تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٨

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٨

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٥٦

وقد ثبت بالسنة أيضا تغريب الزاني بعد جلده تغريب سنة كاملة ، ولا تغريب على المرأة. وليس التغريب عند أبي حنيفة بمتعين ولكنه لاجتهاد الإمام إن رأى تغريبه لدعارته. وصفة الرجم والجلد وآلتهما مبينة في كتب الفقه ولا يتوقف معنى الآية على ذكرها.

(وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).

عطف على جملة (فَاجْلِدُوا) ؛ فلما كان الجلد موجعا وكان المباشر له قد يرق على المجلود من وجعه نهي المسلمون أن تأخذهم رأفة بالزانية والزاني فيتركوا الحد أو ينقصوه.

والأخذ : حقيقته الاستيلاء. وهو هنا مستعار لشدة تأثير الرأفة على المخاطبين وامتلاكها إرادتهم بحيث يضعفون عن إقامة الحد فيكون كقوله : (أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) [البقرة : ٢٠٦] فهو مستعمل في قوة ملابسة الوصف للموصوف.

و (بِهِما) يجوز أن يتعلق ب (رَأْفَةٌ) فالباء للمصاحبة لأن معنى الأخذ هنا حدوث الوصف عند مشاهدتهما. ويجوز تعليقه ب (تَأْخُذْكُمْ) فتكون الباء للسببية ، أي أخذ الرأفة بسببهما أي بسبب جلدهما.

وتقديم المجرور على عامله للاهتمام بذكر الزاني والزانية تنبيها على الاعتناء بإقامة الحد. والنهي عن أن تأخذهم رأفة كناية عن النهي عن أثر ذلك وهو ترك الحد أو نقصه. وأما الرأفة فتقع في النفس بدون اختيار فلا يتعلق بها النهي ؛ فعلى المسلم أن يروض نفسه على دفع الرأفة في المواضع المذمومة فيها الرأفة.

والرأفة : رحمة خاصة تنشأ عند مشاهدة ضرّ بالمرءوف. وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) في سورة البقرة [١٤٣]. ويجوز سكون الهمزة وبذلك قرأ الجمهور. ويجوز فتحها وبالفتح قرأ ابن كثير.

وعلق بالرأفة قوله : (فِي دِينِ اللهِ) لإفادة أنها رأفة غير محمودة لأنها تعطل دين الله، أي أحكامه ، وإنما شرع الله الحد استصلاحا فكانت الرأفة في إقامته فسادا. وفيه تعريض بأن الله الذي شرع الحد هو أرأف بعباده من بعضهم ببعض. وفي «مسند أبي يعلى» عن حذيفة مرفوعا : «يؤتى بالذي ضرب فوق الحد فيقول الله له : عبدي لم ضربت فوق الحد؟ فيقول : غضبت لك فيقول الله : أكان غضبك أشد من غضبي؟ ويؤتى بالذي قصّر فيقول : عبدي لم قصرت؟ فيقول : رحمته. فيقول : أكانت رحمتك أشد من رحمتي.

١٢١

ويؤمر بهما إلى النار».

وجملة : (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) شرط محذوف الجواب لدلالة ما قبله عليه ، أي إن كنتم مؤمنين فلا تأخذكم بهما رأفة ، أي لا تؤثر فيكم رأفة بهما. والمقصود : شدة التحذير من أن يتأثروا بالرأفة بهما بحيث يفرض أنهم لا يؤمنون. وهذا صادر مصدر التلهيب والتهييج حتى يقول السامع : كيف لا أو من بالله واليوم الآخر.

وعطف الإيمان باليوم الآخر على الإيمان بالله للتذكير بأن الرأفة بهما في تعطيل الحد أو نقصه نسيان لليوم الآخر فإن تلك الرأفة تقضي بهما إلى أن يؤخذ منهما العقاب يوم القيامة فهي رأفة ضارة كرأفة ترك الدواء للمريض ، فإن الحدود جوابر على ما تؤذن به أدلة الشريعة.

(وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).

أمر أن تحضر جماعة من المسلمين إقامة حد الزنا تحقيقا لإقامة الحد وحذرا من التساهل فيه فإن الإخفاء ذريعة للإنساء ، فإذا لم يشهده المؤمنون فقد يتساءلون عن عدم إقامته فإذا تبين لهم إهماله فلا يعدم بينهم من يقوم بتغيير المنكر من تعطيل الحدود.

وفيه فائدة أخرى وهي أن من مقاصد الحدود مع عقوبة الجاني أن يرتدع غيره ، وبحضور طائفة من المؤمنين يتعظ به الحاضرون ويزدجرون ويشيع الحديث فيه بنقل الحاضر إلى الغائب.

والطائفة : الجماعة من الناس. وقد تقدم ذكرها عند قوله تعالى : (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) في سورة النساء [١٠٢] ، وعند قوله : (أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا) في آخر الأنعام [١٥٦]. وقد اختلف في ضبط عددها هنا. والظاهر أنه عدد تحصل بخبره الاستفاضة وهو يختلف باختلاف الأمكنة. والمشهور عن مالك الاثنان فصاعدا ، وقال ابن أبي زيد : أربعة اعتبارا بشهادة الزنا. وقيل عشرة.

وظاهر الأمر يقتضي وجوب حضور طائفة للحد. وحمله الحنفية على الندب وكذلك الشافعية ولم أقف على تصريح بحكمه في المذهب المالكي. ويظهر من إطلاق المفسرين وأصحاب الأحكام من المالكية ومن اختلافهم في أقل ما يجزئ من عدد الطائفة أنه يحمل على الوجوب إذ هو محمل الأمر عند مالك. وأيّا ما كان حكمه فهو في الكفاية ولا يطالب به من له بالمحدود مزيد صلة يحزنه أن يشاهد إقامة الحد عليه.

١٢٢

(الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣))

هذه الآية نزلت مستقلة بأولها ونهايتها كما يأتي قريبا في ذكر سبب نزولها ، سواء كان نزولها قبل الآيات التي افتتحت بها السورة أم كان نزولها بعد تلك الآيات. فهذه الجملة ابتدائية. ومناسبة موقعها بعد الجملة التي قبلها واضحة.

وقد أعضل معناها فتطلب المفسرون وجوها من التأويل وبعض الوجوه ينحل إلى متعدد.

وسبب نزول هذه الآية ما رواه أبو داود وما رواه الترمذي وصححه وحسنه : «أنه كان رجل يقال له مرثد بن أبي مرثد (الغنوي من المسلمين) كان يخرج من المدينة إلى مكة يحمل الأسرى (١) فيأتي بهم إلى المدينة. وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها : عناق. وكانت خليلة له ، وأنه كان وعد رجلا من أسارى مكة ليحمله. قال : فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة. قال : فجاءت عناق فقالت : مرثد؟ قلت : مرثد. قالت : مرحبا وأهلا هلم فبت عندنا الليلة. قال فقلت : حرم الله الزنى. فقالت عناق : يا أهل الخيام هذا الرجل يحمل أسراكم ، فتبعني ثمانية (من المشركين) .. إلى أن قال : ثم رجعوا ورجعت إلى صاحبي فحملته ففككت عنه كبله حتى قدمت المدينة فأتيت رسول الله فقلت : يا رسول الله أنكح عناق؟ فأمسك رسول الله فلم يرد عليّ شيئا حتى نزلت (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) فقال رسول الله : يا مرثد لا تنكحها».

فتبيّن أن هذه الآية نزلت جوابا عن سؤال مرثد بن أبي مرثد هل يتزوج عناق. ومثار ما يشكل ويعضل من معناها : أن النكاح هنا عقد التزوج كما جزم به المحققون من المفسرين مثل الزجاج والزمخشري وغيرهما. وأنا أرى لفظ النكاح لم يوضع ولم يستعمل إلا في عقد الزواج وما انبثق زعم أنه يطلق على الوطء إلا من تفسير بعض المفسرين قوله تعالى : (فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) [البقرة : ٢٣٠] بناء على اتفاق الفقهاء على أن مجرد العقد على المرأة بزوج لا يحلها لمن بتّها إلا إذا دخل بها الزوج الثاني.

__________________

(١) أي الذين أوثقهم المشركون بمكة لأجل إيمانهم ولم يتركوهم يهاجرون إلى المدينة فكان مرتد يحملهم إلى المدينة سرا.

١٢٣

وفيه بحث طويل ، ليس هذا محله.

وأنه لا تردد في أن هذه الآية نزلت بعد تحريم الزنى إذ كان تحريم الزنى من أول ما شرع من الأحكام في الإسلام كما في الآيات الكثيرة النازلة بمكة ، وحسبك أن الأعشى عدّ تحريم الزنى في عداد ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من التشريع إذ قال في قصيدته لما جاء مكة بنية الإسلام ومدح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصده أبو جهل فانصرف إلى اليمامة ومات هناك قال :

أجدّك لم تسمع ووصاة محمد

نبيء الإله حين أوصى وأشهدا

إلى أن قال ....

ولا تقربنّ جارة إنّ سرها

عليك حرام فانكحن أو تأبدا (١)

وقد ذكرنا ذلك في تفسير سورة الإسراء.

وأنه يلوح في بادئ النظر من ظاهر الآية أن صدرها إلى قوله أو (مُشْرِكٌ) إخبار عن حال تزوج امرأة زانية وأنه ليس لتشريع حكم النكاح بين الزناة المسلمين ، ولا نكاح بين المشركين. فإذا كان إخبارا لم يستقم معنى الآية إذ الزاني قد ينكح الحصينة والمشرك قد ينكح الحصينة وهو الأكثر فلا يستقيم لقوله تعالى : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) معنى ، وأيضا الزانية قد ينكحها المسلم العفيف لرغبة في جمالها أو لينقذها من عهر الزنى وما هو بزان ولا مشرك فلا يستقيم معنى لقوله : (وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) وإننا لو تنازلنا وقبلنا أن تكون لتشريع حكم فالإشكال أقوى إذ لا معنى لتشريع حكم نكاح الزاني والزانية والمشرك والمشركة فتعين تأويل الآية بما يفيد معنى معتبرا.

والوجه في تأويلها : أن مجموع الآية مقصود منه التشريع دون الإخبار لأن الله تعالى قال في آخرها (وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ). ولأنها نزلت جوابا عن سؤال مرثد تزويجه عناق وهي زانية ومشركة ومرثد مسلم تقي. غير أن صدر الآية ليس هو المقصود بالتشريع بل هو تمهيد لآخرها مشير إلى تعليل ما شرع في آخرها ، وفيه ما يفسر مرجع اسم الإشارة الواقع في قوله : (وَحُرِّمَ ذلِكَ). وأن حكمها عام لمرثد وغيره من المسلمين بحق عموم لفظ (الْمُؤْمِنِينَ).

وينبني على هذا التأصيل أن قوله : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) تمهيد

__________________

(١) أي تعزب.

١٢٤

للحكم المقصود الذي في قوله : (وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) وأنه مسوق مساق الإخبار دون التشريع فيتعين أن المراد من لفظ (الزَّانِي) المعنى الاسمي لاسم الفاعل وهو معنى التلبس بمصدره دون معنى الحدوث ؛ إذ يجب أن لا يغفل عن كون اسم الفاعل له شائبتان : شائبة كونه مشتقا من المصدر فهو بذلك بمنزلة الفعل المضارع ، فضارب بشبه يضرب في إفادة حصول الحدث من فاعل ، وشائبة دلالته على ذات متلبسة بحدث فهو بتلك الشائبة يقوى فيه جانب الأسماء الدالة على الذوات. وحمله في هذه الآية على المعنى الاسمي تقتضيه قرينة السياق إذ لا يفهم أن يكون المعنى أن الذي يحدث الزنى لا يتزوج إلا زانية لانتفاء جدوى تشريع منع حالة من حالات النكاح عن الذي أتى زنى. وهذا على عكس محمل قوله : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) [النور : ٢] فإنه بالمعنى الوصفي ، أي التلبس بإحداث الزنى حسبما حملناه على ذلك آنفا بقرينة سياق ترتب الجلد على الوصف إذ الجلد عقوبة إنما تترتب على إحداث جريمة توجبها.

فتمحض أن يكون المراد من قوله : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً) إلخ : من كان الزنى دأبا له قبل الإسلام وتخلق به ثم أسلم وأراد تزوج امرأة ملازمة للزنى مثل البغايا ومتخذات الأخدان (ولا يكن إلا غير مسلمات لا محالة) فنهى الله المسلمين عن تزوج مثلها بقوله (وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ). وقدم له ما يفيد تشويهه بأنه لا يلائم حال المسلم وإنما هو شأن أهل الزنى ، أي غير المؤمنين ، لأن المؤمن لا يكون الزنى له دأبا ، ولو صدر منه لكان على سبيل الفلتة كما وقع لماعز بن مالك.

فقوله : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) تمهيد وليس بتشريع ، لأن الزاني ـ بمعنى من الزنى له عادة ـ لا يكون مؤمنا فلا تشرع له أحكام الإسلام. وهذا من قبيل قوله تعالى : (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ) [النور : ٢٦] وهذا يتضمن أن المسلم إذا تزوج زانية فقد وضع نفسه في صف الزناة ، أي المشركين.

وعطف قوله : (أَوْ مُشْرِكَةً) على (زانِيَةً) لزيادة التفظيع فإن الزانية غير المسلمة قد تكون غير مشركة مثل زواني اليهود والنصارى وبغاياهما. وكذلك عطف (أَوْ مُشْرِكٌ) على (إِلَّا زانٍ) لظهور أن المقام ليس بصدد التشريع للمشركات والمشركين أحكام التزوج بينهم إذ ليسوا بمخاطبين بفروع الشريعة.

فتمحض من هذا أن المؤمن الصالح لا يتزوج الزانية. ذلك لأن الدربة على الزنى يتكون بها خلق يناسب أحوال الزناة من الرجال والنساء فلا يرغب في معاشرة الزانية إلا

١٢٥

من تروق له أخلاق أمثالها ، وقد كان المسلمون أيامئذ قريبي عهد بشرك وجاهلية فكان من مهم سياسة الشريعة للمسلمين التباعد بهم عن كل ما يستروح منه أن يذكرهم بما كانوا يألفونه قصد أن تصير أخلاق الإسلام ملكات فيهم فأراد الله أن يبعدهم عما قد يجدد فيهم أخلاقا أوشكوا أن ينسوها.

فموقع هذه الآية موقع المقصود من الكلام بعد المقدمة ولذلك جاءت مستأنفة كما تقع النتائج بعد أدلتها ، وقدم قبلها حكم عقوبة الزنى لإفادة حكمه وما يقتضيه ذلك من تشنيع فعله. فلذلك فالمراد بالزاني : من وصف الزنى عادته.

وفي «تفسير القرطبي» عن عمرو بن العاص ومجاهد : أن هذه الآية خاصة في رجل من المسلمين استأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نكاح امرأة يقال لها : أم مهزول ، وكانت من بغايا الزانيات وشرطت له أن تنفق عليه (ولعل أم مهزول كنية عناق ولعل القصة واحدة) إذ لم يرو غيرها. قال الخطابي : هذا خاص بهذه المرأة إذ كانت كافرة فأما الزانية المسلمة فإن العقد عليها لا يفسخ.

وابتدئ في هذه الآية بذكر الزاني قبل ذكر الزانية على عكس ما تقدم في قوله (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) [النور : ٢] فإن وجه تقديم الزانية في الآية السابقة هو ما عرفته ، فأما هنا فإن سبب نزول هذه الآية كان رغبة رجل في تزوج امرأة تعودت الزنى فكان المقام مقتضيا الاهتمام بما يترتب على هذا السؤال من مذمة الرجل الذي يتزوج مثل تلك المرأة.

وجملة (وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) تكميل للمقصود من الجملتين قبلها ، وهو تصريح بما أريد من تفظيع نكاح الزانية وببيان الحكم الشرعي في القضية.

والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى المعنى الذي تضمنته الجملتان من قبل وهو نكاح الزانية ، أي وحرم نكاح الزانية على المؤمنين ، فلذلك عطفت جملة (وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) لأنها أفادت تكميلا لما قبلها وشأن التكميل أن يكون بطريق العطف. ومن العلماء من حمل الآية على ظاهرها من التحريم وقالوا : هذا حكم منسوخ نسختها الآية بعدها (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) [النور : ٣٢] فدخلت الزانية في الأيامى ، أي بعد أن استقر الإسلام وذهب الخوف على المسلمين من أن تعاودهم أخلاق أهل الجاهلية.

وروي هذا عن سعيد بن المسيب وعن عبد الله بن عمرو بن العاص وابن عمر ، وبه

١٢٦

أخذ مالك وأبو حنيفة والشافعي ، ولم يؤثر أن أحدا تزوج زانية فيما بين نزول هذه الآية ونزول ناسخها ، ولا أنه فسخ نكاح مسلم امرأة زانية. ومقتضى التحريم الفساد وهو يقتضي الفسخ. وقال الخطابي : هذا خاص بهذه المرأة إذ كانت كافرة فأما الزانية المسلمة فإن العقد عليها لا يفسخ. ومنهم من رأى حكمها مستمرا. ونسب الفخر القول باستمرار حكم التحريم إلى أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وعائشة رضي‌الله‌عنهم ونسبه غيره إلى التابعين ولم يأخذ به فقهاء الأمصار من بعد.

[٤ ، ٥] (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥))

كان فاشيا في الجاهلية رمي بعضهم بعضا بالزنى إذا رأوا بين النساء والرجال تعارفا أو محادثة.

وكان فاشيا فيهم الطعن في الأنساب بهتانا إذا رأوا قلة شبه بين الأب والابن ، فكان مما يقترن بحكم حد الزنى أن يذيل بحكم الذين يرمون المحصنات بالزنى إذا كانوا غير أزواجهن وهو حد القذف. وقد تقدم وجه الاقتران بالفاء في قوله : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا) [النور : ٢] الآية.

والرمي حقيقته : قذف شيء من اليد. وشاع استعماله في نسبة فعل أو وصف إلى شخص. وتقدم في قوله تعالى : (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً) في سورة النساء [١١٢]. وحذف المرمي به في هذه الآية لظهور المقصود بقرينة السياق وذكر المحصنات.

والمحصنات : هن المتزوجات من الحرائر. والإحصان : الدخول بزوج بعقد نكاح. والمحصن : اسم مفعول من أحصن الشيء إذا منعه من الإضاعة واستيلاء الغير عليه ، فالزوج يحصن امرأته ، أي يمنعها من الإهمال واعتداء الرجال. وهذا كتسمية الأبكار مخدّرات ومقصورات ، وتقدم في سورة النساء. ولا يطلق وصف (الْمُحْصَناتِ) إلا على الحرائر المتزوجات دون الإماء لعدم صيانتهن في عرف الناس قبل الإسلام.

وحذف متعلق الشهادة لظهور أنهم شهداء على إثبات ما رمى به القاذف ، أي إثبات وقوع الزنى بحقيقته المعتد بها شرعا ، ومن البيّن أن الشهداء الأربعة هم غير القاذف لأن معنى (يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) لا يتحقق فيما إذا كان القاذف من جملة الشهداء. والجلد

١٢٧

تقدم آنفا. وشرع هذا الجلد عقابا للرامي بالكذب أو بدون تثبت ولسد ذريعة ذلك.

وأسند فعل (يَرْمُونَ) إلى اسم موصول المذكر وضمائر (تابُوا) ـ و (أَصْلَحُوا) وكذلك وصف (الْفاسِقُونَ) بصيغ التذكير ، وعدي فعل الرمي إلى مفعول بصيغة الإناث كل ذلك بناء على الغالب أو على مراعاة قصة كانت سبب نزول الآية ولكن هذا الحكم في الجميع يشمل ضد أهل هذه الصيغة في مواقعها كلها بطريق القياس. ولا اعتداد بما يتوهم من فارق إلصاق المعرة بالمرأة إذا رميت بالزنى دون الرجل يرمى بالزنى لأن جعل العار على المرأة تزني دون الرجل يزني إنما هو عادة جاهلية لا التفات إليها في الإسلام فقد سوى الإسلام التحريم والحد والعقاب الآجل والذم العاجل بين المرأة والرجل.

وقد يعد اعتداء الرجل بزناه أشد من اعتداء المرأة بزناها لأن الرجل الزاني يضيع نسب نسله فهو جان على نفسه ، وأما المرأة فولدها لا حق بها لا محالة فلا جناية على نفسها في شأنه ، وهما مستويان في الجناية على الولد بإضاعة نسبه فهذا الفارق الموهوم ملغى في القياس.

أما عدم قبول شهادة القاذف في المستقبل فلأنه لما قذف بدون إثبات قد دل على تساهله في الشهادة فكان حقيقا بأن لا يؤخذ بشهادته.

والأبد : الزّمن المستقبل كله. واسم الإشارة للإعلان بفسقهم ليتميزوا في هذه الصفة الذميمة.

والحصر في قوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) للمبالغة في شناعة فسقهم حتى كأن ما عداه من الفسوق لا يعد فسقا.

والاستثناء في قوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) حقه أن يعود إلى جميع ما تقدم قبله كما هو شأن الاستثناء عند الجمهور إلا أنه هنا راجع إلى خصوص عدم قبول شهادتهم وإثبات فسقهم وغير راجع إلى إقامة الحد ، بقرينة قوله : (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) ، أي بعد أن تحققت الأحكام الثلاثة فالحد قد فات على أنه قد علم من استقراء الشريعة أن الحدود الشرعية لا تسقطها توبة مقترف موجبها وقال أبو حنيفة وجماعة : الاستثناء يرجع إلى الجملة الأخيرة جريا على أصله في عود الاستثناء الوارد بعد جمل متعاطفة.

والتوبة : الإقلاع والندم وظهور عزمه على أن لا يعود لمثل ذلك. وقد تقدم ذكر التوبة في سورة النساء [١٧] عند قوله تعالى : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ) الآيات. وليس من

١٢٨

شرط التوبة أن يكذب نفسه فيما قذف به عند الجمهور ، وهو قول مالك ، لأنه قد يكون صادقا ولكنه عجز عن إثبات ذلك بأربعة شهداء على الصفة المعلومة ، فتوبته أن يصلح ويحسن حاله ويتثبت في أمره. وقال قوم : لا تعتبر توبته حتى يكذب نفسه. وهذا قول عمر بن الخطاب والشعبي ، ولم يقبل عمر شهادة أبي بكرة لأنه أبى أن يكذب نفسه فيما رمى به المغيرة بن شعبة. وقبل من بعد شهادة شبل بن معبد ونافع بن كلدة لأنهما أكذبا أنفسهما في تلك القضية وكان عمر قد حد ثلاثتهم حد القذف.

ومعنى (أَصْلَحُوا) فعلوا الصلاح ، أي صاروا صالحين. فمفعول الفعل محذوف دل عليه السياق ، أي أصلحوا أنفسهم باجتناب ما نهوا عنه ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) [البقرة : ١١] ، وقوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا) في سورة البقرة [١٦٠].

وفرع (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) على ما يقتضيه الاستثناء من معنى : فاقبلوا شهادتهم واغفروا لهم ما سلف فإن الله غفور رحيم ، أي فإن الله أمر بالمغفرة لهم لأنه غفور رحيم ، كما قال في آية البقرة [١٦٠] : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

وإنما صرح في آية البقرة بما قدر نظيره هنا لأن المقام هنالك مقام إطناب لشدة الاهتمام بأمرهم إذ ثابوا إلى الإيمان والإصلاح وبيان ما أنزل إليهم من الهدى بعد ما كتموه وكتمه سلفهم.

وظاهر الآية يقتضي أن حد القذف حق لله تعالى ، وهو قول أبي حنيفة. وقال مالك والشافعي : حق للمقذوف. ويترتب على الخلاف سقوطه بالعفو من المقذوف.

وهذه الآية أصل في حد الفرية والقذف الذي كان أول ظهوره في رمي المحصنات بالزنى. فكل رمي بما فيه معرة موجب للحد بالإجماع المستند للقياس.

[٦ ـ ٩] (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩))

١٢٩

هذا تخصيص للعمومين الذين في قوله : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) [النور : ٤] فإن من المحصنات من هن أزواج لمن يرميهن ، فخصّ هؤلاء الذين يرمون أزواجهم من حكم قوله : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) إلخ إذ عذر الأزواج خاصة في إقدامهم على القول في أزواجهم بالزنى إذا لم يستطيعوا إثباته بأربعة شهداء.

ووجه عذرهم في ذلك ما في نفوس الناس من سجية الغيرة على أزواجهم وعدم احتمال رؤية الزنى بهن فدفع عنهم حد القذف بما شرع لهم من الملاعنة.

وفي هذا الحكم قبول لقول الزوج في امرأته في الجملة إذا كان متثبتا حتى أن المرأة بعد أيمان زوجها تكلف بدفع ذلك بأيمانها وإلا قبل قوله فيها مع أيمانه فكان بمنزلة شهادة أربعة فكان موجبا حدها إذا لم تدفع ذلك بأيمانها.

وعلة ذلك هو أن في نفوس الأزواج وازعا يزعهم عن أن يرموا نساءهم بالفاحشة كذبا وهو وازع التعير من ذلك ووازع المحبة في الأزواج غالبا ، ولذلك سمى الله ادعاء الزوج عليها باسم الشهادة بظاهر الاستثناء في قوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) ، وفي نفوسهم من الغيرة عليهن ما لا يحتمل معه السكوت على ذلك ، وكانوا في الجاهلية يقتلون على ذلك وكان الرجل مصدقا فيما يدعيه على امرأته. وقد قال سعد بن عبادة «لو وجدت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح». ولكن الغيرة قد تكون مفرطة وقد يذكيها في النفوس تنافس الرجال في أن يشتهروا بها ، فمنع الإسلام من ذلك إذ ليس من حق أحد إتلاف نفس إلا الحاكم. ولم يقرر جعل أرواح الزوجات تحت تصرف مختلف نفسيات أزواجهن.

ولما تقرر حد القذف اشتد الأمر على الأزواج الذين يعثرون على ربية في أزواجهم. ونزلت قضية عويمر العجلاني مع زوجه خولة بنت عاصم ويقال بنت قيس وكلاهما من بني عم عاصم بن عدي من الأنصار. روى مالك في «الموطأ» عن سهل بن سعد أن عويمرا العجلاني جاء إلى عاصم بن عدي الأنصاري فقال له : يا عاصم أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ سل لي يا عاصم رسول الله عن ذلك. فسأل عاصم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك فكره رسول الله المسائل وعابها حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله. فلما رجع عاصم إلى أهله جاءه عويمر فقال : يا عاصم ما ذا قال لك رسول الله؟ فقال عاصم لعويمر : لم تأتني بخير ، قد كره رسول الله المسألة التي سألته عنها. فقال عويمر : والله لا أنتهي حتى أسأله عنها. فقام عويمر حتى أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

١٣٠

وسط الناس فقال : يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قد أنزل فيك وفي صاحبتك فاذهب فأت بها. قال سهل : فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» الحديث. فكانت هذه الآية مبدأ شرع الحكم في رمي الأزواج نساءهم بالزنى. واختلط صاحب القصة على بعض الرواة فسموه هلال ابن أمية الواقفي. وزيد في القصة : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : «البينة وإلا حدّ في ظهرك». والصواب أن سبب نزول الآية قصة عويمر العجلاني وكانت هذه الحادثة في شعبان سنة تسع عقب القفول من غزوة تبوك والتحقيق أنهما قصتان حدثتا في وقت واحد أو متقارب.

ولما سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قول سعد بن عبادة عند نزول آية القذف السالفة قال : «أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير مني» يعني أنها غيرة غير معتدلة الآثار لأنه جعل من آثارها أن يقتل من يجده مع امرأته والله ورسوله لم يأذنا بذلك. فإن الله ورسوله أغير من سعد ، ولم يجعلا للزوج الذي يرى زوجته تزني أن يقتل الزاني ولا المرأة ولذلك قال عويمر العجلاني «من وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل»؟.

وحذف متعلق (شُهَداءُ) لظهوره من السياق ، أي شهداء على ما ادعوه مما رموا به أزواجهم.

وشمل قوله : (إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) ما لا تتأتى فيه الشهادة مثل الرمي بنفي حمل منه ادعى قبله الزوج الاستبراء.

وقد علم من أحاديث سبب نزول الآية ومن علة تخصيص الأزواج في حكم القذف بحكم خاص ومن لفظ (يَرْمُونَ) ومن ذكر الشهداء أن اللعان رخصة منّ الله بها على الأزواج في أحوال الضرورة فلا تتعداها. فلذلك قال مالك في المشهور عنه وآخر قوليه وجماعة : لا يلاعن بين الزوجين إلا إذا ادعى الزوج رؤية امرأته تزني أو نفى حملها نفيا مستندا إلى حدوث الحمل بعد تحقق براءة رحم زوجه وعدم قربانه إياها ، فإن لم يكن كذلك ورماها بالزنى. أي بمجرد السماع أو برؤية رجل في البيت في غير حال الزنى ، أو بقوله لها : يا زانية ، أو نحو ذلك مما يجري مجرى السب والشتم فلا يشرع اللعان. ويحد الزوج في هذه الأحوال حد القذف لأنه افتراء لا بينة عليه ولا عذر يقتضي تخصيصه إذ العذر هو عدم تحمل رؤية امرأته تزني وعدم تحمل رؤية حمل يتحقق أنه ليس منه. وقال أبو حنيفة والشافعي والجمهور : إذا قال تحمل لها : يا زانية ، وجب اللعان ، ذهابا منهم إلى أن اللعان بين الزوجين يجري في مجرد القذف أيضا تمسكا بمطلق لفظ (يَرْمُونَ).

١٣١

ويقدح في قياسهم أن بين دعوى الزنى على المرأة وبين السب بألفاظ فيها نسبة إلى الزنا فرقا بينا عند الفقيه. وتسمية القرآن أيمان اللعان شهادة يومئ إلى أنها لرد دعوى وشرط ترتب الآثار على الدعوى أن تكون محققة فقول مالك أرجح من قول الجمهور لأنه أغوص على الحقيقة الشرعية.

وقوله : (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ) إلخ لما تعذر على الأزواج الفاء الشهادة في مثل هذا الحال وعذرهم الله في الادعاء بذلك ولم يترك الأمر سبهللا ولا ترك النساء مضغة في أفواه من يريدون التشهير بهن من أزواجهن لشقاق أو غيظ مفرط أو حماقة كلف الأزواج شهادة لا تعسر عليهم إن كانوا صادقين فيما يدعون فأوجب عليهم الحلف بالله أربع مرات لتقوم الأيمان مقام الشهود الأربعة المفروضين للزنا في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) [النور : ٤] إلخ.

وسمي اليمين شهادة لأنه بدل منها فهو مجاز بعلاقة الحلول الاعتباري ، وأن صيغة الشهادة تستعمل في الحلف كثيرا وهنا جعلت بدلا من الشهادة فكأن المدعي أخرج من نفسه أربعة شهود هي تلك الأيمان الأربع.

ومعنى كون الأيمان بدلا من الشهادة أنها قائمة مقامها للعذر الذي ذكرناه آنفا ؛ فلا تأخذ جميع أحكام الشهادة ، ولا يتوهم أن لا تقبل أيمان اللعان إلا من عدل فلو كان فاسقا لم يلتعن ولم يحد حد القذف بل كل من صحت يمينه صح لعانه وهذا قول مالك والشافعي ، واشترط أبو حنيفة الحرية وحجته في ذلك إلحاق اللعان بالشهادة لأن الله سماه شهادة.

ولأجل المحافظة على هذه البدلية اشترط أن تكون أيمان اللعان بصيغة : «أشهد بالله» عند الأئمة الأربعة. وأما ما بعد صيغة (أشهد) فيكون كاليمين على حسب الدعوى التي حلف عليها بلفظ لا احتمال فيه.

وقوله : (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ) قرأه الجمهور بنصب (أَرْبَعُ) على أنه مفعول مطلق لشهادة فيكون (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ) محذوف الخبر دل عليه معنى الشرطية الذي في الموصول واقتران الفاء بخبره ، والتقدير : فشهادة أحدهم لازمة له. ويجوز أن يكون الخبر قوله : (إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) على حكاية اللفظ مثل قولهم : «هجّيرا أبي بكر لا إله إلا الله». وقرأه حمزة والكسائي وحفص وخلف برفع (أَرْبَعُ) على أنه خبر المبتدأ وجملة (إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) إلى آخرها بدل من (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ). ولا خلاف بين القراء

١٣٢

في نصب (أَرْبَعُ شَهاداتٍ) الثاني.

وفي قوله : (إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) حكاية للفظ اليمين مع كون الضمير مراعى فيه سياق الغيبة ، أي يقول : إني لمن الصادقين فيما ادعيت عليها.

وأما قوله : (وَالْخامِسَةُ) أي فالشهادة الخامسة ، أي المكملة عدد خمس للأربع التي قبلها. وأنث اسم العدد لأنه صفة لمحذوف دل عليه قوله (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ) والتقدير : والشهادة الخامسة. وليس لها مقابل في عدد شهود الزنى. فلعل حكمة زيادة هذه اليمين مع الأيمان الأربع القائمة مقام الشهود الأربعة أنها لتقوية الأيمان الأربع باستذكار ما يترتب على أيمانه إن كانت غموسا من الحرمان من رحمة الله تعالى. وهذا هو وجه كونها مخالفة في صيغتها لصيغ الشهادات الأربع التي تقدمتها. وفي ذلك إيماء إلى أن الأربع هي المجعولة بدلا عن الشهود وأن هذه الخامسة تذييل للشهادة وتغليظ لها.

وقرأ الجمهور : (وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها) بالرفع كقوله : (وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ) وهو من عطف الجمل. وقرأه حفص عن عاصم بالنصب عطفا على (أَرْبَعُ شَهاداتٍ) الثاني وهو من عطف المفردات.

وقرأ الجمهور : (أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ) و (أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها) بتشديد نون (أنّ) وبلفظ المصدر في (أَنَّ غَضَبَ اللهِ) وجر اسم الجلالة بإضافة (غضب) إليه. ويتعين على هذه القراءة أن تقدر باء الجر داخلة على (أَنَ) في الموضعين متعلقة ب (الْخامِسَةُ) لأنها صفة لموصوف تقديره : والشهادة الخامسة ، ليتجه فتح همزة (أنّ) فيهما. والمعنى : أن يشهد الرجل أو تشهد المرأة بأن لعنة الله أو بأن غضب الله ، أي بما يطابق هذه الجملة.

وقرأ نافع بتخفيف نون (أن) في الموضعين و (غَضَبَ اللهِ) بصيغة فعل المضي ، ورفع اسم الجلالة الذي بعد (غَضَبَ). وخرجت قراءته على جعل (أن) مخففة من الثقيلة مهملة العمل واسمها ضمير الشأن محذوف أي تهويلا لشأن الشهادة الخامسة. ورد بما تقرر من عدم خلو جملة خبر (أن) المخففة من أحد أربعة أشياء : قد ، وحرف النفي ، وحرف التنفيس ، ولو لا. والذي أرى أن تجعل (أن) على قراءة نافع تفسيرية لأن الخامسة يمين ففيها معنى القول دون حروفه فيناسبها التفسير.

وقرأ يعقوب (أَنْ لَعْنَةُ اللهِ) بتخفيف (أن) ورفع (لَعْنَتَ) وجر اسم الجلالة مثل قراءة نافع. وقرأ وحده (أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها) بتخفيف (أن) وفتح ضاد (غَضَبَ) ورفع الباء

١٣٣

على أنه مصدر ويجر اسم الجلالة بالإضافة.

وعلى كل القراءات لا يذكر المتلاعنان في الخامسة من يمين اللعان لفظ (أن) فإنه لم يرد في وصف أيمان اللعان في كتب الفقه وكتب السنة.

والقول في صيغة الخامسة مثل القول في صيغ الأيمان الأربع. وعين له في الدعاء خصوص اللعنة لأنه وإن كان كاذبا فقد عرض بامرأته للعنة الناس ونبذ الأزواج إياها فناسب أن يكون جزاؤه اللعنة.

واللعنة واللعن : الإبعاد بتحقير. وقد تقدم في قوله : (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ) في سورة الحجر [٣٥].

واعلم أن الزوج إن سمى رجلا معينا زنى بامرأته صار قاذفا له زيادة على قذفه المرأة ، وأنه إذا لاعن وأتم اللعان سقط عنه حد القذف للمرأة وهو ظاهر ويبقى النظر في قذفه ذلك الرجل الذي نسب إليه الزنى. وقد اختلف الأئمة في سقوط حد القذف للرجل فقال الشافعي : يسقط عنه حد القذف للرجل لأن الله تعالى لم يذكر إلا حدا واحدا ولأنه لم يثبت بالسنة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقام حد الفرية على عويمر العجلاني ولا على هلال بن أمية بعد اللعان. وقال مالك وأبو حنيفة : يسقط اللعان حد الملاعن لقذف امرأته ولا يسقط حد القذف لرجل سماه ، والحجة لهما بأن الله شرع حد القذف.

ولما كانت هذه الأيمان مقتضية صدق دعوى الزوج على المرأة كان من أثر ذلك أن تعتبر المرأة زانية أو أن يكون حملها ليس منه فهو من زنى لأنها في عصمة فكان ذلك مقتضيا أن يقام عليها حد الزنى ، فلم تهمل الشريعة حق المرأة ولم تجعلها مأخوذة بأيمان قد يكون حالفها كاذبا فيها لأنه يتهم بالكذب لتبرئة نفسه فجعل للزوجة معارضة أيمان زوجها كما جعل للمشهود عليه الطعن في الشهادة بالتجريح أو المعارضة فقال تعالى :(وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ) الآية. وإذ قد كانت أيمان المرأة لرد أيمان الرجل ، وكانت أيمان الرجل بدلا من الشهادة وسميت شهادة ، كانت أيمان المرأة لردها يناسب أن تسمى شهادة ؛ ولأنها كالشهادة المعارضة ، ولكونها بمنزلة المعارضة كانت أيمان المرأة كلها على إبطال دعواه لا على إثبات براءتها أو صدقها.

والدرء : الدفع بقوة ، واستعير هنا للإبطال. وتقدم عند قوله تعالى : (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) في سورة الرعد [٢٢].

١٣٤

والتعريف في (الْعَذابَ) ظاهر في العهد لتقدم ذكر العذاب في قوله : (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [النور : ٢]. فيؤخذ من الآية أن المرأة إذا لم تحلف أيمان اللعان أقيم عليها الحد. وهذا هو الذي تشهد به روايات حديث اللعان في السنة. وقال أبو حنيفة : إذا نكلت المرأة عن أيمان اللعان لم تحد لأن الحد عنده لا يكون إلا بشهادة شهود أو إقرار. فعنده يرجع بها إلى حكم الحبس المنسوخ عندنا ، وعنده إنما نسخ في بعض الأحوال وبقي في البعض.

والقول في صيغة أيمان المرأة كالقول في صيغة أيمان الزوج سواء. وعين لها في الخامسة الدعاء بغضب الله عليها إن صدق زوجها لأنها أغضبت زوجها بفعلها فناسب أن يكون جزاؤها على ذلك غضب ربها عليها كما أغضبت بعلها.

وتتفرع من أحكام اللعان فروع كثيرة يتعرض بعض المفسرين لبعضها وهي من موضوع كتب الفروع.

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠))

تذييل لما مر من الأحكام العظيمة المشتملة على التفضل من الله والرحمة منه ، والمؤذنة بأنه تواب على من تاب من عباده ، والمنبئة بكمال حكمته تعالى إذ وضع الشدة موضعها والرفق موضعه وكف بعض الناس عن بعض فلما دخلت تلك الأحكام تحت كلي هذه الصفات كان ذكر الصفات تذييلا.

وجواب (لو لا) محذوف لقصد تهويل مضمونه فيدل تهويله على تفخيم مضمون الشرط الذي كان سببا في امتناع حصوله. والتقدير : لو لا فضل الله عليكم فدفع عنكم أذى بعضكم لبعض بما شرع من الزواجر لتكالب بعضكم على بعض ، ولو لا رحمة الله بكم فقدر لكم تخفيضا مما شرع من الزواجر في حالة الاضطرار والعذر لما استطاع أحد أن يسكت على ما يرى من مثار الغيرة ، فإذا باح بذلك أخذ بعقاب وإذا انتصف لنفسه أهلك بعضا أو سكت على ما لا على مثله يغضى ، ولو لا أن الله تواب حكيم لما رد على من تاب فأصلح ما سلبه منه من العدالة وقبول الشهادة.

وفي ذكر وصف «الحكيم» هنا مع وصف (تَوَّابٌ) إشارة إلى أن في هذه التوبة حكمة وهي استصلاح الناس.

وحذف جواب (لَوْ لا) للتفخيم والتعظيم وحذفه طريقة لأهل البلاغة ، وقد تكرر في

١٣٥

هذه السورة وهو مثل حذف جواب (لو) ، وتقدم حذف جواب (لو) عند قوله تعالى : ولو ترى (الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ) في سورة البقرة [١٦٥]. وجواب (لو لا) لم يحضرني الآن شاهد لحذفه وقد قال بعض الأئمة : إن (لو لا) مركبة من (لو) و (لا).

(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١))

استئناف ابتدائي فإن هذه الآيات العشر إلى قوله تعالى : (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [النور : ٢١] نزلت في زمن بعيد عن زمن نزول الآيات التي من أول هذه السورة كما ستعرفه.

والإفك : اسم يدل على كذب لا شبهة فيه فهو بهتان يفجأ الناس. وهو مشتق من الأفك بفتح الهمزة وهو قلب الشيء ، ومنه سمي أهل سدوم وعمورة وأدمة وصبوييم قرى قوم لوط أصحاب المؤتفكة لأن قراهم ائتفكت ، أي قلبت وخسف بها فصار أعلاها أسفلها فكان الإخبار عن الشيء بخلاف حالته الواقعية قلبا له عن حقيقته فسمي إفكا. وتقدم عند قوله تعالى : (فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) في سورة الأعراف [١١٧].

و (جاؤُ بِالْإِفْكِ) معناه : قصدوا واهتموا. وأصله : أن الذي يخبر بخبر غريب يقال له : جاء بخبر كذا ، لأن شأن الأخبار الغريبة أن تكون مع الوافدين من أسفار أو المبتعدين عن الحي قال تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) [الحجرات : ٦] ؛ فشبه الخبر بقدوم المسافر أو الوافد على وجه المكنية وجعل المجيء ترشيحا وعدي بباء المصاحبة تكميلا للترشح.

والإفك : حديث اختلقه المنافقون وراج عند المنافقين ونفر من سذج المسلمين إما لمجرد اتباع النعيق وإما لإحداث الفتنة بين المسلمين. وحاصل هذا الخبر : أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قفل من غزوة بني المصطلق من خزاعة ، وتسمى غزوة المريسيع ولم تبق بينه وبين المدينة إلا مرحلة. آذن بالرحيل آخر الليل. فلما علمت عائشة بذلك خرجت من هودجها وابتعدت عن الجيش لقضاء شأنها كما هو شأن النساء قبل الترحل فلما فرغت أقبلت إلى رحلها فافتقدت عقدا من جزع ظفار كان في صدرها فرجعت على طريقها تلتمسه فحبسها طلبه وكان ليل. فلما وجدته رجعت إلى حيث وضع رحلها فلم تجد الجيش ولا رحلها ، وذلك أن الرجال الموكلين بالترحل قصدوا الهودج فاحتملوه وهم يحسبون أن عائشة فيه وكانت خفيفة قليلة اللحم فرفعوا الهودج وساروا فلما لم تجد أحدا اضطجعت في مكانها رجاء أن يفتقدوها فيرجعوا إليها فنامت وكان صفوان بن المعطّل (بكسر الطاء) السّلمي

١٣٦

(بضم السين وفتح اللام نسبة إلى بني سليم وكان مستوطنا المدينة من مهاجرة العرب) قد أوكل إليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حراسة ساقة الجيش ، فلما علم بابتعاد الجيش وأمن عليه من غدر العدو ركب راحلته ليلتحق بالجيش فلما بلغ الموضع الذي كان به الجيش بصر بسواد إنسان فإذا هي عائشة وكان قد رآها قبل الحجاب فاسترجع ، واستيقظت عائشة بصوت استرجاعه ونزل عن ناقته وأدناها منها وأناخها فركبتها عائشة وأخذ يقودها حتى لحق بالجيش في نحر الظهيرة وكان عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين في الجيش فقال : والله ما نجت منه ولا نجا منها ، فراج قوله على حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة (بكسر ميم مسطح وفتح طائه وضم همزة أثاثة) وحمنة بنت جحش أخت زينب أم المؤمنين حملتها الغيرة لأختها ضرة عائشة وساعدهم في حديثهم طائفة من المنافقين أصحاب عبد الله بن أبي.

فالإفك : علم بالغلبة على ما في هذه القصة من الاختلاق.

والعصبة : الجماعة من عشرة إلى أربعين كذا قال جمهور أهل اللغة. وقيل العصبة : الجماعة من الثلاثة إلى العشرة وروي عن ابن عباس. وقيل في مصحف حفصة «عصبة أربعة منكم». وهم اسم جمع لا واحد من لفظه ، ويقال : عصابة. وقد تقدم في أول سورة يوسف [٨].

و (عُصْبَةٌ) بدل من ضمير (جاؤُ).

وجملة : (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ) خبر (إِنَ). والمعنى : لا تحسبوا إفكهم شرا لكم ، لأن الضمير المنصوب من (تَحْسَبُوهُ) لما عاد إلى الإفك وكان الإفك متعلقا بفعل (جاؤُ) صار الضمير في قوة المعرف بلام العهد. فالتقدير : لا تحسبوا الإفك المذكور شرا لكم. ويجوز أن يكون خبر (إِنَ) قوله : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) وتكون جملة (لا تَحْسَبُوهُ) معترضة.

ويجوز جعل (عُصْبَةٌ) خبر (إِنَ) ويكون الكلام مستعملا في التعجيب من فعلهم مع أنهم عصبة من القوم أشد نكرا ، كما قال طرفة :

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة

على المرء من وقع الحسام المهند

وذكر (عُصْبَةٌ) تحقير لهم ولقولهم ، أي لا يعبأ بقولهم في جانب تزكية جميع الأمة لمن رموهما بالإفك. ووصف العصبة بكونهم (مِنْكُمْ) يدل على أنهم من المسلمين ، وفي

١٣٧

ذلك تعريض بهم بأنهم حادوا عن خلق الإسلام حيث تصدوا لأذى المسلمين.

وقوله : (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) لإزالة ما حصل في نفوس المؤمنين من الأسف من اجتراء عصبة على هذا البهتان الذي اشتملت عليه القصة فضمير (تَحْسَبُوهُ) عائد إلى الإفك.

والشر المحسوب : أنه أحدث في نفر معصية الكذب والقذف والمؤمنون يودون أن تكون جماعتهم خالصة من النقائص (فإنهم أهل المدينة الفاضلة). فلما حدث فيهم هذا الاضطراب حسبوه شرا نزل بهم.

ومعنى نفي أن يكون ذلك شرا لهم لأنه يضيرهم بأكثر من ذلك الأسف الزائل وهو دون الشر لأنه آيل إلى توبة المؤمنين منهم فيتمحض إثمه للمنافقين وهم جماعة أخرى لا يضر ضلالهم المسلمين.

وقال أبو بكر ابن العربي : حقيقة الخير ما زاد نفعه على ضره وحقيقة الشر ما زاد ضره على نفعه. وأن خيرا لا شر فيه هو الجنة وشرا لا خير فيه هو جهنم. فنبه الله عائشة ومن ماثلها ممن ناله همّ من هذا الحديث أنه ما أصابهم منه شر بل هو خير على ما وضع الله الشر والخير عليه في هذه الدنيا من المقابلة بين الضر والنفع ورجحان النفع في جانب الخير ورجحان الضر في جانب الشر ا ه. وتقدم ذكر الخير عند قوله تعالى : (أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ) في سورة النحل [٧٦].

وبعد إزالة خاطر أن يكون ذلك شرا للمؤمنين أثبت أنه خير لهم فأتى بالإضراب لإبطال أن يحسبوه شرا ، وإثبات أنه خير لهم لأن فيه منافع كثيرة ؛ إذ يميز به المؤمنون الخلص من المنافقين ، وتشرع لهم بسببه أحكام تردع أهل الفسق عن فسقهم ، وتتبين منه براءة فضلائهم ، ويزداد المنافقون غيظا ويصبحون محقرين مذمومين ، ولا يفرحون بظنهم حزن المسلمين ، فإنهم لما اختلقوا هذا الخبر ما أرادوا إلا أذى المسلمين ، وتجيء منه معجزات بنزول هذه الآيات بالإنباء بالغيب. قال في «الكشاف» : ... وفوائد دينية وآداب لا تخفى على متأملها ا ه.

وعدل عن أن يعطف (خَيْراً) على (شَرًّا) بحرف (بل) فيقال : بل خيرا لكم ، إيثارا للجملة الاسمية الدالة على الثبات والدوام.

والإثم : الذنب وتقدم عند قوله تعالى : (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) في سورة البقرة [٢١٩]

١٣٨

وعند قوله : (وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) في سورة الأنعام [١٢٠].

وتولي الأمر : مباشرة عمله والتهمم به.

والكبر بكسر الكاف في قراءة الجمهور ، ويجوز ضم الكاف. وقرأ به يعقوب وحده ، ومعناه : أشد الشيء ومعظمه ، فهما لغتان عند جمهور أئمة اللغة. وقال ابن جني والزجاج : المكسور بمعنى الإثم ، والمضموم : معظم الشيء. (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) هو عبد الله بن أبي بن سلول وهو منافق وليس من المسلمين.

وضمير (مِنْهُمْ) عائد إلى (الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ). وقيل : الذي تولى كبره حسان ابن ثابت لما وقع في «صحيح البخاري» : «عن مسروق قال : دخل حسان على عائشة فأنشد عندها أبياتا منها :

حصان رزان ما تزنّ بريبة

وتصبح غرثى من لحوم الغوافل

فقالت له عائشة : لكن أنت لست كذلك. قال مسروق فقلت : تدعين مثل هذا يدخل عليك وقد أنزل الله تعالى : (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) فقالت : أي عذاب أشد من العمى».

والوعيد بأن له عذابا عظيما يقتضي أنه عبد الله بن أبي بن سلول. وفيه إنباء بأنه يموت على الكفر فيعذب العذاب العظيم في الآخرة وهو عذاب الدرك الأسفل من النار ، وأما بقية العصبة فلهم من الإثم بمقدار ذنبهم. وفيه إيماء بأن الله يتوب عليهم إن تابوا كما هو الشأن في هذا الدين.

(لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢))

استئناف لتوبيخ عصبة الإفك من المؤمنين وتعنيفهم بعد أن سماه إفكا.

و (لَوْ لا) هنا حرف بمعنى (هلا) للتوبيخ كما هو شأنها إذا وليها الفعل الماضي وهو هنا (ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ). وأما (إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) فهو ظرف متعلق بفعل الظن فقدم عليه ومحل التوبيخ جملة : (ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) فأسند السماع إلى جميع المخاطبين وخص بالتوبيخ من سمعوا ولم يكذبوا الخبر.

وجرى الكلام على الإبهام في التوبيخ بطريقة التعبير بصيغة الجمع وإن كان المقصود

١٣٩

دون عدد الجمع فإن من لم يظن خيرا رجلان ، فعبر عنهما بالمؤمنين وامرأة فعبر عنها بالمؤمنات على حد قوله : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) [آل عمران :١٧٣].

وقوله : (بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) وقع في مقابلة (ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ) فيقتضي التوزيع ، أي ظن كل واحد منهم بالآخرين ممن رموا بالإفك خيرا إذ لا يظن المرء بنفسه.

وهذا كقوله تعالى : (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) [الحجرات : ١١] أي يلمز بعضكم بعضا ، وقوله : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) [النور : ٦١].

روي أن أبا أيوب الأنصاري لما بلغه خبر الإفك قال لزوجه : ألا ترين ما يقال؟ فقالت له : لو كنت بدل صفوان أكنت تظن بحرمة رسول الله سوءا؟ قال : لا. قالت : ولو كنت أنا بدل عائشة ما خنت رسول الله فعائشة خير مني وصفوان خير منك. قال : نعم.

وتقديم الظرف وهو (إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) على عامله وهو (قُلْتُمْ) [النور : ١٦] للاهتمام بمدلول ذلك الظرف تنبيها على أنهم كان من واجبهم أن يطرق ظن الخير قلوبهم بمجرد سماع الخير وأن يتبرءوا من الخوض فيه بفور سماعه.

والعدول عن ضمير الخطاب في إسناد فعل الظن إلى المؤمنين التفات ، فمقتضى الظاهر أن يقال : ظننتم بأنفسكم خيرا ، فعدل عن الخطاب للاهتمام بالتوبيخ فإن الالتفات ضرب من الاهتمام بالخبر ، وليصرّح بلفظ الإيمان ، دلالة على أن الاشتراك في الإيمان يقتضي أن لا يصدق مؤمن على أخيه وأخته في الدين ولا مؤمنة على أخيها وأختها في الدين قول عائب ولا طاعن. وفيه تنبيه على أن حق المؤمن إذا سمع قالة في مؤمن أن يبني الأمر فيها على الظن لا على الشك ثم ينظر في قرائن الأحوال وصلاحية المقام فإذا نسب سوء إلى من عرف بالخير ظن أن ذلك إفك وبهتان حتى يتضح البرهان. وفيه تعريض بأن ظن السوء الذي وقع هو من خصال النفاق التي سرت لبعض المؤمنين عن غرور وقلة بصارة فكفى بذلك تشنيعا له.

وهذا توبيخ على عدم إعمالهم النظر في تكذيب قول ينادي حاله ببهتانه وعلى سكوتهم عليه وعدم إنكاره.

وعطف (وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) تشريع لوجوب المبادرة بإنكار ما يسمعه المسلم من الطعن في المسلم بالقول كما ينكره بالظن وكذلك تغيير المنكر بالقلب واللسان.

١٤٠