنجاؤه من القتل ، وتربيته الكاملة في بذخة الملك وعزته ، وحفظه من أن تتسرب إليه عقائد العائلة التي ربي فيها فكان منتفعا بمنافعها مجنبا رذائلها وأضرارها. ومن الخير أن جعل نصر قومه على يده ، وأن أنجاه من القتل الثاني ظلما ، وأن هداه إلى منجى من الأرض ، ويسر له التعرف ببيت نبوءة ، وأن آواه إلى ظل.

و (ما) من قوله (لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَ) موصولة كما يقتضيه فعل المضي في قوله (أَنْزَلْتَ) لأن الشيء الذي أنزل فيما مضى صار معروفا غير نكرة ، فقوله (ما أنزلت إلي) بمنزلة المعرف بلام الجنس لتلائم قوله (فَقِيرٌ) أي فقير لذلك النوع من الخير ، أي لأمثاله.

وأحسن خير للغريب وجود مأوى له يطعم فيه ويبيت وزوجة يأنس إليها ويسكن.

فكان استجابة الله له بأن ألهم شعيبا أن يرسل وراءه لينزله عنده ويزوجه بنته ، كما أشعرت بذلك فاء التعقيب في قوله (فَجاءَتْهُ إِحْداهُما) [القصص : ٢٥].

(فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥))

(فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا).

عرفت أن الفاء تؤذن بأن الله استجاب له فقيّض شعيبا أن يرسل وراء موسى ليضيفه ويزوجه بنته ، فذلك يضمن له أنسا في دار غربة ومأوى وعشيرا صالحا. وتؤذن الفاء أيضا بأن شعيبا لم يتريث في الإرسال وراءه فأرسل إحدى البنتين اللتين سقى لهما وهي

٤١

(صفورة) فجاءته وهو لم يزل عن مكانه في الظل.

وذكر (تَمْشِي) ليبني عليه قوله (عَلَى اسْتِحْياءٍ) وإلا فإن فعل (جاءته) مغن عن ذكر (تَمْشِي).

و (عَلَى) للاستعلاء المجازي مستعارة للتمكن من الوصف. والمعنى : أنها مستحيية في مشيها ، أي تمشي غير متبخترة ولا متثنية ولا مظهرة زينة. وعن عمر بن الخطاب أنها كانت ساترة وجهها بثوبها ، أي لأن ستر الوجه غير واجب عليها ولكنه مبالغة في الحياء. والاستحياء مبالغة في الحياء مثل الاستجابة قال تعالى (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَ) إلى قوله (لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَ) [النور : ٣١].

وجملة (قالَتْ) بدل من (جاءته). وإنما بيّنت له الغرض من دعوته مبادرة بالإكرام.

والجزاء : المكافأة على عمل حسن أو سيّئ بشيء مثله في الحسن أو الإساءة ، قال تعالى (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) [الرحمن : ٦٠] وقال تعالى (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا) [سبأ : ١٧].

وتأكيد الجملة في قوله (إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ) حكاية لما في كلامها من تحقيق الخبر للاهتمام به وإدخال المسرة على المخبر به.

والأجر : التعويض على عمل نافع للمعوض ، ومنه سمي ثواب الطاعات أجرا ، قال تعالى (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ) [محمد : ٣٦]. وانتصب (أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) على المفعول المطلق لبيان نوع الجزاء أنه جزاء خير ، وهو أن أراد ضيافته ، وليس هو من معنى إجارة الأجير لأنه لم يكن عن تقاول ولا شرط ولا عادة.

والجزاء : إكرام ، والإجارة : تعاقد. ويدل لذلك قوله عقبه (قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) [القصص : ٢٦] فإنه دليل على أن أباها لم يسبق منه عزم على استئجار موسى. وكان فعل موسى معروفا محضا لا يطلب عليه جزاء لأنه لا يعرف المرأتين ولا بيتهما ، وكان فعل شعيب كرما محضا ومحبة لقري كل غريب ، وتضييف الغريب من سنة إبراهيم فلا غرو أن يعمل بها رجلان من ذرية إبراهيم عليه‌السلام.

و (ما) في قوله (ما سَقَيْتَ لَنا) مصدرية ، أي سقيك ، ولام (لَنا) لام العلة.

٤٢

(فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

كانت العوائد أن يفاتح الضيف بالسؤال عن حاله ومقدمه فلذلك قصّ موسى قصة خروجه ومجيئه على شعيب. وذلك يقتضي أن شعيبا سأله عن سبب قدومه ، و (الْقَصَصَ) : الخبر. و (قَصَّ عَلَيْهِ) أخبره.

والتعريف في (الْقَصَصَ) عوض عن المضاف إليه ، أي قصصه ، أو للعهد ، أي القصص المذكور آنفا. وتقدم نظيره في أول سورة يوسف.

فطمأنه شعيب بأنه يزيل عن نفسه الخوف لأنه أصبح في مأمن من أن يناله حكم فرعون لأن بلاد مدين تابعة لملك الكنعانيين وهم أهل بأس ونجدة. ومعنى نهيه عن الخوف نهيه عن ظن أن تناله يد فرعون.

وجملة (نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) تعليل للنهي عن الخوف. ووصف قوم فرعون بالظالمين تصديقا لما أخبره به موسى من رومهم قتله قصاصا عن قتل خطأ. وما سبق ذلك من خبر عداوتهم على بني إسرائيل.

[٢٦ ـ ٢٨] (قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٢٨))

حذف ما لقيه موسى من شعيب من الجزاء بإضافته وإطعامه ، وانتقل منه إلى عرض إحدى المرأتين على أبيها أن يستأجره للعمل في ماشيته إذ لم يكن لهم بيتهم رجل يقوم بذلك وقد كبر أبوهما فلما رأت أمانته وورعه رأت أنه خير من يستأجر للعمل عندهم لقوته على العمل وأمانته.

والتاء في (أَبَتِ) عوض عن ياء المتكلم في النداء خاصة وهي يجوز كسرها وبه قرأ الجمهور. ويجوز فتحها وبه قرأ ابن عامر وأبو جعفر.

وجملة (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) علة للإشارة عليه باستئجاره ، أي لأن مثله من يستأجر. وجاءت بكلمة جامعة مرسلة مثلا لما فيها من العموم ومطابقة الحقيقة بدون تخلف ، فالتعريف باللام في (الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) للجنس مراد به العموم. والخطاب في

٤٣

(مَنِ اسْتَأْجَرْتَ) موجه إلى شعيب ، وصالح لأن يعم كل من يصلح للخطاب لتتم صلاحية هذا الكلام لأن يرسل مثلا. فالتقدير : من استأجر المستأجر. و (مَنِ) موصولة في معنى المعرف بلام الجنس إذ لا يراد بالصلة هنا وصف خاص بمعين.

وجعل (خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ) مسندا إليه بجعله اسما لأن جعل (الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) خبرا مع صحة جعل (الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) هو المسند إليه فإنهما متساويان في المعرفة من حيث إن المراد بالتعريف في الموصول المضاف إليه (خَيْرَ) ، وفي المعرّف باللام هنا العموم في كليهما ، فأوثر بالتقديم في جزأي الجملة ما هو أهم وأولى بالعناية وهو خير أجير ، لأن الجملة سيقت مساق التعليل لجملة (اسْتَأْجِرْهُ) فوصف الأجير أهم في مقام تعليلها ونفس السامع أشد ترقبا لحاله.

ومجيء هذا العموم عقب الحديث عن شخص معين يؤذن بأن المتحدث عنه ممن يشمله ذلك العموم فكان ذلك مصادفا المحز من البلاغة إذ صار إثبات الأمانة والقوة لهذا المتحدث عنه إثباتا للحكم بدليل. فتقدير معنى الكلام : استأجره فهو قوي أمين وإن خير من استأجر مستأجر القوي الأمين. فكانت الجملة مشتملة على خصوصية تقديم الأهم وعلى إيجاز الحذف وعلى المذهب الكلامي ، وبذلك استوفت غاية مقتضى الحال فكانت بالغة حد الإعجاز.

وعن عمر بن الخطاب أنه قال «أشكو إلى الله ضعف الأمين وخيانة القوي». يريد: أسأله أن يؤيدني بقوي أمين أستعين به.

والإشارة في قوله (هاتَيْنِ) إلى المرأتين اللتين سقى لهما أن كانتا حاضرتين معا دون غيرهما من بنات شعيب لتعلق القضية بشأنهما ، أو تكون الإشارة إليهما لحضورهما في ذهن موسى باعتبار قرب عهده بالسقي لهما إن كانت الأخرى غائبة حينئذ.

وفيه جواز عرض الرجل مولاته على من يتزوجها رغبة في صلاحه. وجعل لموسى اختيار إحداهما لأنه قد عرفها وكانت التي اختارها موسى (صفورة) وهي الصغرى كما جاء في رواية أبي ذر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وإنما اختارها دون أختها لأنها التي عرف أخلاقها باستحيائها وكلامها فكان ذلك ترجيحا لها عنده.

وكان هذا التخيير قبل انعقاد النكاح ، فليس فيه جهل المعقود عليها.

وقوله (عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ) حرف (عَلى) من صيغ الشرط في العقود.

٤٤

و (تَأْجُرَنِي) مضارع آجره مثل نصره إذا كان أجيرا له. والحجج : اسم جمع حجة بكسر الحاء وهي السنة ، مشتقة من اسم الحج لأن الحج يقع كل سنة وموسم الحج يقع في آخر شهر من السنة العربية.

والتزام جعل تزويجه مشروطا بعقد الإجارة بينهما عرض منه على موسى وليس بعقد نكاح ولا إجارة حتى يرضى موسى. وفي هذا العرض دليل لمسألة جمع عقد النكاح مع عقد الإجارة. والمسألة أصلها من السنة حديث المرأة التي عرضت نفسها على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يتزوجها وزوّجها من رجل كان حاضرا مجلسه ولم يكن عنده ما يصدقها فزوجه إياها بما معه من القرآن ، أي على أن يعلمها إياه.

والمشهور من مذهب مالك أن الشرط المقارن لعقد النكاح إن كان مما ينافي عقد النكاح فهو باطل ويفسخ النكاح قبل البناء ويثبت بعده بصداق المثل. وأما غير المنافي لعقد النكاح فلا يفسخ النكاح لأجله ولكن يلغى الشرط. وعن مالك أيضا : تكره الشروط كلها ابتداء فإن وقع مضى. وقال أشهب وأصبغ : الشرط جائز واختاره أبو بكر بن العربي وهو الحق للآية ، ولقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم عليه الفروج».

وظاهر الآية أيضا أن الإجارة المذكورة جعلت مهرا للبنت. ويحتمل أن المشروط التزام الإجارة لا غير ، وأما المهر فتابع لما يعتبر في شرعهم ركنا في النكاح ، والشرائع قد تختلف في معاني الماهيات الشرعية. وإذا أخذنا بظاهر الآية كانت دالة على أنهما جعلا المهر منافع إجارة الزوج لشعيب فيحتمل أن يكون ذلك برضاها لأنها سمعت وسكتت بناء على عوائد مرعية عندهم بأن ينتفع بتلك المنافع أبوها.

ويحتمل أن يكون لولي المرأة بالأصالة إن كان هو المستحق للمهر في تلك الشريعة ، فإن عوائد الأمم مختلفة في تزويج ولاياهم. وإذ قد كان في الآية إجمال لم تكن كافية في الاحتجاج على جواز جعل مهر المرأة منافع من إجارة زوجها فيرجع النظر في صحة جعل المهر إجارة إلى التخريج على قواعد الشريعة والدخول تحت عموم معنى المهر ، فإن منافع الإجارة ذات قيمة فلا مانع من أن تجعل مهرا.

والتحقيق من مذهب مالك أنه مكروه ويمضي. وأجازه الشافعي وعبد الملك بن حبيب من المالكية. وقال أبو حنيفة : لا يجوز جعل المهر منافع حر ويجوز كونه منافع عبد. ولم ير في الآية دليلا لأنها تحتمل عنده أن يكون النكاح مستوفيا شروطه فوقع الإجمال فيها. ووافقه ابن القاسم من أصحاب مالك.

٤٥

وإذ قد كان حكم شرع من قبلنا مختلفا في جعله شرعا لنا كان حجة مختلفا فيها بين علماء أصول الفقه فزادها ضعفا في هذه الآية الإجمال الذي تطرقها فوجب الرجوع إلى أدلة أخرى من شريعة الإسلام. ودليل الجواز داخل تحت عموم معنى المهر. فإن كانت المنافع المجعولة مهرا حاصلة قبل البناء فالأمر ظاهر ، وإن كان بعضها أو جميعها لا يتحقق إلا بعد البناء كما في هذه الآية رجعت المسألة إلى النكاح بمهر مؤجل وهو مكروه غير باطل. وإلى الإجارة بعوض غير قابل للتبعيض بتبعيض العمل فإذا لم يتم الأجير العمل في هذه رجعت إلى مسألة عجز العامل عن العمل بعد أن قبض الأجر.

وقد ورد في الصحيح وفي حديث المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فظهر عليه أنه لم يقبلها وأن رجلا من أصحابه قال له : إن لم تكن لك بها حاجة فزوجنيها. قال : هل عندك ما تصدقها؟ إلى أن قال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم «التمس ولو خاتما من حديد» قال : ما عندي ولا خاتم من حديد ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : ما معك من القرآن؟ قال : معى سورة كذا وسورة كذا لسور سماها. قال له : قد ملكتكها بما معك من القرآن. وفي رواية أن النبي أمره أن يعلمها عشرين آية مما معه من القرآن وتكون امرأته. فإن صحت هذه الزيادة كان الحديث جاريا على وفق ما في هذه الآية وكان حجة لصحة جعل الصداق إجارة على عمل ، وإن لم تصح كما هو المشهور في كتب الصحيح فالقصة خصوصية يقتصر على موردها.

ولم يقع التعرض في الآية للعمل المستأجر عليه. وورد في سفر الخروج أنه رعى غنم يثرون (وهو شعيب) ، ولا غرض للقرآن في بيان ذلك. ولم يقع التعرض إلى الأجر وقد علمت أن الظاهر أنه إنكاحه البنت فإذا لم نأخذ بهذا الظاهر كانت الآية غير متعرضة للأجر إذ لا غرض فيه من سوق القصة فيكون جاريا على ما هو متعارف عندهم في أجور الأعمال وكانت للقبائل عوائد في ذلك.

وقد أدركت منذ أول هذا القرن الرابع عشر أن راعي الغنم له في كل عام قميص وحذاء يسمى (بلغة) ونحو ذلك لا أضبطه الآن.

وقوله (فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ) جعل ذلك إلى موسى تفضلا منه أن اختاره ووكله إلى ما تكون عليه حاله في منتهى الحجج الثمان من رغبة في الزيادة.

و (من) ابتدائية. و (عند) مستعملة في الذات والنفس مجازا ، والمجرور خبر مبتدأ محذوف ، والتقدير : فإتمام العشر من نفسك ، أي لا مني ، يعني : أن الإتمام ليس داخلا في العقدة التي هي من الجانبين فكان مفهوم الظرف معتبرا هنا.

٤٦

واحتج مالك بقوله (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ) على أن للأب إنكاح ابنته البكر بدون إذنها وهو أخذ بظاهرها إذ لم يتعرض لاستئذانها. ولمن يمنع ذلك أن يقول : إن عدم التعرض له لا يقتضي عدم وقوعه.

وقوله (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) يريد الصالحين بالناس في حسن المعاملة ولين الجانب. قصد بذلك تعريف خلقه لصاحبه ، وليس هذا من تزكية النفس المنهي عنه لأن المنهي عنه ما قصد به قائله الفخر والتمدح ، فأما ما كان لغرض في الدين أو المعاملة فذلك حاصل لداع حسن كما قال يوسف (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) [يوسف : ٥٥].

و (أَشُقَّ عَلَيْكَ) معناه : أكون شاقا عليك ، أي مكلفك مشقة ، والمشقة : العسر والتعب والصعوبة في العمل. والأصل أن يوصف بالشاق العمل المتعب فإسناد (أَشُقَ) إلى ذاته إسناد مجازي لأنه سبب المشقة ، أي ما أريد أن أشترط عليك ما فيه مشقتك. وهذا من السماحة الوارد فيها حديث : «رحم الله امرا سمحا إذا باع ، سمحا إذا اشترى ..».

وجملة (قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ) حكاية لجواب موسى عن كلام شعيب. واسم الإشارة إلى المذكور وهو (أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ) إلى آخره. وهذا قبول موسى لما أوجبه شعيب وبه تم التعاقد على النكاح وعلى الإجارة ، أي الأمر على ما شرطت علي وعليك. وأطلق (بَيْنِي وَبَيْنَكَ) مجازا في معنى الثبوت واللزوم والارتباط ، أي كل فيما هو من عمله.

و (أَيَّمَا) منصوب ب (قَضَيْتُ). و (أي) اسم موصول مبهم مثل (ما). وزيدت بعدها (ما) للتأكيد ليصير الموصول شبيها بأسماء الشرط لأن تأكيد ما في اسم الموصول من الإبهام يكسبه عموما فيشبه الشرط فلذلك جعل له جواب كجواب الشرط. والجملة كلها بدل اشتمال من جملة (ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ) لأن التخيير في منتهى الأجل مما اشتمل عليه التعاقد المفاد بجملة (ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ).

والعدوان بضم العين : الاعتداء على الحق ، أي فلا تعتدي علي. فنفى جنس العدوان الذي منه عدوان مستأجره. واستشهد موسى على نفسه وعلى شعيب بشهادة الله.

وأصل الوكيل : الذي وكل إليه الأمر ، وأراد هنا أنه وكل على الوفاء بما تعاقدا عليه حتى إذا أخل أحدهما بشيء كان الله مؤاخذه. ولما ضمن الوكيل معنى الشاهد عدي بحرف (عَلَيَ) وكان حقه أن يعدى ب (إلى).

٤٧

والعبرة من سياقة هذا الجزء من القصة المفتتح بقوله تعالى (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ) إلى قوله (وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) [القصص : ٢٢ ـ ٢٨] هو ما تضمنته من فضائل الأعمال ومناقب أهل الكمال وكيف هيأ الله تعالى موسى لتلقي الرسالة بأن قلّبه في أطوار الفضائل ، وأعظمها معاشرة رسول من رسل الله ومصاهرته ، وما تتضمنه من خصال المروءة والفتوة التي استكنت في نفسه من فعل المعروف ، وإغاثة الملهوف ، والرأفة بالضعيف ، والزهد ، والقناعة ، وشكر ربه على ما أسدى إليه ، ومن العفاف والرغبة في عشرة الصالحين ، والعمل لهم ، والوفاء بالعقد ، والثبات على العهد حتى كان خاتمة ذلك تشريفه بالرسالة وما تضمنته من خصال النبوءة التي أبداها شعيب من حب القرى ، وتأمين الخائف ، والرفق في المعاملة ، ليعتبر المشركون بذلك إن كان لهم اعتبار في مقايسة تلك الأحوال بأجناسها من أحوال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهتدوا إلى أن ما عرفوه به من زكي الخصال قبل رسالته وتقويم سيرته ، وزكاء سريرته ، وإعانته على نوائب الحق ، وتزوجه بأفضل امرأة من نساء قومه ، إن هي إلا خصال فاذة فيه بين قومه وإن هي إلا بوارق لانهطال سحاب الوحي عليه. والله أعلم حيث يجعل رسالاته وليأتسي المسلمون بالأسوة الحسنة من أخلاق أهل النبوءة والصلاح.

(فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩))

لم يذكر القرآن أي الأجلين قضى موسى إذ لا يتعلق بتعيينه غرض في سياق القصة. وعن ابن عباس «قضى أوفاهما وأطيبهما إن رسول الله إذا قال فعل» أي أن رسول الله المستقبل لا يصدر من مثله إلا الوفاء التام ، وورد ذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أحاديث ضعيفة الأسانيد أنه سئل عن ذلك فأجاب بمثل ما قال ابن عباس. والأهل من إطلاقه الزوجة كما في الحديث : «والله ما علمت على أهلي إلا خيرا».

وفي سفر الخروج : أنه استأذن صهره في الذهاب إلى مصر لافتقاد أخته وآله. وبقية القصة تقدمت في سورة النمل [٧] إلا زيادة قوله : (آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً) وذلك مساو لقوله هنا (إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا).

والجذوة مثلث الجيم ، وقرئ بالوجوه الثلاثة ، فالجمهور بكسر الجيم ، وعاصم بفتح الجيم وحمزة وخلف بضمها ، وهي العود الغيظ. قيل مطلقا وقيل المشتعل وهو الذي في «القاموس». فإن كان الأول فوصف الجذوة بأنها من النار وصف مخصص ، وإن

٤٨

كان الثاني فهو وصف كاشف ، و (مِنْ) على الأول بيانية وعلى الثاني تبعيضية.

[٣٠ ـ ٣٢] (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٣٢))

(فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ).

تقدم مثل هذا في سورة النمل إلا مخالفة ألفاظ مثل (أَتاها) هنا و (جاءَها) هناك [النمل : ٨] و (إِنِّي أَنَا اللهُ) هنا ، و (إِنَّهُ أَنَا اللهُ) هناك [النمل : ٩] بضمير عائد إلى الجلالة هنالك ، وضمير الشأن هنا وهما متساويان في الموقع لأن ضمير الجلالة شأنه عظيم. وقوله هنا (رَبُّ الْعالَمِينَ) وقوله هنالك (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [النمل : ٩]. وهذا يقتضي أن الأوصاف الثلاثة قيلت له حينئذ.

والقول في نكتة تقديم صفة الله تعالى قبل إصدار أمره له بإلقاء العصا كالقول الذي تقدم في سورة النمل لأن وصف (رَبُّ الْعالَمِينَ) يدل على أن جميع الخلائق مسخرة له ليثبت بذلك قلب موسى من هول تلقي الرسالة.

و (أَنْ أَلْقِ) هنا و (أَلْقِ) هناك [النمل : ١٠] ، و (اسْلُكْ) هنا (وَأَدْخِلْ) هناك [النمل : ١٢]. وتلك المخالفة تفنن في تكرير القصة لتجدد نشاط السامع لها ، وإلا زيادة (مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ) وهذا واد في سفح الطور. وشاطئه : جانبه وضفته.

ووصف الشاطئ بالأيمن إن حمل الأيمن على أنه ضد الأيسر فهو أيمن باعتبار أنه واقع على يمين المستقبل القبلة على طريقة العرب من جعل القبلة هي الجهة الأصلية لضبط الواقع وهم ينعتون الجهات باليمين واليسار يريدون هذا المعنى قال امرؤ القيس :

على قطن بالشيم أيمن صوبه

وأيسره على الستار فيذبل

٤٩

وعلى ذلك جرى اصطلاح المسلمين في تحديد المواقع الجغرافية ومواقع الأرضين ، فيكون الأيمن يعني الغربي للجبل ، أي جهة مغرب الشمس من الطور. ألا ترى أنهم سموا اليمن يمنا لأنه على يمين المستقبل باب الكعبة وسموا الشام شاما لأنه على شآم المستقبل لبابها ، أي على شماله ، فاعتبروا استقبال الكعبة ، وهذا هو الملائم لقوله الآتي (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِ) [القصص : ٤٤].

وأما جعله بمعنى الأيمن لموسى فلا يستقيم مع قوله تعالى (وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ) [طه : ٨٠] فإنه لم يجر ذكر لموسى هناك.

وإن حمل على أنه تفضيل من اليمن وهو البركة فهو كوصفه ب (الْمُقَدَّسِ) في سورة النازعات [١٦] (إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً).

و (الْبُقْعَةِ) بضم الباء ويجوز فتحها هي القطعة من الأرض المتميزة عن غيرها. و (الْمُبارَكَةِ) لما فيها من اختيارها لنزول الوحي على موسى. وقوله (مِنَ الشَّجَرَةِ) يجوز أن يتعلق بفعل (نُودِيَ) فتكون الشجرة مصدر هذا النداء وتكون (مِنْ) للابتداء ، أي سمع كلاما خارجا من الشجرة. ويجوز أن يكون ظرفا مستقرا نعتا ثانيا للواد أو حالا فتكون (مِنْ) اتصالية ، أي متصلا بالشجرة ، أي عندها ، أي البقعة التي تتصل بالشجرة.

والعريف في (الشَّجَرَةِ) تعريف الجنس وعدل عن التنكير للإشارة إلى أنها شجرة مقصودة وليس التعريف للعهد إذ لم يتقدم ذكر الشجرة ، والذي في التوراة أن تلك الشجرة كانت من شجر العلّيق (وهو من شجر العضاه) وقيل : هي عوسجة والعوسج من شجر العضاه أيضا. وزيادة (أَقْبِلْ) وهي تصريح بمضمون قوله (لا تَخَفْ) في سورة النمل [١٠] لأنه لما أدبر خوفا من الحية كان النهي عن الخوف يدل على معنى طلب إقباله فكان الكلام هنالك إيجازا وكان هنا مساواة تفننا في حكاية القصتين ، وكذلك زيادة (إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) هنا ولم يحك في سورة النمل وهو تأكيد لمفاد (وَلا تَخَفْ). وفيه زيادة تحقيق أمنه بما دل عليه التأكيد ب (إن) وجعله من جملة الآمنين فإنه أشد في تحقيق الأمن من أن يقال : إنك آمن كما تقدم في قوله تعالى (أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) في سورة البقرة [٦٧].

وقوله (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) خفي فيه محصل المعنى المنتزع من تركيبه فكان مجال تردد المفسرين في تبيينه ، واعتكرت محامل كلماته فما استقام محمل إحداها إلا وناكده محمل أخرى. وهي ألفاظ : جناح ، ورهب ، وحرف (مِنَ). فسلكوا طرائق لا توصل إلى مستقر. وقد استوعبت في كلام القرطبي والزمخشري. قال بعضهم :

٥٠

إن في الكلام تقديما وتأخيرا وإن قوله (مِنَ الرَّهْبِ) متعلق بقوله (وَلَّى مُدْبِراً) على أن (مِنَ) حرف للتعليل ، أي أدبر لسبب الخوف ، وهذا لا ينبغي الالتفات إليه إذ لا داعي لتقديم وتأخير ما زعموه على ما فيه من طول الفصل بين فعل (وَلَّى) وبين (مِنَ الرَّهْبِ).

وقيل الجناح : اليد ، ولا يحسن أن يكون مجازا عن اليد لأنه يفضي إما إلى تكرير مفاد قوله (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) وحرف العطف مانع من احتمال التأكيد. وادعاء أن يكون التكرير لاختلاف الغرض من الأول والثاني كما في «الكشاف» بعيد ، أو يؤول بأن وضع اليد على الصدر يذهب الخوف كما عزي إلى الضحاك عن ابن عباس وإلى مجاهد وهو تأويل بعيد. وهذا ميل إلى أن الجناح مجاز مرسل مراد به يد الإنسان. وللجناح حقيقة ومجازات بين مرسل واستعارة وقد ورد في القرآن وغيره في تصاريف معانيه وليس وروده في بعض المواضع بمعنى بقاض بحمله على ذلك المعنى حيثما وقع في القرآن. ولذا فالوجه أن قوله (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ) تمثيل بحال الطائر إذا سكن عن الطيران أو عن الدفاع جعل كناية عن سكون اضطراب الخوف. ويكون من هنا للبدلية ، أي اسكن سكون الطائر بدلا من أن تطير خوفا. وهذا مأخوذ من أحد وجهين ذكرهما الزمخشري قيل : وأصله لأبي علي الفارسي. و (الرَّهْبِ) معروف أنه الخوف كقوله تعالى (يَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً) [الأنبياء : ٩٠].

والمعنى : انكفف عن التخوف من أمر الرسالة. وفي الكلام إيجاز وهو ما دل عليه قوله بعده (قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) [القصص : ٣٣] فقوله (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) في معنى قوله تعالى (فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) [القصص : ٣٥].

وقرأ الجمهور (الرَّهْبِ) بفتح الراء والهاء ، وقرأه حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف بضم الراء وسكون الهاء. وقرأه حفص عن عاصم بفتح الراء وسكون الهاء وهي لغات فصيحة.

(فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ).

تفريع على قوله (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) والإشارة إلى العصا وبياض اليد. والبرهان : الحجة القاطعة. و (مِنْ) للابتداء ، و (إِلى) للانتهاء المجازي أي حجتان على أن أرسل بهما إليهم.

٥١

وجملة (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) تعليل لجملة (فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) لتضمنها أنهم بحيث يقرعون بالبراهين فبين أن سبب ذلك تمكن الكفر من نفوسهم حتى كان كالجبلة فيهم وبه قوام قوميتهم لما يؤذن به قوله (كانُوا). وقوله (قَوْماً) كما تقدم في قوله تعالى (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) في سورة البقرة [١٦٤]. والفسق : الإشراك بالله.

وقرأ الجمهور (فَذانِكَ) بتخفيف النون من (ذانك) على الأصل في التثنية. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ورويس عن يعقوب بتشديد نون (فَذانِكَ) وهي لغة تميم وقيس. وعلّلها النحويون بأن تضعيف النون تعويض على الألف من (ذا) و (تا) المحذوفة لأجل صيغة التثنية. وفي «الكشاف» : أن التشديد عوض عن لام البعد التي تلحق اسم الإشارة فلذلك قال «فالمخفف مثنى ذاك والمشدد مثنى ذلك». وهذا أحسن.

(قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣))

جرى التأكيد على الغالب في استعمال أمثاله من الأخبار الغريبة ليتحقق السامع وقوعها وإلا فإن الله قد علم ذلك لما قال له (اضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) [القصص : ٣٢]. والمعنى : فأخاف أن يذكروا قتلي القبطي فيقتلوني. فهذا كالاعتذار وهو يعلم أن رسالة الله لا يتخلص منها بعذر ، ولكنه أراد أن يكون في أمن إلهي من أعدائه. فهذا تعريض بالدعاء ، ومقدمة لطلب تأييده بهارون أخيه.

(وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤))

هذا سؤال صريح يدل على أن موسى لا يريد بالأول التنصل من التبليغ ولكنه أراد تأييده بأخيه. وإنما عيّنه ولم يسأل مؤيدا ما لعلمه بأمانته وإخلاصه لله ولأخيه وعلمه بفصاحة لسانه.

وردى بالتخفيف مثل (ردء) بالهمز في آخره : العون. قرأه نافع وأبو جعفر ردى مخففا. وقرأه الباقون (رِدْءاً) بالهمز على الأصل.

و (يُصَدِّقُنِي) قرأه الجمهور مجزوما في جواب الطلب بقوله (فَأَرْسِلْهُ مَعِي). وقرأه عاصم وحمزة بالرفع على أن الجملة حال من الهاء من (فَأَرْسِلْهُ).

٥٢

ومعنى تصديقه إياه أن يكون سببا في تصديق فرعون وملئه إياه بإبانته عن الأدلة التي يلقيها موسى في مقام مجادلة فرعون كما يقتضيه قوله (هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي). فإنه فرع طلب إرساله معه على كونه أفصح لسانا وجعل تصديقه جواب ذلك الطلب أو حالا من المطلوب فهو تفريع على تفريع ، فلا جرم أن يكون معناه مناسبا لمعنى المفرع عنه وهو أنه أفصح لسانا. وليس للفصاحة أثر في التصديق إلا بهذا المعنى.

وليس التصديق أن يقول لهم : صدق موسى ، لأن ذلك يستوي فيه الفصيح وذو الفهاهة. فإسناد التصديق إلى هارون مجاز عقلي لأنه سببه ، والمصدقون حقيقة هم الذين يحصل لهم العلم بأن موسى صادق فيما جاء به.

وجملة (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) تعليل لسؤال تأييده بهارون ، فهذه مخافة ثانية من التكذيب ، والأولى مخافة من القتل.

(قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (٣٥))

استجاب الله له دعوتيه وزاده تفضلا بما لم يسأله فاستجابة الدعوة الثانية بقوله (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) ، واستجابة الأولى بقوله (فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما) ، والتفضل بقوله (وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً) ، فأعطى موسى ما يماثل ما لهارون من المقدرة على إقامة الحجة إذ قال (وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً). وقد دل على ذلك ما تكلم به موسى عليه‌السلام من حجج في مجادلة فرعون كما في سورة الشعراء ، وهنا وما خاطب به بني إسرائيل مما حكي في سورة الأعراف. ولم يحك في القرآن أن هارون تكلم بدعوة فرعون على أن موسى سأل الله تعالى أن يحلل عقدة من لسانه كما في سورة طه ، ولا شك أن الله استجاب له.

والشد : الربط ، وشأن العامل بعضو إذا أراد أن يعمل به عملا متعبا للعضو أن يربط عليه لئلا يتفكك أو يعتريه كسر ، وفي ضد ذلك قال تعالى (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) [الأعراف : ١٤٩] وقولهم : فتّ في عضده ، وجعل الأخ هنا بمنزلة الرباط الذي يشد به. والمراد : أنه يؤيده بفصاحته ، فتعليقه بالشد ملحق بباب المجاز العقلي. وهذا كله تمثيل لحال إيضاح حجته بحال تقوية من يريد عملا عظيما أن يشد على يده وهو التأييد الذي شاع في معنى الإعانة والإمداد ، وإلا فالتأييد أيضا مشتق من اليد. فأصل معنى (أيد) جعل

٥٣

يدا ، فهو استعارة لإيجاد الإعانة.

والسلطان هنا مصدر بمعنى التسلط على القلوب والنفوس ، أي مهابة في قلوب الأعداء ورعبا منكما كما ألقى على موسى محبة حين التقطه آل فرعون. وتقدم معنى السلطان حقيقة في قوله تعالى (فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) في سورة الإسراء [٣٣].

وفرع على جعل السلطان (فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما) أي لا يؤذونكما بسوء وهو القتل ونحوه. فالوصول مستعمل مجازا في الإصابة. والمراد : الإصابة بسوء ، بقرينة المقام.

وقوله (بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) يجوز أن يكون (بِآياتِنا) متعلقا بمحذوف دل عليه قوله (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) [القصص : ٣٢] تقديره : اذهبا بآياتنا على نحو ما قدّر في قوله تعالى (فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ) [النمل : ١٢] وقوله في سورة النمل بعد قوله (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ) [النمل : ١٢] أي اذهبا في تسع آيات. وقد صرح بذلك في قوله في سورة الشعراء [١٥] (قالَ كَلَّا فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ).

ويجوز أن يتعلق ب (نَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً) ، أي سلطانا عليهم بآياتنا حتى تكون رهبتهم منكما آية من آياتنا ، ويجوز أن يتعلق ب (فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما) أي يصرفون عن أذاكم بآيات منا كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نصرت بالرعب». ويجوز أن يكون متعلقا بقوله (الْغالِبُونَ) أي تغلبونهم وتقهرونهم بآياتنا التي نؤيدكما بها. وتقديم المجرور على متعلقه في هذا الوجه للاهتمام بعظمة الآيات التي سيعطيانها. ويجوز أن تكون الباء حرف قسم تأكيدا لهما بأنهما الغالبون وتثبيتا لقلوبهما.

وعلى الوجوه كلها فالآيات تشمل خوارق العادات المشاهدة مثل الآيات التسع ، وتشمل المعجزات الخفية كصرف قوم فرعون عن الإقدام على أذاهما مع ما لديهم من القوة وما هم عليه من العداوة بحيث لو لا الصرفة من الله لأهلكوا موسى وأخاه.

ومحل العبرة من هذا الجزء من القصة التنبيه إلى أن الرسالة فيض من الله على من اصطفاه من عباده وأن رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كرسالة موسى جاءته بغتة فنودي محمد في غار جبل حراء كما نودي موسى في جانب جبل الطور ، وأنه اعتراه من الخوف مثل ما اعترى موسى ، وأن الله ثبته كما ثبت موسى ، وأن الله يكفيه أعداءه كما كفى موسى أعداءه.

(فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا

٥٤

بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦))

طوي ما بين نداء الله إياه وبين حضوره عند فرعون من الأحداث لعدم تعلق العبرة به. وأسند المجيء بالآيات إلى موسى عليه‌السلام وحده دون هارون لأنه الرسول الأصلي الذي تأتي المعجزات على يديه بخلاف قوله (فَاذْهَبا بِآياتِنا) في سورة الشعراء [١٥] ، وقوله (بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) [القصص : ٣٥] إذ جعل تعلق الآيات بضميريها لأن معنى الملابسة معنى متسع فالمصاحب لصاحب الآيات هو ملابس له.

والآيات البينات هي خوارق العادات التي أظهرها ، أي جاءهم بها آية بعد آية في مواقع مختلفة ، قالوا عند كل آية (ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ).

والمفترى : المكذوب. ومعنى كونها سحرا مكذوبا أنه مكذوب ادعاء أنه من عند الله وإخفاء كونه سحرا.

والإشارة في قوله (وَما سَمِعْنا بِهذا) إلى ادعاء الرسالة من عند الله لأن ذلك هو الذي يسمع وأما الآيات فلا تسمع. فمرجع اسمي الإشارة مختلف ، أي ما سمعنا من يدعو آباءنا إلى مثل ما تدعو إليه فالكلام على حذف مضاف دل عليه حرف الظرفية ، أي في زمن آبائنا. وقد جعلوا انتفاء بلوغ مثل هذه الدعوة إلى آبائهم حتى تصل إليهم بواسطة آبائهم الأولين ، دليلا على بطلانها وذلك آخر ملجأ يلجأ إليه المحجوج المغلوب حين لا يجد ما يدفع به الحق بدليل مقبول فيفزع إلى مثل هذه التلفيقات والمباهتات.

(وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧))

لما قالوا قولا صريحا في تكذيبه واستظهروا على قولهم بأن ما جاء به موسى شيء من علمه آباؤهم أجاب موسى كلامهم بمثله في تأييد صدقه فإنه يعلمه الله ، فما علم آبائهم في جانب علم الله بشيء ، فلما تمسكوا بعلم آبائهم تمسك موسى بعلم الله تعالى ، فقد احتج موسى بنفسه ولم يكل ذلك إلى هارون.

وكان مقتضى الاستعمال أن يحكى كلام موسى بفعل القول غير معطوف بالواو شأن حكاية المحاورات كما قدمناه غير مرة ، فخولف ذلك هنا بمجيء حرف العطف في قراءة

٥٥

الجمهور غير ابن كثير لأنه قصد هنا التوازن بين حجة ملأ فرعون وحجة موسى ، ليظهر للسامع التفاوت بينهما في مصادفة الحق ويتبصر فساد أحدهما وصحة الآخر ، وبضدها تتبين الأشياء ، فلهذا عطفت الجملة جريا على الأصل غير الغالب للتنبيه على أن فيه خصوصية غير المعهودة في مثله فتكون معرفة التفاوت بين المحتجين محالة على النظر في معناهما. وقرأ ابن كثير (قالَ مُوسى) بدون واو وهي مرسومة في مصحف أهل مكة بدون واو على أصل حكاية المحاورات وقد حصل من مجموع القراءتين الوفاء بحق الخصوصيتين من مقتضى حالي الحكاية. وعبر عن الله بوصف الربوبية مضافا إلى ضميره للتنصيص على أن الذي يعلم الحق هو الإله الحق لا آلهتهم المزعومة.

ويظهر أن القبط لم يكن في لغتهم اسم على الرب واجب الوجود الحق ولكن أسماء آلهة مزعومة.

وعبر في جانب (بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى) بفعل المضي وفي جانب (مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) بالمضارع لأن المجيء بالهدى المحقق والمزعوم أمر قد تحقق ومضى سواء كان الجائي به موسى أم آباؤهم الأولون وعلماؤهم. وأما كيان عاقبة الدار لمن فمرجو لما يظهر بعد. ففي قوله (رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى) إشهاد لله تعالى وكلام منصف ، أي ربي أعلم بتعيين الجائي بالهدى أنحن أم أنتم على نحو قوله تعالى (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ : ٢٤].

وفي قوله : (وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) تفويض إلى ما سيظهر من نصر أحد الفريقين على الآخر وهو تعريض بالوعيد بسوء عاقبتهم.

و (عاقِبَةُ الدَّارِ) كلمة جرت مجرى المثل في خاتمة الخير بعد المشقة تشبيها لعامل العمل بالسائر المنتجع إذا صادف دار خصب واستقرّ بها وقال الحمد لله الذي أحلّنا دار المقامة من فضله. فأصل عاقبة الدار : الدار العاقبة. فأضيفت الصفة إلى موصوفها.

والعاقبة : هي الحالة العاقبة ، أي التي تعقب ، أي تجيء عقب غيرها ، فيؤذن هذا اللفظ بتبدل حال إلى ما هو خير ، فلذلك لا تطلق إلا على العاقبة المحمودة. وقد تقدم في سورة الأنعام [١٣٥] قوله (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) وفي سورة الرعد [٢٢] قوله (أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) وقوله (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد : ٤٢].

وقرأ الجمهور (تَكُونُ) بالمثناة الفوقية على أصل تأنيث لفظ (عاقِبَةُ الدَّارِ) وقرأ

٥٦

حمزة والكسائي بالتحتية على الخيار في فعل الفاعل المجازيّ التأنيث.

وأيد ذلك كله بجملة (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) ، دلالة على ثقته بأنه على الحق وذلك يفتّ من أعضادهم ، ويلقي رعب الشك في النجاة في قلوبهم. وضمير (إِنَّهُ) ضمير الشأن لأن الجملة بعده ذات معنى له شأن وخطر.

(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨))

كلام فرعون المحكي هنا واقع في مقام غير مقام المحاورة مع موسى فهو كلام أقبل به على خطاب أهل مجلسه إثر المحاورة مع موسى فلذلك حكي بحرف العطف عطف القصة على القصة. فهذه قصة محاورة بين فرعون وملئه في شأن دعوة موسى فهي حقيقة بحرف العطف كما لا يخفى.

أراد فرعون بخطابه مع ملئه أن يثبتهم على عقيدة إلهيته فقال (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) إبطالا لقول موسى المحكي في سورة الشعراء [٢٦] (قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) وقوله هناك (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ)(١) [الشعراء: ٢٤]. فأظهر لهم فرعون أن دعوة موسى لم ترج عنده وأنه لم يصدق بها فقال (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي).

والمراد بنفي علمه بذلك نفي وجود إله غيره بطريق الكناية يريهم أنه أحاط علمه بكل شيء حق فلو كان ثمة إله غيره لعلمه.

والمقصود بنفي وجود إله غيره نفي وجود الإله الذي أثبته موسى وهو خالق الجميع. وأما آلهتهم التي يزعمونها فإنها مما تقتضيه إلهية فرعون لأن فرعون عندهم هو مظهر الآلهة المزعومة عندهم لأنه في اعتقادهم ابن الآلهة وخلاصة سرهم ، وكل الصيد في جوف الفرا.

وحيث قال موسى إن الإله الحق هو رب السموات فقد حسب فرعون أن مملكة هذا الرب السماء تصورا مختلا ففرع على نفي إله غيره وعلى توهم أن الرب المزعوم مقره

__________________

(١) في المطبوعة (إن كنتم تعقلون).

٥٧

السماء أن أمر (هامانُ) وزيره أن يبني له صرحا يبلغ به عنان السماء ليرى الإله الذي زعمه موسى حتى إذا لم يجده رجع إلى قومه فأثبت لهم عدم إله في السماء إثبات معاينة ، أراد أن يظهر لقومه في مظهر المتطلب للحق المستقصي للعوالم حتى إذا أخبر قومه بعد ذلك بأن نتيجة بحثه أسفرت عن كذب موسى ازدادوا ثقة ببطلان قول موسى عليه‌السلام.

وفي هذا الضغث من الجدل السفسطائي مبلغ من الدلالة على سوء انتظام تفكيره وتفكير ملئه ، أو مبلغ تحيله وضعف آراء قومه.

و (هامانُ) لقب أو اسم لوزير فرعون كما تقدم آنفا. وأراد بقوله (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ) أن يأمر (هامانُ) العملة أن يطبخوا الطين ليكون آجرا ويبنوا به فكني عن البناء بمقدماته وهي إيقاد الأفران لتجفيف الطين المتخذ آجرا. والآجرّ كانوا يبنون به بيوتهم فكانوا يجعلون قوالب من طين يتصلب إذا طبخ وكانوا يخلطونه بالتبن ليتماسك قبل إدخاله التنور كما ورد وصف صنع الطين في الإصحاح الخامس من سفر الخروج.

وابتدأ بأمره بأول أشغال البناء للدلالة على العناية بالشروع من أول أوقات الأمر لأن ابتداء البناء يتأخر إلى ما بعد إحضار مواده فلذلك أمره بالأخذ في إحضار تلك المواد التي أولها الإيقاد ، أي إشعال التنانير لطبخ الآجرّ. وعبر عن الآجرّ بالطين لأنه قوام صنع الآجرّ وهو طين معروف. وكأنه لم يأمره ببناء من حجر وكلس قصدا للتعجيل بإقامة هذا الصرح المرتفع إذ ليس مطلوبا طول بقائه بإحكام بنائه على مرّ العصور بل المراد سرعة الوصول إلى ارتفاعه كي يشهده الناس ، ويحصل اليأس ثم ينقض من الأساس.

وعدل عن التعبير بالآجرّ ، قال ابن الأثير في «المثل السائر» : لأن كلمة الآجرّ ونحوها كالقرمد والطوب كلمات مبتذلة فذكر بلفظ الطين اه. وأظهر من كلام ابن الأثير : أن العدول إلى الطين لأنه أخف وأفصح.

وإسناد الإيقاد على الطين إلى هامان مجاز عقلي باعتبار أنه الذي يأمر بذلك كما يقولون : بنى السلطان قنطرة وبنى المنصور بغداد.

وتقدم ذكر هامان آنفا وأنه وزير فرعون. وكانت أوامر الملوك في العصور الماضية تصدر بواسطة الوزير فكان الوزير هو المنفذ لأوامر الملك بواسطة أعوانه من كتاب وأمراء ووكلاء ونحوهم ، كل فيما يليق به.

والصرح : القصر المرتفع ، وقد تقدم عند قوله تعالى (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ) في

٥٨

سورة النمل [٤٤].

ورجا أن يصل بهذا الصرح إلى السماء حيث مقر إله موسى. وهذا من فساد تفكيره إذ حسب أن السماء يوصل إليها بمثل هذا الصرح ما طال بناؤه ، وأن الله مستقر في مكان من السماء.

والاطلاع : الطلوع القوي المتكلف لصعوبته.

وقوله (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) استعمل فيه الظن بمعنى القطع فكانت محاولته الوصول إلى السماء لزيادة تحقيق ظنه ، أو لأنه أراد أن يقنع قومه بذلك. ولعله أراد بهذا تمويه الأمر على قومه ليلقي في اعتقادهم أن موسى ادعى أن الله في مكان معين يبلغ إليه ارتفاع صرحه. ثم يجعل عدم العثور على الإله في ذلك الارتفاع دليلا على عدم وجود الإله الذي ادعاه موسى. وكانت عقائد أهل الضلالة قائمة على التخيل الفاسد ، وكانت دلائلها قائمة على تمويه الدجالين من زعمائهم.

وقوله (مِنَ الْكاذِبِينَ) يدل على أنه يعده من الطائفة الذين شأنهم الكذب كما تقدم في قوله تعالى (قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) [البقرة : ٦٧].

ولم يذكر القرآن أن هذا الصرح بني ، وليس هو أحد الأهرام لأن الأهرام بنيت من حجارة لا من آجرّ ، ولأنها جعلت مدافن للذين بنوها من الفراعنة. واختلف المفسرون هل وقع بناء هذا الصرح وتم أو لم يقع ؛ فحكى بعضهم أنه تم وصعد فرعون إلى أعلاه ونزل وزعم أنه قتل رب موسى. وحكى بعضهم أن الصرح سقط قبل إتمام بنائه فأهلك خلقا كثيرا من عملة البناء والجند. وحكى بعضهم أنه لم يشرع في بنائه. وقد لاح لي في معنى الآية وجه آخر سأذكره في سورة المؤمن.

(وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩))

الاستكبار : أشد من الكبر ، أي تكبر تكبرا شديدا إذ طمع في الوصول إلى الرب العظيم وصول الغالب أو القرين.

و (جُنُودُهُ) : أتباعه. فاستكباره هو الأصل واستكبار جنوده تبع لاستكباره لأنهم يتّبعونه ويتلقون ما يمليه عليهم من العقائد.

٥٩

و (الْأَرْضِ) يجوز أن يراد بها المعهودة ، أي أرض مصر وأن يراد بها الجنس ، أي في عالم الأرض لأنهم كانوا يومئذ أعظم أمم الأرض.

وقوله (بِغَيْرِ الْحَقِ) حال لازمة لعاملها إذ لا يكون الاستكبار إلا بغير الحق.

وقوله (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ) معلوم بالفحوى من كفرهم بالله ، وإنما صرح به لأهمية إبطاله فلا يكتفى فيه بدلالة مفهوم الفحوى ، ولأن في التصريح به تعريضا بالمشركين في أنهم وإياهم سواء فليضعوا أنفسهم في أي مقام من مقامات أهل الكفر ، وقد كان أبو جهل يلقب عند المسلمين بفرعون هذه الأمة أخذا من تعريضات القرآن.

ومعنى ذلك : ظنوا أن لا بعث ولا رجوع لأنهم كفروا بالمرجوع إليه. فذكر (إِلَيْنا) لحكاية الواقع وليس بقيد فلا يتوهم أنهم أنكروا البعث ولم ينكروا وجود الله مثل المشركين. وتقديم (إِلَيْنا) على عامله لأجل الفاصلة.

ويجوز أن يكون المعنى : وظنوا أنهم في منعة من أن يرجعوا في قبضة قدرتنا كما دل عليه قوله في سورة الشعراء [٢٤ ، ٢٥] (قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ) استعجابا من ذلك. وعلى هذا الاحتمال فالتعريض بالمشركين باق على حاله فإنهم ظنوا أنهم في منعة من الاستئصال فقالوا (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) [الأنفال : ٣٢].

قرأ نافع وحمزة والكسائي (لا يُرْجَعُونَ) بفتح ياء المضارعة من (رجع). وقرأه الباقون بضمها من (أرجع) إذا فعل به الرجوع.

(فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠))

أي ظنوا أنهم لا يرجعون إلينا فعجلنا بهلاكهم فإن ذلك من الرجوع إلى الله لأنه رجوع إلى حكمه وعقابه ، ويعقبه رجوع أرواحهم إلى عقابه ، فلهذا فرع على ظنهم ذلك الإعلام بأنه أخذ وجنوده. وجعل هذا التفريع كالاعتراض بين حكاية أحوالهم.

وجعل في «الكشاف» هذا من الكلام الفخم لدلالته على عظمة شأن الله إذ كان قوله (فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ) يتضمن استعارة مكنية : شبه هو وجنوده بحصيات أخذهن في كفه فطرحهن في البحر. وإذا حمل الأخذ على حقيقته كان فيه استعارة مكنية أيضا لأنه يستتبع

٦٠