تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٨

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٨

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٥٦

ونسقي الحاج ونقري الضيف. كما أشار إليه قوله تعالى : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [التوبة : ١٩] يعدون أعمالا من أفعال الخير فكانت هذه الآيات إبطالا لحسبانهم ، قال تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان : ٢٣] وقد أعلمناك أن هذه السورة نزل أكثرها عقب الهجرة وذلك حين كان المشركون يتعقبون أخبار المسلمين في مهاجرهم ويتحسسون ما نزل من القرآن.

والجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) مبتدأ وخبره جملة : (أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ) إلخ. وجعل المسند إليه ما يدل على ذوات الكافرين ثم بني عليه مسند إليه آخر وهو (أَعْمالُهُمْ). ولم يجعل المسند إليه أعمال الذين كفروا من أول وهلة لما في الافتتاح بذكر الذين كفروا من التشويق إلى معرفة ما سيذكر من شئونهم ليتقرر في النفس كمال التقرر وليظهر أن للذين كفروا حظا في التمثيل بحيث لا يكون المشبه أعمالهم خاصة.

وفي الإتيان بالموصول وصلته إيماء إلى وجه بناء الخبر. وهو أنه من جزاء كفرهم بالله. على أنه قد يكون عنوان الذين كفروا قد غلب على المشركين من أهل مكة فيكون افتتاح الكلام بهذا الوصف إشارة إلى أنه إبطال لشيء اعتقده الذين كفروا. فتشبيه الكافرين وأعمالهم تشبيه تمثيلي : شبهت حالة كدهم في الأعمال وحرصهم على الاستكثار منها مع ظنهم أنها تقربهم إلى رضى الله ثم تبيّن أنها لا تجديهم بل يلقون العذاب في وقت ظنهم الفوز : شبه ذلك بحالة ظمئان يرى السراب فيحسبه ماء فيسعى إليه فإذا بلغ المسافة التي خال أنها موقع الماء لم يجد ماء ووجد هنالك غريما يأسره ويحاسبه على ما سلف من أعماله السيئة.

واعلم أن الحالة المشبهة مركبة من محسوس ومعقول والحالة المشبه بها حالة محسوسة. أي داخلة تحت إدراك الحواس.

والسراب : رطوبة كثيفة تصعد على الأرض ولا تعلو في الجو تنشأ من بين رطوبة الأرض وحرارة الجو في المناطق الحارة الرملية فيلوح من بعيد كأنه ماء. وسبب حدوث السراب اشتداد حرارة الرمال في أرض مستوية فتشتد حرارة طبقة الهواء الملاصقة للرمل وتحرّ الطبقة الهوائية التي فوقها حرّا أقل من حرارة الطبقة الملاصقة. وهكذا تتناقص الحرارة في كل طبقة من الهواء عن حرارة الطبقة التي دونها. وبذلك تزداد كثافة الهواء بزيادة الارتفاع عن سطح الأرض. وبحرارة الطبقة السفلى التي تلي الأرض تحدث فيها

٢٠١

حركات تموجية فيصعد جزء منها إلى ما فوقها من الطبقات وهكذا .. فتكون كل طبقة أكثف من التي تحتها. فإذا انعكس على تلك الأشعة نور الجو من قرب طلوع الشمس إلى بقية النهار تكيّفت تلك الأشعة بلون الماء. ففي أول ظهور النور يلوح السراب كأنه الماء الراكد أو البحر وكلما اشتد الضياء ظهر في السراب ترقرق كأنه ماء جار.

ثم قد يطلق السراب على هذا الهواء المتموج في سائر النهار من الغدوة إلى العصر. وقد يخص ما بين أول النهار إلى الضحى باسم الآل ثم سراب. وعلى هذا قول أكثر أهل اللغة والعرب يتسامحون في إطلاق أحد اللفظين مكان الآخر ، وقد شاهدته في شهر نوفمبر فيما بين الفجر وطلوع الشمس بمقربة من موضع يقال له : أم العرائس من جهات توزر ، وأنا في قطار السكة الحديدية فخلت في أول النظر أنا أشرفنا على بحر.

وقوله : (بِقِيعَةٍ) الباء بمعنى في. و (قيعة) أرض ، والجار والمجرور وصف لسراب وهو وصف كاشف لأن السراب لا يتكون إلا في قيعة. وهذا كقولهم في المثل للذليل «هو فقع في قرقر» فإن الفقع لا ينبت إلا في قرقر. والقيعة : الأرض المنبسطة ليس فيها ربّى ويرادفها القاعة. وقيل قيعة جمع قاع مثل جيرة جمع جار ، ولعله غلب لفظ الجمع فيه حتى ساوى المفرد.

وقوله : (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً) يفيد وجه الشبه ويتضمن أحد أركان التمثيل وهو الرجل العطشان وهو مشابه الكافر صاحب العمل.

و (حَتَّى) ابتدائية فهي بمعنى فاء التفريع. ومجيء الظمآن إلى السراب يحصل بوصوله إلى مسافة كان يقدرها مبدأ الماء بحسب مرأى تخيله ، كأن يحدده بشجرة أو صخرة. فلما بلغ إلى حيث توهم وجود الماء لم يجد الماء فتحقق أن ما لاح له سراب. فهذا معنى قوله : (حَتَّى إِذا جاءَهُ) ، أي إذا جاء الموضع الذي تخيّل أنه إن وصل إليه يجد ماء. وإلا فإن السراب لا يزال يلوح له على بعد كلما تقدم السائر في سيره. فضرب ذلك مثلا لقرب زمن إفضاء الكافر إلى عمله وقت موته حين يرى مقعده أو في وقت الحشر.

وقوله : (لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) أي لم يجد ما كان يخيل إلى عينه أنه ماء لم يجده شيئا.

والشيء : هو الموجود وجودا معلوما للناس ، والسراب موجود ومرئي ، فقوله : (شَيْئاً) أي شيئا من ماء بقرينة المقام. وهذا التمثيل كقوله تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا

٢٠٢

مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان : ٢٣].

و (إذا) هنا ظرف مجرد عن الشرطية. والمعنى : زمن مجيئه إلى السراب ، أي وصوله إلى الموضع.

وقوله : (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ) هو من تمام التمثيل ، أي لم يجد الماء ووجد في مظنة الماء الذي ينتفع به وجد من إن أخذ بناصيته لم يفلته ، أي هو عند ظنه الفوز بمطلوبه فاجأه من يأخذه للعذاب ، وهو معنى قوله : (فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) أي أعطاه جزاء كفره وافيا. فمعنى (فَوَفَّاهُ) أنه لا تخفيف فيه ، فهو قد تعب ونصب في العمل فلم يجد جزاء إلا العذاب بمنزلة من ورد الماء للسقي فوجد من له عنده ترة فأخذه.

وجملة : (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) تذييل. والسريع : ضد البطيء. والمعنى : أنه لا يماطل الحساب ولا يؤخره عند حلول مقتضيه ، فهو عام في حساب الخير والشر ولذلك كان تذييلا.

واعلم أن هذا التمثل العجيب صالح لتفريق أجزائه في التشبيه بأن ينحل إلى تشبيهات واستعارات. فأعمال الكافرين شبيهة بالسراب في أن لها صورة الماء وليست بماء ، والكافر يشبه الظمآن في الاحتياج إلى الانتفاع بعمله. ففي قوله : (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ) استعارة مصرحة ، وخيبة الكافر عند الحساب تشبه خيبة الظمآن عند مجيئه السراب ففيه استعارة مصرحة ، ومفاجأة الكافر بالأخذ والعتل من جند الله أو بتكوين الله تشبه مفاجأة من حسب أنه يبلغ الماء للشراب فبلغ إلى حيث تحقق أنه لا ماء فوجد عند الموضع الذي بلغه من يترصد له لأخذه أو أسره. فهنا استعارة مكنية إذ شبه أمر الله أو ملائكته بالعدوّ ، ورمز إلى العدو بقوله : (فَوَفَّاهُ حِسابَهُ). وتعدية فعل (وَجَدَ) إلى اسم الجلالة على حذف مضاف هي تعدية المجاز العقلي.

(أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠))

شأن (أَوْ) إذا جاءت في عطف التشبيهات أن تدل على تخيير السامع أن يشبه بما قبلها وبما بعدها. وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) في سورة البقرة [١٩] ، أي مع اتحاد وجه الشبه. ومنه قول إمرئ القيس :

٢٠٣

يضيء سناه أو مصابيح راهب

 ......................

وقول لبيد :

أفتلك أم وحشية مسبوعة

خذلت وهادية الصوّار قوامها

فإذا كان الكلام هنا جاريا على ذلك الشأن كان المعنى تمثيل الذين كفروا في أعمالهم التي يظنون أنهم يتقربون بها إلى الله بحال ظلمات ليل غشيت ماخرا في بحر شديد الموج قد اقتحم ذلك البحر ليصل إلى غاية مطلوبة ، فحالهم في أعمالهم تشبه حال سابح في ظلمات ليل في بحر عميق يغشاه موج يركب بعضه بعضا لشدة تعاقبه ، وإنما يكون ذلك عند اشتداد الرياح حتى لا يكاد يرى يده التي هي أقرب شيء إليه وأوضحه في رؤيته فكيف يرجو النجاة.

وإن كان الكلام جاريا على التخيير في التشبيه مع اختلاف وجه الشبه كان المعنى تمثيل حال الذين كفروا في أعمالهم التي يعملونها وهم غير مؤمنين بحال من ركب البحر يرجو بلوغ غاية فإذا هو في ظلمات لا يهتدي معها طريقا. فوجه الشبه هو ما حف بأعمالهم من ضلال الكفر الحائل دون حصول مبتغاهم.

ويرجح هذا الوجه تذييل التمثيل بقوله : (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ).

وعلى الوجهين فقوله : (كَظُلُماتٍ) عطف على (كَسَرابٍ) [النور : ٣٩] والتقدير : والذين كفروا أعمالهم كظلمات.

وهذا التمثيل من قبيل تشبيه حالة معقولة بحالة محسوسة كما يقال : شاهدت سواد الكفر في وجه فلان.

والظلمات : الظلمة الشديدة. والجمع مستعمل في لازم الكثرة وهو الشدة ، فالجمع كناية لأن شدة الظلمة يحصل من تظاهر عدة ظلمات. ألا ترى أن ظلمة بين العشاءين أشد من ظلمة عقب الغروب وظلمة العشاء أشد مما قبلها.

وقد ذكرنا فيما مضى أن لفظ ظلمة بالإفراد لم يرد في القرآن انظر أول سورة الأنعام. ومعنى كونها (فِي بَحْرٍ) أنها انطبع سوادها على ماء بحر فصار كأنها في البحر كقوله تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ) وقد تقدم في سورة البقرة [١٩] إذ جعل الظلمات في الصيب.

٢٠٤

واللجّيّ منسوب إلى اللجة ، واللج هو معظم البحر ، أي في بحر عميق ، فالنسب مستعمل في التمكن من الوصف كقول أبي النجم :

والدهر بالإنسان دوّاريّ.

أي دوّار ، وكقولهم : رجل مشركي ورجل غلّابي ، أي قوي الشرك وكثير الغلب.

والموج : اسم جمع موجة والموجة : مقدار يتصاعد من ماء البحر أو النهر عن سطح مائه بسبب اضطراب في سطحه بهبوب ريح من جانبه يدفعه إلى الشاطئ. وأصله مصدر : ماج البحر ، أي اضطراب وسمي به ما ينشأ عنه.

ومعنى : (مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ) أن الموج لا يتكسر حتى يلحقه موج آخر من فوقه وذلك أبقى لظلمته.

والسحاب تقدم في سورة الرعد [١٢]. والسحاب يزيد الظلمة إظلاما لأنه يحجب ضوء النجم والهلال.

وقوله : (ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) استئناف. والتقدير : هي ظلمات والمراد بالظلمات التي هنا غير المراد بقوله : (أَوْ كَظُلُماتٍ) لأن الجمع هنا جمع أنواع وهنالك جمع أفراد من نوع واحد.

وقرأ الجمهور : (سَحابٌ ظُلُماتٌ) بالتنوين فيهما. وقرأ البزي عن ابن كثير (مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ) بترك التنوين في (سَحابٌ) وبإضافته إلى (ظُلُماتٌ). وقرأه قنبل عن ابن كثير برفع (سَحابٌ) منونا وبجر (ظُلُماتٌ) على البدل من قوله : (أَوْ كَظُلُماتٍ).

وقوله : (لَمْ يَكَدْ يَراها) هو من قبيل قوله (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) [البقرة : ٧١] وقد تقدم وجه هذا الاستعمال في سورة البقرة وما فيه من قصة بيت ذي الرمة.

وجملة : (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) تذييل للتمثيل ، أي هم باءوا بالخيبة فيما ابتغوا مما عملوا وقد حفهم الضلال الشديد فيما عملوا حتى عدموا فائدته لأن الله لم يخلق في قلوبهم الهدى حين لم يوفقهم إلى الإيمان ، أي أن الله جبلهم غير قابلين للهدى فلم يجعل لهم قبوله في قلوبهم فلا يحل بها شيء من الهدى.

وفيه تنبيه على أن الله تعالى متصرف بالإعطاء والمنع على حسب إرادته وحكمته وما

٢٠٥

سبق من نظام تدبيره.

وهذا التمثيل صالح لاعتبار التفريق في تشبيه أجزاء الهيئة المشبهة بأجزاء الهيئة المشبه بها ؛ فالضلالات تشبه الظلمات ، والأعمال التي اقتحمها الكافر لقصد التقرب بها تشبه البحر ، وما يخالط أعماله الحسنة من الأعمال الباطلة كالبحيرة ، والسائبة يشبه الموج في تخليطه العمل الحسن وتخلله فيه وهو الموج الأول. وما يرد على ذلك من أعمال الكفر كالذبح للأصنام يشبه الموج الغامر الآتي على جميع ذلك بالتخلل والإفساد وهو الموج الثاني ، وما يحف اعتقاده من الحيرة في تمييز الحسن من العبث ومن القبيح يشبه السحاب الذي يغشى ما بقي في السماء من بصيص أنوار النجوم ، وتطلّبه الانتفاع من عمله يشبه إخراج الماخر يده لإصلاح أمر سفينته أو تناول ما يحتاجه فلا يرى يده بله الشيء الذي يريد تناوله.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١))

أعقب تمثيل ضلال أهل الضلالة وكيف حرمهم الله الهدى في قوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ) إلى قوله : (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) [النور : ٣٩ ، ٤٠] بطلب النظر والاعتبار كيف هدى الله تعالى كثيرا من أهل السماوات والأرض إلى تنزيه الله المقتضي الإيمان به وحده ، وبما ألهم الطير إلى أصواتها المعربة عن بهجتها بنعمة وجودها ورزقها الناشئين عن إمداد الله إياها بهما فكانت أصواتها دلائل حال على تسبيح الله وتنزيهه عن الشريك ، فأصواتها تسبيح بلسان الحال.

والجملة استئناف ابتدائي ومناسبته ما علمت.

وجملة : (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) استئناف ثان وهو من تمام العبرة إذ أودع الله في جميع أولئك ما به ملازمتهم لما فطروا عليه من تعظيم الله وتنزيهه.

فتسبيح العقلاء حقيقة ، وتسبيح الطير مجاز مرسل في الدلالة على التنزيه. وفيه استعمال لفظ التسبيح في حقيقته ومجازه ، ولذلك خولف بينهما في الجملة الثانية فعبر بالصلاة والتسبيح مراعاة لاختلاف حال الفريقين : فريق العقلاء. وفريق الطير وإن جمعتهما كلمة (كُلٌ) فأطلق على تسبيح العقلاء اسم الصلاة لأنه تسبيح حقيقي. فالمراد بالصلاة الدعاء وهو من خصائص العقلاء ، وليس في أحوال الطير ما يستقيم إطلاق الدعاء

٢٠٦

عليه على وجه المجاز وأبقي لدلالة أصوات الطير اسم التسبيح لأنه يطلق مجازا على الدلالة بالصوت بعلاقة الإطلاق وذلك على التوزيع ؛ ولو لا إرادة ذلك لقيل : كل قد علم تسبيحه ، أو كل قد علم صلاته.

والخطاب في قوله : (أَلَمْ تَرَ) للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والمراد من يبلغ إليه ، أو الخطاب لغير معيّن فيعم كل مخاطب كما هو الشأن في أمثاله.

والاستفهام مستعمل كناية عن التعجيب من حال فريق المشركين الذين هم من أصحاب العقول ومع ذلك قد حرموا الهدى لما لم يجعله الله فيهم. وقد جعل الهدى في العجماوات إذ جبلها على إدراك أثر نعمة الوجود والرزق. وهذا في معنى قوله تعالى : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) [الفرقان : ٤٤].

والصافّات من صفات الطير يراد به صفهن أجنحتهن في الهواء حين الطيران. وتخصيص الطير بالذكر من بين المخلوقات للمقابلة بين مخلوقات الأرض والسماء بذكر مخلوقات في الجو بين السماء والأرض ولذلك قيّدت ب (صَافَّاتٍ).

وفعل (عَلِمَ) مراد به المعرفة لظهور الفرق بين علم العقلاء بصلاتهم وعلم الطير بتسبيحها فإن الثاني مجرد شعور وقصد للعمل.

وضمائر (عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) راجعة إلى (كُلٌ) لا محالة.

ولو كان المراد بها التوزيع على من في السماوات والأرض والطير من جهة وعلى اسم الجلالة من جهة لوقع ضمير فصل بعد (عَلِمَ) فلكان راجعا إلى الله تعالى.

والرؤية هنا بصرية لأن تسبيح العقلاء مشاهد لكل ذي بصر ، وتسبيح الطير مشاهد باعتبار مسماه فما على الناظر إلا أن يعلم أن ذلك المسمى جدير باسم التسبيح.

وعلى هذا الاعتبار كان الاستفهام الإنكاري مكين الوقع.

وإن شئت قلت : إن جملة (أَلَمْ تَرَ) جارية مجرى الأمثال في كلام البلغاء فلا التفات فيها إلى معنى الرؤية.

وقيل : الرؤية هنا قلبية. وأغنى المصدر عن المفعولين.

وجملة : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) تذييل وهو إعلام بسعة علم الله تعالى الشامل للتسبيح وغيره من الأحوال.

٢٠٧

والإتيان بضمير جمع العقلاء تغليب. وقد تقدم في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) في سورة البقرة [٢٤٣] وقوله : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) في سورة الأنعام [٦].

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٤٢))

تحقيق لما دل عليه الكلام السابق من إعطائه الهدى للعجماوات في شئونه وحرمانه إياه فريقا من العقلاء فلو كان ذلك جاريا على حسب الاستحقاق لكان هؤلاء أهدى من الطير في شأنهم.

وتقديم المعمولين للاختصاص ، أي أن التصرف في العوالم لله لا لغيره.

وفي هذا انتقال إلى دلالة أحوال الموجودات على تفرد الله تعالى بالخلق ولذلك أعقب بقوله :

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣))

أعقب الدلالة على إعطاء الهدى في قوانين الإلهام في العجماوات بالدلالة على خلق الخصائص في الجماد بحيث تسير على السير الذي قدره الله لها سيرا لا يتغير ، فهي بذلك أهدى من فريق الكافرين الذين لهم عقول وحواس لا يهتدون بها إلى معرفة الله تعالى والنظر في أدلتها ، وفي ذلك دلالة على عظم القدرة وسعة العلم ووحدانية التصرف. وهذا استدلال بنظام بعض حوادث الجو حتى آل إلى قوله (فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ).

وقد حصل من هذا حسن التخلص للانتقال إلى الاستدلال على عظم القدرة وسمو الحكمة وسعة العلم الإلهي.

و (يُزْجِي) : يسوق. يقال : أزجى الإبل إزجاء.

وأطلق الإزجاء على دنو بعض السحاب من بعض بتقدير الله تعالى الشبيه بالسوق حتى يصير سحابا كثيفا ، فانضمام بعض السحاب إلى بعض عبر عنه بالتأليف بين أجزائه

٢٠٨

بقوله تعالى : (ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) إلخ.

وتقدم الكلام على السحاب في سورة البقرة [١٦٤] في قوله : (وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ) وفي أول سورة الرعد [١٢].

ودخلت (بين) على ضمير السحاب لأن السحاب ذو أجزاء كقول امرئ القيس :

بين الدخول فحومل

أي يؤلف بين السحابات منه.

والركام : مشتق من الركم. والركم : الجمع والضم. ووزن فعال وفعالة يدل على معنى المفعول. فالركام بمعنى المركوم كما جاء في قوله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ) في سورة الطور [٤٤].

فإذا تراكم السحاب بعضه على بعض حدث فيه ما يسمى في علم حوادث الجو بالسيال الكهربائي وهو البرق. فقال بعض المفسرين : هو الودق. وأكثر المفسرين على أن الودق هو المطر ، وهو الذي اقتصرت عليه دواوين اللغة ، والمطر يخرج من خلال السحاب.

والخلال : الفتوق ، جمع خلل كجبل وجبال. وتقدم (خِلالَ الدِّيارِ) في سورة الإسراء [٥].

ومعنى (يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ) يسقط من علو إلى سفل ، أي ينزل من جو السماء إلى الأرض. والسماء : الجو الذي فوق جهة من الأرض.

وقوله : (مِنْ جِبالٍ) بدل من (السَّماءِ) بإعادة حرف الجر العامل في المبدل منه وهو بدل بعض لأن المراد بالجبال سحاب أمثال الجبال.

وإطلاق الجبال في تشبيه الكثرة معروف. يقال : فلان جبل علم ، وطود علم. وفي حديث البخاري من طريق أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو كان لي مثل أحد ذهبا لسرّني أن لا تمر علي ثلاث ليال وعندي منه شيء إلا شيئا أرصده لدين» أي ما كان يسرني ، فالكلام بمعنى النفي ، أي لما سرني. أو لما كان سرني إلخ.

وحرف (مِنْ) الأول للابتداء و (مِنْ) الثاني كذلك و (مِنْ) في قوله (مِنْ بَرَدٍ) مزيدة في الإثبات على رأي الذين جوزوا زيادة (مِنْ) في الإثبات. أو تكون (مِنْ) اسما

٢٠٩

بمعنى بعض.

ومفعول (يُنَزِّلُ) محذوف يدل عليه قوله : (فِيها مِنْ بَرَدٍ) والتقدير : ينزل بردا.

ووقوع (مِنْ) زائدة لقصد مشاكلة قوله : (مِنْ جِبالٍ).

وقوله : (فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ) جعل نزول البرد إصابة لأن الإصابة إذا أطلقت في كلامهم دلت على أنها حلول مكروه. ومن ذلك سميت المصيبة الحادثة المكروهة. وأما قوله تعالى : (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ) [التوبة : ٥٠] فلأن قوله : (حَسَنَةٌ) قرينة على إطلاق الإصابة على مطلق الحدوث إما مجازا مرسلا وإما مشتركا لفظيا أو مشتركا معنويا فإن (أصاب) مشتق من الصوب وهو النزول ومنه صوب المطر ، فجعل نزول البرد إصابة لأنه يفسد الزرع والثمرة ، فضمير (بِهِ) للبرد.

وجملة : (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) وصف ل (سَحاباً). وضمير (بَرْقِهِ) عائد إلى (سَحاباً). وفائدة هذه الصفة تنبيه العقول إلى التدبر في هذه التغيرات إذ كان شعور الناس بحدوث البرق أوضح وأكثر من شعورهم بتكوّن السحاب وتراكمه ونزول المطر والبرد ، إذ قد يغفل الناس عن ذلك لكثرة حدوثه وتعودهم به بخلاف اشتداد البرق فإنه لا يخلو أحد من أن يكون قد عرض له مرات ، فإن أصحاب الأبصار التي حركها خفق البرق يتذكرون تلك الحالة العجيبة الدالة على القدرة. ولهذه النكتة خصصت هذه الحالة من أحوال البرق بالذكر.

والسنا مقصورا : ضوء البرق وضوء النار. وأما السناء الممدود فهو الرفعة. قال ابن دريد في أبيات له في متشابه المقصور والممدود :

زال السنا عن ناظري

ه وزال عن شرف السناء

ولام التعريف في (بِالْأَبْصارِ) لام الحقيقة. وقوله : (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) هو كقوله في سورة البقرة [٢٠](يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) سوى أن هذه الآية زيد فيها لفظ (سَنا) لأن هذه الآية واردة في مقام الاعتبار بتكوين السحاب وإنزال الغيث فكان المقام مقتضيا للتنويه بهذا البرق وشدة ضيائه حتى يكون الاعتبار بأمرين : بتكوين البرق في السحاب. وبقوة ضيائه حتى يكاد يذهب بالأبصار. وآية البقرة واردة في مقام التهديد والتشويه لحالهم حين كانوا مظهرين الإسلام ومنطوين على الكفر والجحود فكانت حالهم كحالة الغيث المشتمل على صواعق ورعد وبرق فظاهره منفعة وفي باطنه

٢١٠

قوارع ومصائب.

ومن أجل اختلاف المقامين وضع التعبير هنا ب (يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) وهنالك بقوله: (يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) لأن في الخطف من معنى النكاية بهم والتسلط عليهم ما ليس في (يَذْهَبُ) إذ هو مجرد الاستلاب.

وأما التعبير هنا (بِالْأَبْصارِ) معرفا باللام فلأن المقصود أن البرق مقارب أن يزيل طائفة من جنس الأبصار إذ اللام هنا لام الحقيقة كما في قوله : (أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) [يوسف : ١٣] وقولهم : ادخل السوق ، لأن الحكم على حالة البرق الشديد من حيث هي. بخلاف آية البقرة فإنها في مقام التوبيخ لهم بأن ما شأنه أن ينتفع الناس به قد أشرف على الضر بهم فلذلك ذكر لفظ أبصار مضافا إلى ضميرهم مع ما في هذا التخالف من تفنين الكلام الواحد على أفانين مختلفة حتى لا يكون الكلام معادا وإن كان المعنى متحدا ولا تجد حق الإيجاز فائتا فإن هذين الكلامين في حد التساوي في الحروف والنطق. وهكذا نرى بلاغة القرآن وإعجازه وحلاوة نظمه.

وقرأ الجمهور (يَذْهَبُ) بفتح التحتية وفتح الهاء ، فالباء للتعدية ، أي يذهب الأبصار. وقرأه أبو جعفر وحده بضم التحتية وكسر الهاء فتكون الباء مزيدة لتأكيد اللصوق مثل (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) [المائدة : ٦].

(يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤))

التقليب تغيير هيئة إلى ضدها ومنه (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها) [الكهف :٤٢] أي يدير كفيه من ظاهر إلى باطن ، فتقليب الليل والنهار تغيير الأفق من حالة الليل إلى حالة الضياء ومن حالة النهار إلى حالة الظلام ، فالمقلّب هو الجو بما يختلف عليه من الأعراض ولكن لما كانت حالة ظلمة الجو تسمى ليلا وحالة نوره تسمى نهارا عبر عن الجو في حالتيه بهما ، وعدي التقليب إليهما بهذا الاعتبار.

ومما يدخل في معنى التقليب تغيير هيئة الليل والنهار بالطول والقصر. ولرعي تكرر التقلب بمعنييه عبر بالمضارع المقتضي للتكرر والتجدد.

والكلام استئناف. وجيء به مستأنفا غير معطوف على آيات الاعتبار المذكورة قبله لأنه أريد الانتقال من الاستدلال بما قد يخفى على بعض الأبصار إلى الاستدلال بما يشاهده كل ذي بصر كل يوم وكل شهر فهو لا يكاد يخفى على ذي بصر. وهذا تدرج في

٢١١

موقع هذه الجملة عقب جملة (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) [النور : ٤٣] كما أشرنا إليه آنفا. ولذلك فالمقصود من الكلام هو جملة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) ، ولكن بني نظم الكلام على تقديم الجملة الفعلية لما تقتضيه من إفادة التجدد بخلاف أن يقال : إن في تقليب الليل والنهار لعبرة.

والإشارة الواقعة في قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ) إلى ما تضمنه فعل (يُقَلِّبُ) من المصدر. أي إن في التقليب. ويرجح هذا القصد ذكر العبرة بلفظ المفرد المنكر.

والتأكيد ب (إِنَ) إما لمجرد الاهتمام بالخبر وإما لتنزيل المشركين في تركهم الاعتبار بذلك منزلة من ينكر أن في ذلك عبرة.

وقيل : الإشارة بقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ) إلى جميع ما ذكر آنفا ابتداء من قوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً) [النور : ٤٣] فيكون الإفراد في قوله : (لَعِبْرَةً) ناظرا إلى أن مجموع ذلك يفيد جنس العبرة الجامعة لليقين بأن الله هو المتصرف في الكون.

ولم ترد العبرة في القرآن معرّفة بلام الجنس ولا مذكورة بلفظ الجمع.

(وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥))

لما كان الاعتبار بتساوي أجناس الحيوان في أصل التكوين من ماء التناسل مع الاختلاف في أول أحوال تلك الأجناس في آثار الخلقة وهو حال المشي إنما هو باستمرار ذلك النظام بدون تخلف وكان ذلك محققا كان إفراغ هذا المعنى بتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي مفيدا لأمرين : التحقق بالتقديم على الخبر الفعلي. والتجدد بكون الخبر فعليا.

وإظهار اسم الجلالة دون الإضمار للتنويه بهذا الخلق العجيب.

واختير فعل المضي للدلالة على تقرير التقوّي بأن هذا شأن متقرر منذ القدم مع عدم فوات الدلالة على التكرير حيث عقب الكلام بقوله : (يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ).

وقرأ الجمهور (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ) بصيغة فعل المضي ونصب (كُلَ). وقرأه الكسائي والله خالق كل دابة بصيغة اسم الفاعل وجر (كُلَ) بإضافة اسم الفاعل إلى مفعوله.

٢١٢

والدابة : ما دبّ على وجه الأرض ، أي مشى. وغلب هنا الإنسان فأتي بضمير العقلاء مرادا به الإنسان وغيره مرتين.

وتنكير (ماءٍ) لإرادة النوعية تنبيها على اختلاف صفات الماء لكل نوع من الدواب إذ المقصود تنبيه الناس إلى اختلاف النطف للزيادة في الاعتبار.

وهذا بخلاف قوله : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) [الأنبياء : ٣٠] إذ قصد ثمة إلى أن أجناس الحيوان كلها مخلوقة من جنس الماء وهو جنس واحد اختلفت أنواعه ، فتعريف الجنس هناك إشارة إلى ما يعرفه الناس إجمالا ويعهدونه من أن الحيوان كله مخلوق من نطف أصوله. وهذا مناط الفرق بين التنكير كما هنا وبين تعريف الجنس كما في آية (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) [الأنبياء : ٣٠].

و (مِنْ) ابتدائية متعلقة ب (خَلَقَ).

ورتب ذكر الأجناس في حال المشي على ترتيب قوة دلالتها على عظم القدرة لأن الماشي بلا آلة مشي متمكنة أعجب من الماشي على رجلين ، وهذا المشي زحفا. أطلق المشي على الزحف بالبطن للمشاكلة مع بقية الأنواع. وليس في الآية ما يقتضي حصر المشي في هذه الأحوال الثلاثة لأن المقصود الاعتبار بالغالب المشاهد.

وجملة : (يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ) زيادة في العبرة ، أي يتجدد خلق الله ما يشاء أن يخلقه مما علمتم وما لم تعلموا. فهي جملة مستأنفة.

وجملة : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تعليل وتذييل. ووقع فيه إظهار اسم الجلالة في مقام الإضمار ليكون كلاما مستقلا بذاته لأن شأن التذييل أن يكون كالمثل.

(لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦))

تذييل للدلائل والعبر السالفة وهو نتيجة الاستدلال ولذلك ختم بقوله : (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ، أي إن لم يهتد بتلك الآيات أهل الضلالة فذلك لأن الله لم يهدهم لأنه يهدي من يشاء. والمراد بالآيات هنا آيات القرآن كما يقتضيه فعل (أَنْزَلْنا) ولذلك لم تعطف هذه الجملة على ما قبلها بعكس قوله السابق (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ) [النور : ٣٤].

ولما كان المقصود من هذا إقامة الحجة دون الامتنان لم يقيد إنزال الآيات بأنه إلى

٢١٣

المسلمين كما قيد في قوله تعالى قبله : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ) [النور : ٣٤] كما تقدم.

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب (مُبَيِّناتٍ) بفتح الياء على صيغة اسم المفعول ، أي بيّنها الله ووضحها ببلاغتها وقوة حجتها. وقرأ الباقون بكسر الياء على صيغة اسم الفاعل ، فإسناد التبيين إلى الآيات على هذه القراءة مجاز عقلي لأنها سبب البيان.

والمعنى أن دلائل الحق ظاهرة ولكن الله يقدّر الهداية إلى الحق لمن يشاء هدايته.

[٤٧ ـ ٥٠] (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠))

عطف جملة : (وَيَقُولُونَ) على جملة : (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [النور : ٤٦] لما تتضمنه جملة : (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) من هداية بعض الناس وحرمان بعضهم من الهداية كما هو مقتضى : (مَنْ يَشاءُ). وهذا تخلص إلى ذكر بعض ممن لم يشإ الله هدايتهم وهم الذين أبطنوا الكفر وأظهروا الإسلام وهم أهل النفاق. فبعد أن ذكرت دلائل انفراد الله تعالى بالإلهية وذكر الكفار الصرحاء الذين لم يهتدوا بها في قوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ) [النور : ٣٩] الآيات تهيأ المقام لذكر صنف آخر من الكافرين الذين لم يهتدوا بآيات الله وأظهروا أنهم اهتدوا بها.

وضمير الجمع عائد إلى معروفين عند السامعين وهم المنافقون لأن ما ذكر بعده هو من أحوالهم ، وعود الضمير إلى شيء غير مذكور كثير في القرآن ، على أنهم قد تقدم ما يشير إليهم بطريق التعريض في قوله : (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ) [النور : ٣٧].

وقد أشارت الآية إلى المنافقين عامة ، ثم إلى فريق منهم أظهروا عدم الرضى بحكم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكلا الفريقين موسوم بالنفاق ، ولكن أحدهما استمر على النفاق والمواربة وفريقا لم يلبثوا أن أظهروا الرجوع إلى الكفر بمعصية الرسول علنا.

٢١٤

ففي قوله : (يَقُولُونَ) إيماء إلى أن حظهم من الإيمان مجرد القول دون الاعتقاد كما قال تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات : ١٤].

وعبر بالمضارع لإفادة تجدد ذلك منهم واستمرارهم عليه لما فيه من تكرر الكذب ونحوه من خصال النفاق التي بينتها في سورة البقرة. ومفعول (أَطَعْنا) محذوف دل عليه ما قبله ، أي أطعنا الله والرسول.

والإشارة في قوله : (وَما أُولئِكَ) إلى ضمير (يَقُولُونَ) ، أي يقولون آمنّا وهم كاذبون في قولهم. وإنما يظهر كفرهم عند ما تحل بهم النوازل والخصومات فلا يطمئنون بحكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولا يصح جعله إشارة إلى (فَرِيقٌ) من قوله : (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) لأن إعراضهم كاف في الدلالة على عدم الإيمان.

فالضمير في قوله : (وَإِذا دُعُوا) عائد إلى معاد ضمير (يَقُولُونَ). وإسناد فعل (دُعُوا) إلى جميعهم وإن كان المعرضون فريقا منهم لا جميعهم للإشارة إلى أنهم سواء في التهيؤ إلى الإعراض ولكنهم لا يظهرونه إلا عند ما تحل بهم النوازل فالمعرضون هم الذين حلت بهم الخصومات.

وقد شملت الآية نفرا من المنافقين كانوا حلت بهم خصومات فأبوا حكم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يحكم عليهم أو بعد ما حكم عليهم فلم يرضهم حكمه ، فروى المفسرون أن بشرا أحد الأوس أو الخزرج تخاصم إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع يهودي فلما حكم النبي لليهودي لم يرض بشر بحكمه ودعاه إلى الحكم عند كعب بن الأشرف اليهودي فأبى اليهودي وتساوقا إلى عمر بن الخطاب فقصّا عليه القضية فلما علم عمر أن بشرا لم يرض بحكم النبي قال لهما : مكانكما حتى آتيكما. ودخل بيته فأخرج سيفه وضرب بشرا بالسيف فقتله. فروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقب عمر يومئذ الفاروق لأنه فرق بين الحق والباطل ، أي فرق بينهما بالمشاهدة. وقيل : إن أحد المنافقين اسمه المغيرة بن وائل من الأوس من بني أمية بن زيد الأوسي تخاصم مع علي بن أبي طالب في أرض اقتسماها ثم كره أمية القسم الذي أخذه فرام نقض القسمة وأبى علي نقضها ودعاه إلى الحكومة لدى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال المغيرة : أما محمد فلست آتية لأنه يبغضني وأنا أخاف أن يحيف علي. فنزلت هذه الآية. وتقدم ذلك عند قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) الآية في سورة

٢١٥

ومن سماجة الأخبار ما نقله الطبرسي الشيعي في تفسيره المسمى «مجمع البيان» عن البلخي!! أنه كانت بين علي وعثمان منازعة في أرض اشتراها من علي فخرجت فيها أحجار وأراد ردها بالعيب فلم يأخذها فقال : بيني وبينك رسول الله. فقال له الحكم بن أبي العاص إن حاكمته إلى ابن عمه يحكم له فلا تحاكمه إليه. فنزلت الآيات. وهذا لم يروه أحد من ثقات المفسرين ولا أشك في أنه مما اعتيد إلصاقه ببني أمية من تلقاء المشوهين لدولتهم تطلعا للفتنة ، والحكم بن أبي العاص أسلم يوم الفتح وسكن المدينة وهل يظن به أن يقول مثل هذه المقالة بين مسلمين.

وإنما جعل الدعاء إلى الله ورسوله كليهما مع أنهم دعوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن حكم الرسول حكم الله لأنه لا يحكم إلا عن وحي. ولهذا الاعتبار أفرد الضمير في قوله : (لِيَحْكُمَ) العائد إلى أقرب مذكور ولم يقل : ليحكما.

وقوله : (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ) أي إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومعنى : (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُ) أنه يكون في ظن صاحب الحق ويقينه أنه على الحق. ومفهومه أن من لم يكن له الحق منهم وهو العالم بأنه مبطل لا يأتي إذا دعي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ، فعلم منه أن الفريق المعرضين هم المبطلون. وكذلك شأن كل من هو على الحق أنه لا يأبى من القضاء العادل ، وشأن المبطل أن يأبى العدل لأن العدل لا يلائم حبه الاعتداء على حقوق الناس ، فسبب إعراض المعرضين علمهم بأن في جانبهم الباطل وهم قد تحققوا أن الرسول لا يحكم إلا بصراح الحق.

وهذا وجه موقع جملة : (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) إلى آخرها.

ووقع حرف (إِذا) المفاجأة في جواب (إِذا) الشرطية لإفادة مبادرتهم بالإعراض دون تريث لأنهم قد أيقنوا من قبل بعدالة الرسول وأيقنوا بأن الباطل في جانبهم فلم يترددوا في الإعراض.

والإذعان : الانقياد والطاعة.

ولما كان هذا شأنا عجيبا استؤنف عقبه بالجملة ذات الاستفهامات المستعملة في التنبيه على أخلاقهم ولفت الأذهان إلى ما انطووا عليه والداعي إلى ذلك أنها أحوال خفية لأنهم كانوا يظهرون خلافها.

وأتبع بعض الاستفهامات بعضا بحرف (أَمِ) المنقطعة التي هي هنا للإضراب

٢١٦

الانتقالي كشأنها إذا عطفت الجمل الاستفهامية فإنها إذا عطفت الجمل لم تكن لطلب التعيين كما هي في عطف المفردات لأن المتعاطفات بها حينئذ ليست مما يطلب تعيين بعضه دون بعض ، وأما معنى الاستفهام فملازم لها لأنه يقدر بعد (أَمِ).

والانتقال هنا تدرج في عدّ أخلاقهم. فالمعنى أنه إن سأل سائل عن اتصافهم بخلق من هذه المذكورات علم المسئول أنهم متصفون به ، فكان الاستفهام المكرر ثلاث مرات مستعملا في التنبيه مجازا مرسلا ، ومنه قوله تعالى : (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) في سورة الأعراف [١٩٥].

والقلوب : العقول. والمرض مستعار للفساد أو للكفر قال تعالى : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) [البقرة : ١٠] أو للنفاق.

وأتي في جانب هذا الاستفهام بالجملة الاسمية للدلالة على ثبات المرض في قلوبهم وتأصله فيها بحيث لم يدخل الإيمان في قلوبهم.

والارتياب : الشك. والمراد : ارتابوا في حقيّة الإسلام ، أي حدث لهم ارتياب بعد أن آمنوا إيمانا غير راسخ.

وأتي في جانبه بالجملة الفعلية المفيدة للحدوث والتجدد ، أي حدث لهم ارتياب بعد أن اعتقدوا الإيمان اعتقادا مزلزلا. وهذا يشير إلى أنهم فريقان : فريق لم يؤمنوا ولكنهم أظهروا الإيمان وكتموا كفرهم ، وفريق آمنوا إيمانا ضعيفا ثم ظهر كفرهم بالإعراض.

والحيف : الظلم والجور في الحكومة. وجيء في جانبه بالفعلين المضارعين للإشارة إلى أنه خوف في الحال من الحيف في المستقبل كما يقتضيه دخول (أَنْ) ، وهي حرف الاستقبال ، على فعل (يَحِيفَ). فهم خافوا من وقوع الحيف بعد نشر الخصومة فمن ثمة أعرضوا عن التحاكم إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأسند الحيف إلى الله ورسوله بمعنى أن يكون ما شرعه الإسلام حيفا لا يظهر الحقوق. وهذا كناية عن كونهم يعتقدون أنه غير منزل من الله وأن يكون حكم الرسول بغير ما أمر الله ، فهم يطعنون في الحكم وفي الحاكم وما ذلك إلا لأنهم لا يؤمنون بأن شريعة الإسلام منزلة من الله ولا يؤمنون بأن محمدا عليه الصلاة والسلام مرسل من عند الله ، فالكلام كناية عن إنكارهم أن تكون الشريعة إلهية وأن يكون الآتي بها صادقا فيما أتى به.

٢١٧

واعلم أن المنافقين اتصفوا بهذه الأمور الثلاثة وكلها ناشئة عن عدم تصديقهم الرسول سواء في ذلك من حلت به قضية ومن لم تحل.

وفيما فسرنا به قوله تعالى : (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ما يثلج صدر الناظر ويخرج به من سكوت الساكت وحيرة الحائر.

و (بَلْ) للإضراب الانتقالي من الاستفهام التنبيهي إلى خبر آخر. ولم يؤت في هذا الإضراب ب (أَمِ) لأن (أَمِ) لا بد معها من معنى الاستفهام ، وليس المراد عطف كونهم ظالمين على الاستفهام المستعمل في التنبيه بل المراد به إفادة اتصافهم بالظلم دون غيرهم لأنه قد اتضح حالهم فلا داعي لإيراده بصيغة استفهام التنبيه. وليست (بَلْ) هنا للإبطال لأنه لا يستقيم إبطال جميع الأقسام المتقدمة فإن منها مرض قلوبهم وهو ثابت ، ولا دليل على قصد إبطال القسم الأخير خاصة ، ولا على إبطال القسمين الآخرين.

وجملة : (أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) مستأنفة استئنافا بيانا لأن السامع بعد أن طنت بأذنه تلك الاستفهامات الثلاثة ثم أعقبت بحرف الإضراب يترقب ما ذا سيرسي عليه تحقيق حالهم فكان قوله : (أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) بيانا لما يترقبه السامع.

والمعنى : أنهم يخافون أن يحيف الرسول عليهم ويظلمهم. وليس الرسول بالذي يظلم بل هم الظالمون. فالقصر الحاصل من تعريف الجزأين ومن ضمير الفصل حصر مؤكّد ، أي هم الظالمون لا شرع الله ولا حكم رسوله.

وزاد اسم الإشارة تأكيدا للخبر فحصل فيه أربعة مؤكدات : اثنان من صيغة الحصر إذ ليس الحصر والتخصيص إلا تأكيدا على تأكيد ، والثالث ضمير الفصل ، والرابع اسم الإشارة.

واسم الإشارة الموضوع للتمييز استعمل هنا مجازا لتحقيق اتصافهم بالظلم ، فهم يقيسون الناس على حسب ما يقيسون أنفسهم ، فلما كانوا أهل ظلم ظنوا بمن هو أهل الإنصاف أنه ظالم كما قال أبو الطيب :

إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه

وصدق ما يعتاده من توهم

ولا تعلق لهذه الآية بحكم من دعي إلى القاضي للخصومة فامتنع لأن الذم والتوبيخ فيها كانا على امتناع ناشئ عن كفرهم ونفاقهم.

٢١٨

(إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١))

استئناف بياني لأن الإخبار عن الذين يعرضون عند ما يدعون إلى الحكومة بأنهم ليسوا بالمؤمنين في حين أنهم يظهرون الإيمان يثير سؤال سائل عن الفاصل الذي يميز بين المؤمن الحق وبين الذي يرائي بإيمانه في حين يدعى إلى الحكومة عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقتضي أن يبين للسائل الفرق بين الحالين لئلا يلتبس عنده الإيمان المزور بالإيمان الصادق ، فقد كان المنافقون يموهون بأن إعراض من أعرض منهم عن التحاكم عند رسول الله ليس لتزلزل في إيمانه بصدق الرسول ولكنه إعراض لمراعاة أعراض من العلائق الدنيوية كقول بشر : إن الرسول يبغضني. فبيّن الله بطلان ذلك بأن المؤمن لا يرتاب في عدل الرسول وعدم مصانعته.

وقد أفاد هذا الاستئناف أيضا الثناء على المؤمنين الأحقاء بضد ما كان ذما للمنافقين. وذلك من مناسبات هذا الاستئناف على عادة القرآن في إرداف التوبيخ بالترغيب والوعيد بالوعد والنذارة بالبشارة والذم بالثناء.

وجيء بصيغة الحصر ب (إِنَّما) لدفع أن يكون مخالف هذه الحالة في شيء من الإيمان وإن قال بلسانه إنه مؤمن ، فهذا القصر إضافي ، أي هذا قول المؤمنين الصادقين في إيمانهم لا كقول الذين أعرضوا عن حكم الرسول حين قالوا : (آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا) [النور : ٤٧] فلما دعوا إلى حكم الرسول عصوا أمره فإن إعراضهم نقيض الطاعة ، وسيأتي بيانه قريبا. وليس قصرا حقيقا لأن أقوال المؤمنين حين يدعون إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ليحكم بينهم غير منحصرة في قول : (سَمِعْنا وَأَطَعْنا) ولا في مرادفه ، فلعل منهم من يزيد على ذلك.

وفي «الموطأ» من حديث زيد بن خالد الجهني : «أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال أحدهما : يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله (يعني وهو يريد أن رسول الله يقضي له كما وقع التصريح في رواية الليث بن سعد في «البخاري» أن رجلا من الأعراب أتى رسول الله فقال : أنشدك بالله إلا قضيت لي بكتاب الله). وقال الآخر وهو أفقههما : أجل يا رسول الله فاقض بيننا بكتاب الله وأذن لي أن أتكلم (يريد لا تقض له علي فأذن لي أن أبين) فقال رسول الله تكلم ..» إلخ.

٢١٩

وليس المراد بقول (سَمِعْنا وَأَطَعْنا) خصوص هذين اللفظين بل المراد لفظهما أو مرادفهما للتسامح في مفعول فعل القول أن لا يحكى بلفظه كما هو مشهور. وإنما خص هذان اللفظان بالذكر هنا من أجل أنهما كلمة مشهورة تقال في مثل هذه الحالة وهي مما جرى مجرى المثل كما يقال أيضا «سمع وطاعة» بالرفع و «سمعا وطاعة» بالنصب ، وقد تقدم الكلام على ذلك عند قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) في سورة النساء [٤٦]. وفي حديث أبي هريرة : «قال النبي للأنصار : تكفوننا المئونة ونشرككم في الثمرة. فقال الأنصار : سمعنا وأطعنا».

و (قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ) خبر (كانَ) و (أَنْ يَقُولُوا) هو اسم (كانَ) وقدم خبر كان على اسمها متابعة للاستعمال العربي لأنهم إذا جاءوا بعد (كانَ) بأن والفعل لم يجيئوا بالخبر إلا مقدما على الاسم نظرا إلى كون المصدر المنسبك من أن والفعل أعرف من المصدر الصريح ، ولم يجيئوا بالخبر إلا مقدما كراهية توالي أداتين وهما : (كانَ) و (أَنْ). ونظائر هذا الاستعمال كثيرة في القرآن. وتقدم عند قوله تعالى : (وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) في سورة آل عمران [١٤٧].

وجيء في وصف المؤمنين بالفلاح بمثل التركيب الذي وصف به المنافقون بالظلم بصيغة القصر المؤكد ليكون الثناء على المؤمنين ضدا لمذمة المنافقين تاما.

واعلم أن القصر المستفاد من (إِنَّما) هنا قصر إفراد لأحد نوعي القول. فالمقصود منه الثناء على المؤمنين برسوخ إيمانهم وثبات طاعتهم في المنشط والمكره. وفيه تعريض بالمنافقين إذ يقولون كلمة الطاعة ثم ينقضونها بضدها من كلمات الإعراض والارتياب. ونظير هذه الآية في طريق قصر ب (إلّا) قوله تعالى : (وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) في سورة آل عمران [١٤٧].

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٥٢))

الواو اعتراضية أو عاطفة على جملة (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [النور : ٥١]. والتقدير : وهم الفائزون. فجاء نظم الكلام على هذا الإطناب ليحصل تعميم الحكم والمحكوم عليه. وموقع هذه الجملة موقع تذييل لأنها تعم ما ذكر قبلها من قول المؤمنين (سَمِعْنا وَأَطَعْنا) [النور : ٥١] وتشمل غيره من الطاعات بالقول أو بالفعل.

و (مَنْ) شرطية عامة ، وجملة : (فَأُولئِكَ) جواب الشرط. والفوز : الظفر بالمطلوب

٢٢٠