تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٨

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٨

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٥٦

لبيد :

ألا كل شيء ما خلا الله باطل»

وكما في قولهم : كلمة الشهادة وكلمة الإسلام. وتقدم قوله تعالى (وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ) في سورة براءة [٧٤].

والوراء هنا مستعار للشيء الذي يصيب المرء لا محالة ويناله وهو لا يظنه يصيبه. شبه ذلك بالذي يريد اللحاق بالسائر فهو لاحقه ، وهذا كقوله تعالى (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) [البروج : ٢٠] وقوله و (مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) [الجاثية : ١٠] وقوله (مِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) [إبراهيم : ١٧]. وتقدم قوله : (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) [الكهف : ٧٩].

وقال لبيد :

أليس ورائي أن تراخت منيتي

لزوم العصا تحنى عليها الأصابع

والبرزخ : الحاجز بين مكانين. قيل : المراد به في هذه الآية القبر ، وقيل : هو بقاء مدة الدنيا ، وقيل : هو عالم بين الدنيا والآخرة تستقر فيه الأرواح فتكاشف على مقرها المستقبل ، وإلى هذا مال الصوفية. وقال السيد في «التعريفات» : البرزخ العالم المشهود بين عالم المعاني المجردة وعالم الأجسام المادية ، أعني الدنيا والآخرة ويعبر به عن عالم المثال ا ه ، أي عند الفلاسفة القدماء.

ومعنى (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أنهم غير راجعين إلى الحياة إلى يوم البعث. فهي إقناط لهم لأنهم يعلمون أن يوم البعث الذي وعدوه لا رجوع بعده إلى الدنيا فالذي قال لهم (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) هو الذي أعلمهم بما هو البعث.

[١٠١ ـ ١٠٤] (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤))

تفريع على قوله (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون : ١٠٠] فإن زمن النفخ في الصور هو يوم البعث فالتقدير : فإذا جاء يوم يبعثون ، ولكن عدل عن ذلك إلى (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ) تصوير لحالة يوم البعث.

١٠١

والصور : البوق الذي ينفخ فيه النافخ للتجمع والنفير ، وهو مما ينادى به للحرب وينادى به للصلاة عند اليهود كما جاء في حديث بدء الأذان من «صحيح البخاري». وتقدم ذكر الصور عند قوله تعالى : (وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) في سورة الأنعام [٧٣].

وأسند (نُفِخَ) إلى المجهول لأن المعتنى به هو حدوث النفخ لا تعيين النافخ. وإنما ينفخ فيه بأمر تكوين من الله تعالى ، أو ينفخ فيه أحد الملائكة وقد ورد أنه الملك إسرافيل.

والمقصود التفريع الثاني في قوله (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) إلى آخره لأنه مناط بيان الرد على قول قائلهم (رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) [المؤمنون : ٩٩ ، ١٠٠] المردود إجمالا بقوله تعالى (كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) [المؤمنون : ١٠٠] فقدم عليه ما هو كالتمهيد له وهو قوله (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ) إلى آخره مبادرة بتأييسهم من أن تنفعهم أنسابهم أو استنجادهم.

والأظهر أن جواب (إذا) هو قوله الآتي (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ) [المؤمنون : ١١٢] كما سيأتي وما بينهما كله اعتراض نشأ بعضه عن بعض.

وضمير (بَيْنَهُمْ) عائد إلى ما عادت عليه ضمائر جمع الغائبين قبله وهي عائدة إلى المشركين.

ومعنى نفي الأنساب نفي آثارها من النجدة والنصر والشفاعة لأن تلك في عرفهم من لوازم القرابة. فقوله (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ) كناية عن عدم النصير.

والتساؤل : سؤال بعضهم بعضا. والمعنيّ به التساؤل المناسب لحلول يوم الهول ، وهو أن يسأل بعضهم بعضا المعونة والنجدة ، كقوله تعالى (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) [المعارج : ١٠].

وأما إثبات التساؤل يومئذ في قوله تعالى (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) [الصافات : ٢٧ ـ ٣٣] فذلك بعد يأسهم من وجود نصير أو شفيع. وفي «البخاري» : أن رجلا (هو نافع بن الأزرق الخارجي) قال لابن عباس : إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي قال (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) وقال (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى

١٠٢

بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) [الصافات : ٢٧] فقال ابن عباس : أما قوله (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ) فهو في النفخة الأولى فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون ، ثم في النفخة الآخرة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون ا ه. يريد اختلاف الزمان وهو قريب مما قلناه.

وذكر من (ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) في هذه الآية إدماج للتنويه بالمؤمنين وتهديد المشركين لأن المشركين لا يجدون في موازين الأعمال الصالحة شيئا ، قال تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان : ٢٣]. وتقدم الكلام على نظير قوله (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) في أول سورة الأعراف [٨].

والخسارة : نقصان مال التجارة وتقدم في قوله تعالى : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) في سورة الأنعام [١٢] ، وقوله (فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) في أول الأعراف [٩]. وهي هنا تمثيل لحال خيبتهم فيما كانوا يأملونه من شفاعة أصنامهم وأن لهم النجاة في الآخرة أو من أنهم غير صائرين إلى البعث ، فكذبوا بما جاء به الإسلام وحسبوا أنهم قد أعدوا لأنفسهم الخير فوجدوا ضده فكانت نفوسهم مخسورة كأنها تلفت منهم. ولذلك نصب (أَنْفُسَهُمْ) على المفعول ب (خَسِرُوا). واسما الإشارة لزيادة تمييز الفريقين بصفاتهم.

وجملة (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ) في موضع الحال من (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ). ومعنى (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ) تحرق. واللفح : شدة إصابة النار.

والكالح : الذي به الكلوح وهو تقلص الشفتين وظهور الأسنان من أثر تقطب أعصاب الوجه عند شدة الألم.

[١٠٥ ـ ١٠٧] (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧))

جملة (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) مقول قول محذوف ، أي يقال لهم يومئذ. وهذا تعرض لبعض ما يجري يومئذ. والآيات : آيات القرآن بقرينة قوله (تُتْلى عَلَيْكُمْ) وقوله (فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) حملا على ظاهر اللفظ.

والتلاوة : القراءة. وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) في البقرة [١٠٢] ، وقوله : (إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) في سورة

١٠٣

الأنفال [٢]. والاستفهام إنكار.

والغلب حقيقته : الاستيلاء والقهر. وأطلق هنا على التلبس بالشقوة دون التلبس بالسعادة. ومفعول (غَلَبَتْ) محذوف يدل عليه (شِقْوَتُنا) لأن الشقوة تقابلها السعادة ، أي غلبت شقوتنا السعادة. والمجرور ب (على) بعد مادة الغلب هو الشيء المتغالب عليه كما في الحديث «قال النساء : غلبنا عليك الرجال». مثّلت حالة اختيارهم لأسباب الشقوة بدل أسباب السعادة بحالة غائرة بين السعادة والشقاوة على نفوسهم. وإضافة الشقوة إلى ضميرهم لاختصاصها بهم حين صارت غالبة عليهم.

والشّقوة بكسر الشين وسكون القاف في قراءة الجمهور. وهي زنة الهيئة من الشقاء. وقرأ حمزة والكسائي وخلف شقاوتنا بفتح الشين وبألف بعد القاف وهو مصدر على صيغة الفعالة مثل الجزالة والسذاجة. وزيادة قوله (قَوْماً) على أن الضلالة من شيمتهم وبها قوام قوميتهم كما تقدم عند قوله (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) في سورة البقرة [١٦٤] وعند قوله (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) في آخر سورة يونس [١٠١].

وهم ظنوا أنهم إن أخرجوا من النار رجعوا إلى الإيمان والعمل الصالح فالتزموا لله بأنهم لا يعودون إلى الكفر والتكذيب.

وحذف متعلق (عُدْنا) لظهوره من المقام إذ كان إلقاؤهم في النار لأجل الإشراك والتكذيب كما دل عليه قولهم (وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ).

والظلم في (فَإِنَّا ظالِمُونَ) هو تجاوز العدل ، والمراد ظلم آخر بعد ظلمهم الأول وهو الذي ينقطع عنده سؤال العفو.

[١٠٨ ـ ١١١] (قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١))

(اخْسَؤُا) زجر وشتم بأنهم خاسئون ، ومعناه عدم استجابة طلبهم. وفعل خسأ من باب منع ومعناه ذل. ونهوا عن خطاب الله والمقصود تأييسهم من النجاة مما هم فيه.

وجملة (إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي) إلى آخرها استئناف قصد منه إغاظتهم بمقابلة حالهم يوم العذاب بحال الذين أنعم الله عليهم ، وتحسيرهم على ما كانوا يعاملون به

١٠٤

المسلمين.

والإخبار في قوله : (إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي) إلى قوله : (سِخْرِيًّا) مستعمل في كون المتكلم عالما بمضمون الخبر بقرينة أن المخاطب يعلم أحوال نفسه. وتأكيد الخبر ب (إن) وضمير الشأن للتعجيل بإرهابهم.

وجملة (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ) خبر (إن) الأولى لزيادة التأكيد. وتقدم نظيره في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) في سورة الكهف [٣٠].

والسخري بضم السين في قراءة نافع والكسائي وأبي جعفر وخلف ، وبكسر السين في قراءة الباقين ، وهما وجهان ومعناهما واحد عند المحققين من أئمة اللغة لا فرق بينهما خلافا لأبي عبيدة والكسائي والفراء الذين جعلوا المكسور مأخوذا من سخر بمعنى هزأ ، والمضموم مأخوذا من السخرة بضم السين وهي الاستخدام بلا أجر. فلما قصد منه المبالغة في حصول المصدر أدخلت ياء النسبة كما يقال : الخصوصية لمصدر الخصوص.

وسلط الاتخاذ على المصدر للمبالغة كما يوصف بالمصدر. والمعنى : اتخذتموهم مسخورا بهم ، فنصب (سِخْرِيًّا) على أنه مفعول ثان ل (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ).

و (حَتَّى) ابتدائية ومعنى (حتى) الابتدائية معنى فاء السببية فهي استعارة تبعية. شبه التسبب القوي بالغاية فاستعملت فيه (حتى). والمعنى : أنكم لهوتم عن التأمل فيما جاء به القرآن من الذكر ، لأنهم سخروا منهم لأجل أنهم مسلمون فقد سخروا من الدين الذي كان اتباعهم إياه سبب السخرية بهم فكيف يرجى من هؤلاء التذكر بذلك الذكر وهو من دواعي السخرية بأهله. وتقدم الكلام على فعل (سخر) عند قوله : (فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ) في سورة الأنعام [١٠] وقوله : (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ) في سورة براءة [٧٩].

فإسناد الإنساء إلى الفريق مجاز عقلي لأنهم سببه ، أو هو مجاز بالحذف بتقدير : حتى أنساكم السخري بهم ذكري. والقرينة على الأول معنوية وعلى الثاني لفظية.

وقوله : (أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ) قرأه الجمهور بفتح همزة (أن) على معنى المصدرية والتأكيد ، أي جزيتهم بأنهم. وقرأه حمزة والكسائي بكسر همزة (إن) على التأكيد فقط فتكون استئنافا بيانيا للجزاء.

وضمير الفصل للاختصاص ، أي هم الفائزون لا أنتم.

١٠٥

وقوله : (بِما صَبَرُوا) إدماج للتنويه بالصبر ، والتنبيه على أن سخريتهم بهم كانت سببا في صبرهم الذي أكسبهم الجزاء. وفي ذلك زيادة تلهيف للمخاطبين بأن كانوا هم السبب في ضر أنفسهم ونفع من كانوا يعدّونهم أعداءهم.

[١١٢ ـ ١١٤] (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤))

قرأ الجمهور : (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ) بصيغة الماضي فيتعين أن هذا القول يقع عند النفخ في الصور وحياة الأموات من الأرض ، فالأظهر أن يكون هو جواب (إذا) في قوله فيما سبق (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ) [المؤمنون : ١٠١]. والتقدير : قال الله لهم إذا نفخ في الصور. كم لبثتم في الأرض عدد سنين. وما بينهما اعتراضات نشأت بالتفريع والعطف والحال والمقاولات العارضة في خلال ذلك كما علمته مما تقدم في تفسير تلك الآي. وليس من المناسب أن يكون هذا القول حاصلا بعد دخول الكافرين النار ، والمفسرون الذين حملوه على ذلك تكلفوا ما لا يناسب انتظام المعاني.

وقرأه ابن كثير وحمزة والكسائي قل بصيغة الأمر. والخطاب للملك الموكل بإحياء الأموات.

وجملة : (فَسْئَلِ الْعادِّينَ) تفريع على جملة : (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) لما تضمنته من ترددهم في تقدير مدة لبثهم في الأرض. وأرى في تفسير ذلك أنهم جاءوا في كلامهم بما كان معتادهم في حياتهم في الدنيا من عدم ضبط حساب السنين إذ كان علم موافقة السنين القمرية للسنين الشمسية تقوم به بنو كنانة الذين بيدهم النسيء ويلقبون بالنسأة ، قال الكناني :

ونحن الناسئون على معدّ

شهور الحل نجعلها حراما

والمفسرون جعلوا المراد من العادّين الملائكة أو الناس الذين يتذكرون حساب مدة المكث. ولكن القرطبي قال : أي سل الحسّاب الذين يعرفون ذلك فإنا نسيناه.

وقوله : (قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) قرأه الجمهور كما قرءوا الذي قبله فهو حكاية للمحاورة فلذلك لم يعطف فعل (قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) وهي طريقة حكاية المحاورات كما في قوله تعالى : (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) في سورة البقرة [٣٠]. وقرأه ابن كثير وحمزة والكسائي بصيغة الأمر كالذي قبله.

١٠٦

والاستفهام عن عدد سنوات المكث في الأرض مستعمل في التنبيه ليظهر لهم خطؤهم إذ كانوا يزعمون أنهم إذا دفنوا في الأرض لا يخرجون منها.

وانتصب (عَدَدَ سِنِينَ) على التمييز ل (كَمْ) الاستفهامية والتمييز إنما هو (سِنِينَ). وإضافة لفظ (عَدَدَ) إليه تأكيد لمضمون (كم) لأن (كم) اسم استفهام عن العدد فذكر لفظ (عَدَدَ) معها تأكيد لبعض مدلولها.

وجوابهم يقتضي أنهم تحققوا أنهم كانوا في الأرض وأنهم لم يتذكروا طول مدة مكثهم على تفاوت فيها. والظاهر أن المراد بقولهم (يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) أنهم قدروا مدة مكثهم في باطن الأرض بنحو يوم من الأيام المعهودة لديهم في الدنيا كما دل عليه قوله تعالى في سورة الروم [٥٥](وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ).

ولم يعرج المفسرون على تبيين المقصد من سؤالهم وإجابتهم عنه وتعقيبه بما يقرره في الظاهر. والذي لاح لي في ذلك أن إيقافهم على ضلال اعتقادهم الماضي جيء به في قالب السؤال عن مدة مكثهم في الأرض كناية عن ثبوت خروجهم من الأرض أحياء وهو ما كانوا ينكرونه ، وكناية عن خطأ استدلالهم على إبطال البعث باستحالة رجوع الحياة إلى عظام ورفات. وهي حالة لا تقتضي مدة قرن واحد فكيف وقد أعيدت إليهم الحياة بعد أن بقوا قرونا كثيرة ، فذلك أدل وأظهر في سعة القدرة الإلهية وأدخل في إبطال شبهتهم إذ قد تبين بطلانها فيما هو أكثر مما قدروه من علة استحالة عود الحياة إليهم.

وقد دل على هذا قوله في آخر الآية (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون : ١١٥] وقد ألجأهم الله إلى إظهار اعتقادهم قصر المدة التي بقوها زيادة في تشويه خطئهم فإنهم لمّا أحسوا من أنفسهم أنهم صاروا أحياء كحياتهم الأولى وعاد لهم تفكيرهم القديم الذي ماتوا عليه ، وكانوا يتوهمون أنهم إذا فنيت أجسادهم لا تعود إليهم الحياة أوهمهم كمال أجسادهم أنهم ما مكثوا في الأرض إلا زمنا يسيرا لا يتغير في مثله الهيكل الجثماني فبنوا على أصل شبهتهم الخاطئة خطأ آخر.

وأما قولهم : (فَسْئَلِ الْعادِّينَ) فهو اعتراف بأنهم لم يضبطوا مدة مكثهم فأحالوا السائل على من يضبط ذلك من الذين يظنونهم لم يزالوا أحياء لأنهم حسبوا أنهم بعثوا والدنيا باقية وحسبوا أن السؤال على ظاهره فتبرءوا من عهدة عدم ضبط الجواب.

وأما رد الله عليهم بقوله : (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) فهو يؤذن بكلام محذوف على طريقة

١٠٧

دلالة الاقتضاء ، لأنهم قد لبثوا أكثر من يوم أو بعض يوم بكثير فكيف يجعل قليلا ، فتعين أن قوله : (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) لا يستقيم أن يكون جوابا لكلامهم إلا بتقدير : قال بل لبثتم قرونا ، كما في قوله في الذي مر على قرية (فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ) [البقرة : ٢٥٩]. ولذلك تعين أن يكون التقدير : قال بل لبثتم قرونا ، وإن لبثتم إلا قليلا فيما عند الله (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [الحج : ٤٧].

وقرينة ذلك ما تفيده (لو) من الامتناع في قوله : (لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي لو كنتم تعلمون لعلمتم أنكم ما لبثتم إلا قليلا ، فيقتضي الامتناع أنهم ما علموا أنهم لبثوا قليلا مع أن صريح جوابهم يقتضي أنهم علموا لبثا قليلا ، فالجمع بين تعارض مقتضى جوابهم ومقتضى الرد عليهم إنما يكون باختلاف النسبة في قلة مدة المكث إذا نسبت إلى ما يراعى فيها ، فهي إذا نسبت إلى شبهتهم في إحالة البعث كانت طويلة وقد وقع البعث بعدها فهذا خطأ منهم ، وهي إذا نسبت إلى ما يترقبهم من مدة العذاب كانت مدة قليلة وهذا إرهاب لهم.

(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥))

هذا من تمام القول المحكي في (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ) [المؤمنون : ١١٢] مفرع على ما قبله. فرع الاستفهام عن حسبانهم أن الخلق لأجل العبث على إظهار بطلان ما زعموه من إنكار البعث. والاستفهام تقرير وتوبيخ لأن لازم إنكارهم البعث أن يكون خلق الناس مشتملا على عبث فنزلوا منزلة من حسب ذلك فقرروا ووبخوا أخذا لهم بلازم اعتقادهم.

وأدخلت أداة الحصر بعد (حسب) فجعلت الفعل غير ناصب إلا مفعولا واحدا وهو المصدر المستخلص من (أَنَّما خَلَقْناكُمْ) والتقدير : أفحسبتم خلقنا إياكم لأجل العبث ، وذلك أن أفعال الظن والعلم نصبت مفعولين غالبا لأن أصل مفعوليها مبتدأ وخبر ، أي اسم ذات واسم صفة فاحتياجها إلى المفعول الثاني من باب احتياج المبتدأ إلى الخبر لئلا تنعدم الفائدة في المبتدأ مجردا عن خبره ، وبذلك فارقت بقية الأفعال المتعدية باحتياجها إلى منصوبين لأن معناها لا يتعلق بالذوات ؛ فقولك : ظننت زيدا قائما ، إنما هو في الحقيقة : ظننت قيام زيد ، فمفعولها هو المصدر وحقه أن يكون خبرا مضافا إلى ضمير

١٠٨

مبتدئه كما قال الرضي : يعني أن العرب استعملوها بمفعولين كراهية لجعل المصدر مفعولا به كأنهم تجنبوا اللبس بين المفعول به والمفعول المطلق ، وهذا كما استعملوا أفعال الكون مسندة إلى اسم الذوات ثم أتوا بعد اسم الذات باسم وصفها ولم يأتوا باسم الوصف من أول وهلة ولذلك إذا أوقعوا بعدها حرف المصدر اكتفوا به عن المفعولين ، ولم يسمع عنهم أنهم نصبوا بها مصدرا صريحا. فإذا وقع مفعول أفعال الظن اسم معنى وهو المصدر الصريح أو المنسبك وحذف الفائدة فاجتزأت بالمصدر كقوله تعالى : (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) [الحاقة : ٢٠].

وحيث كانت (أنما) مركبة من (أن) المفتوحة الهمزة ومن (ما) الكافة فوقوعها بعد فعل الحساب بمنزلة وقوع المصدر ، ولو لا (أن) لكان الكلام : أحسبتمونا خالقينكم عبثا.

وانتصب (عَبَثاً) على الحال من ضمير الجلالة مؤولا باسم الفاعل. والعبث : العمل الذي لا فائدة فيه. وكلما تضاءلت الفائدة كان لها حكم العدم فلو لم يكن خلق البشر في هذه الحياة مرتبا عليه مجازاة الفاعلين على أفعالهم لكان خالقه قد أتى في فعله بشيء عديم الفائدة فكان فيه حظ من العبث.

وبيان كونه عبثا أنه لو خلق الخلق فأحسن المحسن وأساء المسيء ولم يلق كل جزاءه لكان ذلك إضاعة لحق المحسن وإغضاء عما حصل من فساد المسيء فكان ذلك تسليطا للعبث. وليس معنى الحال أن يكون عاملها غير مفارق لمدلولها بل يكفي حصول معناها في بعض أكوان عاملها.

وأما قوله : (وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) فهم قد حسبوا ذلك حقيقة بلا تنزيل وهذا من تمام الإنكار.

وقرأ الجمهور : (تُرْجَعُونَ) بضم التاء وفتح الجيم ، أي أن الله يرجعهم قهرا. وقرأه حمزة والكسائي وخلف بفتح التاء وكسر الجيم ، أي يرجعون طوعا أو كرها.

(فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦))

تفرع على ما تقدم بيانه من دلائل الوحدانية والقدرة والحكمة ظهور أن الله هو الملك الذي ليس في اتصافه بالملك شائبة من معنى الملك. فملكه الملك الكامل في حقيقته. الشامل في نفاذه.

١٠٩

والتعريف في (الْمَلِكُ) للجنس.

والحق : ما قابل الباطل ، ومفهوم الصفة يقتضي أن ملك غيره باطل ، أي فيه شائبة الباطل لا من جهة الجور والظلم لأنه قد يوجد ملك لا جور فيه ولا ظلم كملك الأنبياء والخلفاء الراشدين وأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الخلفاء والأمراء ، بل من جهة أنه ملك غير مستكمل حقيقة المالكية فإن كل من ينسب إليه الملك عدا الله تعالى هو مالك من جهة ومملوك من جهة لما فيه من نقص واحتياج ؛ فهو مملوك لما يتطلبه من تسديد نقصه بقدر الحاجة ومن استعانة بالغير لجبر احتياجه فذلك ملك باطل لأنه ادعاء ملك غير تام.

وجملة : (فَتَعالَى) يجوز أن تكون خبرا قصد منه التذكير والاستنتاج مما تقدم من الدلائل المبينة لمعنى تعاليه وأن تكون إنشاء ثناء عليه بالعلو.

والتعالي : مبالغة في العلو. وأتبع ذلك بما هو دليل عليه وهو انفراده بالإلهية وذلك وصف ذاتي ، وبأنه مالك أعظم المخلوقات أعني العرش وذلك دليل عظمة القدرة.

و (الْكَرِيمِ) بالجر صفة العرش. وكرم الجنس أن يكون مستوفيا فضائل جنسه كما في قوله تعالى : (إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) في سورة النمل [٢٩].

(وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧))

لما كان أعظم ما دعا الله إليه توحيده وكان أصل ضلال المشركين إشراكهم أعقب وصف الله بالعلو العظيم والقدرة الواسعة ببيان أن الحساب الواقع بعد البعث ينال الذين دعوا مع الله آلهة دعوى لا عذر لهم فيها لأنها عرية عن البرهان أي الدليل ، لأنهم لم يثبتوا لله الملك الكامل إذ أشركوا معه آلهة ولم يثبتوا ما يقتضي له عظيم التصرف إذ أشركوا معه تصرف آلهة. فقوله : (لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) حال من (مَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) ، وهي حال لازمة لأن دعوى الإله مع الله لا تكون إلا عرية عن البرهان ونظير هذا الحال قوله تعالى : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ) [القصص : ٥٠].

والقصر في قوله : (فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) قصر حقيقي. وفيه إثبات الحساب وأنه لله وحده مبالغة في تخطئتهم وتهديدهم.

ويجوز أن يكون القصر إضافيا تطمينا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن الله لا يؤاخذه باستمرارهم على

١١٠

الكفر كقوله (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) [الشورى : ٤٨] وقوله : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٣] وهذا أسعد بقوله بعده (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ) [المؤمنون : ١١٨].

ويدل على ذلك تذييله بجملة (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ). وفيه ضرب من رد العجز على الصدر إذ افتتحت السورة ب (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) [المؤمنون : ١] وختمت ب (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) وهو نفي الفلاح عن الكافرين ضد المؤمنين.

(وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١١٨))

عطف على جملة : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) [المؤمنون : ١١٧] إلخ باعتبار قوله : (فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ). فإن المقصود من الجملة خطاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يدعو ربه بالمغفرة والرحمة. وفي حذف متعلق (اغْفِرْ وَارْحَمْ) تفويض الأمر إلى الله في تعيين المغفور لهم والمرحومين ، والمراد من كانوا من المؤمنين ويجوز أن يكون المعنى اغفر لي وارحمني ، بقرينة المقام.

وأمره بأن يدعو بذلك يتضمن وعدا بالإجابة.

وهذا الكلام مؤذن بانتهاء السورة فهو من براعة المقطع.

١١١

بسم الله الرّحمن الرّحيم

٢٤ ـ سورة النور

سميت هذه السورة «سورة النور» من عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. روي عن مجاهد ، قال رسول الله : «علموا نساءكم سورة النور» ولم أقف على إسناده. وعن حارثة بن مضر : «كتب إلينا عمر بن الخطاب أن تعلموا سورة النساء والأحزاب والنور». وهذه تسميتها في المصاحف وكتب التفسير والسنة ، ولا يعرف لها اسم آخر. ووجه التسمية أن فيها آية (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [النور : ٣٥].

وهي مدنية باتفاق أهل العلم ولا يعرف مخالف في ذلك. وقد وقع في نسخ «تفسير القرطبي» عند قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) [النور : ٥٨] الآية في المسألة الرابعة كلمة «وهي مكية» يعني الآية. فنسب الخفاجي في «حاشيته» على «تفسير البيضاوي» وتبعه الآلوسي ، إلى القرطبي أن تلك الآية مكية مع أن سبب نزولها الذي ذكره القرطبي صريح في أنها نزلت بالمدينة كيف وقد قال القرطبي في أول هذه السورة «مدنية بالإجماع». ولعل تحريفا طرأ على النسخ من تفسير القرطبي وأن صواب الكلمة «وهي محكمة» أي غير منسوخ حكمها فقد وقعت هذه العبارة في تفسير ابن عطية ، قال «وهي محكمة قال ابن عباس : تركها الناس». وسيأتي أن سبب نزول قوله تعالى : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) [النور : ٣] الآية قضية مرثد بن أبي مرثد مع عناق. ومرثد بن أبي مرثد استشهد في صفر سنة ثلاث للهجرة في غزوة الرجيع ، فيكون أوائل هذه السورة نزل قبل سنة ثلاث ، والأقرب أن يكون في أواخر السنة الأولى أو أوائل السنة الثانية أيام كان المسلمون يتلاحقون للهجرة وكان المشركون جعلوهم كالأسرى.

ومن آياتها آيات قصة الإفك وهي نازلة عقب غزوة بني المصطلق من خزاعة. والأصح أن غزوة بني المصطلق كانت سنة أربع فإنها قبل غزوة الخندق.

١١٢

ومن آياتها (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) [النور : ٦] الآية نزلت في شعبان سنة تسع بعد غزوة تبوك فتكون تلك الآيات مما نزل بعد نزول أوائل هذه السورة وهذا يقتضي أن هذه السورة نزلت منجمة متفرقة في مدة طويلة وألحق بعض آياتها ببعض.

وقد عدت هذه السورة المائة في ترتيب نزول سور القرآن عند جابر بن زيد عن ابن عباس. قال : نزلت بعد سورة (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ) وقبل سورة الحج ، أي عند القائلين بأن سورة الحج مدنية.

وآيها اثنتان وستون في عد المدينة ومكة ، وأربع وستون في عد البقية.

أغراض هذه السورة

شملت من الأغراض كثيرا من أحكام معاشرة الرجال للنساء. ومن آداب الخلطة والزيارة.

ـ وأول ما نزلت بسببه قضية التزوج بامرأة اشتهرت بالزنى وصدر ذلك ببيان حد الزنى.

ـ وعقاب الذين يقذفون المحصنات.

ـ وحكم اللعان.

ـ والتعرض إلى براءة عائشة رضي‌الله‌عنها مما أرجفه عليها أهل النفاق ، وعقابهم ، والذين شاركوهم في التحدث به.

ـ والزجر عن حب إشاعة الفواحش بين المؤمنين والمؤمنات.

ـ والأمر بالصفح عن الأذى مع الإشارة إلى قضية مسطح بن أثاثة.

ـ وأحكام الاستئذان في الدخول إلى بيوت الناس المسكونة ، ودخول البيوت غير المسكونة.

ـ وآداب المسلمين والمسلمات في المخالطة.

ـ وإفشاء السلام.

ـ والتحريض على تزويج العبيد والإماء.

١١٣

ـ والتحريض على مكاتبتهم ، أي إعتاقهم على عوض يدفعونه لمالكيهم.

ـ وتحريم البغاء الذي كان شائعا في الجاهلية.

ـ والأمر بالعفاف.

ـ وذم أحوال أهل النفاق والإشارة إلى سوء طويتهم مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ـ والتحذير من الوقوع في حبائل الشيطان.

ـ وضرب المثل لهدي الإيمان وضلال الكفر.

ـ والتنويه ببيوت العبادة والقائمين فيها.

ـ وتخلل ذلك وصف عظمة الله تعالى وبدائع مصنوعاته وما فيها من منن على الناس.

ـ وقد أردف ذلك بوصف ما أعد الله للمؤمنين ، وأن الله علم بما يضمره كل أحد وأن المرجع إليه والجزاء بيده.

(سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١))

يجوز أن يكون (سُورَةٌ) خبرا عن مبتدأ مقدر دل عليه ابتداء السورة ، فيقدر : هذه سورة. واسم الإشارة المقدر يشير إلى حاضر في السمع وهو الكلام المتتالي ، فكل ما ينزل من هذه السورة وألحق بها من الآيات فهو من المشار إليه باسم الإشارة المقدر. وهذه الإشارة مستعملة في الكلام كثيرا.

ويجوز أن تكون (سُورَةٌ) مبتدأ ويكون قوله : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) [النور : ٢] إلى آخر السورة خبرا عن (سُورَةٌ) ويكون الابتداء بكلمة (سُورَةٌ) ثم أجري عليه من الصفات تشويقا إلى ما يأتي بعده مثل قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم».

وأحسن وجوه التقدير ما كان منساقا إليه ذهن السامع دون كلفة ، فدع عنك التقادير الأخرى التي جوزوها هنا.

ومعنى (سُورَةٌ) جزء من القرآن معين بمبدإ ونهاية وعدد آيات. وتقدم بيانه في المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير.

١١٤

وجملة : (أَنْزَلْناها) وما عطف عليها في موضع الصفة ل (سُورَةٌ). والمقصود من تلك الأوصاف التنويه بهذه السورة ليقبل المسلمون بشراشرهم على تلقي ما فيها. وفي ذلك امتنان على الأمة بتحديد أحكام سيرتها في أحوالها.

ففي قوله : (أَنْزَلْناها) تنويه بالسورة بما يدل عليه «أنزلنا» من الإسناد إلى ضمير الجلالة الدال على العناية بها وتشريفها. وعبر ب «أنزلنا» عن ابتداء إنزال آياتها بعد أن قدرها الله بعلمه بكلامه النفسي. فالمقصود من إسناد إنزالها إلى الله تعالى تنويه بها. وعبر عن إنزالها بصيغة المضي وإنما هو واقع في الحال باعتبار إرادة إنزالها ، فكأنه قيل : أردنا إنزالها وإبلاغها ، فجعل ذلك الاعتناء كالماضي حرصا عليه. وهذا من استعمال الفعل في معنى إرادة وقوعه كقوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) [المائدة : ٦] الآية.

والقرينة قوله : (وَفَرَضْناها) ومعنى (فَرَضْناها) عند المفسرين : أوجبنا العمل بما فيها. وإنما يليق هذا التفسير بالنظر إلى معظم هذه السورة لا إلى جميعها فإن منها ما لا يتعلق به عمل كقوله : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [النور : ٣٥] الآيات وقوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ) [النور : ٣٩].

فالذي أختاره أن يكون الفرض هنا بمعنى التعيين والتقدير كقوله تعالى : (نَصِيباً مَفْرُوضاً) [النساء : ٧] وقوله : (ما كانَ عَلَى) النبي (مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ) [الأحزاب : ٣٨]. وتعدية فعل «فرضنا» إلى ضمير السورة من قبيل ما يعبر عنه في مسائل أصول الفقه من إضافة الأحكام إلى الأعيان بإرادة أحوالها ، مثل (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة : ٣] ، أي أكلها. فالمعنى : وفرضنا آياتها. وسنذكر قريبا ما يزيد هذا بيانا عند قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ) [النور : ٣٤] وكيف قوبلت الصفات الثلاث المذكورة هنا بالصفات الثلاث المذكورة هنالك.

وقرأ الجمهور : (وَفَرَضْناها) بتخفيف الراء بصيغة الفعل المجرد. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو (وَفَرَضْناها) بتشديد الراء للمبالغة مثل نزّل المشدّد. ونقل في حواشي «الكشاف» عن الزمخشري قوله :

كأنه عامل في دين سؤدده

بسورة أنزلت فيه وفرّضت

وهذان الحكمان وهما الإنزال والفرض ثبتا لجميع السورة.

وأما قوله : (أَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ) فهو تنويه آخر بهذه السورة تنويه بكل آية

١١٥

اشتملت عليها السورة : من الهدى إلى التوحيد ، وحقية الإسلام ، ومن حجج وتمثيل ، وما في دلائل صنع الله على سعة قدرته وعلمه وحكمته ، وهي ما أشار إليه قوله : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) [النور : ٣٤] وقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً) إلى قوله : (صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [النور : ٤٣ ـ ٤٦].

ومن الآيات البينات التي أنزلت فيها اطلاع الله رسوله على دخائل المنافقين مما كتموه في نفوسهم من قوله : (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) إلى قوله : (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) [النور : ٤٨ ـ ٥٣] فحصل التنويه بمجموع السورة ابتداء والتنويه بكل جزء منها ثانيا.

فالآيات جمع آية وهي قطعة من الكلام القرآني دالة على معنى مستقل وتقدم بيانها في المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير.

فالمراد من الآيات المنزلة في هذه السورة جميع ما اشتملت عليه من الآيات لا آيات مخصوصة من بينها. والمقصود التنويه بآياتها بإجراء وصف (بَيِّناتٍ) عليها.

وإذا كانت الآيات التي اشتملت السورة على جميعها هي عين السورة لا بعضا منها إذ ليس ثم شيء غير تلك الآيات حاو لتلك الآيات حقيقة ولا مشبه بما يحوي ، فكان حرف (في) الموضوع للظرفية مستعملا في غير ما وضع له لا حقيقة ولا استعارة مصرحة.

فتعين أن كلمة (فِيها) تؤذن باستعارة مكنية بتشبيه آيات هذه السورة بأعلاق نفسية تكتنز ويحرص على حفظها من الإضاعة والتلاشي كأنها مما يجعل في خزانة ونحوها. ورمز إلى المشبه به بشيء من روادفه وهو حرف الظرفية فيكون حرف (في) تخييلا مجردا وليس باستعارة تخيلية إذ ليس ثم ما يشبه بالخزانة ونحوها ، فوزان هذا التخييل وزان أظفار المنية في قول أبي ذؤيب الهذلي :

وإذا المنية أنشبت أظفارها

ألفيت كل تميمة لا تنفع

وهذه الظرفية شبيهة بالإضافة البيانية مثل قوله تعالى : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) [المائدة : ١] وقوله : (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ) [القمر : ٤٣] فإن الكفار هم عين ضمير الجماعة المخاطبين وهم المشركون.

فقوله : (وَأَنْزَلْنا فِيها) هو : بمعنى وأنزلناها آيات بينات. ووصف (آياتٍ) ب (بَيِّناتٍ) أي واضحات ، مجاز عقلي لأن البيّن هو معانيها ، وأعيد فعل الإنزال مع إغناء

١١٦

حرف العطف عنه لإظهار مزيد العناية بها.

والوجه أن جملة (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) مرتبطة بجملة : (أَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ) لأن الآيات بهذا المعنى مظنة التذكر ، أي دلائل مظنة لحصول تذكركم. فحصل بهذا الرجاء وصف آخر للسورة هو أنها مبعث تذكر وعظة. والتذكر : خطور ما كان منسيا بالذهن وهو هنا مستعار لاكتساب العلم من أدلته اليقينية بجعله كالعلم الحاصل من قبل فنسيه الذهن ، أي العلم الذي شأنه أن يكون معلوما ، فشبه جهله بالنسيان وشبه علمه بالتذكر.

وقرأ الجمهور : (تَذَكَّرُونَ) بتشديد الذال وأصله تتذكرون فأدغم. وقرأه حمزة والكسائي وحفص وخلف تذكرون بتخفيف الذال فحذفت إحدى التاءين اختصارا.

(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢))

(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ).

ابتداء كلام وهو كالعنوان والترجمة في التبويب فلذلك أتي بعده بالفاء المؤذنة بأن ما بعدها في قوة الجواب وأن ما قبلها في قوة الشرط. فالتقدير : الزانية والزاني مما أنزلت له هذه السورة وفرضت. ولما كان هذا يستدعي استشراف السامع كان الكلام في قوة : إن أردتم حكمهما فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة. وهكذا شأن هذه الفاء كلما جاءت بعد ما هو في صورة المبتدأ فإنما يكون ذلك المبتدأ في معنى ما للسامع رغبة في استعلام حاله كقول الشاعر ، وهو من شواهد «كتاب سيبويه» التي لم يعرف قائلها :

وقائلة : خولان فانكح فتاتهم

وأكرومة الحيين خلو كما هيا

التقدير : هذه خولان ، أو خولان مما يرغب في صهرها فانكح فتاتهم إن رغبت. ومن صرفوا ذهنهم عن هذه الدقائق في الاستعمال قالوا الفاء زائدة في الخبر. وتقدم زيادة الفاء في قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) في سورة العقود [٣٨].

وصيغتا (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) صيغة اسم فاعل وهو هنا مستعمل في أصل معناه وهو اتصاف صاحبه بمعنى مادته فلذلك يعتبر بمنزلة الفعل المضارع في الدلالة على الاتصاف بالحدث في زمن الحال ، فكأنه قيل : التي تزني والذي يزني فاجلدوا كل واحد منهما إلخ. ويؤيد ذلك الأمر بجلد كل واحد منهما فإن الجلد يترتب على التلبس بسببه.

١١٧

ثم يجوز أن تكون قصة مرثد بن أبي مرثد النازل فيها قوله تعالى : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) [النور : ٣] إلخ هي سبب نزول أول هذه السورة. فتكون آية (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) هي المقصد الأول من هذه السورة ويكون قوله : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) تمهيدا ومقدمة لقوله : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) [النور : ٣] فإن تشنيع حال البغايا جدير بأن يقدم قبله ما هو أجدر بالتشريع وهو عقوبة فاعل الزنى. ذلك أن مرثد ما بعثه على الرغبة في تزوج عناق إلا ما عرضته عليه من أن يزني معها.

وقدم ذكر (الزَّانِيَةُ) على (الزَّانِي) للاهتمام بالحكم لأن المرأة هي الباعث على زنى الرجل وبمساعفتها الرجل يحصل الزنى ولو منعت المرأة نفسها ما وجد الرجل إلى الزنى تمكينا ، فتقديم المرأة في الذكر لأنه أشد في تحذيرها. وقوله : (كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما) للدلالة على أنه ليس أحدهما بأولى بالعقوبة من الآخر.

وتعريف (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) تعريف الجنس وهو يفيد الاستغراق غالبا ومقام التشريع يقتضيه ، وشأن (أل) الجنسية إذا دخلت على اسم الفاعل أن تبعّد الوصف عن مشابهة الفعل فلذلك لا يكون اسم الفاعل معها حقيقة في الحال ولا في غيره وإنما هو تحقق الوصف في صاحبه. وبهذا العموم شمل الإماء والعبيد ، ف (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) من اتصفت بالزنى واتصف بالزنى.

والزنى : اسم مصدر زنى ، وهو جماع بين الرجل والمرأة اللذين لا يحل أحدهما للآخر ، يقال : زنى الرجل وزنت المرأة ، ويقال : زانى بصيغة المفاعلة لأن الفعل حاصل من فاعلين ولذلك جاء مصدره الزناء بالمدّ أيضا بوزن الفعال ويخفف همزه فيصير اسما مقصورا. وأكثر ما كان في الجاهلية أن يكون بداعي المحبة والموافقة بين الرجل والمرأة دون عوض ، فإن كان بعوض فهو البغاء يكون في الحرائر ويغلب في الإماء وكانوا يجهرون به فكانت البغايا يجعلن رايات على بيوتهن مثل راية البيطار ليعرفن بذلك وكل ذلك يشمله اسم الزنى في اصطلاح القرآن وفي الحكم الشرعي. وتقدم ذكر الزنى في قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) في سورة الإسراء [٣٢].

والجلد : الضرب بسير من جلد. مشتق من الجلد بكسر الجيم لأنه ضرب الجلد. أي البشرة. كما اشتق الجبه ، والبطن ، والرأس في قولهم جبهه إذا ضرب جبهته ، وبطنه إذا ضرب بطنه ، ورأسه إذا ضرب رأسه. قال في «الكشاف» : وفي لفظ الجلد إشارة إلى

١١٨

أنه لا ينبغي أن يتجاوز الألم إلى اللحم ا ه. أي لا يكون الضرب يطير الجلد حتى يظهر اللحم ، فاختيار هذا اللفظ دون الضرب مقصود به الإشارة إلى هذا المعنى على طريقة الإدماج.

واتفق فقهاء الأمصار على : أن ضرب الجلد بالسوط. أي بسير من جلد. والسوط : هو ما يضرب به الراكب الفرس وهو جلد مضفور ، وأن يكون السوط متوسط اللين ، وأن يكون رفع يد الضارب متوسطا. ومحل الجلد هو الظهر عند مالك. وقال الشافعي : تضرب سائر الأعضاء ما عدا الوجه والفرج. وأجمعوا على ترك الضرب على المقاتل ، ومنها الرأس في الحد. روى الطبري أن عبد الله بن عمر حد جارية أحدثت فقال للجالد : اجلد رجليها وأسفلها ، فقال له ابنه عبد الله : فأين قول الله تعالى : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) فقال فاقتها. وقوله : (كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما) تأكيد للعموم المستفاد من التعريف فلم يكتف بأن يقال : فاجلدوهما ، كما قال : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) [المائدة : ٣٨] وتذكير كل واحد تغليب للمذكر مثل (وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) [التحريم : ١٢].

والخطاب بالأمر بالجلد موجه إلى المسلمين فيقوم به من يتولى أمور المسلمين من الأمراء والقضاة ولا يتولاه الأولياء ، وقال مالك والشافعي وأحمد : يقيم السيد على عبده وأمته حد الزنى ، وقال أبو حنيفة لا يقيمه إلا الإمام. وقال مالك : لا يقيم السيد حد الزنى على أمته إذا كانت ذات زوج حر أو عبد ولا يقيم الحد عليها إلا ولي الأمر.

وكان أهل الجاهلية لا يعاقبون على الزنى لأنه بالتراضي بين الرجل والمرأة إلا إذا كان للمرأة زوج أو ولي يذب عن عرضه بنفسه كما أشار إليه قول امرئ القيس :

تجاوزت أحراسا إليها ومعشرا

علي حراصا لو يسرّون مقتلي

وقول عبد بني الحسحاس :

وهن بنات القوم إن يشعروا بنا

يكن في بنات القوم إحدى الدهارس

الدهارس : الدواهي. ولم تكن في ذلك عقوبة مقدرة ولكنه حكم السيف أو التصالح على ما يتراضيان عليه. وفي «الموطأ» عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أحدهما : يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله. وقال الآخر وهو أفقههما : أجل يا رسول الله فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي أن أتكلم. فقال :

١١٩

تكلم. قال : إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته فأخبروني أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة وبجارية لي ، ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أنما على ابني جلد مائة وتغريب عام وأخبروني أنما الرجم على امرأته ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أما والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله ، أما غنمك وجاريتك فردّ عليك. وجلد ابنه مائة وغربه عاما وأمر أنيسا الأسلمي أن يأتي امرأة الآخر فإن اعترفت رجمها فاعترفت فرجمها. قال مالك : والعسيف الأجير ا ه.

فهذا الافتداء أثر مما كانوا عليه في الجاهلية ، ثم فرض عقاب الزنى في الإسلام بما في سورة النساء وهو الأذى للرجل الزاني ، أي بالعقاب الموجع ، وحبس للمرأة الزانية مدة حياتها. وأشارت الآية إلى أن ذلك حكم مجمل بالنسبة للرجل لأن الأذى صالح لأن يبيّن بالضرب أو بالرجم وهو حكم موقت بالنسبة إلى المرأة بقوله : (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) [النساء : ١٥] ثم فرض حد الزنى بما في هذه السورة.

ففرض حد الزنى بهذه الآية جلد مائة فعمّ المحصن وغيره ، وخصصته السنة بغير المحصن من الرجال والنساء. فأما من أحصن منهما ، أي تزوج بعقد صحيح ووقع الدخول فإن الزاني المحصن حده الرجم بالحجارة حتى يموت. وكان ذلك سنة متواترة في زمن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورجم ماعز بن مالك. وأجمع على ذلك العلماء وكان ذلك الإجماع أثرا من آثار تواترها.

وقد روي عن عمر أن الرجم كان في القرآن «الثيّب والثيبة إذا زنيا فارجموهما البتة» وفي رواية «الشيخ والشيخة» وأنه كان يقرأ ونسخت تلاوته. وفي «أحكام ابن الفرس» في سورة النساء : «وقد أنكر هذا قوم» ، ولم أر من عيّن الذين أنكروا. وذكر في سورة النور أن الخوارج بأجمعهم يرون هذه الآية على عمومها في المحصن وغيره ولا يرون الرجم ويقولون : ليس في كتاب الله الرجم فلا رجم.

ولا شك في أن القضاء بالرجم وقع بعد نزول سورة النور. وقد سئل عبد الله بن أبي أوفى عن الرجم : أكان قبل سورة النور أو بعدها؟ (يريد السائل بذلك أن تكون آية سورة النور منسوخة بحديث الرجم أو العكس ، أي أن الرجم منسوخ بالجلد) فقال ابن أبي أوفى : لا أدري. وفي رواية أبي هريرة أنه شهد الرجم. وهذا يقتضي أنه كان معمولا به بعد سورة النور لأن أبا هريرة أسلم سنة سبع وسورة النور نزلت سنة أربع أو خمس كما علمت وأجمع العلماء على أن حد الزاني المحصن الرجم.

١٢٠