تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٨

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٨

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٥٦

العاقبة في وقت ما. ولذلك نكر لفظ (حِينٍ) المجعول غاية لاستدراجهم ، أي زمن مبهم ، كقوله : (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) [الأعراف : ١٨٧].

والغمرة حقيقتها : الماء الذي يغمر قامة الإنسان بحيث يغرقه. وتقدم في قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ) في سورة الأنعام [٩٣]. وإضافتها إلى ضميرهم باعتبار ملازمتها إياهم حتى قد عرفت بهم ، وذلك تمثيل لحال اشتغالهم بما هم فيه من الازدهار وترف العيش عن التدبر فيما يدعوهم إليه الرسول لينجيهم من العقاب بحال قوم غمرهم الماء فأوشكوا على الغرق وهم يحسبون أنهم يسبحون.

[٥٥ ، ٥٦] (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (٥٦))

الأشبه أن تكون هذه الجملة بدل اشتمال من جملة (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ) [المؤمنون : ٥٤] باعتبار أن جملة (فَذَرْهُمْ) تشتمل على معنى عدم الاكتراث بما هم فيه من الأحوال التي ألهتهم عن النظر في دعوة الإسلام وغرتهم بأنهم بمحل الكرامة على الله بما خولهم من العزة والترف ، وما تشتمل عليه من التوعد بأن ذلك له نهاية ينتهون إليها وأن الله أعطاهم ما هم فيه زمن النعمة استدراجا لهم. وهذا كقوله تعالى (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) [المزمل : ١١] وقوله : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ) [آل عمران : ١٩٦ ، ١٩٧].

والاستفهام في (أَيَحْسَبُونَ) إنكاري وتوبيخ على هذا الحسبان سواء كان هذا الحسبان حاصلا لجميع المشركين أم غير حاصل لبعض ، لأن حالهم حال من هو مظنة هذا الحسبان فينكر عليه هذا الحسبان لإزالته من نفسه أو لدفع حصوله فيها.

و (أَنَّما) هنا كلمتان (أن) المؤكدة (وما) الموصولة وكتبتا في المصحف متصلتين كما تكتب (إنما) المكسورة التي هي أداة حصر لأن الرسم القديم لم يكن منضبطا كل الضبط وحقها أن تكتب مفصولة.

والإمداد : إعطاء المدد وهو العطاء. و (مِنْ مالٍ وَبَنِينَ) بيان ل (ما) الموصولة.

والمسارعة : التعجيل ، وهي هنا مستعارة لتوخي المرغوب والحرص على تحصيله. وفي حديث عائشة أنها قالت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما أرى ربك إلا يسارع في هواك» أي يعطيك ما

٦١

تحبه لأن الراغب في إرضاء شخص يكون متسارعا في إعطائه مرغوبه ، ويقال : فلان يجري في حظوظك. ومتعلق (نُسارِعُ) محذوف تقديره : نسارع لهم به ، أي بما نمدهم به من مال وبنين. وحذف لدلالة (نُمِدُّهُمْ بِهِ) عليه.

وظرفية (في) مجازية. جعلت (الْخَيْراتِ) بمنزلة الطريق يقع فيه المسارعة بالمشي فتكون (في) قرينة مكنية. وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) [المائدة : ٤١] وقوله : (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ) [المائدة : ٥٢] كلاهما في سورة العقود ، وقوله : (إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) في سورة الأنبياء [٩٠].

والخيرات : جمع خير بالألف والتاء ، وهو من المجموع النادرة مثل سرادقات. وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ) في سورة براءة [٨٨] ، وتقدم في سورة الأنبياء [٧٣ ـ ٩٠].

و (بل) إضراب عن المظنون لا على الظن كما هو ظاهر بالقرينة ، أي لسنا نسارع لهم بالخيرات كما ظنوا بل لا يشعرون بحكمة ذلك الإمداد وأنها لاستدراجهم وفضحهم بإقامة الحجة عليهم.

[٥٧ ـ ٦١] (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١))

هذا الكلام مقابل ما تضمنته الغمرة من قوله (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ) [المؤمنون : ٥٤] من الإعراض عن عبادة الله وعن التصديق بآياته ، ومن إشراكهم آلهة مع الله ، ومن شحهم عن الضعفاء وإنفاق مالهم في اللذات ، ومن تكذيبهم بالبعث. كل ذلك مما شملته الغمرة فجيء في مقابلها بذكر أحوال المؤمنين ثناء عليهم ، ألا ترى إلى قوله بعد هذا (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا) [المؤمنون : ٦٣].

فكانت هذه الجملة كالتفصيل لإجمال الغمرة مع إفادة المقابلة بأحوال المؤمنين. واختير أن يكون التفصيل بذكر المقابل لحسن تلك الصفات وقبح أضدادها تنزيها للذكر عن تعداد رذائلهم ، فحصل بهذا إيجاز بديع ، وطباق من ألطف البديع ، وصون للفصاحة من كراهة الوصف الشنيع.

٦٢

وافتتاح الجملة ب (إِنَ) للاهتمام بالخبر ، والإتيان بالموصولات للإيماء إلى وجه بناء الخبر وهو أنهم يسارعون في الخيرات ويسابقون إليها وتكرير أسماء الموصولات للاهتمام بكل صلة من صلاتها فلا تذكر تبعا بالعطف. والمقصود الفريق الذين اتصفوا بصلة من هذه الصلات. و (من) في قوله (مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ) للتعليل.

والإشفاق : توقع المكروه وتقدم عند قوله تعالى : (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) في سورة الأنبياء [٢٨]. وقد حذف المتوقع منه لظهور أنه هو الذي كان الإشفاق بسبب خشيته ، أي يتوقعون غضبه وعقابه.

والمراد بالآيات الدلائل التي تضمنها القرآن ومنها إعجاز القرآن. والمعنى : أنهم لخشية ربهم يخافون عقابه ، فحذف متعلق (مُشْفِقُونَ) لدلالة السياق عليه.

وتقديم المجرورات الثلاثة على عواملها للرعاية على الفواصل مع الاهتمام بمضمونها.

ومعنى : (يُؤْتُونَ ما آتَوْا) يعطون الأموال صدقات وصلات ونفقات في سبيل الله. قال تعالى : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى) [البقرة : ١٧٧] الآية وقال : (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) [فصلت : ٦ ، ٧]. واستعمال الإيتاء في إعطاء المال شائع في القرآن متعين أنه المراد هنا.

وإنما عبر ب (ما آتَوْا) دون الصدقات أو الأموال ليعم كل أصناف العطاء المطلوب شرعا وليعم القليل والكثير ، فلعل بعض المؤمنين ليس له من المال ما تجب فيه الزكاة وهو يعطي مما يكسب.

وجملة (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) في موضع الحال وحق الحال إذا جاءت بعد جمل متعاطفة أن تعود إلى جميع الجمل التي قبلها ، أي يفعلون ما ذكر من الأعمال الصالحة بقلوبهم وجوارحهم وهم مضمرون وجلا وخوفا من ربهم أن يرجعوا إليه فلا يجدونه راضيا عنهم ، أو لا يجدون ما يجده غيرهم ممن يفوتهم في الصالحات ، فهم لذلك يسارعون في الخيرات ويكثرون منها ما استطاعوا وكذلك كان شأن المسلمين الأولين. وفي الحديث «أن أهل الصّفة قالوا : يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم. قال : أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدّقون به ، إن لكم بكل تسبيحة صدقة وكل تحميدة صدقة ، وكل تكبيرة صدقة ، وأمر

٦٣

بالمعروف صدقة ، ونهي عن المنكر صدقة».

وقال أبو مسعود الأنصاري : لما أمرنا بالصدقة كما نحامل فيصيب أحدنا المد فيتصدق به. ومما يشير إلى معنى هذه الآية قوله تعالى : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) [الإنسان : ٨ ـ ١٠] الآيات.

وخبر (إِنَ) جملة (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ).

وافتتح باسم الإشارة لزيادة تمييزهم للسامعين لأن مثلهم أحرياء بأن يعرفوا.

وتقدم الكلام على معنى (يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) آنفا.

ومعنى (وَهُمْ لَها سابِقُونَ) أنهم يتنافسون في الإكثار من أعمال الخير ، فالسبق تمثيل للتنافس والتفاوت في الإكثار من الخيرات بحال السابق إلى الغاية ، أو المعنى وهم محرزون لما حرصوا عليهم ، فالسبق مجاز لإحراز المطلوب لأن الإحراز من لوازم السبق.

وعلى التقديرين فاللام بمعنى (إلى). وقد قيل إن فعل السبق يتعدى باللام كما يتعدى ب (إلى). وتقديم المجرور للاهتمام ولرعاية الفاصلة.

(وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٢))

تذييل لما تقدم من أحوال الذين من خشية ربهم مشفقون. لأنه لما ذكر ما اقتضى مخالفة المشركين لما أمروا به من توحيد الدين ، وذكر بعده ما دل على تقوى المؤمنين بالخشية وصحة الإيمان والبذل ومسارعتهم في الخيرات ، ذيل ذلك بأن الله ما طلب من الذين تقطعوا أمرهم إلا تكليفا لا يشق عليهم ، وبأن الله عذر من المؤمنين من لم يبلغوا مبلغ من يفوتهم في الأعمال عذرا يقتضي اعتبار أجرهم على ما فاتهم إذا بذلوا غاية وسعهم. قال تعالى (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) [التوبة : ٩١].

فقوله : (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) خبر مراد منه لازمه وهو تسجيل التقصير على الذين تقطعوا أمرهم بينهم. وقطع معذرتهم ، وتيسير الاعتذار على الذين هم من خشية ربهم مشفقون كقوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) [البقرة : ١٨٥] مع ما في ذلك من جبر

٦٤

الخواطر المنكسرة من أهل الإيمان الذين لم يلحقوا غيرهم لعجز أو خصاصة.

ولمراعاة هذا المعنى عطف قوله : (وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِ) وهو معنى إحاطة العلم بأحوالهم ونواياهم. فالكتاب هنا هو الأمر الذي فيه تسجيل الأعمال من حسنات وسيئات وإطلاق الكتاب عليه لإحاطته. وفي قوله (لَدَيْنا) دلالة على أن ذلك محفوظ لا يستطيع أحد تغييره بزيادة ولا نقصان. والنطق مستعار للدلالة ، ويجوز أن يكون نطق الكتاب حقيقة بأن تكون الحروف المكتوبة فيه ذات أصوات وقدرة الله لا تحد.

وأما قوله (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) فالمناسب أن يكون مسوقا لمؤاخذة المفرّطين والمعرضين فيكون الضمير عائدا إلى ما عاد إليه ضمير (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ) [المؤمنون : ٥٣] وأشباهه من الضمائر والاعتماد على قرينة السياق ، وقوله (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا) [المؤمنون : ٦٣] وما بعده من الضمائر. والظلم على هذا الوجه محمول على ظاهره وهو حرمان الحق والاعتداء.

ويجوز أن يكون الضمير عائدا إلى عموم الأنفس في قوله (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) فيكون قوله (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) من بقية التذييل ، والظلم على هذا الوجه مستعمل في النقص من الحق كقوله تعالى : (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) [الكهف : ٣٣] فيكون وعيدا لفريق ووعدا لفريق. وهذا أليق الوجهين بالإعجاز.

(بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣))

إضراب انتقال إلى ما هو أغرب مما سبق وهو وصف غمرة أخرى انغمس فيها المشركون فهم في غمرة غمرت قلوبهم وأبعدتها عن أن تتخلق بخلق الذين هم من خشية ربهم مشفقون كيف وأعمالهم على الضد من أعمال المؤمنين تناسب كفرهم ، فكل يعمل على شاكلته.

فحرف (من) في قوله : (مِنْ هذا) يوهم البدلية ، أي في غمرة تباعدهم عن هذا.

والإشارة ب (هذا) إلى ما ذكر آنفا من صفات المؤمنين في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) إلى قوله : (وَهُمْ لَها سابِقُونَ) [المؤمنون : ٥٧ ـ ٦١].

و (دُونِ) تدل على المخالفة لأحوال المؤمنين ، أي ليسوا أهلا للتحلي بمثل تلك المكارم.

٦٥

وقوله : (وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ) يبين (هذا) ، أي وأعمالهم التي يعملونها غير ذلك. ويذكرني هذا قول محمد بن بشير الخارجي في مدح عروة بن زيد الخيل :

يا أيها المتمني أن يكون فتى

مثل ابن زيد لقد أخلى لك السبلا

أعدد فضائل أخلاق عددن له

هل سبّ من أحد أو سب أو بخلا

إن تنفق المال أو تكلف مساعيه

يشفق عليك وتفعل دون ما فعلا

ولام (لَهُمْ أَعْمالٌ) للاختصاص. وتقديم المجرور بها على المبدأ لقصر المسند إليه على المسند ، أي لهم أعمال لا يعملون غيرها من أعمال الإيمان والخيرات.

ووصف (أَعْمالٌ) بجملة (هُمْ لَها عامِلُونَ) للدلالة على أنهم مستمرون عليها لا يقلعون عنها لأنهم ضروا بها لكثرة انغماسهم فيها.

وجيء بالجملة الاسمية لإفادة الدوام على تلك الأعمال وثباتهم عليها.

ويجوز أن يكون تقديم (لَها) على (عامِلُونَ) لإفادة الاختصاص لقصر القلب ، أي لا يعملون غيرها من الأعمال الصالحة التي دعوا إليها. ويجوز أن يكون للرعاية على الفاصلة لأن القصر قد أفيد بتقديم المسند إليه.

[٦٤ ـ ٦٧] (حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (٦٥) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (٦٧))

(حَتَّى) ابتدائية. وقد تقدم ذكرها في سورة الأنبياء عند قوله تعالى : (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) [الأنبياء : ٩٦].

و (حتى) الابتدائية. يكون ما بعدها ابتداء كلام ، فليس الدال على الغاية لفظا مفردا كما هو الشأن مع (حتى) الجارة و (حتى) العاطفة ، بل هي غاية يدل عليها المقام والأكثر أن تكون في معنى التفريع.

وبهذه الغاية صار الكلام تهديدا لهم بعذاب سيحل بهم يجأرون منه ولا ملجأ لهم منه. والظاهر أنه عذاب في الدنيا بقرينة قوله : (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ

٦٦

لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [المؤمنون : ٧٥].

و (إِذا) الأولى ظرفية فيها معنى الشرط فلذلك كان الأصل والغالب فيها أن تدل على ظرف مستقبل. و (إِذا) الثانية فجائية داخلة على جواب شرط (إذا).

والمترفون : المعطون ترفا وهو الرفاهية ، أي المنعّمون كقوله تعالى : (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ) [المزمل : ١١] فالمترفون منهم هم سادتهم وأكابرهم والضمير المضاف إليه عائد إلى جميع المشركين أصحاب الغمرة.

وإنما جعل الأخذ واقعا على المترفين منهم لأنهم الذين أضلوا عامة قومهم ولو لا نفوذ كلمتهم على قومهم لا تبعت الدهماء الحق لأن العامة أقرب إلى الإنصاف إذا فهموا الحق بسبب سلامتهم من جل دواعي المكابرة من توقع تقلص سؤدد وزوال نعيم. وكذلك حقّ على قادة الأمم أن يؤاخذوا بالتبعات اللاحقة للعامة من جراء أخطائهم ومغامرتهم عن تضليل أو سوء تدبر ، وأن يسألوا عن الخيبة أن ألقوا بالذين اتبعوهم في مهواة الخطر كما قال تعالى : (وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) [الأحزاب : ٦٧ ، ٦٨] ، وقال (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) [النحل : ٢٥].

وتخصيص المترفين بالتعذيب مع أن شأن العذاب الإلهي إن كان دنيويا أن يعم الناس كلهم إيماء إلى أن المترفين هم سبب نزول العذاب بالعامة ، ولأن المترفين هم أشد إحساسا بالعذاب لأنهم لم يعتادوا مس الضراء والآلام. وقد علم مع ذلك أن العذاب يعم جميعهم من قوله : (إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) فإن الضميرين في (إِذا هُمْ) و (يَجْأَرُونَ) عائدان إلى ما عاد إليه ضمير (مُتْرَفِيهِمْ) بقرينة قوله : (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) إلى قوله (سامِراً تَهْجُرُونَ) فإن ذلك كان من عمل جميعهم.

ويجوز أن يكون المراد بالمترفين جميع المشركين فتكون الإضافة بيانية ويكون ذكر المترفين تهويلا في التهديد تذكيرا لهم بأن العذاب يزيل عنهم ترفهم ؛ فقد كان أهل مكة في ترف ودعة إذ كانوا سالمين من غارات الأقوام لأنهم أهل الحرم الآمن وكانوا تجبى إليهم ثمرات كل شيء وكانوا مكرّمين لدى جميع القبائل ، قال الأخطل :

فأما الناس ما حاشا قريشا

فإنا نحن أفضلهم فعالا

وكانت أرزاقهم تأتيهم من كل مكان قال تعالى : (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ

٦٧

مِنْ خَوْفٍ) [قريش : ٤] ، فيكون المعنى : حتى إذا أخذناهم وهم في ترفهم ، كقوله : (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) [المزمل : ١١].

ويجوز أن يكون المراد حلول العذاب بالمترفين خاصة ، أي بسادتهم وصناديدهم وهو عذاب السيف يوم بدر فإنه قتل يومئذ كبراء قريش وهم أصحاب القليب. قال شداد ابن الأسود :

وما ذا بالقليب قليب بدر

من الشيزى تزيّن بالسنام

وما ذا بالقليب قليب بدر

من القينات والشّرب الكرام

يعني ما ضمنه القليب من رجال كانت سجاياهم الإطعام والطرب واللذات.

وضمير (إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) على هذا الوجه عائد إلى غير المترفين لأن المترفين قد هلكوا فالبقية يجأرون من التلهف على ما أصاب قومهم والإشفاق أن يستمر القتل في سائرهم فهم يجأرون كلما صرع واحد من سادتهم ولأن أهل مكة عجبوا من تلك المصيبة ورثوا أمواتهم بالمراثي والنياحات.

ثم الظاهر أن المراد من هذا العذاب عذاب يحل بهم في المستقبل بعد نزول هذه الآية التي هي مكية فيتعين أن هذا عذاب مسبوق بعذاب حل بهم قبله كما يقتضيه قوله تعالى بعد (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) [المؤمنون : ٧٦] الآية.

ولذا فالعذاب المذكور هنا عذاب هددوا به ، وهو إما عذاب الجوع الثاني الذي أصاب أهل مكة بدعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد هجرته. ذلك أنه لما أسلم ثمامة بن أثال الحنفي عقب سرية خالد بن الوليد إلى بني كلب التي أخذ فيها ثمامة أسيرا وأسلم فمنع صدور الميرة من أرض قومه باليمامة إلى أهل مكة وكانت اليمامة مصدر أقواتهم حتى سميت ريف أهل مكة فأصابهم جوع حتى أكلوا العلهز (١) والجيف سبع سنين ، وإما عذاب السيف الذي حل بهم يوم بدر.

وقيل إن هذا العذاب عذاب وقع قبل نزول الآية وتعين أنه عذاب الجوع الذي أصابهم أيام مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مكة ثم كشفه الله عنهم ببركة نبيه وسلامة للمؤمنين ، وذلك المذكور في سورة الدخان [١٢](رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ).

__________________

(١) بكسر العين المهملة وسكون اللام وكسر الهاء آخره زاي : هو الدم المجمّد يخلط بالوبر ويشوى على النار

٦٨

وقيل العذاب عذاب الآخرة. ويبعد هذا القول أنه سيذكر عذاب الآخرة في قوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ...) الآيات إلى قوله : (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [المؤمنون : ٩٩ ـ ١١٤] كما ستعلمه.

وتجيء منه وجوه من الوجوه المتقدمة لا يخفى تقريرها.

ومعنى (يَجْأَرُونَ) يصرخون ومصدره الجأر. والاسم الجؤار بضم الجيم وهو كناية عن شدة ألم العذاب بحيث لا يستطيعون صبرا عليه فيصدر منهم صراخ التأوه والويل والثبور.

وجملة (لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ) معترضة بين ما قبلها وما تفرع عليه من قوله : (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) [المؤمنون : ٦٨] وهي مقول قول محذوف ، أي تقول لهم : لا تجأروا اليوم.

وهذا القول كلام نفسي أعلمهم الله به لتخويفهم من عذاب لا يغني عنهم حين حلوله جؤار إذ لا مجيب لجؤارهم ولا مغيث لهم منه إذ هو عذاب خارج عن مقدور الناس لا يطمع أحد في تولي كشفه. وهذا تأييس لهم من النجاة من العذاب الذي هددوا به. وإذا كان المراد بالعذاب عذاب الآخرة فالقول لفظي والمقصود منه قطع طماعيتهم في النجاة.

والنهي عن الجؤار مستعمل في معنى التسوية. وورود النهي في معنى التسوية مقيس على ورود الأمر في التسوية. وعثرت على اجتماعهما في قوله تعالى : (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ) [الطور : ١٦].

وجملة (إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) تعليل للنهي المستعمل في التسوية ، أي لا تجأروا إذ لا جدوى لجؤاركم إذ لا يقدر مجير أن يجيركم من عذابنا ، فموقع (إن) إفادة التعليل لأنها تغني غناء فاء التفريع.

وضمّن (تُنْصَرُونَ) معنى النجاة فعدي الفعل ب (من) ، أي لا تنجون من عذابنا. فثمّ مضاف محذوف بعد (من) ، وحذف المضاف في مثل هذا المقام شائع في الاستعمال. وتقديم المجرور للاهتمام بجانب الله تعالى ولرعاية الفاصلة.

وقوله : (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) استئناف. والخبر مستعمل في التنديم والتلهيف. وإنما لم تعطف الجملة على جملة (إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) لقصد إفادة معنى بها غير التعليل إذ لا كبير فائدة في الجمع بين علتين.

٦٩

والآيات هنا هي آيات القرآن بقرينة (تُتْلى) إذ التلاوة القراءة.

والنكوص : الرجوع من حيث أتى ، وهو الفرار. والأعقاب : مؤخر الأرجل. والنكوص هنا تمثيل للإعراض وذكر الأعقاب ترشيح للتمثيل. وقد تقدم في قوله تعالى : (فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) في سورة الأنفال [٤٨].

وذكر فعل (كنتم) للدلالة على أن ذلك شأنهم. وذكر المضارع للدلالة على التكرر فلذلك خلق منهم معاد مكرور.

وضمير (بِهِ) يجوز أن يكون عائدا على الآيات لأنها في تأويل القرآن فيكون (مُسْتَكْبِرِينَ) بمعنى معرضين استكبارا ويكون الباء بمعنى (عن) ، أو ضمّن (مُسْتَكْبِرِينَ) معنى ساخرين فعدي بالباء للإشارة إلى تضمينه.

ويجوز أيضا أن يكون الضمير للبيت أو المسجد الحرام وإن لم يتقدم له ذكر لأنه حاضر في الأذهان فلا يسمع ضمير لم يتقدم له معاد إلا ويعلم أنه المقصود بمعونة السياق لا سيما وقد ذكرت تلاوة الآيات عليهم. وإنما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتلو عليهم آيات القرآن في المسجد الحرام إذ هو مجتمعهم. فتكون الباء للظرفية. وفيه إنحاء عليهم في استكبارهم. وفي كون استكبارهم في ذلك الموضع الذي أمر الله أن يكون مظهرا للتواضع ومكارم الأخلاق ، فالاستكبار في الموضع الذي شأن القائم فيه أن يكون قانتا لله حنيفا أشنع استكبار.

وعن منذر بن سعيد البلوطي الأندلسي قاضي قرطبة أن الضمير في قوله (بِهِ) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والباء حينئذ للتعدية ، وتضمين (مُسْتَكْبِرِينَ) معنى مكذبين لأن استكبارهم هو سبب التكذيب.

و (سامِراً) حال ثانية من ضمير المخاطبين ، أي حال كونكم سامرين. والسامر : اسم لجمع السامرين ، أي المتحدثين في سمر الليل وهو ظلمته ، أو ضوء قمره. وأطلق السمر على الكلام في الليل ، فالسامر كالحاج والحاضر والجامل بمعنى الحجاج والحاضرين وجماعة الجمال. وعندي أنه يجوز أن يكون (سامِراً) مرادا منه مجلس السمر حيث يجتمعون للحديث ليلا ويكون نصبه على نزع الخافض ، أي في سامركم ، كما قال تعالى : (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) [العنكبوت : ٢٩].

و (تَهْجُرُونَ) بضم التاء وسكون الهاء وكسر الجيم في قراءة نافع مضارع أهجر : إذا

٧٠

قال الهجر بضم الهاء وسكون الجيم وهو اللغو والسب والكلام السيئ. وقرأ بقية العشرة بفتح التاء من هجر إذا لغا. والجملة في موضع الصفة ل (سامِراً) ، أي في حال كونكم متحدثين هجرا وكان كبراء قريش يسمرون حول الكعبة يتحدثون بالطعن في الدين وتكذيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

[٦٨ ـ ٧٠] (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٠))

الفاء لتفريع الكلام على الكلام السابق وهو قوله (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا) إلى قوله (سامِراً تَهْجُرُونَ) [المؤمنون : ٦٣ ـ ٦٧]. وهذا التفريع معترض بين جملة (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا) وجملة (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [المؤمنون : ٧٥].

والمفرع استفهامات عن سبب إعراضهم واستمرار قلوبهم في غمرة إلى أن يحل بهم العذاب الموعود له.

وهذه الاستفهامات مستعملة في التخطئة على طريقة المجاز المرسل لأن اتضاح الخطأ يستلزم الشك في صدوره عن العقلاء فيقتضي ذلك الشك السؤال عن وقوعه من العقلاء.

ومآل معاني هذه الاستفهامات أنها إحصاء لمثار ضلالهم وخطئهم ولذلك خصت بذكر أمور من هذا القبيل. وكذلك احتجاج عليهم وقطع لمعذرتهم وإيقاظ لهم بأن صفات الرسول كلها دالة على صدقه.

فالاستفهام الأول : عن عدم تدبرهم فيما يتلى عليهم من القرآن وهو المقصود بالقول أي الكلام ، قال تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) [النساء : ٨٢]. والتدبر : إعمال النظر العقلي في دلالات الدلائل على ما نصبت له. وأصله أنه من النظر في دبر الأمر ، أي فيما لا يظهر منه للمتأمل بادئ ذي بدء. وقد تقدم عند قوله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) في سورة النساء [٨٢].

والمعنى : أنهم لو تدبروا قول القرآن لعلموا أنه الحق بدلالة إعجازه وبصحة

٧١

أغراضه ، فما كان استمرار عنادهم إلا لأنهم لم يدبروا القول. وهذا أحد العلل التي غمرت بهم في الكفر.

والاستفهام الثاني : هو المقدر بعد (أم) وقوله : (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ). ف (أم) حرف إضراب انتقالي من استفهام إلى غيره وهي (أم) المنقطعة بمعنى (بل) ويلزمها تقدير استفهام بعدها لا محالة. فقوله (جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ) تقديره : بل أجاءهم. والمجيء مجاز في الإخبار والتبليغ ، وكذلك الإتيان.

و (ما) الموصولة صادقة على دين. والمعنى : أجاءهم دين لم يأت آباءهم الأولين وهو الدين الداعي إلى توحيد الإله وإثبات البعث ، ولذلك كانوا يقولون : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٢]. ولهذا قال الله تعالى (وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) [الزخرف : ٢٣ ، ٢٤].

ثم إنه إن كان المراد ظاهر معنى الصلة وهي (ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) من أن الدين الذي جاءهم لا عهد لهم به ، تعين أن يكون في الكلام تهكم بهم إذ قد أنكروا دينا جاءهم ولم يسبق مجيئه لآبائهم. ووجه التهكّم أن شأن كل رسول جاء بدين أن يكون دينه أنفا ولو كان للقوم مثله لكان مجيئه تحصيل حاصل.

وإن كان المراد من الصلة أنه مخالف لما كان عليه آباؤهم لأن ذلك من معنى : لم يأت آباءهم ، كان الكلام مجرد تغليط ، أي لا اتجاه لكفرهم به لأنه مخالف لما كان عليه آباؤهم إذ لا يكون الدين إلا مخالفا للضلالة ويكون في معنى قوله تعالى : (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) [الزخرف : ٢١ ، ٢٢].

وأما الاستفهام الثالث : المقدر بعد (أم) الثانية في قوله : (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ) فهو استفهام عن عدم معرفتهم الرسول بناء على أن عدم المعرفة به هو أحد احتمالين في شأنهم إذ لا يخلون عن أحدهما ، فأما كونهم يعرفونه فهو المظنون بهم فكان الأجدر بالاستفهام هو عدم معرفتهم به إذ تفرض كما يفرض الشيء المرجوح لأنه محل الاستغراب المستلزم للتغليط ؛ فإن رميهم الرسول بالكذب وبالسحر والشعر يناسب أن لا يكونوا يعرفونه من قبل ، إذ العارف بالمرء لا يصفه بما هو منه بريء ، ولذلك تفرع على عدم

٧٢

معرفتهم إنكارهم إياه ، أي إنكارهم صفاته الكاملة.

فتعليق ضمير ذات الرسول ب (مُنْكِرُونَ) هو من باب إسناد الحكم إلى الذات والمراد صفاتها مثل (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) [النساء : ٢٣]. وهذه الصفات هي الصدق والنزاهة عن السحر وأنه ليس في عداد الشعراء.

ولله در أبي طالب في قوله :

لقد علموا أن ابننا لا مكذّب

لدينا ولا يعزى لقول الأباطل

وقال تعالى فيما أمر به رسوله (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ) (أي القرآن) (أَفَلا تَعْقِلُونَ) [يونس : ١٦].

ولما كان البشر قد يعرض له ما يسلب خصاله وهو اختلال عقله عطف على (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ) قوله (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) ، وهو الاستفهام الرابع ، أي ألعلهم ادعوا أن رسولهم الذي يعرفونه قد أصيب بجنون فانقلب صدقه كذبا.

والجنّة : الجنون ، وهو الخلل العقلي الذي يصيب الإنسان ، كانوا يعتقدون أنه من مس الجن.

والجنّة يطلق على الجنّ وهو المخلوقات المستترة عن أبصارنا كما في قوله : (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) [الناس : ٦]. ويطلق الجنة على الداء اللاحق من إصابة الجن وصاحبه مجنون ، وهو المراد هنا بدليل باء الملابسة. وتقدم عند قوله تعالى (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) في سورة الأعراف [١٨٤]. وهم لم يظنوا به الجنون ولكنهم كانوا يقولونه بألسنتهم بهتانا. وليس القول بألسنتهم هو مصب الاستفهام. ثم قد نقض ما تسبب على ما اختلقوه فجيء بحرف الإضراب في الخبر في معنى الاستدراك وهو (بل).

والحق : الثابت في الواقع ونفس الأمر ، يكون في الذوات وأوصافها. وفي الأجناس ، وفي المعاني ، وفي الأخبار. فهو ضد الكذب وضد السحر وضد الشعر ، فما جاءهم به النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأخبار والأوامر والنواهي كله ملابس للحق ، فبطل بهذا ما قالوه في القرآن وفي الرسول عليه الصلاة والسلام مقالة من لم يتدبروا القرآن ومن لم يراعوا إلا موافقة ما كان عليه آباؤهم الأولون ومن لم يعرفوا حال رسولهم الذي هو من أنفسهم ومقالة من يرمي بالبهتان فنسبوا الصادق إلى التلبيس والتغليط.

فالحق الذي جاءهم به النبي أوله إثبات الوحدانية لله تعالى وإثبات البعث وما يتبع

٧٣

ذلك من الشرائع النازلة بمكة ، كالأمر بالصلاة والزكاة وصلة الرحم ، والاعتراف للفاضل بفضله. وزجر الخبيث عن خبثه ، وأخوة المسلمين ، بعضهم لبعض ، والمساواة بينهم في الحق. ومنع الفواحش من الزنى وقتل الأنفس ووأد البنات والاعتداء وأكل الأموال بالباطل وإهانة اليتيم والمسكين. ونحو ذلك من إبطال ما كان عليه أمر الجاهلية من العدوان. والخلافة التي نشئوا عليها من عهد قديم. فكل ما جاء به الرسول يومئذ هو الموافق لمقتضى نظام العمران الذي خلق الله عليه العالم فهو الحق كما قال (ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ) [الدخان : ٣٩]. ولما كان قول الكاذب وقول المجنون المختص بهذا الذي لا يشاركهما فيه العقلاء والصادقون غير جاريين على هذا الحق كان إثبات أن ما جاء به الرسول حقّ نقضا لإنكارهم صدقه. ولقولهم هو مجنون كان ما بعد (بل) نقضا لقولهم.

وظاهر تناسق الضمائر يقتضي أن ضمير (أَكْثَرُهُمْ) يعود إلى القوم المتحدث عنهم في قوله (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ) [المؤمنون : ٥٤] فيكون المعنى : أكثر المشركين من قريش كارهون للحق. وهذا تسجيل عليهم بأن طباعهم تأنف الحق الذي يخالف هواهم لما تخلقوا به من الشرك وإتيان الفواحش والظلم والكبر والغصب وأفانين الفساد ، بله ما هم عليه من فساد الاعتقاد بالإشراك وما يتبعه من الأعمال كما قال تعالى : (وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ) [المؤمنون : ٦٣] ، فلا جرم كانوا بذلك يكرهون الحق لأن جنس الحق يجافي هذه الطباع. ومن هؤلاء أبو جهل قال تعالى : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) إلى قوله : (لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) [الأنعام : ٥٢ ، ٥٣].

وإنما أسندت كراهية الحق إلى أكثرهم دون جميعهم إنصافا لمن كان منهم من أهل الأحلام الراجحة الذين علموا بطلان الشرك وكانوا يجنحون إلى الحق ولكنهم يشايعون طغاة قومهم مصانعة لهم واستبقاء على حرمة أنفسهم بعلمهم أنهم إن صدعوا بالحق لقوا من طغاتهم الأذى والانتقاص ، وكان من هؤلاء أبو طالب والعباس والوليد بن المغيرة. فكان المعنى : بل جاءهم بالحق فكفروا به كلهم ، فأما أكثرهم فكراهية للحق ، وأما قليل منهم مصانعة لسائرهم وقد شمل الكفر جميعهم.

وتقدم المعمول في قوله (لِلْحَقِّ كارِهُونَ) اهتمام بذكر الحق حتى يستوعي السامع ما بعده فيقع من نفسه حسن سماعه موقع العجب من كارهيه ، ولما ضعف العامل فيه بالتأخير قرن المعمول بلام التقوية.

٧٤

(وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١))

(وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ).

عطف هذا الشرط الامتناعي على جملة (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) [المؤمنون : ٧٠] زيادة في التشنيع على أهوائهم فإنها مفضية إلى فساد العالم ومن فيه وكفى بذلك فظاعة وشناعة.

والحق هنا هو الحق المتقدم في قوله : (بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) [المؤمنون : ٧٠] وهو الشيء الموافق للوجود الواقعي ولحقائق الأشياء. وعلم من قوله (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ) أن كراهة أكثرهم للحق ناشئة عن كون الحق مخالفا أهواءهم فسجل عليهم أنهم أهل هوى والهوى شهوة ومحبة لما يلائم غرض صاحبه ، وهو مصدر بمعنى المفعول. وإنما يجري الهوى على شهوة دواعي النفوس أعني شهوات الأفعال غير التي تقتضيها الجبلة ، فشهوة الطعام والشراب ونحوهما مما تدعو إليه الجبلة ليست من الهوى وإنما الهوى شهوة ما لا تقتضيه الفطرة كشهوة الظلم وإهانة الناس ، أو شهوة ما تقتضيه الجبلة لكن يشتهى على كيفية وحالة لا تقتضيها الجبلة لما يترتب على تلك الحالة من فساد وضر مثل شهوة الطعام المغصوب وشهوة الزنا ، فمرجع معنى الهوى إلى المشتهى الذي لا تقتضيه الجبلة.

والاتّباع : مجاز شائع في الموافقة ، أي لو وافق الحق ما يشتهونه.

ومعنى موافقة الحق الأهواء أن تكون ماهية الحق موافقة لأهواء النفوس. فإن حقائق الأشياء لها تقرر في الخارج سواء كانت موافقة لما يشتهيه الناس أم لم تكن موافقة له ؛ فمنها الحقائق الوجودية وهي الأصل فهي متقررة في نفس الأمر مثل كون الإله واحدا ، وكونه لا يلد ، وكون البعث واقعا للجزاء ، فكونها حقا هو عين تقررها في الخارج.

ومنها الحقائق المعنوية وهي الموجودة في الاعتبار فهي متقررة في الاعتبارات. وكونها حقا هو كونها جارية على ما يقتضيه نظام العالم مثل كون الوأد ظلما ، وكون القتل عدوانا ، وكون القمار أخذ مال بلا حق لآخذه في أخذه ، فلو فرض أن يكون الحق في أضداد هذه المذكورات لفسدت السماوات والأرض وفسد من فيهن ، أي من في السماوات والأرض من الناس.

٧٥

ووجه الملازمة بين فساد السماوات والأرض وفساد الناس وبين كون الحق جاريا على أهواء المشركين في الحقائق هو أن أهواءهم شتى ؛ فمنها المتفق ، وأكثرهم مختلف ، وأكثر اتفاق أهوائهم حاصل بالشرك ، فلو كان الحق الثابت في الواقع موافقا لمزاعمهم لاختلت أصول انتظام العوالم.

فإن مبدأ الحقائق هو حقيقة الخالق تعالى ، فلو كانت الحقيقة هي تعدد الآلهة لفسدت العوالم بحكم قوله تعالى (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢] وقد تقدم تفصيله في سورة الأنبياء. وذلك أصل الحق وقوامه وانتقاضه انتقاض لنظام السموات والأرض كما تقدم. وقد قال الله تعالى في هذه السورة (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ) [المؤمنون : ٩١] الآية ، فمن هواهم الباطل أن جعلوا من كمال الله أن يكون له ولد.

ثم ننتقل بالبحث إلى بقية حقائق ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الحق لو فرض أن يكون الثابت نقيض ذلك لتسرب الفساد إلى السموات والأرض ومن فيهن. فلو فرض عدم البعث للجزاء لكان الثابت أن لا جزاء على العمل ؛ فلم يعمل أحد خيرا إذ لا رجاء في ثواب. ولم يترك أحد شرا إلا إذ لا خوف من عقاب فيغمر الشر الخير والباطل الحق وذلك فساد لمن في السموات والأرض قال تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون : ١١٥].

وكذا لو كان الحق حسن الاعتداء والباطل قبح العدل لارتمى الناس بعضهم على بعض بالإهلاك جهد المستطاع فهلك الضرع والزرع قال تعالى : (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) [البقرة : ٢٠٥] ، وهكذا الحال في أهوائهم المختلفة. ويزيد أمرها فسادا بأن يتبع الحق كل ساعة هوى مخالفا للهوى الذي اتبعه قبل ذلك فلا يستقر نظام ولا قانون.

وهذا المعنى ناظر إلى معنى قوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [الدخان : ٣٨ ، ٣٩].

والظاهر أن (من) في قوله : (وَمَنْ فِيهِنَ) صادقة على العقلاء من البشر والملائكة.

ففساد البشر على فرض أن يكون جاريا على أهواء المشركين ظاهر مما قررناه.

وأما فساد الملائكة فلأن من أهواء المشركين زعمهم أن الملائكة بنات الله فلو كان الواقع أن حقيقة الملائكة بنوة الله لأفضى ذلك إلى أنهم آلهة لأن المتولد من جنس يجب

٧٦

أن يكون مماثلا لما تولد هو منه إذ الولد نسخة من أبيه فلزم عليه ما يلزم على القول بتعدد الآلهة. وأيضا لو لم يكن من فصول حقيقة الملائكة أنهم مسخرون لطاعة الله وتنفيذ أوامره لفسدت حقائقهم فأفسدوا ما يأمرهم الله بإصلاحه وبالعكس فتنتقض المصالح.

ويجوز أن يكون (مَنْ) صادقا على المخلوقات كلها على وجه التغليب في استعمال (من). ووجه الملازمة ينتظم بالأصالة مع وجه الملازمة بين تعدد الآلهة وبين فساد السماوات والأرض ثم يسري إلى اختلال مواهي الموجودات فتصبح غير صالحة لما خلقت عليه ، فيفسد العالم. وقد كان بعض الفلاسفة المتأخرين فرض بحثا في إمكان فناء العالم وفرض أسبابا إن وجد واحد منها في هذا العالم. وعدّ من جملتها أن تحدث حوادث جوية تفسد عقول البشر كلهم فيتألبون على إهلاك العالم فلو أجرى الله النظام على مقتضى الأهواء من مخالفة الحق لما هو عليه في نفس الأمر كما يشتهون لعاد ذلك بالفساد على جميع العالم فكانوا مشمولين لذلك الفساد لأنهم من جملة ما في السماوات والأرض ، فناهيك بأفن آراء لا تميز بين الضر والنافع لأنفسهما. وكفى بذلك شناعة لكراهيتهم الحق وإبطالا لزعمهم أن ما جاء به الرسول تصرفات مجنون.

(بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ).

إبطال لما اقتضاه الفرض في قوله (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ) أي بل لم يتبع الحق أهواءهم فأبلغنا إليهم الحق على وجهه بالقرآن الذي هو ذكر لهم يوقظ عقولهم من سباتها. كأنه يذكر عقولهم الحق الذي نسيته بتقادم الزمان على ضلالات آبائهم التي سنوها لهم فصارت أهواء لهم ألفوها فلم يقبلوا انزياحا عنها وأعرضوا عن الحق بأنه خالفها ، فجعل إبلاغ الحق لهم بالأدلة بمنزلة تذكير الناسي شيئا طال عهده به كما قال عمر بن الخطاب في كتابه إلى أبي موسى الأشعري «فإن الحق قديم» قال تعالى (وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) [يونس : ٨٢].

وعدّي فعل آتيناهم بالباء لأنه استعمل مجازا في الإرسال والتوجيه.

والذكر يجوز أن يكون مصدرا بمعنى التذكير. ويجوز أن يكون اسما للكلام الذي يذكر سامعه بما غفل عنه وهو شأن الكتب الربانية. وإضافة الذكر إلى ضميرهم لفظية من الإضافة إلى مفعول المصدر.

والفاء لتفريع إعراضهم على الإتيان بالذكر إليهم ، أي فتفرع على الإرسال إليهم

٧٧

بالذكر إعراضهم عنه. والمعنى : أرسلنا إليهم القرآن ليذكّرهم.

وقيل : إضافة الذكر إلى ضميرهم معنوية ، أي الذكر الذي سألوه حين كانوا يقولون (لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) [الصافات : ١٦٨ ، ١٦٩] فيكون الذكر على هذا مصدرا بمعنى الفاعل ، أي ما يتذكرون به. والفاء على هذا الوجه فاء فصيحة ، أي فها قد أعطيناهم كتابا فأعرضوا عن ذكرهم الذي سألوه كقوله تعالى : «لو أن عندنا ذكرا من الأولين (أي من رسل قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم) لكنا عباد الله المخلصين فكفروا به» ، وقول عباس بن الأحنف :

قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا

ثم القفول فقد جئنا خراسان

وقوله تعالى : (أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) [المائدة : ١٩].

والتعبير عن إعراضهم بالجملة الاسمية للدلالة على ثبات إعراضهم وتمكنه منهم. وتقديم المجرور على عامله للاهتمام بذكرهم ليكون إعراضهم عنه محل عجب.

(أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢))

(أم) عاطفة على (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) [المؤمنون : ٧٠] وهي للانتقال إلى استفهام آخر عن دواعي إعراضهم عن الرسول واستمرار قلوبهم في غمرة.

والاستفهام المقدر هنا إنكاري ، أي ما تسألهم خرجا فيعتذروا بالإعراض عنك لأجله شحا بأموالهم. وهذا في معنى قوله تعالى (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) [سبأ : ٤٧] على سبيل الفرض ، والتقدير : إن كنت سألتكم أجرا فقد رددته عليكم فما ذا يمنعكم من اتباعي. وقوله : (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) [القلم : ٤٦] كل ذلك على معنى التهكم. وأصرح منهما قوله تعالى (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) [الشورى : ٢٣].

وهذا الانتقال كان إلى غرض نفي أن يكون موجب إعراضهم عن دعوة الرسول جائيا من قبله وتسببه بعد أن كانت الاستفهامات السابقة الثلاثة متعلقة بموجبات الإعراض الجائية من قبلهم ، فالاستفهام الذي في قوله (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً) إنكاري إذ لا يجوز أن يصدر عن الرسول ما يوجب إعراض المخاطبين عن دعوته فانحصرت تبعة الإعراض

٧٨

فيهم.

والخرج : العطاء المعيّن على الذوات أو على الأرضين كالإتاوة ، وأما الخراج فقيل هو مرادف الخرج وهو ظاهر كلام جمهور اللغويين. وعن ابن الأعرابي : التفرقة بينهما بأن الخرج الإتاوة على الذوات والخراج الإتاوة على الأرضين.

وقيل الخرج : ما تبرع به المعطي والخراج : ما لزمه أداؤه. وفي «الكشاف» : والوجه أن الخرج أخص من الخراج (يريد أن الخرج أعم كما أصلح عبارته صاحب «الفرائد» في نقل الطيبي) كقولك خراج القرية وخرج الكردة (١) زيادة اللفظ لزيادة المعنى ، ولذلك حسنت قراءة من قرأ (خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ) يعني أم تسألهم على هدايتك لهم قليلا من عطاء الخلق فالكثير من عطاء الخالق خير» ا ه.

وهذا الذي ينبغي التعويل عليه لأن الأصل في اللغة عدم الترادف.

هذا وقد قرأ الجمهور (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ). وقرأ ابن عامر خرجا فخرج ربك. وقرأ حمزة والكسائي وخلف أم تسألهم خراجا فخراج ربك خير. فأما قراءة الجمهور فتوجيهها على اعتبار ترادف الكلمتين أنها جرت على التفنن في الكلام تجنبا لإعادة اللفظ في غير المقام المقتضي إعادة اللفظين مع قرب اللفظين بخلاف قوله تعالى (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) [سبأ : ٤٧] فإن لفظ أجر أعيد بعد ثلاثة ألفاظ.

وأما على اعتبار الفرق الذي اختاره الزمخشري فتوجيهها باشتمالها على التفنن وعلى محسن المبالغة.

وأما قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف فتوجيهها على طريقة الترادف أنهما وردتا على اختيار المتكلم في الاستعمال مع محسن المزاوجة بتماثل اللفظين. ولا توجهان على طريقة الزمخشري.

قال صاحب «الكشاف» : ألزمهم الله الحجة في هذه الآيات (أي قوله (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) [المؤمنون : ٦٨] إلى هنا) وقطع معاذيرهم وعللهم بأن الذي أرسل إليهم رجل معروف أمره وحاله ، مخبور سره وعلنه ، خليق بأن يجتبى مثله للرسالة من بين ظهرانيهم ، وأنه لم

__________________

(١) الكردة ـ بضم الكاف وسكون الراء ـ : الأرض ذات الزرع.

قال الهمذاني في «حاشيته» : لا تعرفها العرب وإنما هي من كلام الكرد.

٧٩

يعرض (١) له حتى يدّعي بمثل هذه الدعوى العظيمة بباطل ، ولم يجعل ذلك سلما إلى النيل من دنياهم واستعطاء أموالهم ، ولم يدعهم إلا إلى دين الإسلام الذي هو الصراط المستقيم مع إبراز المكنون من أدوائهم وهو إخلالهم بالتدبر والتأمل. واستهتارهم بدين الآباء الضّلّال من غير برهان ، وتعللهم بأنه مجنون بعد ظهور الحق وثبات التصديق من الله بالمعجزات والآيات النيرة ، وكراهتهم للحق وإعراضهم عما فيه حظهم من الذكر» ا ه.

وجملة (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) معترضة تكميلا للغرض بالثناء على الله والتعريف بسعة فضله. ويفيد تأكيدا لمعنى (فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ).

[٧٣ ، ٧٤] (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤))

أعقب تنزيه الرسول عما افتروه عليه بتنزيه الإسلام عما وسموه به من الأباطيل والتنزيه بإثبات ضد ذلك وهو أنه صراط مستقيم ، أي طريق لا التواء فيه ولا عقبات ، فالكلام تعريض بالذين اعتقدوا خلاف ذلك. وإطلاق الصراط المستقيم عليه من حيث إنه موصل إلى ما يتطلبه كل عاقل من النجاة وحصول الخير ، فكما أن السائر إلى طلبته لا يبلغها إلا بطريق ، ولا يكون بلوغه مضمونا ميسورا إلا إذا كان الطريق مستقيما فالنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دعاهم إلى الإسلام دعاهم إلى السير في طريق موصل بلا عناء.

والتأكيد ب (إن) واللام باعتبار أنه مسوق للتعريض بالمنكرين على ما دعاهم إليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وكذلك التوكيد في قوله : (وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ). والتعبير فيه بالموصول وصلته إظهار في مقام الإضمار حيث عدل عن أن يقول : وإنهم عن الصراط لناكبون. والغرض منه ما تنبئ به الصلة من سبب تنكبهم عن الصراط المستقيم أن سببه عدم إيمانهم بالآخرة. وتقدم قوله تعالى : (قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) في سورة الحجر [٤١].

والتعريف في الصراط للجنس ، أي هم ناكبون عن الصراط من حيث هو حيث لم يتطلبوا طريق نجاة فهم ناكبون عن الطريق بله الطريق المستقيم ولذلك لم يكن التعريف

__________________

(١) فعل ملتزم بناؤه للنائب. ومعناه لم يكن مجنونا.

٨٠