تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٨

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٨

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٥٦

مدة طويلة.

وخلق المضغة عظاما هو تكوين العظام في داخل تلك المضغة وذلك ابتداء تكوين الهيكل الإنساني من عظم ولحم ، وقد دل عليه قوله : (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً) بفاء التفريع على الوجه الذي قرر في عطف (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ) بالفاء.

فمعنى (فَكَسَوْنَا) أن اللحم كان كالكسوة للعظام ولا يقتضي ذلك أن العظام بقيت حينا غير مكسوة ، وفي الحديث الصحيح : «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح» الحديث ، فإذا نفخ فيه الروح فقد تهيأ للحياة والنماء وذلك هو المشار إليه بقوله تعالى : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) لأن الخلق المذكور قبله كان دون حياة ثم نشأ فيه خلق الحياة وهي حالة أخرى طرأت عليه عبر عنها بالإنشاء. وللإشارة إلى التفاوت الرتبي بين الخلقين عطف هذا الإنشاء ب (ثم) الدالة على أصل الترتيب في عطف الجمل ب (ثم).

وهذه الأطوار التي تعرضت لها الآية سبعة أطوار فإذا تمت فقد صار المتخلّق حيا ، وفي «شرح الموطأ» : «تناجى رجلان في مجلس عمر بن الخطاب وعليّ حاضر فقال لهما عمر : ما هذه المناجاة؟ فقال أحدهما : إن اليهود يزعمون أن العزل هو الموءودة الصغرى ، فقال علي : لا تكون موءودة حتّى تمرّ عليها التارات السبع (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) الآية ، فقال عمر لعليّ : صدقت أطال الله بقاءك». فقيل : إن عمر أول من دعا بكلمة «أطال الله بقاءك».

وقرأ الجمهور (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ) بصيغة جمع (الْعِظامَ) فيهما. وقرأه ابن عامر وأبو بكر عن عاصم (عِظاماً) .. و (الْعَظْمُ) بصيغة الإفراد.

وفرع على حكاية هذا الخلق العجيب إنشاء الثناء على الله تعالى بأنه (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) أي أحسن المنشئين إنشاء ، لأنه أنشأ ما لا يستطيع غيره إنشاءه.

ولما كانت دلالة خلق الإنسان على عظم القدرة أسبق إلى اعتبار المعتبر كان الثناء المعقب به ثناء على بديع قدرة الخالق مشتقا من البركة وهي الزيادة.

وصيغة تفاعل صيغة مطاوعة في الأصل ، وأصل المطاوعة قبول أثر الفعل ، وتستعمل في لازم ذلك وهو التلبس بمعنى الفعل تلبسا مكينا لأن شأن المطاوعة أن تكون بعد معالجة الفعل فتقتضي ارتساخ معنى الفعل في المفعول القابل له حتى يصير ذلك المفعول

٢١

فاعلا فيقال : كسرته فتكسر ، فلذلك كان تفاعل إذا جاء بمعنى فعل دالّا على المبالغة كما صرح به الرضيّ في «شرح الشافية» ، ولذلك تتفق صيغ المطاوعة وصيغ التكلف غالبا في نحو : تثنّى. وتكبّر ، وتشامخ ، وتقاعس. فمعنى (فَتَبارَكَ اللهُ) أنه موصوف بالعظمة في الخير ، أي عظمة ما يقدره من خير للناس وصلاح لهم.

وبهذا الاعتبار تكون الجملة تذييلا لأن تبارك لما حذف متعلقه كان عاما فيشمل عظمة الخير في الخلق وفي غيره. وكذلك حذف متعلق (الْخالِقِينَ) يعم خلق الإنسان وخلق غيره كالجبال والسماوات.

[١٥ ، ١٦] (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦))

إدماج في أثناء تعداد الدلائل على تفرد الله بالخلق على اختلاف أصناف المخلوقات لقصد إبطال الشرك. و (ثُمَ) للترتيب الرتبي لأن أهميّة التذكير بالموت في هذا المقام أقوى من أهميّة ذكر الخلق لأن الإخبار عن موتهم توطئة للجملة بعده وهي قوله (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) وهو المقصود. فهو كقوله : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الملك : ٢]. وهذه الجملة لها حكم الجملة الابتدائية وهي معترضة بين التي قبلها وبين جملة : (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ) [المؤمنون : ١٧]. ولكون (ثُمَ) لم تفد مهلة في الزمان هنا صرح بالمهلة في قوله بعد ذلك. والإشارة إلى الخلق المبين آنفا ، أي بعد ذلك التكوين العجيب والنماء المحكم أنتم صائرون إلى الموت الذي هو تعطيل أثر ذلك الإنشاء ثم مصيره إلى الفساد والاضمحلال. وأكد هذا الخبر ب (إن) واللام مع كونهم لا يرتابون فيه لأنهم لما أعرضوا عن التدبير فيما بعد هذه الحياة كانوا بمنزلة من ينكرون أنهم يموتون.

وتوكيد خبر (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) لأنهم ينكرون البعث. ويكون ما ذكر قبله من الخلق الأول دليلا على إمكان الخلق الثاني كما قال تعالى : (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) [ق : ١٥] ، فلم يحتج إلى تقوية التأكيد بأكثر من حرف التأكيد وإن كان إنكارهم البعث قويا.

ونقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب على طريقة الالتفات ، ونكتته هنا أن المقصود التذكير بالموت وما بعده على وجه التعريض بالتخويف وإنما يناسبه الخطاب.

(وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧))

٢٢

انتقال من الاستدلال بخلق الإنسان إلى الاستدلال بخلق العوالم العلوية لأن أمرها أعجب ، وإن كان خلق الإنسان إلى نظره أقرب ، فالجملة عطف على جملة (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) [المؤمنون : ١٢] وإنما ذكر هذا عقب قوله : (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) [المؤمنون : ١٦] للتنبيه على أن الذي خلق هذا العالم العلوي ما خلقه إلّا لحكمة ، وأن الحكيم لا يهمل ثواب الصالحين على حسناتهم ، ولا جزاء المسيئين على سيئاتهم ، وأن جعله تلك الطرائق فوقنا بحيث نراها ليدلنا على أن لها صلة بنا لأن عالم الجزاء كائن فيها ومخلوقاته مستقرة فيها ، فالإشارة بهذا الترتيب مثل الإشارة بعكسه في قوله: (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ* ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ* إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ) [الدخان : ٣٨ ـ ٤٠].

والطرائق : جمع طريقة وهي اسم للطريق تذكر وتؤنث ، والمراد بها هنا طرائق سير الكواكب السبعة وهي أفلاكها ، أي الخطوط الفرضية التي ضبط الناس بها سموت سير الكواكب ، وقد أطلق على الكواكب اسم الطارق في قوله تعالى : (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) [الطارق : ١] من أجل أنه ينتقل في سمت يسمى طريقة فإن السائر في طريق يقال له : طارق ، ولا شك أن الطرائق تستلزم سائرات فيها ، فكان المعنى : خلقنا سيّارات وطرائقها.

وذكر (فَوْقَكُمْ) للتنبيه على وجوب النظر في أحوالها للاستدلال بها على قدرة الخالق لها تعالى فإنها بحالة إمكان النظر إليها والتأمل فيها.

ولأن كونها فوق الناس مما سهل انتفاعهم بها في التوقيت ولذلك عقب بجملة (وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) المشعر بأن في ذلك لطفا بالخلق وتيسيرا عليهم في شئون حياتهم ، وهذا امتنان ، فالواو في جملة (وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) للحال ، والجملة في موضع الحال ، وفيه تنبيه للنظر في أن عالم الجزاء كائن بتلك العوالم قال تعالى : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) [الذاريات : ٢٢].

والخلق مفعول سمي بالمصدر ، أي ما كنا غافلين عن حاجة مخلوقاتنا يعني البشر ، ونفي الغفلة كناية عن العناية والملاحظة ، فأفاد ذلك أن في خلق الطرائق السماوية لما خلقت له لطفا بالناس أيضا إذ كان نظام خلقها صالحا لانتفاع الناس به في مواقيتهم وأسفارهم في البر والبحر كما قال : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [الأنعام : ٩٧]. وأعظم تلك الطرائق طريقة الشمس مع ما زادت به من النفع بالإنارة وإصلاح الأرض والأجساد ، فصار المعنى : خلقنا فوقكم سبع طرائق لحكمة لا

٢٣

تعلمونها وما أهملنا في خلقها رعي مصالحكم أيضا.

والعدول عن الإضمار إلى الإظهار في قوله : (وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) دون أن يقال : وما كنا عنكم غافلين ، لما يفيده المشتق من معنى التعليل ، أي ما كنا عنكم غافلين لأنكم مخلوقاتنا فنحن نعاملكم بوصف الربوبيّة ، وفي ذلك تنبيه على وجوب الشكر والإقلاع عن الكفر.

[١٨ ـ ٢٠] (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠))

مناسبة عطف إنزال ماء المطر على جملة (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ) [المؤمنون : ١٧] أن ماء المطر ينزل من صوب السماء ، أي من جهة السماء.

وفي إنزال ماء المطر دلالة على سعة العلم ودقيق القدرة ، وفي ذلك أيضا منة على الخلق فالكلام اعتبار وامتنان من قوله : (فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ) إلى آخره. ومعنى هذه الآية تقدّم في سورة الأنعام وسورة الرعد وسورة النحل.

وإنزال الماء هو إسقاطه من السحب ماء وثلجا وبردا على السهول والجبال.

والقدر هنا : التقدير والتعيين للمقدار في الكمّ وفي النّوبة ، فيصح أن يحمل على صريحه ، أي بمقدار معيّن مناسب للإنعام به لأنه إذا أنزل كذلك حصل به الري والتعاقب ، وكذلك ذوبان الثلوج النازلة. ويصح أن يقصد مع ذلك الكناية عن الضبط والإتقان. وليس المراد بالقدر هنا المعنى الذي في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وتؤمن بالقدر خيره وشره».

والإسكان : جعل الشيء في مسكن ، والمسكن : محل القرار ، وهو مفعل اسم مكان مشتق من السكون.

وأطلق الإسكان على الإقرار في الأرض على طريق الاستعارة. وهذا الإقرار على نوعين : إقرار قصير مثل إقرار ماء المطر في القشرة الظاهرة من الأرض عقب نزول الأمطار على حسب ما تقتضيه غزارة المطر ورخاوة الأرض وشدة الحرارة أو شدة البرد ، وهو ما ينبت به النبات في الحرث والبقل في الربيع وتمتص منه الأشجار بعروقها فتثمر إثمارها وتخرج به عروق الأشجار وأصولها من البزور التي في الأرض.

٢٤

ونوع آخر هو إقرار طويل وهو إقرار المياه التي تنزل من المطر وعن ذوب الثلوج النازلة فتتسرب إلى دواخل الأرض فتنشأ منها العيون التي تنبع بنفسها أو تفجّر بالحفر آبارا.

وجملة (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) معترضة بين الجملة وما تفرع عليها. وفي هذا تذكير بأن قدرة الله تعالى صالحة للإيجاد والإعدام

وتنكير (ذَهابٍ) للتفخيم والتعظيم. ومعنى التعظيم هنا تعدد أحوال الذهاب به من تغويره إلى أعماق الأرض بانشقاق الأرض بزلزال ونحوه ، ومن تجفيفه بشدة الحرارة ، ومن إمساك إنزاله زمنا طويلا.

وفي معناه قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) [الملك : ٣٠] ، وفي «الكشاف» : «وهو (أي ما في هاته الآية) أبلغ في الإيعاد من قوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) [الملك : ٣٠] ا ه. فبيّن صاحب «التقريب» (١)» للأبلغيّة ثمانية عشر وجها :

الأول : أن ذلك على الفرض والتقدير وهذا على الجزم على معنى أنه أدل على تحقيق ما أوعد به وإن لم يقع.

الثاني : التوكيد ب (إنّ).

الثالث : اللام في الخبر.

الرابع : أن هذه في مطلق الماء المنزل من السماء وتلك في ماء مضاف إليهم.

الخامس : أن الغائر قد يكون باقيا بخلاف الذاهب.

السادس : ما في تنكير (ذَهابٍ) من المبالغة.

السابع : إسناده هاهنا إلى مذهب بخلافه ثمّت حيث قيل (غَوْراً) [الملك : ٣٠].

الثامن : ما في ضمير المعظم نفسه من الروعة.

التاسع : ما في (لَقادِرُونَ) من الدلالة على القدرة عليه والفعل الواقع من القادر أبلغ.

__________________

(١) هو محمد السيرافي القالي الشقار من أهل أواخر القرن السابع.

٢٥

العاشر : ما في جمعه.

الحادي عشر : ما في لفظ (بِهِ) من الدلالة على أن ما يمسكه فلا مرسل له.

الثاني عشر : إخلاؤه من التعقيب بإطماع وهنالك ذكر الإتيان المطمع.

الثالث عشر : تقديم ما فيه الإيعاد وهو الذهاب على ما هو كالمتعلّق له أو متعلقه على المذهبين البصري والكوفي.

الرابع عشر : ما بين الجملتين الاسميّة والفعليّة من التفاوت ثباتا وغيره.

الخامس عشر : ما في لفظ (أَصْبَحَ) [الملك : ٣٠] من الدلالة على الانتقال والصيرورة.

السادس عشر : أن الإذهاب هاهنا مصرح به وهنالك مفهوم من سياق الاستفهام.

السابع عشر : أن هنالك نفي ماء خاص أعني المعين بخلافه هاهنا.

الثامن عشر : اعتبار مجموع هذه الأمور التي يكفي كل منها مؤكدا.

وزاد الألوسي في «تفسيره» فقال :

التاسع عشر : إخباره تعالى نفسه به من دون أمر للغير هاهنا بخلافه هنالك فإنه سبحانه أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقول ذلك.

العشرون : عدم تخصيص مخاطب هاهنا وتخصيص الكفار بالخطاب هنالك.

الحادي والعشرون : التشبيه المستفاد من جعل الجملة حالا فإنه يفيد تحقيق القدرة ولا تشبيه ثمت.

الثاني والعشرون : إسناد القدرة إليه تعالى مرتين.

ونقل الألوسي عن عصريّه المولى محمد الزهاوي وجوها وهي :

الثالث والعشرون : تضمين الإيعاد هنا إيعادهم بالإبعاد عن رحمة الله تعالى لأن (ذهب به) يستلزم مصاحبة الفاعل المفعول ، وذهاب الله تعالى عنهم مع الماء بمعنى ذهاب رحمته سبحانه عنهم ولعنهم وطردهم عنها ولا كذلك ما هناك.

الرابع والعشرون : أنه ليس الوقت للذهاب معيّنا هنا بخلافه في (إِنْ أَصْبَحَ) [الملك : ٣٠] فإنه يفهم منه أن الصيرورة في الصبح على أحد استعمالي (أصبح) ناقصا.

٢٦

الخامس والعشرون : أن جهة الذهاب به ليست معينة بأنها السفل (أي ما دل عليه لفظ غورا).

السادس والعشرون : أن الإيعاد هنا بما لم يبتلوا به قط بخلافه بما هنالك.

السابع والعشرون : أن الموعد به هنا إن وقع فهم هالكون البتة.

الثامن والعشرون : أنه لم يبق هنا لهم متشبث ولو ضعيفا في تأميل امتناع الموعد به وهناك حيث أسند الإصباح غورا إلى الماء ، ومعلوم أن الماء لا يصبح غورا بنفسه كما هو تحقيق مذهب الحكيم ، أيضا احتمل أن يتوهم الشرطية مع صدقها ممتنعة المقدّم فيأمنوا وقوعه.

التاسع والعشرون : أن الموعد به هنا يحتمل في بادئ النظر وقوعه حالا بخلافه هناك فإن المستقبل متعيّن لوقوعه لمكان (إن). وظاهر أن التهديد بمحتمل الوقوع في الحال أهول ، ومتعين الوقوع في الاستقبال أهون.

الثلاثون : أن ما هنا لا يحتمل غير الإيعاد بخلاف ما هناك فإنه يحتمل ولو علم بعد أن يكون المراد به الامتنان بأنه : إن أصبح ماؤكم غورا فلا يأتيكم بماء معين سوى الله تعالى.

وأنا أقول : عني هؤلاء النحارير ببيان التفاوت بين الآيتين ولم يتعرّض أحدهم للكشف عن وجه توفير الخصائص في هذه الآية دون الآية الأخرى مما يوازنها ، وليس ذلك لخلو الآية عن نكت الإعجاز ولا عجز الناظرين عن استخراج أمثالها ، ولكن ما يبيّن من الخصائص البلاغيّة في القرآن ليس يريد من يبينه أن ما لاح له ووفق إليه هو قصارى ما أودعه الله في نظم القرآن من الخصائص والمعاني ولكنه مبلغ ما صادف لوحه للناظر المتدبر ، والعلماء متفاوتون في الكشف عنه على قدر القرائح والفهوم فقد يفاض على أحد من إدراك الخصائص البلاغيّة في بعض الآيات ولا يفاض عليه مثله أو على مثله في غيرها. وإنما يقصد أهل المعاني بإفاضة القول في بعض الآيات أن تكون نموذجا لاستخراج أمثال تلك الخصائص في آيات أخرى كما فعل السكاكي في بيان خصائص قوله تعالى : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ) [هود : ٤٤] الآية من مبحث الفصاحة والبلاغة من «المفتاح» ، وأنه قال في منتهى كلامه «ولا تظنّنّ الآية مقصورة على ما ذكرت فلعل ما تركت أكثر مما ذكرت لأن المقصود لم يكن إلّا الإرشاد لكيفيّة اجتناء ثمرات علمي

٢٧

المعاني والبيان».

وقد نقول : إن آية سورة المؤمنين قصد منها الإنذار والتهديد بسلب تلك النعمة العظيمة ، وأما آية سورة الملك فالقصد منها الاعتبار بقدرة الله تعالى على سلبها ، فاختلاف المقامين له أثر في اختلاف المقتضيات فكانت آية سورة المؤمنين آثر بوفرة الخصائص المناسبة لمقام الإنذار والتهديد دون تعطيل لاستخراج خصائص فيها لعلنا نلم بها حين نصل إليها.

على أن سورة الملك نزلت عقب نزول سورة المؤمنين وقد يتداخل نزول بعضها مع نزول بعض سورة المؤمنين ، فلما أشبعت آية سورة المؤمنين بالخصوصيات التي اقتضاها المقام اكتفي عن مثلها في نظيرتها من سورة الملك فسلك في الثانية مسلك الإيجاز لقرب العهد بنظيرها.

وإنشاء الجنات من صنع الله تعالى أول إنبات الجنات في الأرض ومن بعد ذلك أنبتت الجنات بغرس البشر وذلك أيضا من صنع الله بما أودع في العقول من معرفة الغرس والزرع والسقي وتفجير المياه واجتلابها من بعد فكل هذا الإنشاء من الله تعالى.

والجنّة : المكان ذو الشجر ، وأكثر إطلاقه على ما كان فيه نخل وكرم. وقد تقدم عند قوله تعالى : (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ) الآية في سورة البقرة [٢٦٥].

وما ذكر هنا من أصناف الشجر الثلاثة هو أكرم الشجر وأنفعه ثمرا وهو النخيل والأعناب والزيتون ، وتقدم الكلام على النخيل والأعناب والزيتون في سورة الأنعام [٩٩] وفي سورة النحل [١١].

والفواكه : جمع فاكهة ، وهي الطعام الذي يتفكه بأكله ، أي يتلذذ بطعمه من غير قصد القوت ، فإن قصد به القوت قيل له طعام. فمن الأطعمة ما هو فاكهة وطعام كالتمر والعنب لأنه يؤكل رطبا ويابسا ، ومنها ما هو فاكهة وليس بطعام كاللوز والكمثرى ، ومنها ما هو طعام غير فاكهة كالزيتون ، ولذلك أخر ذكر شجرة الزيتون عن ذكر أخويها لأنه أريد الامتنان بما في ثمرتهما من التفكه والقوت فتكون منّة بالحاجيّ والتحسيني.

ووصف الفواكه ب (كَثِيرَةٌ) باعتبار اختلاف الأصناف كالبسر والرطب والتمر ، وكالزيت والعنب الرّطب ، وأيضا باعتبار كثرة إثمار هذين الشجرين.

(وَشَجَرَةً) عطف على (جَنَّاتٍ) أي وأخرجنا لكم به شجرة تخرج من طور سيناء

٢٨

وهي شجرة الزيتون ، وجملة (تَخْرُجُ) صفة ل (شَجَرَةً) وتخصيصها بالذكر مع طي كون الناس منها يأكلون تنويه بشأنها ، وإيماء إلى كثرة منافعها لأن من ثمرتها طعاما وإصلاحا ومداواة ، ومن أعودها وقود وغيره ، وفي الحديث «كلوا الزيت وادّهنوا به فإنّه من شجرة مباركة».

وطور سيناء : جبل في صحراء سيناء الواقعة بين عقبة أيلة وبين مصر ، وهي من بلاد فلسطين في القديم وفيه ناجى موسى ربه تعالى ، وتقدم الكلام عليه في سورة الأعراف [١٤٣] عند قوله : (وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ) ، وغلب عليه اسم الطور بدون إضافة ، وطور سيناء أو طور سينين. ومعنى الطور الجبل. وسيناء قيل اسم شجر يكثر هنالك. وقيل اسم حجارة. وقيل هو اسم لذلك المكان ، قيل هو اسم نبطي وقيل هو اسم حبشي ولا يصح. وإنما اغتر من قاله بمشابهة هذا الاسم لوصف الحسن في اللغة الحبشيّة وهو كلمة سناه ، ومثل هذا التشابه قد أثار أغلاطا.

وسكنت ياء (سَيْناءَ) سكونا ميّتا وبه قرأ الجمهور. ويجوز فيها الفتح وسكون الياء سكونا حيا ، وبه قرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي وخلف ، وهو في القراءتين ممدود ، وهو فيهما ممنوع من الصرف فقيل للعلميّة والعجمة على قراءة الكسر لأن وزن فعلاء إذا كان عينه أصلا لا تكون ألفه للتأنيث بل للإلحاق وألف الإلحاق لا تمنع الصرف ، وعلى قراءة الفتح فمنعه لأجل ألف التأنيث لأن وزن فعلاء من أوزان ألف التأنيث.

وقوله : (تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ) يقتضي أن لها مزيد اختصاص بطور سيناء. وقد غمض وجه ذاك. والذي أراه أن الخروج مستعمل في معنى النشأة والتخلق كقوله تعالى : (فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) [طه : ٥٣] وقوله : (يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) [الزمر : ٢١] ، وذلك أن حقيقة الخروج هو البروز من المكان ولما كان كل مخلوق يبرز بعد العدم وكان المكان لازما لكل حادث شبه ظهور الشيء بعد أن كان معدوما بخروج الشيء من المكان الذي كان محجوبا فيه. وهي استعارة شائعة في القرآن.

فيظهر أن المعنى أن الله خلق أول شجر الزيتون في طور سيناء ، وذلك أن الأجناس والأنواع الموجودة على الكرة الأرضية لا بد لها من مواطن كان فيها ابتداء وجودها قبل وجودها في غيرها لأن بعض الأمكنة تكون أسعد لنشأة بعض الموجودات من بعض آخر لمناسبة بين طبيعة المكان وطبيعة الشيء الموجود فيه من حرارة أو برودة أو اعتدال ،

٢٩

وكذلك فصول السنة كالربيع لبعض الحيوان والشتاء لبعض آخر والصيف لبعض غيرها فالله تعالى يوجد الموجودات في الأحوال المناسبة لها فالحيوان والنبات كله جار على هذا القانون.

ثم إن البشر إذا نقلوا حيوانا أو نباتا من أرض إلى أرض أو أرادوا الانتفاع به في فصل غير فصله ورأوا عدم صلاحية المكان أو الزمان المنقول إليهما يحتالون له بما يكمل نقصه من تدفئة في شدة برد أو تبريد بسبح في الماء في شدة الحر حتى لا يتعطل تناسل ذلك المنقول إلى غير مكانه ، فكما أن بعض الحيوان أو النبات لا يعيش طويلا في بعض المناطق غير الملائمة لطباعه كالغزال في بلاد الثلوج فكذلك قد يكون بعض الأماكن من المنطقة الملائمة للحيوان أو النبات أصلح به من بعض جهات تلك المنطقة ، فلعل جوّ طور سيناء لتوسطه بين المناطق المتطرفة حرّا وبردا ولتوسط ارتفاعه بين النجود والسهول يكون أسعد بطبع فصيلة الزيتون كما قال تعالى : (زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) [النور : ٣٥] ، فالله تعالى هيأ لتكوينها حين أراد تكوينها ذلك المكان كما هيأ لتكوين آدم طينة خاصة فقال : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ) [الرحمن : ١٤] ثم يكون الزيتون قد نقل من أول مكان ظهر فيه إلى أمكنة أخرى نقله إليها ساكنوها للانتفاع به فنجح في بعضها ولم ينجح في بعض.

وقد ثبت في التوراة أن شجرة الزيتون كانت موجودة قبل الطوفان وبعده. ففي الإصحاح الثامن من سفر التكوين : أن نوحا أرسل حمامة تبحث عن مكان غيضت عنه مياه الطوفان فرجعت الحمامة عند المساء تحمل في منقارها ورقة زيتون خضراء فعلم نوح أن الماء أخذ يغيض عن الأرض. ومعلوم أن ابتداء غيض الماء إنما ينكشف عن أعالي الجبال أول الأمر فلعل ورقة الزيتون التي حملتها الحمامة كانت من شجرة في طور سيناء. وأيّا ما كان فقد عرف نوح ورقة الزيتون فدل على أنهم كانوا يعرفون هذه الشجرة من قبل الطوفان. ولكن لم يرد ذكر استعمال زيت الزيتون في طعام في التاريخ القديم إلّا في عهد موسى عليه‌السلام أيام كان بنو إسرائيل حول طور سيناء ؛ فقد استعمل الزيت لإنارة خيمة الاجتماع بوحي الله لموسى (١) ، وسكب موسى دهن المسحة على رأس هارون أخيه حين أقامه كاهنا لبني إسرائيل (٢).

__________________

(١) الإصحاح / ٢٥ / من سفر الخروج.

(٢) الإصحاح / ٩ / من سفر الخروج.

٣٠

ويجوز أن يكون معنى (تَخْرُجُ) تظهر وتعرف ، فيكون أول اهتداء الناس إلى منافع هذه الشجرة وانتقالهم إياها كان من الزيتون الذي بطور سيناء. وهذا كما نسمّي الديك الرومي في بلدنا بالديك الهندي لأن الناس عرفوه من بلاد الهند ، وكما تسمى بعض السيوف في بلاد العرب بالمشرفيّة لأنّها عرفت من مشارف الشام ، وبعض الرماح الخطية لأنها ترد إلى بلاد العرب من مرفإ يقال له : الخط ، وبعض السيوف بالمهنّد لأنّه يجلب من الهند ، وقد كان الزيت يجلب إلى بلاد العرب من الشام ومن فلسطين.

وأيّا ما كان فليس القصد من ذكر أنها تخرج من طور سيناء إلّا التنبيه على أنه منبتها الأصلي وإلّا فإن الامتنان بها لم يكن موجها يومئذ لسكان طور سيناء ، وما كان هذا التنبيه إلّا للتنويه بشرف منبتها وكرم الموطن الذي ظهرت فيه ، ولم تزل شجرة الزيتون مشهورة بالبركة بين الناس. ورأيت في «لسان العرب» عن الأصمعي عن عبد الملك بن صالح : أن كل زيتونة بفلسطين فهي من غرس أمم يقال لهم اليونانيون ا ه. والظاهر أنه يعني به زيتون زمانهم الذي أخلفوا به أشجارا قديمة بادت.

وفي أساطير اليونان (ميثولوجيا) أن منيرفا ونبتون (الربين في اعتقاد اليونان) تنازعا في تعيين أحدهما ليضع اسما لمدينة بناها (ككرابيس) فحكمت الأرباب بينهما بأن هذا الشرف لا يناله إلّا من يصنع أنفع الأشياء. فأما (نبتون) فأوجد فرسا بحريا عظيم القوة ، وأما (مينيرفا) فصنعت شجرة الزيتون بثمرتها ، فحكم الأرباب لها بأنها أحق ، فلذلك وضعوا للمدينة اسم (أثينا) الذي هو اسم منيرفا. وزعموا أن (هيركول) لما رجع من بعض غزواته جاء معه بأغصان من الزيتون فغرسها في جبل (أولمبوس) وهو مسكن آلهتهم في زعمهم.

فقد كان زيت الزيتون مستعملا عند اليونان من عهد (هوميروس) إذ ذكر في الإلياذة أن (أخيل) سكب زيتا على شلو (فطر قليوس) وشلو (هكتور).

وكان الزيت نادرا في معظم بلاد العرب إذ كان يجلب إلى بلاد العرب من الشام.

وقد ضرب الله بزيت الزيتونة مثلا لنوره في قوله : (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ) [النور : ٣٥].

والتعبير بالمضارع في قوله : (تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ) لاستحضار الصورة العجيبة المهمة التي كونت بها تلك الشجرة في أول تكوينها حتى كأن السامع يبصرها خارجة

٣١

بالنبات في طور سيناء ، وذلك كقوله : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) [المائدة : ١١٠] ، وهذا أنسب بالوجه الأول في تفسير معنى (تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ).

ومعنى (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) أنها تنبت ملابسة للدهن فالباء للملابسة.

وهذه الآية مثال لباء الملابسة ، والملابسة معنى واسع ، فملابسة نبات شجرة الزيتون للدهن والصبغ ملابسة بواسطة ملابسة ثمرتها للدهن والصبغ ، فإن ثمرتها تشتمل على الزيت وهو يكون دهنا وصبغا للآكلين ، فأما كونه دهنا ، فهو أنه يدهن به الناس أجسادهم ويرجّلون به شعورهم ويجعلون فيه عطورا فيرجلون به الشعور ، وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدّهن بالزيت في رأسه.

والدّهن بضم الدال : اسم لما يدهن به ، أي يطلى به شيء ، ويطلق الدهن على الزيت باعتبار أنه يطلى به الجسد للتداوي والشّعر للترجيل.

والصّبغ ، بكسر الصّاد : ما يصبغ به أي يغير به اللّون. ثم توسع في إطلاقه على كل مائع يطلى به ظاهر جسم ما ، ومنه قوله تعالى : (صِبْغَةَ اللهِ) [البقرة : ١٣٨]. وسمي الزيت صبغا لأنه يصبغ به الخبز. وعطف (صِبْغٍ) على (بِالدُّهْنِ) باعتبار المغايرة في ما تدل عليه مادّة اشتقاق الوصف فإن الصبغ ما يصبغ به والدهن ما يدهن به والصبغ أخص ؛ فهو من باب عطف الخاص على العام للاهتمام ، وكانوا يأدمون به الطعام وذلك صبغ للطعام ، أخرج الترمذي في «سننه» عن عمر بن الخطاب وعن أبي أسيد أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كلوا الزيت وادّهنوا به فإنه من شجرة مباركة».

وقرأ الجمهور (تَنْبُتُ) بفتح التاء وضم الموحدة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ورويس ويعقوب بضم التاء وكسر الموحدة على لغة من يقول : أنبت بمعنى نبت أو على حذف المفعول ، أي تنبت هي ثمرها ، أي تخرجه.

[٢١ ، ٢٢] (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢))

هذا العطف مثل عطف جملة (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ) [المؤمنون : ١٨] ففيه كذلك استدلال ومنة.

والعبرة : الدليل لأنه يعبر من معرفته إلى معرفة أخرى. والمعنى : إن في الأنعام

٣٢

دليلا على انفراد الله تعالى بالخلق وتمام القدرة وسعة العلم. والأنعام تقدم أنها الإبل في غالب عرف العرب.

وجملة (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها) بيان لجملة (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) فلذلك لم تعطف لأنها في موقع المعطوف عطف البيان.

والعبرة حاصلة من تكوين ما في بطونها من الألبان الدال عليه (نُسْقِيكُمْ). وأما (نُسْقِيكُمْ) بمجردة فهو منة. وقد تقدم نظير هذه الآية مفصلا في سورة النحل [٦٦].

وجملة (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ) وما بعدها معطوفة على جملة (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها) فإن فيه بقية بيان العبرة وكذلك الجمل بعده. وهذه المنافع هي الأصواف والأوبار والأشعار والنّتاج.

وأما الأكل منها فهو عبرة أيضا إذ أعدها الله صالحة لتغذية البشر بلحومها لذيذة الطعم ، وألهم إلى طريقة شيّها وصلقها وطبخها ، وفي ذلك منة عظيمة ظاهرة.

وكذلك القول في معنى (وَعَلَيْها) .. (تُحْمَلُونَ) فإن في ذلك عبرة بإعداد الله تعالى إياها لذلك وفي ذلك منة ظاهرة ، والحمل صادق بالركوب وبحمل الأثقال.

وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم بفتح النون ، وقرأه الباقون عدا أبا جعفر ـ بضم النون ـ يقال : سقاه وأسقاه بمعنى ، وقرأه أبو جعفر بتاء التأنيث مفتوحة على أن الضمير للأنعام.

وعطف (وَعَلَى الْفُلْكِ) إدماج وتهيئة للتخلص إلى قصة نوح.

[٢٣ ـ ٢٥] (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥))

لما كان الاستدلال والامتنان اللذان تقدما موجهين إلى المشركين الذين كفروا بالنبيءصلى‌الله‌عليه‌وسلم واعتلوا لذلك بأنهم لا يؤمنون برسالة بشر مثلهم وسألوا إنزال ملائكة ووسموا الرسول عليه الصلاة والسلام بالجنون ، فلما شابهوا بذلك قوم نوح ومن جاء بعدهم ناسب

٣٣

أن يضرب لهم بقوم نوح مثل تحذيرا مما أصاب قوم نوح من العذاب ، وقد جرى في أثناء الاستدلال والامتنان ذكر الحمل في الفلك فكان ذلك مناسبة للانتقال فحصل بذلك حسن التخلص ، فيعتبر ذكر قصص الرسل إما استطرادا في خلال الاستدلال على الوحدانيّة ، وإمّا انتقالا كما سيأتي عند قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) [المؤمنون : ٧٨].

وتصدير الجملة بلام القسم تأكيد للمضمون التهديدي من القصة ، فالمعنى تأكيد الإرسال إلى نوح وما عقّب به ذلك.

وعطف مقالة نوح على جملة إرساله بفاء التعقيب لإفادة أدائه رسالة ربه بالفور من أمره وهو شأن الامتثال.

وأمره قومه بأن يعبدوا الله يقتضي أنهم كانوا معرضين عن عبادة الله بأن أقبلوا على عبادة أصنامهم (ودّ ، وسواع ، ويغوث ، ويعوق ، ونسر) حتى أهملوا عبادة الله ونسوها. وكذلك حكيت دعوة نوح قومه في أكثر الآيات بصيغة أمر بأصل عبادة الله دون الأمر بقصر عبادتهم على الله مع الدلالة على أنهم ما كانوا ينكرون وجود الله ولذلك عقب كلامه بقوله : (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ).

ويدل على هذا قولهم : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) فهم مثبتون لوجود الله ، فجملة (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) في موقع التعليل للأمر بعبادته وهو تعليل أخص من المعلّل ، وهو أوقع لما فيه من الإيجاز لاقتضائه معنى : اعبدوا الله وحده. فالمعنى : اعبدوا الله الذي تركتم عبادته وهو إلهكم دون غيره فلا يستحق غيره العبادة فلا تعبدوا أصنامكم معه.

و (غَيْرُهُ) نعت ل (إِلهٍ). قرأه الجمهور بالرفع على اعتبار محل المنعوت ب (غير) لأن المنعوت مجرور بحرف جر زائد ، وقرأه الكسائي بالجر على اعتبار اللفظ المجرور بالحرف الزائد.

وفرع على الأمر بإفراده بالعبادة استفهام إنكار على عدم اتقائهم عذاب الله تعالى.

وقد خولفت في حكاية جواب الملإ من قومه الطريقة المألوفة في القرآن في حكاية المحاورات وهي ترك العطف التي جرى عليها قوله : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) في سورة البقرة [٣٠]. فعطف هنا جواب الملإ من قومه بالفاء لوجهين :

٣٤

أحدهما : أنهم لم يوجهوا الكلام إليه بل تركوه وأقبلوا على قومهم يفندون لهم ما دعاهم إليه نوح.

والثاني : ليفاد أنهم أسرعوا بتكذيبه وتزييف دعوته قبل النظر. ووصف الملإ بأنهم الذين كفروا للإيماء إلى أن كفرهم هو الذي أنطقهم بهذا الرد على نوح ، وهو تعريض بأن مثل ذلك الرد لا نهوض له ولكنهم روّجوا به كفرهم خشية على زوال سيادتهم.

وقوله : (مِنْ قَوْمِهِ) صفة ثانية.

وقول الملأ من قومه : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) خاطب به بعضهم بعضا إذ الملأ هم القوم ذوو السيادة والشّارة ، أي فقال عظماء القوم لعامتهم.

وإخبارهم بأنه بشر مثلهم مستعمل كناية عن تكذيبه في دعوى الرسالة بدليل من ذاته ، أوهموهم أن المساواة في البشرية مانعة من الوساطة بين الله وبين خلقه ، وهذا من الأوهام التي أضلت أمما كثيرة. واسم الإشارة منصرف إلى نوح وهو يقتضي أن كلام الملإ وقع بحضرة نوح في وقت دعوته ، فعدلوا من اسمه العلم إلى الإشارة لأن مقصودهم تصغير أمره وتحقيره لدى عامتهم كيلا يتقبلوا قوله ، وقد تقدم نظير هذا في سورة هود.

وزادت هذه القصة بحكاية قولهم : (يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) فإن سادة القوم ظنوا أنه ما جاء بتلك الدعوة إلّا حبا في أن يسود على قومهم فخشوا أن تزول سيادتهم وهم بجهلهم لا يتدبرون أحوال النفوس ولا ينظرون مصالح الناس ولكنهم يقيسون غيرهم على مقياس أنفسهم.

فلما كانت مطامح أنفسهم حبّ الرئاسة والتوسل إليها بالانتصاب لخدمة الأصنام توهموا أن الذي جاء بإبطال عبادة الأصنام إنما أراد منازعتهم سلطانهم.

والتفضل : تكلف الفضل وطلبه ، والفضل أصله الزيادة ثم شاع في زيادة الشرف والرفعة ، أي يريد أن يكون أفضل الناس لأنه نسبهم كلهم إلى الضلال.

وقولهم : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) عطف على جملة (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) بعد أن مهدوا له بأن البشرية مانعة من أن يكون صاحبها رسولا لله ، وحذف مفعول فعل المشيئة لظهوره من جواب (لو) ، أي لو شاء الله إرسال رسول لأنزل ملائكة رسلا ، وحذف مفعول المشيئة جائز إذا دلت عليه القرينة ، وذلك من الإيجاز ، ولا يختص بالمفعول الغريب مثلما قال صاحب «المفتاح» : ألا ترى قول المعري :

٣٥

وإن شئت فازعم أنّ من فوق ظهرها

عبيدك واستشهد إلهك يشهد

وهل أغرب من هذا الزعم لو كانت الغرابة مقتضية ذكر مفعول المشيئة. فلما دل عليه مفعول جواب الشرط حسن حذفه من فعل الشرط.

وجملة (ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) مستأنفة قصدوا بها تكذيب الدعوة بعد تكذيب الداعي ، فلذلك جيء بها مستأنفة غير معطوفة تنبيها على أنها مقصودة بذاتها وليست تكملة لها قبلها ، بخلاف أسلوب عطف جملة : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) إذ كان مضمونها من تمام غرض ما قبلها.

فالإشارة ب (هذا) إلى الكلام الذي قاله نوح ، أي ما سمعنا بأن ليس لنا إله غير الله في مدة أجدادنا ، فالمقصود بالإشارة معنى الكلام لا نفسه ، وهو استعمال شائع. ولما كان حرف الظرفية يقتضي زمنا تعين أن يكون مدخوله على تقدير مضاف ، أي في مدة آبائنا لأن الآباء لا يصلح للظرفية. والآباء الأولون هم الأجداد.

ولما كان السماع المنفي ليس سماعا بآذانهم لكلام في زمن آبائهم بل المراد ما بلغ إلينا وقوع مثل هذا في زمن آبائنا ، عدّي فعل (سَمِعْنا) بالباء لتضمينه معنى الاتصال. جعلوا انتفاء علمهم بالشيء حجة على بطلان ذلك الشيء ، وهو مجادلة سفسطائيّة إذ قد يكون انتفاء العلم عن تقصير في اكتساب المعلومات ، وقد يكون لعدم وجود سبب يقتضي حدوث مثله بأن كان الناس على حق فلم يكن داع إلى مخاطبتهم بمثل ذلك ، وقد كان الناس من زمن آدم على الفطرة حتى حدث الشرك في الناس فأرسل الله نوحا فهو أول رسول أرسل إلى أهل الأرض كما ورد في حديث الشفاعة.

وجملة (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) استئناف بياني لأن جميع ما قالوه يثير في نفوس السامعين أن يتساءلوا إذا كان هذا حال دعوته في البطلان والزيف فما ذا دعاه إلى القول بها؟ فيجاب بأنه أصابه خلل في عقله فطلب ما لم يكن ليناله مثله من التفضل على الناس كلهم بنسبتهم إلى الضلال فقد طمع فيما لا يطمع عاقل في مثله فدل طمعه في ذلك على أنه مجنون.

والتنوين في (جِنَّةٌ) للنوعية ، أي هو متلبس بشيء من الجنون ، وهذا اقتصاد منهم في حاله حيث احترزوا من أن يورطوا أنفسهم في وصفه بالخبال مع أن المشاهد من حاله ينافي ذلك فأوهموا قومهم أن به جنونا خفيفا لا يبدو آثاره واضحة.

٣٦

وقصروه على صفة المجنون وهو قصر إضافيّ ، أي ليس برسول من الله.

وفرعوا على ذلك الحكم أمرا لقومهم بانتظار ما ينكشف عنه أمره بعد زمان : إمّا شفاء من الجنّة فيرجع إلى الرشد ، أو ازدياد الجنون به فيتضح أمره فتعلموا أن لا اعتداد بكلامه.

والحين : اسم للزمان غير المحدود.

والتربص : التوقف عن عمل يراد عمله والتريث فيه انتظارا لما قد يغني عن العمل أو انتظارا لفرصة تمكّن من إيقاعه على أتقن كيفية لنجاحه ، وهو فعل قاصر يتعدّى إلى المفعول بالباء التي هي للتعدية ومعناها السببية ، أي كان تربص المتربص بسبب مدخول الباء. والمراد : بسبب ما يطرأ عليه من أحوال ، فهو على نية مضاف حذف لكثرة الاستعمال ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ) في سورة براءة [٩٨] فانظره مع ما هنا.

[٢٦ ، ٢٧] (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٢٦) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٢٧))

استئناف بياني لأن ما حكي عن صدهم الناس عن تصديق دعوة نوح وما لفقوه من البهتان في نسبته إلى الجنون ، مما يثير سؤال من يسأل عمّا ذا صنع نوح حين كذّبه قومه فيجاب بأنه قال : (رَبِّ انْصُرْنِي) إلخ.

ودعاؤه بطلب النصر يقتضي أنه عدّ فعلهم معه اعتداء عليه بوصفه رسولا من عند ربه.

والنصر : تغليب المعتدى عليه على المعتدي ، فقد سأل نوح نصرا مجملا كما حكي هنا ، وأعلمه الله أنه لا رجاء في إيمان قومه إلّا من آمن منهم كما جاء في سورة هود ، فلا رجاء في أن يكون نصره برجوعهم إلى طاعته وتصديقه واتّباع ملته ، فسأل نوح حينذاك نصرا خاصا وهو استئصال الذين لم يؤمنوا كما جاء في سورة نوح [٢٦ ، ٢٧](وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً* إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ). فالتعقيب الذي في قوله تعالى هنا : (فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) تعقيب بتقدير جمل محذوفة كما علمت ، وهو

٣٧

إيجاز في حكاية القصة كما في قوله تعالى : (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) إلخ في سورة الشّعراء [٦٣].

والباء في (بِما كَذَّبُونِ) سببية في موضع الحال من النصر المأخوذ من فعل الدعاء ، أي نصرا كائنا بسبب تكذيبهم ، فجعل حظ نفسه فيما اعتدوا عليه ملغى واهتم بحظ الرسالة عن الله لأن الاعتداء على الرسول استخفاف بمن أرسله.

وجملة (أَنِ اصْنَعِ) جملة مفسرة لجملة (فَأَوْحَيْنا) لأن فعل أوحينا فيه معنى القول دون حروفه ، وتقدم نظير جملة (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) في سورة هود [٣٧].

وفرع على الأمر بصنع الفلك تفصيل ما يفعله عند الحاجة إلى استعمال الفلك فوقّت له استعماله بوقت الاضطرار إلى إنجاء المؤمنين والحيوان.

وتقدم الكلام على معنى (فارَ التَّنُّورُ) ومعنى (زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) في سورة هود [٤٠].

والزوج : اسم لكل شيء له شيء آخر متصل به بحيث يجعله شفعا في حالة ما. وتقدم في سورة هود.

وإنما عبر هنالك بقوله : (قُلْنَا احْمِلْ فِيها) [هود : ٤٠] وهنا بقوله : (فَاسْلُكْ فِيها) لأن آية سورة هود حكت ما خاطبه الله به عند حدوث الطوفان وذلك وقت ضيق فأمرّ بأن يحمل في السفينة من أراد الله إبقاءهم ، فأسند الحمل إلى نوح تمثيلا للإسراع بإركاب ما عيّن له في السفينة حتّى كأنّ حاله في إدخاله إيّاهم حال من يحمل شيئا ليضعه في موضع ، وآية هذه السورة حكت ما خاطبه الله به من قبل حدوث الطوفان إنباء بما يفعله عند حدوث الطوفان فأمره بأنه حينئذ يدخل في السفينة من عيّن الله إدخالهم ، مع ما في ذلك من التفنن في حكاية القصة.

ومعنى (فَاسْلُكْ) أدخل ، وفعل (سلك) يكون قاصرا بمعنى دخل ومتعديا بمعنى أدخل ومنه قوله تعالى : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) [المدثر : ٤٢]. وقول الأعشى :

كما سلك السّكيّ في الباب فيتق

٣٨

وتقدم الكلام على مثل قوله : (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) في سورة هود [٣٧].

وقرأ الجمهور (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ) بإضافة (كُلٍ) إلى (زَوْجَيْنِ). وقرأه حفص بالتنوين (كُلٍ) على أن يكون (زَوْجَيْنِ) مفعول (فَاسْلُكْ) ، وتنوين (كُلٍ) تنوين عوض يشعر بمحذوف أضيف إليه (كُلٍ). وتقديره : من كل ما أمرتك أن تحمله في السفينة.

[٢٨ ، ٢٩] (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩))

الاستواء : الاعتلاء. وتقدم عند قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) في سورة الأعراف [٥٤].

وإطلاق الاستواء على الاستقرار في داخل السفينة مجاز مرسل بعلاقة الإطلاق وإلا فحقيقة الاستقرار في الفلك أنه دخول. وأتي بحرف الاستعلاء دون حرف الظرفية لأنه الذي يتعدى به معنى الاعتلاء إيذانا بالتمكن من الفلك فهو ترشيح للمجاز.

والتنجية من القوم الظالمين : الإنجاء من أذاهم والكون فيهم لأن في الكون بينهم مشاهدة كفرهم ومناكرهم وذلك مما يؤذي المؤمن.

والظلم : يجوز أن يراد به الشرك كما قال تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان: ١٣] ، ويجوز أن يراد به الاعتداء على الحق لأن الكافرين كانوا يؤذون نوحا والمؤمنين بشتّى الأذى باطلا وعدوانا وإنما كان ذلك إنجاء لأنهم قد استقلوا بجماعتهم فسلموا من الاختلاط بأعدائهم.

وقد ألهمه الله بالوحي أن يحمد ربه على ما سهّل له من سبيل النجاة وأن يسأله نزولا في منزل مبارك عقب ذلك الترحل ، والدعاء بذلك يتضمن سؤال سلامة من غرق السفينة. وهذا كالمحامد التي يعلمها الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الشفاعة. فيكون في ذلك التعليم إشارة إلى أنه سيتقبّل ذلك منه.

وجملة (وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) في موضع الحال. وفيها معنى تعليل سؤاله ذلك.

وقرأ الجمهور (مُنْزَلاً) ـ بضم الميم وفتح الزاي ـ وهو اسم مفعول من (أنزله) على حذف المجرور ، أي منزلا فيه. ويجوز أن يكون مصدرا ، أي إنزالا مباركا. والمعنيان

٣٩

متلازمان. وقرأه أبو بكر عن عاصم بفتح الميم وكسر الزاي ، وهو اسم لمكان النزول.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (٣٠))

لما ذكر هذه القصة العظيمة أعقبها بالتنبيه إلى موضع العبرة منها للمسلمين فأتى بهذا الاستئناف لذلك.

والإشارة إلى ما ذكر من قصة نوح مع قومه وما فيها. والآيات : الدلالات ، أي لآيات كثيرة منها ما هي دلائل على صدق رسالة نوح وهي إجابة دعوته وتصديق رسالته وإهلاك مكذبيه ، ومنها آيات لأمثال قوم نوح من الأمم المكذبين لرسلهم ، ومنها آيات على عظيم قدرة الله تعالى في إحداث الطوفان وإنزال من في السفينة منزلا مباركا ، ومنها آيات على علم الله تعالى وحكمته إذ قدّر لتطهير الأرض من الشرك مثل هذا الاستيصال العام لأهله. وإذ قدر لإبقاء الأنواع مثل هذا الصنع الذي أنجى به من كل نوع زوجين ليعاد التناسل.

وعطف على جملة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) جملة (وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) لأن مضمون (وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) يفيد معنى : إن في ذلك لبلوى ، فكأنه قيل : إن في ذلك لآيات وابتلاء وكنا مبتلين ، أي وشأننا ابتلاء أوليائنا. فإن الابتلاء من آثار الحكمة الإلهيّة لترتاض به نفوس أوليائه وتظهر مغالبتها للدواعي الشيطانيّة فتحمد عواقب البلوى ، ولتتخبّط نفوس المعاندين وينزوي بعض شرها زمانا.

والمعنى : أن ما تقدم قبل الطوفان من بعد بعثة نوح من تكذيب قومه وأذاهم إياه والمؤمنين معه إنما كان ابتلاء من الله لحكمته تعالى ليميّز الله للنّاس الخبيث من الطيب ولو شاء الله لآمن بنوح قومه ثم لو شاء الله لنصره عليهم من أول يوم وهذه سنّة إلهيّة. وفي هذا المعنى ما جاء في حديث أبي سفيان أن هرقل قال له «وكذلك الأنبياء تبتلى ثم تكون لهم العاقبة» ، وفي القرآن (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص : ٨٣].

والابتلاء تقدم في قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ) [البقرة : ١٢٤] وقوله : (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) في سورة البقرة [٤٩].

وفي قوله : (وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) تسلية للنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما يلقاه من المشركين ، وتعريض بتهديد المشركين بأن ما يواجهون به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا بقاء له وإنما هو بلوى تزول عنه وتحل بهم ولكلّ حظّ يناسبه.

٤٠