تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٨

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٨

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٥٦

الابتداء بذلك. وأما الرد فيقول : وعليك السلام ـ بواو العطف وبذلك فارقت تحية الميت ـ ورحمة الله. أخرج ذلك الترمذي في كتاب الاستئذان. وتقدم السلام في قوله تعالى : (وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) في سورة الأنعام [٥٤].

وأما قوله : (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً) إلخ للاحتراس من أن يظن ظان أن المنازل غير المسكونة يدخلها الناس في غيبة أصحابها بدون إذن منهم توهما بأن علة شرع الاستئذان ما يكره أهل المنازل من رؤيتهم على غير تأهب بل العلة هي كراهتهم رؤية ما يحبون ستره من شئونهم. فالشرط هنا يشبه الشرط الوصلي لأنه مراد به المبالغة في تحقيق ما قبله ولذلك ليس له مفهوم مخالفة.

والغاية في قوله : (حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) لتأكيد النهي بقوله : (فَلا تَدْخُلُوها) أي حتى يأتي أهلها فيأذنوا لكم.

وقوله : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) تذييل لهذه الوصايا بتذكيرهم بأن الله عليم بأعمالهم ليزدجر أهل الإلحاح عن إلحاحهم بالتثقيل ، وليزدجر أهل الحيل أو التطلع من الشقوق ونحوها. وهذا تعريض بالوعيد لأن في ذلك عصيانا لما أمر الله به. فعلمه به كناية عن مجازاته فاعليه بما يستحقون.

وخطاب (فَلا تَدْخُلُوها) يعم وهو مخصوص بمفهوم قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) [النور : ٥٨] كما سيأتي. ولذا فإن المماليك والأطفال مخصصون من هذا العموم كما سيأتي.

وقرأ الجمهور : (بُيُوتاً) حيثما وقع بكسر الباء. وقرأه أبو عمرو وورش عن نافع وحفص عن عاصم وأبو جعفر بضم الباء. وقد تقدم في سورة آل عمران.

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٢٩))

هذا تخصيص لعموم قوله : (بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ) [النور : ٢٧] بالبيوت المعدة للسكنى ، فأما البيوت التي ليست معدودة للسكنى إذا كان لأحد حاجة في دخولها أن له أن يدخلها لأن كونها غير معدودة للسكنى تجعل القاطن بها غير محترز من دخول الغير إليها بل هو على استعداد لمن يغشاه فهي لا تخلو من أن تكون خاوية من الساكن مثل البيوت المقامة

١٦١

على طرق المسافرين لنزولهم ، كما كانت بيوت على الطريق بين الحجاز والشام في طريق التجار كانوا يأوون إليها ويحطون فيها متاعهم للاستراحة ثم يرتحلون عنها ويستأنفون سيرهم ، وتسمى الخانات جمع خان ـ بالخاء المعجمة ـ فهو اسم معرب من الفارسية. ومثلها بيوت كانت في بعض سكك المدينة كانوا يضعون بها متاعا وأقتابا وقد بناها بعض من يحتاج إليها وارتفق بها غيرهم.

وأما أن تكون تلك البيوت مأهولة بأناس يقطنونها يأوون المسافرين ورحالهم ورواحلهم ويحفظون أمتعتهم ويبيتونهم حتى يستأنفوا المرحلة مثل الخانات المأهولة والفنادق. وكذلك البيوت المعدودة لبيع السلع ، والحمامات ، وحوانيت التجار ، وكذلك المكتبات وبيوت المطالعة فهذه مأهولة ولا تسمى مسكونة لأن السكنى هي الإقامة التي يسكن بها المرء ويستقر فيها ويقيم فيها شئونه. فمعنى قوله : (غَيْرَ مَسْكُونَةٍ) أنها غير مأهولة على حالة الاستقرار أو غير مأهولة البتة.

وأما الخوانيق (جمع خانقاه ويقال الخانكات جمع خانكاه) وهي منازل ذات بيوت يقطنها طلبة الصوفية ، وكذلك المدارس يقطنها طلبة العلم ، وكذلك الربط جمع رباط وهو مأوى الحراس على الثغور ، فلا استئذان بين قطانها لأنهم قد طرحوا الكلفة فيما بينهم فصاروا كأهل البيت الواحد ولكن على الغريب عنهم أن يستأذن في الدخول عليهم فيأذن له ناظرهم أو كبيرهم أو من يبلغ عنهم.

وقوله : (فِيها مَتاعٌ لَكُمْ) صفة ثانية ل (بُيُوتاً).

والمتاع : الجهاز من العروض والسلع والرحال. وظاهر قوله : (فِيها مَتاعٌ) أن المتاع موضوع هناك قبل دخول الداخل فلا مفهوم لهذه الصفة لأنها خرجت مخرج التنبيه على العذر في الدخول. ويشمل ذلك أن يدخلها لوضع متاعه بدلالة لحن الخطاب. وكذلك يشمل دخول المسافر وإن كان لا متاع له لقصد التظلل أو المبيت بدلالة لحن الخطاب أو القياس.

وقد فسر المتاع بالمصدر ، أي التمتع والانتفاع. قال جابر بن زيد : كل منافع الدنيا متاع. وقال أبو جعفر النحاس : هذا شرح حسن من قول إمام من أئمة المسلمين وهو موافق للغة ، وتبعه على ذلك في «الكشاف». ونوه بهذا التفسير أبو بكر ابن العربي فيكون إيماء إلى أن من لا منفعة له في دخولها لا يؤذن له في دخولها لأنه يضيق على أصحاب الاحتياج إلى بقاعها.

١٦٢

وجملة : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) مستعملة في التحذير من تجاوز ما أشارت إليه الآية من القيود وهي كون البيوت غير مسكونة وكون الداخل محتاجا إلى دخولها بله أن يدخلها بقصد التجسس على قطانها أو بقصد أذاهم أو سرقة متاعهم.

(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠))

أعقب حكم الاستئذان ببيان آداب ما تقتضيه المجالسة بعد الدخول وهو أن لا يكون الداخل إلى البيت محدقا بصره إلى امرأة فيه بل إذا جالسته المرأة غض بصره واقتصر على الكلام ولا ينظر إليها إلا النظر الذي يعسر صرفه.

ولما كان الغض التام لا يمكن جيء في الآية بحرف (مِنْ) الذي هو للتبعيض إيماء إلى ذلك إذ من المفهوم أن المأمور بالغض فيه هو ما لا يليق تحديق النظر إليه وذلك يتذكره المسلم من استحضاره أحكام الحلال والحرام في هذا الشأن فيعلم أن غض البصر مراتب : منه واجب ومنه دون ذلك ، فيشمل غض البصر عما اعتاد الناس كراهية التحقق فيه كالنظر إلى خبايا المنازل ، بخلاف ما ليس كذلك فقد جاء في حديث عمر بن الخطاب حين دخل مشربة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فرفعت بصري إلى السقف فرأيت أهبة معلقة».

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي : «لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الثانية».

وفي هذا الأمر بالغض أدب شرعي عظيم في مباعدة النفس عن التطلع إلى ما عسى أن يوقعها في الحرام أو ما عسى أن يكلفها صبرا شديدا عليها.

والغض : صرف المرء بصره عن التحديق وتثبيت النظر. ويكون من الحياء كما قال عنترة :

وأغض طرفي حين تبدو جارتي

حتى يواري جارتي مأواها

ويكون من مذلة كما قال جرير :

فغض الطرف إنك من نمير

ومادة الغض تفيد معنى الخفض والنقص.

والأمر بحفظ الفروج عقب الأمر بالغض من الأبصار لأن النظر رائد الزنى. فلما كان ذريعة له قصد المتذرع إليه بالحفظ تنبيها على المبالغة في غض الأبصار في محاسن

١٦٣

النساء. فالمراد بحفظ الفروج حفظها من أن تباشر غير ما أباحه الدين.

واسم الإشارة إلى المذكور ، أي ذلك المذكور من غض الأبصار وحفظ الفروج.

واسم التفضيل بقوله : (أَزْكى) مسلوب المفاضلة. والمراد تقوية تلك التزكية لأن ذلك جنة من ارتكاب ذنوب عظيمة.

وذيل بجملة : (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ) لأنه كناية عن جزاء ما يتضمنه الأمر من الغض والحفظ لأن المقصد من الأمر الامتثال.

(وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١))

(وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ).

أردف أمر المؤمنين بأمر المؤمنات لأن الحكمة في الأمرين واحدة ، وتصريحا بما تقرر في أوامر الشريعة المخاطب بها الرجال من أنها تشمل النساء أيضا. ولكنه لما كان هذا الأمر قد يظن أنه خاص بالرجال لأنهم أكثر ارتكابا لضده وقع النص على هذا الشمول بأمر النساء بذلك أيضا.

وانتقل من ذلك إلى نهي النساء عن أشياء عرف منهن التساهل فيها ونهيهن عن إظهار أشياء تعوّدن أن يحببن ظهورها وجمعها القرآن في لفظ الزينة بقوله : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها).

والزينة : ما يحصل به الزين. والزين : الحسن ، مصدر زانه. قال عمر بن أبي ربيعة :

جلل الله ذلك الوجه زينا

١٦٤

يقال : زين بمعنى حسن ، قال تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) في سورة آل عمران [١٤] وقال : (وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ) في سورة الحجر [١٦].

والزينة قسمان خلقية ومكتسبة. فالخلقية : الوجه والكفان أو نصف الذراعين ، والمكتسبة : سبب التزين من اللباس الفاخر والحلي والكحل والخضاب بالحناء. وقد أطلق اسم الزينة على اللباس في قوله تعالى : (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الأعراف : ٣١] وقوله : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ) في سورة الأعراف [٣٢] ، وعلى اللباس الحسن في قوله (قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) [طه : ٥٩]. والتزين يزيد المرأة حسنا ويلفت إليها الأنظار لأنها من الأحوال التي لا تقصد إلا لأجل التظاهر بالحسن فكانت لافتة أنظار الرجال ، فلذلك نهى النساء عن إظهار زينتهن إلا للرجال الذين ليس من شأنهم أن تتحرك منهم شهوة نحوها لحرمة قرابة أو صهر.

واستثني ما ظهر من الزينة وهو ما في ستره مشقة على المرأة أو في تركه حرج على النساء وهو ما كان من الزينة في مواضع العمل التي لا يجب سترها مثل الكحل والخضاب والخواتيم.

وقال ابن العربي : إن الزينة نوعان : خلقية ومصطنعة. فأما الخلقية : فمعظم جسد المرأة وخاصة : الوجه والمعصمين والعضدين والثديين والساقين والشعر. وأما المصطنعة : فهي ما لا يخلو عنه النساء عرفا مثل : الحلي وتطريز الثياب وتلوينها ومثل الكحل والخضاب بالحناء والسواك. والظاهر من الزينة الخلقية ما في إخفائه مشقة كالوجه والكفين والقدمين ، وضدها الخفية مثل أعالي الساقين والمعصمين والعضدين والنحر والأذنين. والظاهر من الزينة المصطنعة ما في تركه حرج على المرأة من جانب زوجها وجانب صورتها بين أترابها ولا تسهل إزالته عند البدوّ أمام الرجال وإرجاعه عند الخلو في البيت ، وكذلك ما كان محل وضعه غير مأمور بستره كالخواتيم بخلاف القرط والدماج. واختلف في السوار والخلخال والصحيح أنهما من الزينة الظاهرة وقد أقر القرآن الخلخال بقوله : (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَ) كما سيأتي. قال ابن العربي : روى ابن القاسم عن مالك : ليس الخضاب من الزينة ا ه ولم يقيده بخضاب اليدين. وقال ابن العربي : والخضاب من الزينة الباطنة إذا كان في القدمين.

فمعنى (ما ظَهَرَ مِنْها) ما كان موضعه مما لا تستره المرأة وهو الوجه والكفان والقدمان.

١٦٥

وفسر جمع من المفسرين الزينة بالجسد كله وفسر ما ظهر بالوجه والكفين قيل والقدمين والشعر. وعلى هذا التفسير فالزينة الظاهرة هي التي جعلها الله بحكم الفطرة بادية يكون سترها معطلا الانتفاع بها أو مدخلا حرجا على صاحبتها وذلك الوجه والكفان ، وأما القدمان فحالهما في الستر لا يعطل الانتفاع ولكنه يعسره لأن الحفاء غالب حال نساء البادية. فمن أجل ذلك اختلف في سترهما الفقهاء ؛ ففي مذهب مالك قولان : أشهرهما أنها يجب ستر قدميها ، وقيل : لا يجب ، وقال أبو حنيفة : لا يجب ستر قدميها ، أما ما كان من محاسن المرأة ولم يكن عليها مشقة في ستره فليس مما ظهر من الزينة مثل النحر والثدي والعضد والمعصم وأعلى الساقين ، وكذلك ما له صورة حسنة في المرأة وإن كان غير معرى كالعجيزة والأعكان والفخذين ولم يكن مما في إرخاء الثوب عليه حرج عليها. وروى مالك في «الموطأ» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات لا يدخلن الجنة» قال ابن عبد البر : أراد اللواتي يلبسن من الثياب الخفيف الذي يصف ولا يستر ، أي هن كاسيات بالاسم عاريات في الحقيقة ا ه. وفي نسخة ابن بشكوال من «الموطأ» عن القنازعي قال فسر مالك : إنهن يلبسن الثياب الرقاق التي لا تسترهن ا ه. وفي سماع ابن القاسم من «جامع العتبية» قال مالك : بلغني أن عمر بن الخطاب نهى النساء عن لبس القباطي. قال ابن رشد في «شرحه» : هي ثياب ضيقة تلتصق بالجسم لضيقها فتبدو ثخانة لا بستها من نحافتها ، وتبدي ما يستحسن منها ، امتثالا لقوله تعالى : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) ا ه. وفي روايات ابن وهب من «جامع العتبية» قال مالك في الإماء يلبسن الأقبية : ما يعجبني فإذا شدته عليها كان إخراجا لعجزتها.

وجمهور الأئمة على أن استثناء إبداء الوجه والكفين من عموم منع إبداء زينتهن يقتضي إباحة إبداء الوجه والكفين في جميع الأحوال لأن الشأن أن يكون للمستثنى جميع أحوال المستثنى منه. وتأوله الشافعي بأنه استثناء في حالة الصلاة خاصة دون غيرها وهو تخصيص لا دليل عليه.

ونهين عن التساهل في الخمرة. والخمار : ثوب تضعه المرأة على رأسها لستر شعرها وجيدها وأذنيها وكان النساء ربما يسدلن الخمار إلى ظهورهن كما تفعل نساء الأنباط فيبقى العنق والنحر والأذنان غير مستورة فلذلك أمرن بقوله تعالى : (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ). والضرب : تمكين الوضع وتقدم في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً) في سورة البقرة [٢٦].

والمعنى : ليشددن وضع الخمر على الجيوب ، أي بحيث لا يظهر شيء من بشرة الجيد.

١٦٦

والباء في قوله (بِخُمُرِهِنَ) لتأكيد اللصوق مبالغة في إحكام وضع الخمار على الجيب زيادة على المبالغة المستفادة من فعل (يَضْرِبْنَ).

والجيوب : جمع جيب بفتح الجيم وهو طوق القميص مما يلي الرقبة. والمعنى : وليضعن خمرهن على جيوب الأقمصة بحيث لا يبقى بين منتهى الخمار ومبدأ الجيب ما يظهر منه الجيد.

وقوله : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ) أعيد لفظ (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) تأكيدا لقوله (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) المتقدم وليبني عليه الاستثناء في قوله : (إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ) إلخ الذي مقتضى ظاهره أن يعطف على (إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ) لبعد ما بين الأول والثاني ، أي ولا يبدين زينتهن غير الظاهرة إلا لمن ذكروا بعد حرف الاستثناء لشدة الحرج في إخفاء الزينة غير الظاهرة في أوقات كثيرة ، فإن الملابسة بين المرأة وبين أقربائها وأصهارها المستثنين ملابسة متكررة فلو وجب عليها ستر زينتها في أوقاتها كان ذلك حرجا عليها.

وذكرت الآية اثني عشر مستثنى كلهم ممن يكثر دخولهم. وسكتت الآية عن غيرهم ممن هو في حكمهم بحسب المعنى. وسنذكر ذلك عند الفراغ من ذكر المصرح بهم في الآية.

والبعولة : جمع بعل. وهو الزوج ، وسيد الأمة. وأصل البعل الرب والمالك (وسمي الصنم الأكبر عند أهل العراق القدماء بعلا وجاء ذكره في القرآن في قصة أهل نينوى ورسولهم إلياس) ، فأطلق على الزوج لأن أصل الزواج ملك وقد بقي من آثار الملك فيه الصداق لأنه كالثمن. ووزن فعولة في الجموع قليل وغير مطرد وهو مزيد التاء في زنة فعول من جموع التكسير.

وكل من عد من الرجال الذين استثنوا من النهي هم من الذين لهم بالمرأة صلة شديدة هي وازع من أن يهموا بها. وفي سماع ابن القاسم من كتاب «الجامع من العتبية» : سئل مالك عن الرجل تضع أم امرأته عنده جلبابها قال : لا بأس بذلك. قال ابن رشد في «شرحه» : لأن الله تعالى قال : (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ) الآية ، فأباح الله تعالى أن تضع خمارها عن جيبها وتبدي زينتها عند ذوي محارمها من النسب أو الصهر ا ه. أي قاس مالك زوج بنت المرأة على ابن زوج المرأة لاشتراكهما في حرمة الصهر.

والإضافة في قوله : (نِسائِهِنَ) إلى ضمير (لِلْمُؤْمِناتِ) : إن حملت على ظاهر الإضافة كانت دالة على أنهن النساء اللاتي لهن بهن مزيد اختصاص فقيل المراد نساء

١٦٧

أمّتهن ، أي المؤمنات ، مثل الإضافة في قوله تعالى : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) [البقرة : ٢٨٢] ، أي من رجال دينكم. ويجوز أن يكون المراد أو النساء. وإنما أضافهن إلى ضمير النسوة اتباعا لبقية المعدود.

قال ابن العربي : إن في هذه الآية خمسة وعشرين ضميرا فجاء هذا للإتباع ا ه. أي فتكون الإضافة لغير داع معنوي بل لداع لفظي تقتضيه الفصاحة مثل الضميرين المضاف إليهما في قوله تعالى : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) [الشمس : ٨] أي ألهمها الفجور والتقوى. فإضافتهما إلى الضمير اتباع للضمائر التي من أول السورة : (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) [الشمس : ١] وكذلك قوله فيها : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها) [الشمس : ١١] أي بالطغوى وهي الطغيان فذكر ضمير ثمود مستغنى عنه لكنه جيء به لمحسن المزاوجة(١).

ومن هذين الاحتمالين اختلف الفقهاء في جواز نظر النساء المشركات والكتابيات إلى ما يجوز للمرأة المسلمة إظهاره للأجنبي من جسدها. وكلام المفسرين من المالكية وكلام فقهائهم في هذا غير مضبوط. والذي يستخلص من كلامهم قول خليل في «التوضيح» عند قول ابن الحاجب : وعورة الحرة ما عدا الوجه والكفين. ومقتضى كلام سيدي أبي عبد الله بن الحاج (٢) : أما الكافرة فكالأجنبية مع الرجال اتفاقا ا ه.

وفي مذهب الشافعي قولان : أحدهما : أن غير المسلمة لا ترى من المرأة المسلمة إلا الوجه والكفين ورجحه البغوي وصاحب «المنهاج» البيضاوي واختاره الفخر في «التفسير». ونقل مثل هذا عن عمر بن الخطاب وابن عباس ، وعلله ابن عباس بأن غير المسلمة لا تتورع عن أن تصف لزوجها المسلمة. وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة بن

__________________

(١) وقد تقع الإضافة إلى مثل هذا الضمير بدون مزاوجة ، فيكون ذكر الضمير مستغنى عنه ولا داعي إليه فيكون بمنزلة اعتماد في الكلام كما في قول عامر بن جوين الطائي :

فلا مزنة ودقت ودقها

ولا أرض أبقل إبقالها

أي ودقت ودقا وأبقلت إبقالا. ومنه قول بعض بني نمير :

رمى قلبه البرق الملألئ

رميه فهيّج أسقاما فبات يهيم

أنشده الشيخ الجد سيدي محمد الطاهر ابن عاشور في «شرحه» على «البردة» نقلا عن ابن مرزوق في البيت الثاني من أبيات البردة.

(٢) هو محمد بن محمد بن الحاج العبدري المالكي الفاسي المتوفى سنة / ٧٣٧ / ه. له كتاب «المدخل إلى تتمة الأعمال».

١٦٨

الجراح : «أنه بلغني أن نساء أهل الذمة يدخلن الحمامات مع نساء المسلمين فامنع من ذلك وحل دونه فإنه لا يجوز أن ترى الذمية عرية المسلمة».

القول الثاني : أن المرأة غير المسلمة كالمسلمة ورجحه الغزالي.

ومذهب أبي حنيفة كذلك فيه قولان : أصحهما أن المرأة غير المسلمة كالرجل الأجنبي فلا ترى من المرأة المسلمة إلا الوجه والكفين والقدمين ، وقيل : هي كالمرأة المسلمة.

وأما ما ملكت أيمانهن فهو رخصة لأن في ستر المرأة زينتها عنهم مشقة عليها. لكثرة ترددهم عليها. ولأن كونه مملوكا لها وازع له ولها عن حدوث ما يحرم بينهما ، والإسلام وازع له من أن يصف المرأة للرجال.

وأما التابعون غير أولي الإربة من الرجال فهم صنف من الرجال الأحرار تشترك أفراده في الوصفين وهما التبعية وعدم الإربة.

فأما التبعية فهي كونهم من أتباع بيت المرأة وليسوا ملك يمينها ولكنهم يترددون على بيتها لأخذ الصدقة أو للخدمة.

والإربة : الحاجة. والمراد بها الحاجة إلى قربان النساء. وانتفاء هذه الحاجة تظهر في المجبوب والعنين والشيخ الهرم فرخص الله في إبداء الزينة لنظر هؤلاء لرفع المشقة عن النساء مع السلامة الغالبة من تطرق الشهوة وآثارها من الجانبين.

واختلف في الخصي غير التابع هل يلحق بهؤلاء على قولين مرويين عن السلف. وقد روي القولان عن مالك. وذكر ابن الفرس : أن الصحيح جواز دخوله على المرأة إذا اجتمع فيه الشرطان التبعيّة وعدم الإربة. وروي ذلك عن معاوية بن أبي سفيان.

وأما قضية (هيت) المخنث أو المخصي (١) ونهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نساءه أن يدخلن عليهن فتلك قضية عين تعلقت بحالة خاصة فيه. وهي وصفه النساء للرجال فتقصى على أمثاله. ألا ترى أنه لم ينه عن دخوله على النساء قبل أن يسمع منه ما سمع.

__________________

(١) أخرج حديثه في «الموطأ» وكتب السنة ، وهو : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان في بيت أم سلمة فدخل عليها هيت ـ بكسر الهاء ـ المخنث فقال لعبد الله بن أبي أمية المخزومي أخي أم سلمة لأبيها : يا عبد الله إن فتح الله عليكم الطائف غدا فإني أدلك على بادية بنت غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان وزاد في الوصف وأنشد شعيرا فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا أرى هذا يعرف ما هاهنا : لا يدخل عليكن». وكان هيت هذا مولى لعبد الله بن أبي أمية المخزومي.

١٦٩

وقرأ الجمهور : (غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ) بخفض (غَيْرِ). وقرأه ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر بنصب (غَيْرِ) على الحال.

والطفل مفرد مراد به الجنس فلذلك أجري عليه الجمع في قوله : (الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا) وذلك مثل قوله : (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) [الحجّ : ٥] أي أطفالا.

ومعنى : (لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) لم يطلعوا عليها. وهذا كناية عن خلو بالهم من شهوة النساء وذلك ما قبل سن المراهقة.

ولم يذكر في عداد المستثنيات العم والخال فاختلف العلماء في مساواتهما في ذلك : فقال الحسن والجمهور : هما مساويان لمن ذكر من المحارم وهو ظاهر مذهب مالك إذ لم يذكر المفسرون من المالكية مثل ابن الفرس وابن جزي عنه المنع. وقال الشعبي بالمنع وعلل التفرقة بأن العم والخال قد يصفان المرأة لأبنائهما وأبناؤهما غير محارم. وهذا تعليل واه لأن وازع الإسلام يمنع من وصف المرأة.

والظاهر أن سكوت الآية عن العم والخال ليس لمخالفة حكمهما حكم بقية المحارم ولكنه اقتصار على الذين تكثر مزاولتهم بيت المرأة ، فالتعداد جرى على الغالب. ويلحق بهؤلاء القرابة من كان في مراتبهم من الرضاعة لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب». وجزم بذلك الحسن ، ولم أر فيه قولا للمالكية. وظاهر الحديث أن فيهم من الرخصة ما في محارم النسب والصهر.

(وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَ).

الضرب بالأرجل إيقاع المشي بشدة كقوله : يضرب في الأرض.

روى الطبري عن حضرمي : أن امرأة اتخذت برتين (تثنية برة بضم الباء وتخفيف الراء المفتوحة ضرب من الخلخال) من فضة واتخذت جزعا في رجليها فمرت بقوم فضربت برجلها فوقع الخلخال على الجزع فصوت فنزلت هذه الآية.

والتحقيق أن من النساء من كن إذا لبسن الخلخال ضربن بأرجلهن في المشي بشدة لتسمع قعقعة الخلاخل غنجا وتباهيا بالحسن فنهين عن ذلك مع النهي عن إبداء الزينة.

قال الزجاج : سماع هذه الزينة أشد تحريكا للشهوة من النظر للزينة فأما صوت الخلخال المعتاد فلا ضير فيه.

وفي أحاديث ابن وهب من «جامع العتبية» : سئل مالك عن الذي يكون في أرجل

١٧٠

النساء من الخلاخل قال : «ما هذا الذي جاء فيه الحديث وتركه أحب إليّ من غير تحريم». قال ابن رشد في «شرحه» : أراد أن الذي يحرم إنما هو أن يقصدن في مشيهن إلى إسماع قعقعة الخلاخل إظهارا بهن من زينتهن.

وهذا يقتضي النهي عن كل ما من شأنه أن يذكّر الرجل بلهو النساء ويثير منه إليهن من كل ما يرى أو يسمع من زينة أو حركة كالتثني والغناء وكلم الغزل. ومن ذلك رقص النساء في مجالس الرجال ومن ذلك التلطخ بالطيب الذي يغلب عبيقه. وقد أومأ إلى علة ذلك قوله تعالى : (لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَ) ولعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المستوشمات والمتفلجات للحسن.

قال مكي بن أبي طالب ليس في كتاب الله آية أكثر ضمائر من هذه الآية جمعت خمسة وعشرين ضميرا للمؤمنات من مخفوض ومرفوع وسماها أبو بكر ابن العربي : آية الضمائر.

(وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

أعقبت الأوامر والنواهي الموجهة إلى المؤمنين والمؤمنات بأمر جميعهم بالتوبة إلى الله إيماء إلى أن فيما أمروا به ونهوا عنه دفاعا لداع تدعو إليه الجبلة البشرية من الاستحسان والشهوة فيصدر ذلك عن الإنسان عن غفلة ثم يتغلغل هو فيه فأمروا بالتوبة ليحاسبوا أنفسهم على ما يفلت منهم من ذلك اللمم المؤدي إلى ما هو أعظم.

والجملة معطوفة على جملة : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ) [النور : ٣٠]. ووقع التفات من خطاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى خطاب الأمة لأن هذا تذكير بواجب التوبة المقررة من قبل وليس استئناف تشريع.

ونبه بقوله : (جَمِيعاً) على أن المخاطبين هم المؤمنون والمؤمنات وإن كان الخطاب ورد بضمير التذكير على التغليب ، وأن يؤملوا الفلاح إن هم تابوا وأنابوا.

وتقدم الكلام على التوبة في سورة النساء [١٧] عند قوله تعالى : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ).

وكتب في المصحف أيه بهاء في آخره اعتبارا بسقوط الألف في حال الوصل مع كلمة (الْمُؤْمِنُونَ). فقرأها الجمهور بفتح الهاء بدون ألف في الوصل. وقرأها أبو عامر بضم الهاء اتباعا لحركة (أيّ). ووقف عليها أبو عمرو والكسائي بألف في آخرها. ووقف الباقون عليها بسكون الهاء على اعتبار ما رسمت به.

١٧١

(وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢))

أردفت أوامر العفاف بالإرشاد إلى ما يعين عليه ، ويعف نفوس المؤمنين والمؤمنات ، ويغض من أبصارهم ، فأمر الأولياء بأن يزوجوا أياماهم ولا يتركوهن متأيمات لأن ذلك أعف لهن وللرجال الذين يتزوجونهن. وأمر السادة بتزويج عبيدهم وإمائهم. وهذا وسيلة لإبطال البغاء كما سيتبع به في آخر الآية.

والأيامى : جمع أيم بفتح الهمزة وتشديد الياء المكسورة بوزن فيعل وهي المرأة التي لا زوج لها كانت ثيبا أم بكرا. والشائع إطلاق الأيم على التي كانت ذات زوج ثم خلت عنه بفراق أو موته ، وأما إطلاقه على البكر التي لا زوج لها فغير شائع فيحمل على أنه مجاز كثر استعماله. والأيم في الأصل من أوصاف النساء قاله أبو عمرو والكسائي ولذلك لم تقترن به هاء التأنيث فلا يقال : امرأة أيّمة. واطلاق الأيم على الرجل الخلي عن امرأة إما لمشاكلة أو تشبيه ، وبعض أئمة اللغة كأبي عبيد والنضر بن شميل يجعل الأيم مشتركا للمرأة والرجل وعليه درج في «الكشاف» و «القاموس».

ووزن أيامى عند الزمخشري أفاعل لأنه جمع أيم بوزن فيعل ، وفيعل لا يجمع على فعالى. فأصل أيامى أيائم فوقع فيه قلب مكاني قدمت الميم للتخلص من ثقل الياء بعد حرف المد ، وفتحت الميم للتخفيف فقلبت الياء ألفا. وعند ابن مالك وجماعة : وزنه فعالى على غير قياس وهو ظاهر كلام سيبويه.

و (الْأَيامى) صيغة عموم لأنه جمع معرف باللام فتشمل البغايا. أمر أولياؤهن بتزويجهن فكان هذا العموم ناسخا لقوله تعالى : (وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) [النور : ٣] فقد قال جمهور الفقهاء : إن هذه ناسخة للآية التي تقدمت وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد. ونقل القول بأن التي قبلها محكمة عن غير معين. وزوج أبو بكر امرأة من رجل زنى بها لما شكاه أبوها.

ومعنى التبعيض في قوله (مِنْكُمْ) أنهن من المسلمات لأن غير المسلمات لا يخلون عند المسلمين من أن يكن أزواجا لبعض المسلمين فلا علاقة للآية بهن ، أو أن يكن مملوكات فهن داخلات في قوله : (وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) على الاحتمالات الآتية في معنى (الصَّالِحِينَ) وأما غيرهن فولايتهن لأهل ملتهن.

١٧٢

والمقصود : الأيامى الحرائر ، خصصه قوله بعده (وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ). وظاهر وصف العبيد والإماء بالصالحين أن المراد اتصافهم بالصلاح الديني. أي الأتقياء. والمعنى : لا يحملكم تحقق صلاحهم على إهمال إنكاحهم لأنكم آمنون من وقوعهم في الزنى بل عليكم أن تزوجوهم رفقا بهم ودفعا لمشقة العنت عنهم.

فيفيد أنهم إن لم يكونوا صالحين كان تزويجهم آكد أمرا. وهذا من دلالة الفحوى فيشمل غير الصالحين غير الأعفّاء والعفائف من المماليك المسلمين ، ويشمل المماليك غير المسلمين. وبهذا التفسير تنقشع الحيرة التي عرضت للمفسرين في التقييد بهذا الوصف. وقيل أريد بالصالحين الصلاح للتزوج بمعنى اللياقة لشئون الزوج ، أي إذا كانوا مظنة القيام بحقوق الزوجية.

وصيغة الأمر في قوله تعالى : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) إلى آخره مجملة تحتمل الوجوب والندب بحسب ما يعرض من حال المأمور بإنكاحهم : فإن كانوا مظنة الوقوع في مضار في الدين أو الدنيا كان إنكاحهم واجبا ، وإن لم يكونوا كذلك فعند مالك وأبي حنيفة إنكاحهم مستحب. وقال الشافعي : لا يندب. وحمل الأمر على الإباحة ، وهو محمل ضعيف في مثل هذا المقام إذ ليس المقام مظنة تردد في إباحة تزويجهم.

وجملة : (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ) إلخ استئناف بياني لأن عموم الأيامى والعبيد والإماء في صيغة الأمر يثير سؤال الأولياء والموالي أن يكون الراغب في تزوج المرأة الأيم فقيرا فهل يرده الولي ، وأن يكون سيد العبد فقيرا لا يجد ما ينفقه على زوجه ، وكذلك سيد الأمة يخطبها رجل فقير حر أو عبد فجاء هذا لبيان إرادة العموم في الأحوال. ووعد الله المتزوج من هؤلاء إن كان فقيرا أن يغنيه الله ، وإغناؤه تيسير الغنى إليه إن كان حرا وتوسعة المال على مولاه إن كان عبدا فلا عذر للولي ولا للمولى أن يرد خطبته في هذه الأحوال.

وإغناء الله إياهم توفيق ما يتعاطونه من أسباب الرزق التي اعتادوها مما يرتبط به سعيهم الخاص من مقارنة الأسباب العامة أو الخاصة التي تفيد سعيهم نجاحا وتجارتهم رباحا. والمعنى : أن الله تكفل لهم أن يكفيهم مئونة ما يزيده التزوج من نفقاتهم.

وصفة الله «الواسع» مشتقة من فعل وسع باعتبار أنه وصف مجازي لأن الموصوف بالسعة هو إحسانه. قال حجة الإسلام : والسعة تضاف مرة إلى العلم إذا اتسع وأحاط بالمعلومات الكثيرة ، وتضاف مرة إلى الإحسان وبذل النعم ، وكيفما قدّر وعلى أي شيء

١٧٣

نزّل فالواسع المطلق هو الله تعالى لأنه إن نظر إلى علمه فلا ساحل لبحر معلوماته وإن نظر إلى إحسانه ونعمه فلا نهاية لمقدوراته ا ه.

والذي يؤخذ من استقراء القرآن وصف الواسع المطلق إنما يراد به سعة الفضل والنعمة ، ولذلك يقرن بوصف العلم ونحوه قال تعالى : (وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً) [النساء : ١٣٠]. أما إذا ذكرت السعة بصيغة الفعل فيراد بها الإحاطة فيما تميّز به كقوله تعالى : (وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) [الأعراف : ٨٩].

وذكر (عَلِيمٌ) بعد (واسِعٌ) إشارة إلى أنه يعطي فضله على مقتضى ما علمه من الحكمة في مقدار الإعطاء.

(وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣))

(وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ).

أمر كل من تعلق به الأمر بالإنكاح بأن يلازموا العفاف في مدة انتظارهم تيسير النكاح لهم بأنفسهم أو بإذن أوليائهم ومواليهم. والسين والتاء للمبالغة في الفعل ، أي وليعف الذين لا يجدون نكاحا. ووجه دلالته على المبالغة أنه في الأصل استعارة. جعل طلب الفعل بمنزلة طلب السعي فيه ليدل على بذل الوسع.

ومعنى (لا يَجِدُونَ نِكاحاً) لا يجدون قدرة على النكاح ففيه حذف مضاف. وقيل النكاح هنا اسم ما هو سبب تحصيل النكاح كاللباس واللحاف. فالمراد المهر الذي يبذل للمرأة.

والإغناء هنا هو إغناؤهم بالزواج. والفضل : زيادة العطاء.

(وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ).

لما ذكر وعد الله من يزوج من العبيد الفقراء بالغنى وكان من وسائل غناه أن يذهب يكتسب بعمله وكان ذلك لا يستقل به العبد لأنه في خدمة سيده جعل الله للعبيد حقا في الاكتساب لتحرير أنفسهم من الرق ويكون في ذلك غنى للعبد إن كان من ذوي الأزواج.

١٧٤

أمر الله السادة بإجابة من يبتغي الكتابة من عبيدهم تحقيقا لمقصد الشريعة من بث الحرية في الأمة ، ولمقصدها من إكثار النسل في الأمة ، ولمقصدها من تزكية الأمة واستقامة دينها.

(وَالَّذِينَ) مرفوع بالابتداء أو منصوب بفعل مضمر يفسره (فَكاتِبُوهُمْ) وهذا الثاني هو اختيار سيبويه والخليل.

ودخول الفاء في (فَكاتِبُوهُمْ) لتضمين الموصول معنى الشرطية كأنه قيل : إن ابتغى الكتاب ما ملكت أيمانكم فكاتبوهم ، تأكيدا لترتب الخير على تحقق مضمون صلة الموصول بأن يكون كترتب الشروط على الشرط.

والكتاب : مصدر كاتب إذا عاقد على تحصيل الحرية من الرق على قدر معين من المال يدفع لسيد العبد منجما ، أي موزعا على مواقيت معينة ، كانوا في الغالب يوقتونها بمطالع نجوم المنازل مثل الثريا فلذلك سموا توقيت دفعها نجما وسموا توزيعها تنجيما ، ثم غلب ذلك في كل توقيت فيقال فيه : تنجيم. وكذلك الديات والحمالات كانوا يجعلونها موزعة على مواقيت فيسمون ذلك تنجيما وكان تنجيم الدية في ثلاث سنين على السواء ، قال زهير :

تعفّى الكلوم بالمئين فأصبحت

ينجّمها من ليس فيها بمجرم

وسموا ذلك كتابة لأن السيد وعبده كانا يسجلان عقد تنجيم عوض الحرية بصك يكتبه كاتب بينهما ، فلما كان في الكتب حفظ لحق كليهما أطلق على ذلك التسجيل كتابة لأن ما يتضمنه هو عقد من جانبين ، وإن كان الكاتب واحدا والكتب واحدا. وفي حديث عبد الرحمن بن عوف : كاتب أمية بن خلف كتابا بأن يحفظني في صاغيتي بمكة وأحفظه في صاغيته بالمدينة.

ومعنى (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) إن ظننتم أنهم لا يبتغون بذلك إلا تحرير أنفسهم ولا يبتغون بذلك تمكنا من الإباق ، وذلك الخير بالقدرة على الاكتساب وبصفة الأمانة ولا يلزم أن يتحقق دوام ذلك لأنه إن عجز عن إكمال ما عليه رجع عبدا كما كان.

وكانت الكتابة معروفة من عهد الجاهلية ولكنها كانت على خيار السيد فجاءت هذه الآية تأمر السادة بذلك إن رغبه العبد أو لحثه على ذلك على اختلاف بين الأئمة في محمل الأمر من قوله تعالى : (فَكاتِبُوهُمْ). فعن عمر بن الخطاب ومسروق وعمرو بن

١٧٥

دينار وابن عباس والضحاك وعطاء وعكرمة والظاهرية أن الكتابة واجبة على السيد إذا علم خيرا في عبده وقد وكله الله في ذلك إلى علمه ودينه ، واختاره الطبري وهو الراجح لأنه يجمع بين مقصد الشريعة وبين حفظ حق السادة في أموالهم فإذا عرض العبد اشتراء نفسه من سيده وجب عليه إجابته. وقد هم عمر بن الخطاب أن يضرب أنس بن مالك بالدرّة لما سأله سيرين عبده أن يكاتبه فأبى أنس. وذهب الجمهور إلى حمل الأمر على الندب.

وقد ورد في السنة حديث كتابة بريرة مع سادتها وكيف أدت عنها عائشة أم المؤمنين مال الكتابة كله. وذكر ابن عطية عن النقاش ومكي بن أبي طالب أن سبب نزول هذه الآية : أن غلاما لحويطب بن عبد العزى أو لحاطب بن أبي بلتعة اسمه صبيح القبطي أو صبح سأل مولاه الكتابة فأبى عليه فأنزل الله هذه الآية فكاتبه مولاه. وفي «الكشاف» أن عمر بن الخطاب كاتب عبدا له يكنى أبا أمية وهو أول عبد كوتب في الإسلام.

والظاهر أن الخطاب في قوله : (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) موجه إلى سادة العبيد ليتناسق الخطابان وهو أمر للسادة بإعانة مكاتبيهم بالمال الذي أنعم الله به عليهم فيكون ذلك بالتخفيف عنهم من مقدار المال الذي وقع التكاتب عليه. وكذلك قال مالك : يوضع عن المكاتب من آخر كتابته ما تسمح به نفس السيد. وحدده بعض السلف بالربع وبعضهم بالثلث وبعضهم بالعشر.

وهذا التخفيف أطلق عليه لفظ (الإيتاء) وليس ثمة إيتاء ولكنه لما كان إسقاطا لما وجب على المكاتب كان ذلك بمنزلة الإعطاء كما سمي إكمال المطلّق قبل البناء لمطلقته جميع الصداق عفوا في قوله تعالى : (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) [البقرة : ٢٣٧] في قول جماعة في محمل (الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) منهم الشافعي.

وقال بعض المفسرين : الخطاب في قوله : (وَآتُوهُمْ) للمسلمين. أمرهم الله بإعانة المكاتبين.

والأمر محمول على الندب عند أكثر العلماء وحمله الشافعي على الوجوب. وقال إسماعيل بن حماد القاضي : وجعل الشافعي الكتابة غير واجبة وجعل الأمر بالإعطاء للوجوب فجعل الأصل غير واجب والفرع واجبا وهذا لا نظير له ا ه. وفيه نظر.

وإضافة المال إلى الله لأنه ميسر أسباب تحصيله. وفيه إيماء إلى أن الإعطاء من ذلك المال شكر والإمساك جحد للنعمة قد يتعرض به الممسك لتسلب النعمة عنه.

١٧٦

والموصول في قوله (الَّذِي آتاكُمْ) يجوز أن يكون وصفا ل (مالِ اللهِ) ويكون العائد محذوفا تقديره : آتاكموه. ويجوز أن يكون وصفا لاسم الجلالة فيكون امتنانا وحثا على الامتثال بتذكير أنه ولي النعمة ويكون مفعول (آتاكُمْ) محذوفا للعموم ، أي آتاكم على الامتثال بتذكير أنه ولي النعمة. ويكون مفعول (آتاكُمْ) محذوفا للعموم ، أي آتاكم نعما كثيرة كقوله : (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) [إبراهيم : ٣٤].

وأحكام الكتابة وعجز المكاتب عن أداء نجومه ورجوعه مملوكا وموت المكاتب وميراث الكتابة وأداء أبناء المكاتب نجوم كتابته مبسوطة في كتب الفروع.

(وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

انتقال إلى تشريع من شئون المعاملات بين الرجال والنساء التي لها أثر في الأنساب ومن شئون حقوق الموالي والعبيد ، وهذا الانتقال لمناسبة ما سبق من حكم الاكتساب المنجر من العبيد لمواليهم وهو الكتابة فانتقل إلى حكم البغاء.

والبغاء مصدر : باغت الجارية ، إذا تعاطت الزنى بالأجر حرفة لها ، فالبغاء الزنى بأجرة. واشتقاق صيغة المفاعلة فيه للمبالغة والتكرير ولذلك لا يقال إلا : باغت الأمة. ولا يقال : بغت. وهو مشتق من البغي بمعنى الطلب كما قال عياض في «المشارق» لأن سيد الأمة بغى بها كسبا. وتسمى المرأة المحترفة به بغيا بوزن فعول بمعنى فاعل ولذلك لا تقترن به هاء التأنيث. فأصل بغيّ بغوي فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء.

وقد كان هذا البغاء مشروعا في الشرائع السالفة فقد جاء في سفر التكوين في الإصحاح ٣٨ : «فخلعت عنها ثياب ترملها وتغطت ببرقع وتلففت وجلست في مدخل (عينائم) التي على الطريق» ثم قال فنظرها يهوذا وحسبها زانية لأنها كانت قد غطت وجهها فمال إليها على الطريق وقال : هاتي أدخل عليك. فقالت : ما ذا تعطيني؟ فقال : أرسل لك جدي معزى من الغنم .. ثم قال ودخل عليها فحبلت منه».

وقد كانت في المدينة إماء بغايا منهن ست إماء لعبد الله بن أبي بن سلول وهن : معاذة ومسيكة وأميمة وعمرة وأروى وقتيلة ، وكان يكرههن على البغاء بعد الإسلام. قال ابن العربي : روى مالك عن الزهري أن رجلا من أسرى قريش في يوم بدر قد جعل عند

١٧٧

عبد الله بن أبي وكان هذا الأسير يريد معاذة على نفسها وكانت تمتنع منه لأنها أسلمت وكان عبد الله بن أبي يضربها على امتناعها منه رجاء أن تحمل منه (أي من الأسير القرشي) فيطلب فداء ولده ، أي فداء رقه من ابن أبيّ. ولعل هذا الأسير كان مؤسرا له مال بمكة وكان الزاني بالأمة يفتدي ولده بمائة من الإبل يدفعها لسيد الأمة ، وأنها شكته إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت هذه الآية.

وقالوا إن عبد الله بن أبيّ كان قد أعد معاذة لإكرام ضيوفه فإذا نزل عليه ضيف أرسلها إليه ليواقعها إرادة الكرامة له. فأقبلت معاذة إلى أبي بكر فشكت ذلك إليه فذكر أبو بكر ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمر النبي أبا بكر بقبضها فصاح عبد الله بن أبيّ : من يعذرنا من محمد يغلبنا على مماليكنا. فأنزل الله هذه الآية ، أي وذلك قبل أن يتظاهر عبد الله بن أبيّ بالإسلام. وجميع هذه الآثار متظافرة على أن هذه الآية كان بها تحريم البغاء على المسلمين والمسلمات المالكات أمر أنفسهن.

وكان بمكة تسع بغايا شهيرات يجعلن على بيوتهن رايات مثل رايات البيطار ليعرفهن الرجال ، وهن كما ذكر الواحدي : أم مهزول جارية السائب المخزومي ، وأم غليظ جارية صفوان بن أمية ، وحية القبطية جارية العاصي بن وائل ، ومزنة جارية مالك بن عميلة بن السباق ، وجلالة جارية سهيل بن عمرة ، وأم سويد جارية عمرو بن عثمان المخزومي ، وشريفة جارية ربيعة بن أسود. وقرينة أو قريبة جارية هشام بن ربيعة ، وقرينة جارية هلال بن أنس. وكانت بيوتهن تسمى في الجاهلية المواخير.

قلت : وتقدم أن من البغايا عناق ولعلها هي أم مهزول كما يقتضيه كلام القرطبي في تفسير قوله تعالى : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) [النور : ٣]. ولم أقف على أن واحدة من هؤلاء اللاتي كنّ بمكة أسلمت وأما اللائي كنّ بالمدينة فقد أسلمت منهن معاذة ومسيكة وأميمة ، ولم أقف على أسماء الثلاث الأخر في الصحابة فلعلهن هلكن قبل أن يسلمن.

والبغاء في الجاهلية كان معدودا من أصناف النكاح. ففي الصحيح من حديث عائشة أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء :

فنكاح منها نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها.

١٧٨

ونكاح آخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ويعتزلها زوجها ولا يمسها حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب. وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد فكان هذا النكاح يسمى نكاح الاستبضاع.

ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت ومر عليها الليالي بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها تقول لهم : قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت فهو ابنك يا فلان. تسمي من أحبت باسمه فيلحق به ولدها.

ونكاح رابع يجتمع الناس فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها ، وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن الرايات تكون علما ، فمن أرادهن دخل عليهن فإذا حملت إحداهن ووضعت جمعوا لها ودعوا لهم القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاط به ودعي ابنه ، فلما بعث محمد بالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم ا ه.

فكان البغاء في الحرائر باختيارهن إياه للارتزاق. وكانت عناق صاحبة مرثد بن أبي مرثد التي تقدم ذكرها عند قوله تعالى : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) [النور : ٣]. وكان في الإماء من يلزمهن سادتهن عليه لاكتساب أجور بغائهن فكما كانوا يتخذون الإماء للخدمة وللتسري كانوا يتخذون بعضهن للاكتساب وكانوا يسمون أجرهن مهرا كما جاء في حديث أبي مسعود أن رسول الله نهى عن مهر البغي ولأجل هذا اقتصرت الآية على ذكر الفتيات جمع فتاة بمعنى الأمة ، كما قالوا للعبد : غلام.

واعلم أن تفسير هذه الآية معضل وأن المفسرين ما وفّوها حق البيان وما أتوا إلا إطنابا في تكرير مختلف الروايات في سبب نزولها وأسماء من وردت أسماؤهم في قضيتها دون إفصاح عما يستخلصه الناظر من معانيها وأحكامها.

ولا ريب أن الخطاب بقوله تعالى : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ) موجه إلى المسلمين ، فإن كانت قصة أمة ابن أبيّ حدثت بعد أن أظهر سيدها الإسلام كان هو سبب النزول فشمله العموم لا محالة ، وإن كانت حدثت قبل أن يظهر الإسلام فهو سبب ولا يشمله الحكم لأنه لم يكن من المسلمين يومئذ وإنما كان تذمر أمته منه داعيا لنهي المسلمين عن إكراه فتياتهم على البغاء. وأيّا ما كان فالفتيات مسلمات لأن المشركات لا يخاطبن بفروع الشريعة.

١٧٩

وقد كان إظهار عبد الله بن أبيّ الإسلام في أثناء السنة الثانية من الهجرة فإنه تردد زمنا في الإسلام ولما رأى قومه دخلوا في الإسلام دخل فيه كارها مصرّا على النفاق. ويظهر أن قصة أمته حدثت في مدة صراحة كفره لما علمت مما روي عن الزهري من قول ابن أبيّ حين نزلت : من يعذرنا من محمد يغلبنا على مماليكنا ، ونزول سورة النور كان في حدود السنة الثانية كما علمت في أول الكلام عليها فلا شك أن البغاء الذي هو من عمل الجاهلية استمر زمنا بعد الهجرة بنحو سنة.

ولا شك أن البغاء يمت إلى الزنى بشبه لما فيه من تعريض الأنساب للاختلاط وإن كان لا يبلغ مبلغ الزنى في خرم كلية حفظ النسب من حيث كان الزنى سرا لا يطلع عليه إلا من اقترفه وكان البغاء علنا ، وكانوا يرجعون في إلحاق الأبناء الذين تلدهم البغايا بآبائهم إلى إقرار البغيّ بأن الحمل ممن تعيّنه. واصطلحوا على الأخذ بذلك في النسب فكان شبيها بالاستلحاق على أنه قد يكون من البغايا من لا ضبط لها في هذا الشأن فيفضي الأمر إلى عدم التحاق الولد بأحد.

ولا شك في أن الزنى كان محرما تحريما شديدا على المسلم من مبدإ ظهور الإسلام. وكانت عقوبته فرضت في حدود السنة الأولى بعد الهجرة بنزول سورة النور كما تقدم في أولها. وقد أثبتت عائشة أن الإسلام هدم أنكحة الجاهلية الثلاثة وأبقى النكاح المعروف ولكنها لم تعين ضبط زمان ذلك الهدم.

ولا يعقل أن يكون البغاء محرما قبل نزول هذه الآية إذ لم يعرف قبلها شيء في الكتاب والسنة يدل على تحريم البغاء ، ولأنه لو كان كذلك لم يتصور حدوث تلك الحوادث التي كانت سبب نزول الآية إذ لا سبيل للإقدام على محرّم بين المسلمين أمثالهم.

ولذلك فالآية نزلت توطئة لإبطاله كما نزل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) [النساء : ٤٣] توطئة لتحريم الخمر البتة. وهو الذي جرى عليه المفسرون مثل الزمخشري والفخر بظاهر عباراتهم دون صراحة بل بما تأولوا به معاني الآية إذ تأولوا قوله : (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) بأن الشرط لا يراد به عدم النهي عن الإكراه على البغاء إذا انتفت إرادتهن التحصن بل كان الشرط خرج مخرج الغالب لأن إرادة التحصن هي غالب أحوال الإماء البغايا المؤمنات إذ كن يحببن التعفف ، أو لأن القصة التي كانت سبب نزول الآية كانت معها إرادة التحصن.

١٨٠