تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٨

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٨

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٥٦

ولكون هذا مما قد يغيب عن الألباب نزّل منزلة الشيء المتردد فيه فأكد ب (إِنَ) المخفّفة وبفعل (كُنَّا).

واللام هي الفارقة بين (إن) المؤكدة المخففة عند إهمال عملها وبين (إن) النافية.

[٣١ ، ٣٢] (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٣١) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣٢))

تعقيب قصة نوح وقومه بقصة رسول آخر ، أي أخرى ، وما بعدها من القصص يراد منه أن ما أصاب قوم نوح على تكذيبهم له لم يكن صدفة ولكنه سنة الله في المكذبين لرسله ولذلك لم يعيّن القرن ولا القرون بأسمائهم.

والقرن : الأمة. والأظهر أن المراد به هنا ثمود لأنه الذي يناسبه قوله في آخر القصة (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِ) [المؤمنون : ٤١] ، لأن ثمود أهلكوا بالصاعقة ولقوله (قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ) [المؤمنون : ٤٠] مع قوله في سورة الحجر [٨٣](فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ) فكان هلاكهم في الصباح. ولعل تخصيصهم بالذكر هنا دون عاد خلافا لما تكرر في غير هذه الآية لأن العبرة بحالهم أظهر لبقاء آثار ديارهم بالحجر كما قال تعالى : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [الصافات : ١٣٧ ، ١٣٨].

وقوله (فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً) أي جعل الرسول بينهم وهو منهم ، أي من قبيلتهم.

وضمير الجمع عائد إلى (قَرْناً) لأنه في تأويل (الناس) كقوله (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) [الحجرات : ٩].

وعدّي فعل (فَأَرْسَلْنا) ب (في) دون (إلى) لإفادة أن الرسول كان منهم ونشأ فيهم لأن القرن لما لم يعين باسم حتى يعرف أن رسولهم منهم أو واردا إليهم مثل لوط لأهل (سدوم) ، ويونس لأهل (نينوى) ، وموسى للقبط. وكان التنبيه على أن رسولهم منهم مقصودا إتماما للمماثلة بين حالهم وحال الذين أرسل إليهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وكلام رسولهم مثل كلام نوح.

و (أن) تفسير لما تضمنه أرسلنا من معنى القول.

[٣٣ ـ ٣٨] (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ

٤١

الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٣٤) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (٣٦) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧) ِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨))

عطفت حكاية قول قومه على حكاية قوله ولم يؤت بها مفصولة كما هو شأن حكاية المحاورات كما بيناه غير مرة في حكاية المحاورات ب (قال) ونحوها دون عطف. وقد خولف ذلك في الآية السابقة للوجه الذي بيناه ، وخولف أيضا في سورة الأعراف وفي سورة هود إذ حكي جواب هؤلاء القوم رسولهم بدون عطف.

ووجه ذلك أن كلام الملأ المحكيّ هنا غير كلامهم المحكي في السورتين لأن ما هنا كلامهم الموجّه إلى خطاب قومهم إذ قالوا : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ) إلى آخره خشية منهم أن تؤثر دعوة رسولهم في عامتهم ، فرأوا الاعتناء بأن يحولوا دون تأثر نفوس قومهم بدعوة رسولهم أولى من أن يجاوبوا رسولهم كما تقدم بيانه آنفا في قصة نوح.

وبهذا يظهر وجه الإعجاز في المواضع المختلفة التي أورد فيها صاحب «الكشاف» سؤالا ولم يكن في جوابه شافيا وتحيّر شراحه فكانوا على خلاف.

وإنما لم يعطف قول الملأ بفاء التعقيب كما ورد في قصة نوح آنفا لأن قولهم هذا كان متأخرا عن وقت مقالة رسولهم التي هي فاتحة دعوته بأن يكونوا أجابوا كلامه بالرد والزجر فلما استمر على دعوتهم وكررها فيهم وجهوا مقالتهم المحكية هنا إلى قومهم ومن أجل هذا عطفت جملة جوابهم ولم تأت على أسلوب الاستعمال في حكاية أقوال المحاورات.

وأيضا لأن كلام رسولهم لم يحك بصيغة القول بل حكي ب (أن) التفسيرية لما تضمنه معنى الإرسال في قوله : (فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) [المؤمنون : ٣٢].

وقد حكى الله في آيات أخرى عن قوم هود وعن قوم صالح أنهم أجابوا دعوة رسولهم بالرد والزجر كقول قوم هود (قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) [هود : ٥٣ ، ٥٤] ، وقول قوم صالح (قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ

٤٢

آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) [هود : ٦٢].

وقوله (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الَّذِينَ كَفَرُوا) نعت ثان ل (الْمَلَأُ) فيكون على وزان قوله في قصة نوح (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) [المؤمنون : ٢٤].

وإنما أخر النعت هنا ليتصل به الصفتان المعطوفتان من قوله : (وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ).

واللقاء : حضور أحد عند آخر. والمراد لقاء الله تعالى للحساب كقوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) في سورة البقرة [٢٢٣] وعند قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا) في سورة الأنفال [٤٥].

وإضافة (بِلِقاءِ) إلى (الْآخِرَةِ) على معنى (في) أي اللقاء في الآخرة.

والإتراف : جعلهم أصحاب ترف. والترف : النعمة الواسعة. وقد تقدم عند قوله : (وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ) في سورة الأنبياء [١٣].

وفي هذين الوصفين إيماء إلى أنهما الباعث على تكذيبهم رسولهم لأن تكذيبهم بلقاء الآخرة ينفي عنهم توقع المؤاخذة بعد الموت ، وثروتهم ونعمتهم تغريهم بالكبر والصلف إذ ألفوا أن يكونوا سادة لا تبعا ، قال تعالى : (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ) [المزمل : ١١] ، ولذلك لم يتقبلوا ما دعاهم إليه رسولهم من اتقاء عذاب يوم البعث وطلبهم النجاة باتباعهم ما يأمرهم به فقال بعضهم لبعض (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ).

و (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) كناية عن تكذيبه في دعوى الرسالة لتوهمهم أن البشرية تنافي أن يكون صاحبها رسولا من الله فأتوا بالملزوم وأرادوا لازمه.

وجملة (يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ) في موقع التعليل والدليل للبشرية لأنه يأكل مثلهم ويشرب مثلهم ولا يمتاز فيما يأكله وما يشربه.

وحذف متعلق (تَشْرَبُونَ) وهو عائد الصلة للاستغناء عنه بنظيره الذي في الصلة المذكورة قبلها.

واللام في (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ) موطّئة للقسم ، فجملة (إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) جواب القسم ، وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم. وأقحم حرف الجزاء في جواب

٤٣

القسم لما في جواب القسم من مشابهة الجزاء لا سيما متى اقترن القسم بحرف شرط.

والاستفهام في قوله (أَيَعِدُكُمْ) للتعجب ، وهو انتقال من تكذيبه في دعوى الرسالة إلى تكذيبه في المرسل به.

وقوله (أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ) إلى آخره مفعول (يَعِدُكُمْ) أي يعدكم إخراج مخرج إياكم. والمعنى : يعدكم إخراجكم من القبور بعد موتكم وفناء أجسامكم.

وأما قوله : (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) فيجوز أن يكون إعادة لكلمة (أنكم) الأولى اقتضى إعادتها بعد ما بينها وبين خبرها. وتفيد إعادتها تأكيدا للمستفهم عنه استفهام استبعاد تأكيدا لاستبعاده. وهذا تأويل الجرمي والمبرد.

ويجوز أن يكون (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) مبتدأ. ويكون قوله : (إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً) خبرا عنه مقدما عليه وتكون جملة (إِذا مِتُّمْ) إلى قوله (مُخْرَجُونَ) خبرا عن (أنّ) من قوله (أَنَّكُمْ) الأولى.

وجعلوا موجب الاستبعاد هو حصول أحوال تنافي أنهم مبعوثون بحسب قصور عقولهم ، وهي حال الموت المنافي للحياة ، وحال الكون ترابا وعظاما المنافي لإقامة الهيكل الإنساني بعد ذلك.

وأريد بالإخراج إخراجهم أحياء بهيكل إنساني كامل ، أي مخرجون للقيامة بقرينة السياق.

وجملة (هَيْهاتَ) بيان لجملة (يَعِدُكُمْ) فلذلك فصلت ولم تعطف.

و (هَيْهاتَ) كلمة مبنية على فتح الآخر وعلى كسره أيضا. وقرأها الجمهور بالفتح.

وقرأها أبو جعفر بالكسر. وتدل على البعد. وأكثر ما تستعمل مكررة مرتين كما في هذه الآية أو ثلاثا كما جاء في شعر لحميد الأرقط وجرير يأتيان.

واختلف فيها أهي فعل أم اسم ؛ فجمهور النحاة ذهبوا إلى أن (هيهات) اسم فعل للماضي من البعد ، فمعنى هيهات كذا : بعد. فيكون ما يلي (هيهات) فاعلا. وقيل هي اسم للبعد ، أي فهي مصدر جامد وهو الذي اختاره الزجاج في «تفسيره». قال الراغب: وقال البعض : غلط الزجاج في «تفسيره» واستهواه اللام في قوله تعالى : (هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ).

٤٤

وقيل : هيهات ظرف غير متصرف ، وهو قول المبرد. ونسبه في «لسان العرب» إلى أبي علي الفارسي. قال : قال ابن جني : كان أبو علي يقول في هيهات : أنا أفتي مرة بكونها اسما سمي به الفعل مثل صه ومه ، وأفتي مرة بكونها ظرفا على قدر ما يحضرني في الحال.

وفيها لغات كثيرة وأفصحها أنها بهاءين وتاء مفتوحة فتحة بناء ، وأن تاءها تثبت في الوقف وقيل يوقف عليها هاء ، وأنها لا تنون تنوين تنكير.

وقد ورد ما بعد (هيهات) مجرورا باللام كما في هذه الآية. وورد مرفوعا كما في قول جرير :

فهيهات هيهات العقيق وأهله

وهيهات خلّ بالعقيق نحاوله

وورد مجرورا ب (من) في قول حميد الأرقط :

هيهات من مصبحها هيهات

هيهات حجر من صنيبعات

فالذي يتضح في استعمال (هيهات) أن الأصل فيما بعدها أن يكون مرفوعا على تأويل (هيهات) بمعنى فعل ماض من البعد كما في بيت جرير ، وأن الأفصح أن يكون ما بعدها مجرورا باللام فيكون على الاستغناء عن فاعل اسم الفعل للعلم به مما يسبق (هيهات) من الكلام لأنها لا تقع غالبا إلا بعد كلام ، وتجعل اللام للتبيين ، أي إيضاح المراد من الفاعل ، فيحصل بذلك إجمال ثم تفصيل يفيد تقوية الخبر. وهذه اللام ترجع إلى لام التعليل. وإذا ورد ما بعدها مجرورا ب (من) ف (من) بمعنى (عن) أي بعد عنه أو بعدا عنه.

على أنه يجوز أن تؤوّل (هيهات) مرة بالفعل وهو الغالب ومرة بالمصدر فتكون اسم مصدر مبنيا جامدا غير مشتق. ويكون الإخبار بها كالإخبار بالمصدر ، وهو الوجه الذي سلكه الزجاج في تفسير هذه الآية ويشير كلام الزمخشري إلى اختياره.

وجاء هنا فعل (تُوعَدُونَ) من (أوعد) وجاء قبله فعل (أَيَعِدُكُمْ) وهو من (وعد) مع أن الموعود به شيء واحد. قال الشيخ ابن عرفة : لأن الأول : راجع إليهم في حال وجودهم فجعل وعدا ، والثاني راجع إلى حالتهم بعد الموت والانعدام فناسب التعبير عنه بالوعيد ا ه.

وأقول : أحسن من هذا أنه عبّر مرة بالوعد ومرة بالوعيد على وجه الاحتباك ، فإن

٤٥

إعلامهم بالبعث مشتمل على وعد بالخير إن صدّقوا وعلى وعيد إن كذّبوا ، فذكر الفعلان على التوزيع إيجازا.

وقوله : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) يجوز أن يكون بيانا للاستبعاد الذي في قوله : (هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ) واستدلالا وتعليلا له ، ولكلا الوجهين كانت الجملة مفصولة عن التي قبلها.

وضمير (هِيَ) عائد إلى ما لم يسبق في الكلام بل عائد على مذكور بعده قصدا للإبهام ثم التفصيل ليتمكن المعنى في ذهن السامع. وهذا من مواضع عود الضمير على ما بعده إذا كان ما بعده بيانا له ، ولذلك يجعل الاسم الذي بعد الضمير عطف بيان. ومنه قول الشاعر أنشده في «الكشاف» المصراع الأول وأثبته الطيبي كاملا :

هي النفس ما حملتها تتحمل

وللدهر أيام تجور وتعدل

وقول أبي العلاء [المعري] :

هو الهجر حتى ما يلم خيال

وبعض صدود الزائرين وصال

ومبيّن الضمير هنا قوله (إِلَّا حَياتُنَا) فيكون الاسم الذي بعد (إلا) عطف بيان من الضمير. والتقدير : إن حياتنا إلا حياتنا الدنيا. ووصفها بالدنيا وصف زائد على البيان فلا يقدر مثله في المبيّن.

وليس هذا الضمير ضمير القصة والشأن لعدم صلاحية المقام له. ولأنه في الآية مفسّر بالمفرد لا بالجملة وكذلك في بيت أبي العلاء.

ولأن دخول (لا) النافية عليه يأبى من جعله ضمير شأن إذ لا معنى لأن يقال : لا قصة إلا حياتنا ، فدخلت عليه (لا) النافية للجنس لأنه في معنى اسم جنس لتبيينه باسم الجنس وهو (حَياتُنَا). فالمعنى ليست الحياة إلا حياتنا هذه ، أي لا حياة بعدها.

والدنيا : مؤنث الأدنى ، أي القريبة بمعنى الحاضرة.

وضمير (حَياتُنَا) مراد به جميع القوم الذين دعاهم رسولهم. فقولهم : (نَمُوتُ وَنَحْيا) معناه : يموت هؤلاء القوم ويحيا قوم بعدهم. ومعنى (نَحْيا) : نولد ، أي يموت من يموت ويولد من يولد ، أو المراد : يموت من يموت فلا يرجع ويحيا من لم يمت إلى أن يموت. والواو لا تفيد ترتيبا بين معطوفها والمعطوف عليه. وعقبوه بالعطف في قوله :

٤٦

(وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) أي لا نحيا حياة بعد الموت.

وهو عطف على جملة (نَمُوتُ وَنَحْيا) باعتبار اشتمالها على إثبات حياة عاجلة وموت ، فإن الاقتصار على الأمرين مفيد للانحصار في المقام الخطابي مع قرينة قوله : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا). وأفاد صوغ الخبر في الجملة الاسميّة تقوية مدلوله وتحقيقه.

ثم جاءت جملة (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) نتيجة عقب الاستدلال ، فجاءت مستأنفة لأنها مستقلة على ما تقدمها فهي تصريح بما كني عنه آنفا في قوله : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) وما بعده من تكذيب دعوته ، فاستخلصوا من ذلك أن حاله منحصر في أنه كاذب على الله فيما ادعاه من الإرسال. وضمير (إِنْ هُوَ) عائد إلى اسم الإشارة من قوله : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ).

فجملة (افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) صفة ل (رَجُلٌ) وهي منصبّ الحصر فهو من قصر الموصوف على الصفة قصر قلب إضافيا ، أي لا كما يزعم أنه مرسل من الله.

وإنما أجروا عليه أنه رجل متابعة لوصفه بالبشرية في قولهم : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) تقريرا لدليل المماثلة المنافية للرسالة في زعمهم ، أي زيادة على كونه رجلا مثلهم فهو رجل كاذب.

والافتراء : الاختلاق. وهو الكذب الذي لا شبهة فيه للمخبر. وتقدم عند قوله تعالى : (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) في سورة المائدة [١٠٣].

وإنما صرحوا بأنهم لا يؤمنون به مع دلالة نسبته إلى الكذب على أنهم لا يؤمنون به إعلانا بالتبري من أن ينخدعوا لما دعاهم إليه ، وهو مقتضى حال خطاب العامة.

والقول في إفادة الجملة الاسميّة التقوية كالقول في (وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ).

[٣٩ ، ٤٠] (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٣٩) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (٤٠))

استئناف بياني لأن ما حكي من صد الملإ الناس عند اتباعه وإشاعتهم عنه أنه مفتر على الله وتلفيقهم الحجج الباطلة على ذلك مما يثير سؤال سائل عما كان من شأنه وشأنهم بعد ذلك ، فيجاب بأنه توجه إلى الله الذي أرسله بالدعاء بأن ينصره عليهم. وتقدم القول في نظيره آنفا في قصة نوح.

وجاء جواب دعاء هذا الرسول غير معطوف لأنه جرى على أسلوب حكاية

٤٧

المحاورات الذي بيّناه في مواضع منها قوله : (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) في سورة البقرة [٣٠].

و (عَمَّا قَلِيلٍ) أفاد حرف (عن) المجاوزة ، أي مجاوزة معنى متعلّقها الاسم المجرور بها. ويكثر أن تفيد مجاوزة معنى متعلّقها الاسم المجرور بها فينشأ منها معنى (بعد) نحو (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) [الانشقاق : ١٩] فيقال : إنها تجيء بمعنى (بعد) كما ذكره النحاة وهم جروا على الظاهر وتفسير المعنى إذ لا يكون حرف بمعنى اسم ، فإن معاني الحروف ناقصة ومعاني الأسماء تامة. فمعنى (عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ) : أن إصباحهم نادمين يتجاوز زمنا قليلا : أي من زمان التكلم وهو تجاوز مجازي بحرف (عن) مستعار لمعنى (بعد) استعارة تبعيّة. و (ما) زائدة للتوكيد.

و (قَلِيلٍ) صفة لموصوف محذوف دل عليه السياق أو فعل الإصباح الذي هو من أفعال الزمن فوعد الله هذا الرسول نصرا عاجلا.

وندمهم يكون عند رؤية مبدأ الاستئصال ولا ينفعهم ندمهم بعد حلول العذاب.

والإصباح هنا مراد به زمن الصباح لا معنى الصيرورة بدليل قوله في سورة الحجر [٨٣](فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ).

(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤١))

تقتضي الفاء تعجيل إجابة دعوة رسولهم.

والأخذ مستعار للإهلاك.

والصيحة : صوت الصاعقة ، وهذا يرجع أو يعيّن أن يكون هؤلاء القرن هم ثمود قال تعالى : (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) [الحاقة : ٥] وقال في شأنهم في سورة الحجر [٨٣](فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ).

وإسناد الأخذ إلى الصيحة مجاز عقلي لأن الصيحة سبب الأخذ أو مقارنة سببه فإنها تحصل من تمزق كرة الهواء عند نزول الصاعقة.

والباء في (بِالْحَقِ) للملابسة ، أي أخذتهم أخذا ملابسا للحق ، أي لا اعتداء فيه

٤٨

عليهم لأنهم استحقوه بظلمهم.

والغثاء : ما يحمله السيل من الأعواد اليابسة والورق. والكلام على التشبيه البليغ للهيئة فهو تشبيه حالة بحالة ، أي جعلناهم كالغثاء في البلى والتكدس في موضع واحد فهلكوا هلكة واحدة.

وفرع على حكاية تكذيبهم دعاء عليهم وعلى أمثالهم دعاء شتم وتحقير بأن يبعدوا تحقيرا لهم وكراهية ، وليس مستعملا في حقيقة الدعاء لأن هؤلاء قد بعدوا بالهلاك. وانتصب (فَبُعْداً) على المفعولية المطلقة بدلا من فعله مثل : تبّا وسحقا ، أي أتبّه الله وأسحقه.

وعكس هذا المعنى قول العرب لا تبعد (بفتح العين) أي لا تفقد. قال مالك بن الريب :

يقولون لا تبعد وهم يدفنوني

وأين مكان البعد إلا مكانيا

والمراد بالقوم الظالمين الكافرون (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣]. واختير هذا الوصف هنا لأن هؤلاء ظلموا أنفسهم بالإشراك وظلموا هودا لأنه تعمد الكذب على الله إذ قالوا : (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) [المؤمنون : ٣٨].

والتعريف في (الظَّالِمِينَ) للاستغراق فشملهم ، ولذلك تكون الجملة بمنزلة التذييل.

واللام في (لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) للتبيين وهي مبيّنة للمقصود بالدعاء زيادة في البيان كما في قولهم : سحقا لك وتبّا له ، فإنه لو قيل : فبعدا ، لعلم أنه دعاء عليه فبزيادة اللام يزيد بيان المدعو عليهم وهي متعلقة بمحذوف مستأنف للبيان.

[٤٢ ، ٤٣] (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (٤٢) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣))

القرون : الأمم ، وهذا كقوله تعالى : (وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) [الفرقان : ٣٨].

وهم الأمم الذين لم ترسل إليهم رسل وبقوا على اتباع شريعة نوح أو شريعة هود أو شريعة صالح ، أو لم يؤمروا بشرع لأن الاقتصار على ذكر الأمم هنا دون ذكر الرسل ثم ذكر الرسل عقب هذا يومئ إلى أن هذه إما أمم لم تأتهم رسل لحكمة اقتضت تركهم على ذلك لأنهم لم يتأهلوا لقبول شرائع ، أو لأنهم كانوا على شرائع سابقة.

٤٩

وجملة (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) معترضة بين المتعاطفة. وهي استئناف بياني لما يؤذن به قوله : (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً) من كثرتها ولا يؤذن به وصفهم ب (آخَرِينَ) من جهل الناس بهم ، ولما يؤذن به عطف جملة (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) [المؤمنون : ٤٤] من انقراض هذه القرون بعد الأمة التي ذكرت قصتها آنفا في قوله (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ) دون أن تجيئهم رسل ، فكان ذلك كله مما يثير سؤال سائل عن مدة تعميرهم ووقت انقراضهم. فيجاب بالإجمال لأن لكل قرن منهم أجلا عيّنه الله يبقى إلى مثله ثم ينقرض ويخلفه قرن آخر يأتي بعده ، أو يعمّر بعده قرن كان معاصرا له ، وأن ما عيّن لكل قرن لا يتقدمه ولا يتأخر عنه كقوله تعالى : (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [يونس : ٤٩].

والسبق : تجاوز السائر وتركه مسايره خلفه ، وعكسه التأخر. والمعنى واضح. والسين والتاء في (يَسْتَأْخِرُونَ) زائدتان للتأكيد مثل : استجاب. وضمير (يَسْتَأْخِرُونَ) عائد إلى (أُمَّةٍ) باعتبار الناس.

(ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (٤٤))

الرسل الذين جاءوا من بعد ، أي من بعد هذه القرون منهم إبراهيم ولوط ويوسف وشعيب. ومن أرسل قبل موسى ، ورسل لم يقصصهم الله على رسوله.

والمقصود بيان اطراد سنة الله تعالى في استئصال المكذبين رسله المعاندين في آياته كما دل عليه قوله : (فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً).

و (تَتْرا) قرأه الجمهور بألف في آخره دون تنوين فهو مصدر على وزن فعلى مثل دعوى وسلوى ، وألفه للتأنيث مثل ذكرى ، فهو ممنوع من الصرف. وأصله : وترى بواو في أوله مشتقا من الوتر وهو الفرد. وظاهر كلام اللغويين أنه لا فعل له ، أي فردا فردا ، أي فردا بعد فرد فهو نظير مثنى. وأبدلت الواو تاء إبدالا غير قياسي كما أبدلت في (تجاه) للجهة المواجهة وفي (تولج) لكناس الوحش (وتراث) للموروث.

ولا يقال تترى إلا إذا كان بين الأشياء تعاقب مع فترات وتقطّع. ومنه التواتر وهو تتابع الأشياء وبينها فجوات. والوتيرة : الفترة عن العمل. وأما التعاقب بدون فترة فهو التدارك. يقال : جاءوا متداركين ، أي متتابعين.

٥٠

وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر منونا وهي لغة كنانة. وهو على القراءتين منصوب على الحال من (رُسُلَنا).

واعلم أن كلمة (تَتْرا) كتبت في المصاح ف كلها بصورة الألف في آخرها على صورة الألف الأصليّة مع أنها في قراءة الجمهور ألف تأنيث مقصورة وشأن ألف التأنيث المقصورة أن تكتب بصورة الياء مثل تقوى ودعوى ، فلعل كتّاب المصاحف راعوا كلتا القراءتين فكتبوا الألف بصورتها الأصليّة لصلوحيّة نطق القارئ على كلتا القراءتين. على أن أصل الألف أن تكتب بصورتها الأصليّة ، وأما كتابتها في صورة الياء حيث تكتب كذلك فهو إشارة إلى أصلها أو جواز إمالتها فخولف ذلك في هذه اللفظة لدفع اللبس.

ومعنى الآية : ثم بعد تلك القرون أرسلنا رسلا ، أي أرسلناهم إلى أمم أخرى ، لأن إرسال الرسول يستلزم وجود أمة وقد صرح به في قوله (كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ). والمعنى : كذبه جمهورهم وربما كذبه جميعهم.

وفي حديث ابن عباس عند مسلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي وليس معه أحد ...» الحديث.

واتباع بعضهم بعضا إلحاقهم بهم في الهلاك بقرينة المقام وبقرينة قوله (وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) ، أي صيّرناهم أحدوثات يتحدث الناس بما أصابهم. وإنما يتحدث الناس بالشيء الغريب النادر مثله. والأحاديث هنا جمع أحدوثة ، وهي اسم لما يتلهى الناس بالحديث عنه. ووزن الأفعولة يدل على ذلك مثل الأعجوبة والأسطورة.

وهو كناية عن إبادتهم ، فالمعنى : جعلناهم أحاديث بائدين غير مبصرين.

والقول في (فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) مثل الكلام على (فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [المؤمنون : ٤١] ؛ إلا أن الدعاء نيط هنا بوصف أنهم لا يؤمنون ليحصل من مجموع الدعوتين التنبيه على مذمة الكفر وعلى مذمة عدم الإيمان بالرسل تعريضا بمشركي قريش ، على أنه يشمل كل قوم لا يؤمنون برسل الله لأن النكرة في سياق الدعاء تعم كما في قول الحريري : «يا أهل ذا المغني وقيتم ضرا».

[٤٥ ـ ٤٨]

(ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٤٥) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (٤٦) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (٤٧)

٥١

فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨))

الآيات : المعجزات ، وإضافتها إلى ضمير الجلالة للتنويه بها وتعظيمها. والسلطان المبين : الحجة الواضحة التي لقنها الله موسى فانتهضت على فرعون وملئه. والباء للملابسة ، أي بعثناه ملابسا للمعجزات والحجة.

وملأ فرعون : أهل مجلسه وعلماء دينه وهم السحرة. وإنما جعل الإرسال إليهم دون بقية أمة القبط لأن دعوة موسى وأخيه إنما كانت خطابا لفرعون وأهل دولته الذين بيدهم تصريف أمور الأمة لتحرير بني إسرائيل من استعبادهم إياهم قال تعالى : (فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ) [طه : ٤٧]. ولم يرسلا بشريعة إلى القبط. وأما الدعوة إلى التوحيد فمقدمة لإثبات الرسالة لهم.

وعطف (فَاسْتَكْبَرُوا) بفاء التعقيب يفيد أنهم لم يتأملوا الدعوة والآيات والحجة ولكنهم أفرطوا في الكبرياء ، فالسين والتاء للتوكيد ، أي تكبروا كبرياء شديدة بحيث لم يعيروا آيات موسى وحجته أذنا صاغية.

وجملة (وَكانُوا قَوْماً عالِينَ) معترضة بين فعل (فَاسْتَكْبَرُوا) وما تفرع عليه من قوله (فَقالُوا) في موضع الحال من فرعون وملئه ، أي فاستكبروا بأن أعرضوا عن استجابة دعوة موسى وهارون وشأنهم الكبرياء والعلو ، أي كان الكبر خلقهم وسجيتهم. وقد بينا عند قوله تعالى : (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) في سورة البقرة [١٦٤] أن إجراء وصف على لفظ (قوم) أو الإخبار بلفظ (قوم) متبوع باسم فاعل إنما يقصد منه تمكن ذلك الوصف من الموصوف بلفظ (قوم) أو تمكنه من أولئك القوم. فالمعنى هنا : أن استكبارهم على تلقي دعوة موسى وآياته وحجته إنما نشأ عن سجيتهم من الكبر وتطبعهم. فالعلو بمعنى التكبر والجبروت. وسيجيء بيانه عند قوله : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) في سورة القصص[٤].

وبين ذلك بالتفريع بقوله : (فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) فهو متفرّع على قوله (فَاسْتَكْبَرُوا) ، أي استكبر فرعون وملؤه عن اتباع موسى وهارون ، فأفصحوا عن سبب استكبارهم عن ذلك بقولهم (أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ). وهذا ليس من قول فرعون ولكنه قول بعض الملإ لبعض ، ولما كانوا قد تراوضوا عليه نسب إليهم جميعا. وأما فرعون فكان مصغيا لرأيهم ومشورتهم وكان له قول

٥٢

آخر حكي في قوله تعالى : (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) [القصص : ٣٨] فإن فرعون كان معدودا في درجة الآلهة لأنه وإن كان بشرا في الصورة لكنه اكتسب الإلهية بأنه ابن الآلهة.

والاستفهام في (أَنُؤْمِنُ) إنكاري ، أي ما كان لنا أن نؤمن بهما وهما مثلنا في البشرية وليسا بأهل لأن يكونا ابنين للآلهة لأنهما جاءا بتكذيب إلهية الآلهة ، فكان ملأ فرعون لضلالهم يتطلبون لصحة الرسالة عن الله أن يكون الرسول مباينا للمرسل إليهم ، فلذلك كانوا يتخيلون آلهتهم أجناسا غريبة مثل جسد آدمي ورأس بقرة أو رأس طائر أو رأس ابن آوى أو جسد أسد ورأس آدمي ، ولا يقيمون وزنا لتباين مراتب النفوس والعقول وهي أجدر بظهور التفاوت لأنها قرارة الإنسانيّة. وهذه الشبهة هي سبب ضلال أكثر الأمم الذين أنكروا رسلهم.

واللام في قوله : (لِبَشَرَيْنِ) لتعدية فعل (نُؤْمِنُ). يقال للذي يصدّق المخبر فيما أخبر به : آمن له ، فيعدى فعل (آمن) باللام على اعتبار أنه صدّق بالخبر لأجل المخبر ، أي لأجل ثقته في نفسه. فأصل هذه اللام لام العلة والأجل. ومنه قوله تعالى : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) [العنكبوت : ٢٦] وقوله : (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) [الدخان : ٢١]. وأما تعدية فعل الإيمان بالباء فإنها إذا علق به ما يدل على الخبر تقول : آمنت بأن الله واحد. وبهذا ظهر الفرق بين قولك : آمنت بمحمد وقولك : آمنت لمحمد. فمعنى الأول: أنك صدقت شيئا. ولذلك لا يقال : آمنت لله وإنما يقال : آمنت بالله. وتقول : آمنت بمحمد وآمنت لمحمد. ومعنى الأول يتعلق بذاته وهو الرسالة ومعنى الثاني أنك صدقته فيما جاء به.

و (مِثْلِنا) وصف (لِبَشَرَيْنِ) وهو مما يصح التزام إفراده وتذكيره دون نظر إلى مخالفة صيغة موصوفه كما هنا. ويصح مطابقته لموصوفه كما في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ) [الأعراف : ١٩٤].

وهذا طعن في رسالتهما من جانب حالهما الذاتي ثم أعقبوه بطعن من جهة منشئهما وقبيلهما فقالوا : (وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) ، أي وهم من فريق هم عباد لنا وأحط منا فكيف يسوداننا.

وقوله : (عابِدُونَ) جمع عابد ، أي مطيع خاضع. وقد كانت بنو إسرائيل خولا للقبط وخدما لهم قال تعالى : (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) [الشعراء:٢٢].

٥٣

وتفرع على قولهم التصميم على تكذيبهم إياهما المحكي بقوله (فَكَذَّبُوهُما) ، أي أرسى أمرهم على أن كذبوهما ، ثم فرّع على تكذيبهم أن كانوا من المهلكين إذ أهلكهم الله بالغرق ، أي فانتظموا في سلك الأقوام الذين أهلكوا. وهذا أبلغ من أن يقال : فأهلكوا ، كما مر بنا غير مرة.

والتعقيب هنا تعقيب عرفي لأن الإغراق لما نشأ عن التكذيب فالتكذيب مستمر إلى حين الإهلاك.

وفي هذا تعريض بتهديد قريش على تكذيبهم رسولهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن في قوله : (مِنَ الْمُهْلَكِينَ) إيماء إلى أن الإهلاك سنة الله في الذين يكذبون رسله.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩))

لما ذكرت دعوة موسى وهارون لفرعون وملئه وما ترتب على تكذيبهم من إهلاكهم أكملت قصة بعثة موسى بالمهم منها الجاري ومن بعثة من سلف من الرسل المتقدم ذكرهم وهو إيتاء موسى الكتاب لهداية بني إسرائيل لحصول اهتدائهم ليبني على ذلك الاتعاظ بخلافهم على رسلهم في قوله بعد ذلك (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً) [المؤمنون : ٥٣] فإن موعظة المكذبين رسولهم بذلك أولى. وهنا وقع الإعراض عن هارون لأن رسالته قد انتهت لاقتصاره على تبليغ الدعوة لفرعون وملئه إذ كانت مقام محاجّة واستدلال فسأل موسى ربه إشراك أخيه هارون في تبليغها لأنه أفصح منه لسانا في بيان الحجة والسلطان المبين.

والتعريف في (الْكِتابَ) للعهد ، وهو التوراة.

ولذلك كان ضمير (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) ظاهر العود إلى غير مذكور في الكلام بل إلى معلوم من المقام وهم القوم المخاطبون بالتوراة وهم بنو إسرائيل فانتساق الضمائر ظاهر في المقام دون حاجة إلى تأويل قوله : (آتَيْنا مُوسَى) بمعنى : آتينا قوم موسى ، كما سلكه في «الكشاف».

و (لعل) للرجاء ، لأن ذلك الكتاب من شأنه أن يترقب من إيتائه اهتداء الناس به.

(وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (٥٠))

لما كانت آية عيسى العظمى في ذاته في كيفيّة تكوينه كان الاهتمام بذكرها هنا ، ولم

٥٤

تذكر رسالته لأن معجزة تخليقه دالة على صدق رسالته. وأما قوله (وَأُمَّهُ) فهو إدماج لتسفيه اليهود فيما رموا به مريم عليها‌السلام فإن ما جعله الله آية لها ولابنها جعلوه مطعنا ومغمزا فيهما.

وتنكير (آيَةً) للتعظيم لأنها آية تحتوي على آيات. ولما كان مجموعها دالا على صدق عيسى في رسالته جعل مجموعها آية عظيمة على صدقه كما علمت.

وأما قوله : (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ) فهو تنويه بهما إذ جعلهما الله محل عنايته ومظهر قدرته ولطفه.

والإيواء : جعل الغير آويا ، أي ساكنا. وتقدم عند قوله : (أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) في سورة هود [٨٠] وعند قوله : (سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ) في سورة هود [٤٣].

والربوة بضم الراء : المرتفع من الأرض. ويجوز في الراء الحركات الثلاث. وتقدم في قوله تعالى : (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ) في البقرة [٢٦٥]. والمراد بهذا الإيواء وحي الله لمريم أن تنفرد بربوة حين اقترب مخاضها لتلد عيسى في منعزل من الناس حفظا لعيسى من أذاهم.

والقرار : المكث في المكان ، أي هي صالحة لأن تكون قرارا ، فأضيفت الربوة إلى المعنى الحاصل فيها لأدنى ملابسة وذلك بما اشتملت عليه من النخيل المثمر فتكون في ظله ولا تحتاج إلى طلب قوتها.

والمعين : الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض ، وهو وصف جرى على موصوف محذوف ، أي ماء معين ، لدلالة الوصف عليه كقوله : (حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) [الحاقة : ١١]. وهذا في معنى قوله في سورة مريم [٢٤ ـ ٢٦](قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً).

(يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١))

يتعيّن تقدير قول محذوف اكتفاء بالمقول ، وهو استئناف ابتدائي ، أي قلنا : يا أيها الرسل كلوا. والمحكي هنا حكي بالمعنى لأن الخطاب المذكور هنا لم يكن موجها للرسل في وقت واحد بضرورة اختلاف عصورهم. فالتقدير : قلنا لكل رسول ممّن مضى ذكرهم

٥٥

كل من الطيبات واعمل صالحا إني بما تعمل عليهم.

وذلك على طريقة التوزيع لمدلول الكلام وهي شائعة في خطاب الجماعات. ومنه : ركب القوم دوابّهم.

والغرض من هذا بيان كرامة الرسل عند الله ونزاهتهم في أمورهم الجسمانيّة والروحانيّة ، فالأكل من الطيبات نزاهة جسميّة والعمل الصالح نزاهة نفسانيّة.

والمناسبة لهذا الاستئناف هي قوله : (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) [المؤمنون : ٥٠] وليحصل من ذلك الرد على اعتقاد الأقوام المعلّلين تكذيبهم رسلهم بعلة أنهم يأكلون الطعام كما قال تعالى في الآية السابقة (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) [المؤمنون : ٣٣] ، وقال : (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) [الفرقان : ٧] ، وليبطل بذلك ما ابتدعه النصارى من الرهبانيّة. وهذه فوائد من الاستدلال والتعليم كان لها في هذا المكان الوقع العظيم.

والأمر في قوله : (كُلُوا) للإباحة ، وإن كان الأكل أمرا جبلّيا للبشر إلا أن المراد به هنا لازمه وهو إعلام المكذبين بأن الأكل لا ينافي الرسالة وأن الذي أرسل الرسل أباح لهم الأكل.

وتعليق (مِنَ الطَّيِّباتِ) بكسب الإباحة المستفادة من الأمر شرط أن يكون المباح من الطيبات ، أي أن يكون المأكول طيّبا. ويزيد في الرد على المكذبين بأن الرسل إنما يجتنبون الخبائث ولا يجتنبون ما أحل الله لهم من الطيبات. والطيبات : ما ليس بحرام ولا مكروه.

وعطف العمل الصالح على الأمر بأكل الطيبات إيماء إلى أن همة الرسل إنما تنصرف إلى الأعمال الصالحة ، وهذا كقوله تعالى (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [المائدة : ٩٣] المراد به ما تناولوه من الخمر قبل تحريمها.

وقوله : (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) تحريض على الاستزادة من الأعمال الصالحة لأن ذلك يتضمن الوعد بالجزاء عنها وأنه لا يضيع منه شيء ، فالخبر مستعمل في التحريض.

(وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢))

٥٦

يجوز أن تكون الواو عاطفة على جملة (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) [المؤمنون: ٥١] إلخ ، فيكون هذا مما قيل للرسل. والتقدير : وقلنا لهم (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) الآية. ويجوز أن تكون عطفا على قصص الإرسال المبدوءة من قوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) [المؤمنون : ٢٣] لأن تلك القصص إنما قصت عليهم ليهتدوا بها إلى أن شأن الرسل منذ ابتداء الرسالة هو الدعوة إلى توحيد الله بالإلهيّة. وعلى هذا الوجه يكون سياقها كسياق آية سورة الأنبياء [٩٢](إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) الآية.

وفي هذه الآية ثلاث قراءات بخلاف آية سورة الأنبياء. فتلك اتفق القراء على قراءتها بكسر همزة (إن). فأما هذه الآية فقرأ الجمهور وأن بفتح الهمزة وتشديد النون ، فيجوز أن تكون خطابا للرسل وأن تكون خطابا للمقصودين بالنذارة على الوجهين وفتح الهمزة بتقدير لام كي متعلقة بقوله : (فَاتَّقُونِ) عند من لا يرى وجود الفاء فيه مانعا من تقديم معموله ، أو متعلقة بمحذوف دل عليه (فَاتَّقُونِ) عند من يمنع تقديم المعمول على العامل المقترن بالفاء ، كما تقدم في قوله تعالى : (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) في سورة النحل [٥١].

والمعنى عليه : ولكون دينكم دينا واحدا لا يتعدد فيه المعبود. وكوني ربكم فاتّقون ولا تشركوا بي غيري ، خطابا للرسل والمراد أممهم. أو خطابا لمن خاطبهم القرآن.

وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف بكسر همزة (إنّ) وتشديد النون ، فكسر همزة (إن) إما لأنها واقعة في حكاية القول على الوجه الأول ، وإمّا لأنها مستأنفة على الوجه الثاني. والمعنى كما تقدم في معنى قراءة الجمهور.

وقرأ ابن عامر بفتح الهمزة وتخفيف النون على أنها مخففة من (أنّ) المفتوحة واسمها ضمير شأن محذوف وخبرها الجملة التي بعدها. ومعناه كمعنى قراءة الجمهور سواء.

واسم الإشارة مراد به شريعة كل من الأنبياء أو شريعة الإسلام على الوجهين في المخاطب بهذه الآية.

وتأكيد الكلام بحرف (إن) على القراءات كلها للرد على المشركين من أمم الرسل أو المشركين المخاطبين بالقرآن.

وتقدم تفسير نظيرها في سورة الأنبياء ، إلا أن الواقع هنا (فَاتَّقُونِ) وهناك

٥٧

(فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء : ٩٢] فيجوز أن الله أمرهم بالعبادة وبالتقوى ولكن حكى في كل سورة أمرا من الأمرين ، ويجوز أن يكون الأمران وقعا في خطاب واحد ، فاقتصر على بعضه في سورة الأنبياء وذكر معظمه في سورة المؤمنين بحسب ما اقتضاه مقام الحكاية في كلتا السورتين. ويحتمل أن يكون كل أمر من الأمرين : الأمر بالعبادة والأمر بالتقوى. قد وقع في خطاب مستقل تماثل بعضه وزاد الآخر عليه بحسب ما اقتضاه مقام الخطاب من قصد إبلاغه للأمم كما في سورة الأنبياء ، أو من قصد اختصاص الرسل كما في سورة المؤمنين. ويرجح هذا أنه قد ذكر في سورة المؤمنين خطاب الرسل بالصراحة.

وأيّا ما كان من الاحتمالين فوجه ذلك أن آية سورة الأنبياء لم تذكر فيها رسالات الرسل إلى أقوامهم بالتوحيد عدا رسالة إبراهيم في قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ) [الأنبياء : ٥١] ثم جاء ذكر غيره من الرسل والأنبياء مع الثناء عليهم وطال البعد بين ذلك وبين قصة إبراهيم فكان الأمر بعبادة الله تعالى ، أي إفراده بالعبادة الذي هو المعنى الذي اتحدت فيه الأديان. أولى هنالك لأن المقصود من ذلك الأمر أن يبلغ إلى أقوامهم ، فكان ذكر الأمر بالعبادة أولى بالمقام في تلك السورة لأنه الذي حظّ الأمم منه أكثر. إذ الأنبياء والرسل لم يكونوا بخلاف ذلك قط فلا يقصد أمر الأنبياء بذلك إذ يصير من تحصيل الحاصل إلا إذا أريد به الأمر بالدوام.

وأما آية هذه السورة فقد جاءت بعد ذكر ما أرسل به الرسل إلى أقوامهم من التوحيد وإبطال الشرك فكان حظ الرسل من ذلك أكثر كما يقتضيه افتتاح الخطاب ب (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ) [المؤمنون : ٥١] فكان ذكر الأمر بالتقوى هنا أنسب بالمقام لأن التقوى لا حد لها ، فالرسل مأمورون بها وبالازدياد منها كما قال تعالى في حق نبيّه (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) [المزمل : ١ ـ ٤] ثم قال في حق الأمة (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) [المزمل : ٢٠] الآية. وقد مضى في تفسير سورة الأنبياء شيء من الإشارة إلى هذا ولكن ما ذكرناه هنا أبسط فضمّه إليه وعوّل عليه.

وقد فات في سورة الأنبياء [٩٢] أن نبين عربية قوله تعالى : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) فوجب أن نشبع القول فيه هنا. فالإشارة بقوله (هذِهِ) إلى أمر مستحضر في الذهن بيّنه الخبر والحال ولذلك أنث اسم الإشارة ، أي هذه الشريعة التي أوحينا إليك هي شريعتك. ومعنى هذا الإخبار أنك تلتزمها ولا تنقص منها ولا تغير منها شيئا. ولأجل هذا المراد جعل الخبر ما حقه أن يكون بيانا لاسم الإشارة لأنه لم يقصد به بيان اسم الإشارة

٥٨

بل قصد به الإخبار عن اسم الإشارة لإفادة الاتحاد بين مدلولي اسم الإشارة وخبره فيفيد أنه هو هو لا يغير عن حاله.

قال الزجاج : ومثل هذه الحال من لطيف النحو وغامضه إذ لا تجوز إلا حيث يعرف الخبر. ففي قولك : هذا زيد قائما ، لا يقال إلا لمن يعرفه فيفيده قيامه. ولو لم يكن كذلك لزم أن لا يكون زيدا عند عدم القيام وليس بصحيح.

وبهذا يعلم أن ليس المقصود من الإخبار عن اسم الإشارة حقيقته بل الخبر مستعمل مجازا في معنى التحريض والملازمة ، وهو يشبه لازم الفائدة وإن لم يقع في أمثلتهم. ومنه قوله تعالى : (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) [هود : ٧٢] فإن سارّة قد علمت أن الملائكة عرفوا أن إبراهيم بعلها إذ قد بشروها بإسحاق. وإنما المعنى : وهذا الذي ترونه هو بعلي الذي يترقب منه النسل المبشّر به ، أي حاله ينافي البشارة ، ولذلك يتبع مثل هذا التركيب بحال تبين المقصود من الإخبار كما في هذه الآية. وقد تقدم ذكر لطيفة في تلك الآية.

(فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣))

جيء بفاء التعقيب لإفادة أن الأمم لم يتريثوا عقب تبليغ الرسل إياهم (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) [المؤمنون : ٥٢] أن تقطعوا أمرهم بينهم فاتخذوا آلهة كثيرة فصار دينهم متقطعا قطعا لكل فريق صنم وعبادة خاصة به. فضمير (فَتَقَطَّعُوا) عائد إلى الأمم المفهوم من السياق الذين هم المقصود من قوله (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) [المؤمنون : ٥٢]. وضمير الجمع عائد إلى أمم الرسل يدل عليه السياق.

فالكلام مسوق مساق الذم. ولذلك قد تفيد الفاء مع التعقيب معنى التفريع ، أي فتفرع على ما أمرناهم به من التوحيد أنهم أتوا بعكس المطلوب منهم فيفيد الكلام زيادة على الذم تعجيبا من حالهم. ومما يزيد معنى الذم تذييله بقوله (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) أي وهم ليسوا بحال من يفرح.

والتقطع أصله مطاوع قطع. واستعمل فعلا متعديا بمعنى قطع بقصد إفادة الشدة في حصول الفعل ، ونظيره تخوفه السير ، أي تنقصه ، وتجهمه الليل وتعرفه الزمن. فالمعنى : قطعوا أمرهم بينهم قطعا كثيرة ، أي تفرقوا على نحل كثيرة فجعل كل فريق منهم لنفسه دينا. ويجوز أن يجعل (فَتَقَطَّعُوا) قاصرا أسند التقطع إليهم على سبيل الإبهام ثم ميز بقوله (أَمْرَهُمْ) كأنه قيل : تقطعوا أمرا ، فإن كثيرا من نحاة الكوفة يجوزون كون التمييز معرفة.

٥٩

وقد بسطنا القول في معنى (تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) في سورة الأنبياء [٩٣].

والأمر هنا بمعنى الشأن والحال وما صدقه أمور دينهم.

والزبر بضم الزاي وضم الموحدة كما قرأ به الجمهور جمع زبور وهو الكتاب. استعير اسم الكتاب للدين لأن شأن الدين أن يكون لأهله كتاب ، فيظهر أنها استعارة تهكمية إذ لم يكن لكل فريق كتاب ولكنهم اتخذوا لأنفسهم أديانا وعقائد لو سجلت لكانت زبرا.

وقرأه أبو عمرو بخلاف عنه (زُبُراً) بضم الزاء وفتح الموحدة وهو جمع زبرة بمعنى قطعة.

وجملة (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) تذييل لما قبله لأن التقطع يقتضي التحزب فذيل بأن كل فريق منهم فرح بدينه ، ففي الكلام صفة محذوفة ل (حِزْبٍ) ، أي كل حزب منهم ، بدلالة المقام.

والفرح : شدة المسرة ، أي راضون جذلون بأنهم اتخذوا طريقتهم في الدين. والمعنى : أنهم فرحون بدينهم عن غير دليل ولا تبصر بل لمجرد العكوف على المعتاد. وذلك يومئ إليه (لَدَيْهِمْ) المقتضي أنه متقرر بينهم من قبل ، أي بالدين الذي هو لديهم فهم لا يرضون على من خالفهم ويعادونه ، وذلك يفضي إلى التفريق والتخاذل بين الأمة الواحدة وهو خلاف مراد الله ولذلك ذيل به قوله (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) [المؤمنون : ٥٢]. وقديما كان التحزب مسببا لسقوط الأديان والأمم وهو من دعوة الشيطان التي يلبس فيها الباطل في صورة الحق.

والحزب : الجماعة المجتمعون على أمر من اعتقاد أو عمل ، أو المتفقون عليه.

(فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤))

انتقال بالكلام إلى خطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وضمير الجمع عائد إلى معروف من السياق وهم مشركو قريش فإنهم من جملة الأحزاب الذين تقطعوا أمرهم بينهم زبرا ، أو هم عينهم : فمنهم من اتخذ إلهه العزى. ومنهم من اتخذ مناة ، ومنهم من اتخذ ذا الخلصة إلى غير ذلك.

والكلام ظاهره المتاركة ، والمقصود منه الإملاء لهم وإنذارهم بما يستقبلهم من سوء

٦٠