تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٨

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٨

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٥٦

الصالح. والطاعة : امتثال الأوامر واجتناب النواهي.

والخشية : الخوف. وهي تتعلق بالخصوص بما عسى أن يكون قد فرّط فيه من التكاليف على أنها تعم التقصير كله.

والتقوى : الحذر من مخالفة التكاليف في المستقبل.

فجمعت الآية أسباب الفوز في الآخرة وأيضا في الدنيا.

وصيغة الحصر للتعريض بالذين أعرضوا إذا دعوا إلى الله ورسوله وهي على وزن صيغة القصر التي تقدمتها.

(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣))

عطف على جملة : (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ) [النور : ٤٧]. أتبعت حكاية قولهم ذلك بحكاية قسم أقسموه بالله ليتنصلوا من وصمة أن يكون إعراضهم عن الحكومة عند الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجاءوه فأقسموا إنهم لا يضمرون عصيانه فيما يقضي به فإنه لو أمرهم الرسول بأشق شيء وهو الخروج للقتال لأطاعوه. قال ابن عطية : وهذه في المنافقين الذين تولوا حين دعوا إلى الله ورسوله. وقال القرطبي : لما بيّن كراهتهم لحكم النبي أتوه فقالو : والله لو أمرتنا أن نخرج من ديارنا وأموالنا لخرجنا ولو أمرتنا بالجهاد لجاهدنا. فنزلت هذه الآية.

وكلام القرطبي يقتضي أنهم ذكروا خروجين. وبذلك يكون من الإيجاز في الآية حذف متعلق الخروج ليشمل ما يطلق عليه لفظ الخروج من حقيقة ومجاز بقرينة ما هو معروف من قصة سبب نزول الآية يومئذ ، فإنه بسبب خصومة في مال فكان معنى الخروج من المال أسبق في القصد. واقتصر جمهور المفسرين على أن المراد ليخرجنّ من أموالهم وديارهم. واقتصر الطبري على أن المراد ليخرجن إلى الجهاد على اختلاف الرأيين في سبب النزول.

والإقسام : النطق بالقسم ، أي اليمين.

وضمير (أَقْسَمُوا) عائد إلى ما عاد إليه ضمير (وَيَقُولُونَ) [النور : ٤٧]. والتعبير بفعل المضي هنا لأن ذلك شيء وقع وانقضى.

٢٢١

والجهد ـ بفتح الجيم وسكون الهاء ـ منتهى الطاقة. ولذلك يطلق على المشقة كما

في حديث بدء الوحي «فغطني حتى بلغ منّي الجهد» لأن الأمر الشاق لا يعمل إلا بمنتهى الطاقة. وهو مصدر «جهد» كمنع متعديا إذا أتعب غيره.

ونصب (جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) يجوز أن يكون على الحال من ضمير (أَقْسَمُوا) على تأويل المصدر باسم الفاعل كقوله (لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) [الأعراف : ١٨٧] ، أي جاهدين. والتقدير : جاهدين أنفسهم ، أي بالغين بها أقصى الطاقة وهذا على طريقة التجريد. ومعنى ذلك : أنهم كرّروا الأيمان وعدّدوا عباراتها حتى أتعبوا أنفسهم ليوهموا أنهم صادقون في أيمانهم. وإضافة (جَهْدَ) إلى (أَيْمانِهِمْ) على هذا الوجه إضافة على معنى (من) ، أي جهدا ناشئا عن أيمانهم.

ويجوز أن يكون (جَهْدَ) منصوبا على المفعول المطلق الواقع بدلا من فعله. والتقدير: جهدوا أيمانهم جهدا. والفعل المقدر في موضع الحال من ضمير (أَقْسَمُوا). والتقدير : أقسموا يجهدون أيمانهم جهدا. وإضافة (جَهْدَ) إلى (أَيْمانِهِمْ) على هذا الوجه من إضافة المصدر إلى مفعوله ؛ جعلت الأيمان كالشخص الذي له جهد ، ففيه استعارة مكنية ، ورمز إلى المشبه به بما هو من روادفه وهو أن أحدا يجهده ، أي يستخرج منه طاقته فإن كل إعادة لليمين هي كتكليف لليمين بعمل متكرر كالجهد له ، فهذا أيضا استعارة.

وتقدم الكلام على شيء من هذا عند قوله تعالى : (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) في سورة العقود [٥٣] وقوله : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ) في سورة الأنعام [١٠٩].

وجملة : (لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ) إلخ بيان لجملة : (أَقْسَمُوا). وحذف مفعول (أَمَرْتَهُمْ) لدلالة قوله : (لَيَخْرُجُنَ). والتقدير : لئن أمرتهم بالخروج ليخرجن.

فأمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول لهم هذه الكلمات ذات المعاني الكثيرة وهي (لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ). وذلك كلام موجه لأن نهيهم عن أن يقسموا بعد أن صدر القسم يحتمل أن يكون نهيا عن إعادته لأنهم كانوا بصدد إعادته ، بمعنى : لا حاجة بكم إلى تأكيد القسم ، أي فإن التأكيد بمنزلة المؤكد في كونه كذبا.

ويحتمل أن يكون النهي مستعملا في معنى عدم المطالبة بالقسم ، أي ما كان لكم أن

٢٢٢

تقسموا إذ لا حاجة إلى القسم لعدم الشك في أمركم.

ويحتمل أن يكون النهي مستعملا في التسوية مثل (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ) [الطور : ١٦].

ويحتمل أن يكون النهي مستعملا في حقيقته والمقسم عليه محذوف ، أي لا تقسموا على الخروج من دياركم وأموالكم فإن الله لا يكلفكم بذلك. ومقام مواجهة نفاقهم يقتضي أن تكون هذه الاحتمالات مقصودة.

وقوله : (طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) كلام أرسل مثلا وتحته معان جمة تختلف باختلاف الاحتمالات المتقدمة في قوله : (لا تُقْسِمُوا).

وتنكير (طاعَةٌ) لأن المقصود به نوع الطاعة وليست طاعة معينة فهو من باب : تمرة خير من جرادة ، و (مَعْرُوفَةٌ) خبره.

فعلى احتمال أن يكون النهي عن القسم مستعملا في النهي عن تكريره يكون المعنى من قبيل التهكم ، أي لا حرمة للقسم فلا تعيدوه فطاعتكم معروفة ، أي معروف وهنها وانتفاؤها.

وعلى احتمال استعمال النهي في عدم المطالبة باليمين يكون المعنى : لما ذا تقسمون أفأنا أشك في حالكم فإن طاعتكم معروفة عندي ، أي أعرف عدم وقوعها ، والكلام تهكم أيضا.

وعلى احتمال استعمال النهي في التسوية فالمعنى : قسمكم ونفيه سواء لأن أيمانكم فاجرة وطاعتكم معروفة.

أو يكون (طاعَةٌ) مبتدأ محذوف الخبر ، أي طاعة معروفة أولى من الأيمان ، ويكون وصف (مَعْرُوفَةٌ) مشتقا من المعرفة بمعنى العلم ، أي طاعة تعلم وتتحقق أولى من الأيمان على طاعة غير واقعة ، وهو كالعرفان في قولهم : لا أعرفنك تفعل كذا.

وإن كان النهي مستعملا في حقيقته فالمعنى : لا تقسموا هذا القسم ، أي على الخروج من دياركم وأموالكم لأن الله لا يكلفكم الطاعة إلا في معروف ، فيكون وصف (مَعْرُوفَةٌ) مشتقا من العرفان ، أي عدم النكران كقوله تعالى : (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) [الممتحنة : ١٢].

٢٢٣

وجملة : (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) صالحة لتذييل الاحتمالات المتقدمة ، وهي تعليل لما قبلها.

(قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٥٤))

تلقين آخر للرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ بما يردّ بهتانهم بقلة الاكتراث بمواعيدهم الكاذبة وأن يقتصروا من الطاعة على طاعة الله ورسوله فيما كلفهم دون ما تبرعوا به كذبا ، ويختلف معنى (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) بين معاني الأمر بإيجاد الطاعة المفقودة أو إيهام طلب الدوام على الطاعة على حسب زعمهم.

وأعيد الأمر بالقول للاهتمام بهذا القول فيقع كلاما مستقلا غير معطوف.

وقوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) يجوز أن يكون تفريعا على فعل (أَطِيعُوا) فيكون فعل (تَوَلَّوْا) من جملة ما أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقوله لهم ويكون فعلا مضارعا بتاء الخطاب. وأصله : تتولوا بتاءين حذفت منهما تاء الخطاب للتخفيف وهو حذف كثير في الاستعمال. والكلام تبليغ عن الله تعالى إليهم ، فيكون ضميرا ف (عَلَيْهِ ما حُمِّلَ) عائدين إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ويجوز أن يكون تفريعا على فعل (قُلْ) أي فإذا قلت ذلك فتولّوا ولم يطيعوا إلخ ، فيكون فعل (تَوَلَّوْا) ماضيا بتاء واحدة مواجها به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي فإن تولوا ولم يطيعوا فإنما عليك ما حمّلت من التبليغ وعليهم ما حمّلوا من تبعة التكليف. كمعنى قوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) في سورة النحل [٨٢] فيكون في ضمائر (فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) التفات. وأصل الكلام : فإنما عليك ما حملت وعليهم ما حمّلوا. والالتفات محسن لا يحتاج إلى نكتة.

وبهذين الوجهين تكون الآية مفيدة معنيين : معنى من تعلق خطاب الله تعالى بهم وهو تعريض بتهديد ووعيد ، ومعنى من موعظة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إيّاهم وموادعة لهم. وهذا كله تبكيت لهم ليعلموا أنهم لا يضرون بتولّيهم إلا أنفسهم. ونظيره قوله في سورة آل عمران[٢٣ ـ ٣٢]: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) (هم اليهود) (يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ) إلى قوله : (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ)

٢٢٤

واعلم أن هذين الاعتبارين لا يتأتيان في المواضع التي يقع فيها الفعل المضارع المفتتح بتاءين في سياق النهي نحو قوله تعالى : (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) [النساء : ٤] وقوله : (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) [البقرة : ٢٦٧] وقوله : (وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) في سورة الأنفال [٢٠] ، وأما قوله تعالى في سورة القتال [٣٨](وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) فثبتت فيه التاءان لأن الكلام فيه موجه إلى المؤمنين فلم يكن فيه ما يقتضي نسج نظمه بما يصلح لإفادة المعنيين المذكورين في سورة النور وفي سورة آل عمران.

والبلاغ : اسم مصدر بمعنى التبليغ كالأداء بمعنى التأدية. ومعنى كونه مبينا أنه فصيح واضح.

وجملة : (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) إرداف الترهيب الذي تضمنه قوله : (وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) بالترغيب في الطاعة استقصاء في الدعوة إلى الرشد.

وجملة (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) بيان لإبهام قوله : (ما حُمِّلَ).

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥))

الأشبه أن هذا الكلام استئناف ابتدائي انتقل إليه بمناسبة التعرض إلى أحوال المنافقين الذين أبقاهم على النفاق تردّدهم في عاقبة أمر المسلمين ، وخشيتهم أن لا يستقر بالمسلمين المقام بالمدينة حتى يغزوهم المشركون ، أو يخرجهم المنافقون حين يجدون الفرصة لذلك كما حكى الله تعالى من قول عبد الله بن أبيّ : (لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) [المنافقون : ٨] ، فكانوا يظهرون الإسلام اتقاء من تمام أمر الإسلام ويبطنون الكفر ممالاة لأهل الشرك حتى إذا ظهروا على المسلمين لم يلمزوا المنافقين بأنهم قد بدّلوا دينهم ، مع ما لهذا الكلام من المناسبة مع قوله : (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) [النور : ٥٤] ، فيكون المعنى : وإن تطيعوه تهتدوا وتنصروا وتأمنوا. ومع ما روي من حوادث تخوف المسلمين ضعفهم أمام أعدائهم فكانوا مشفقين عن غزو أهل الشرك ومن كيد المنافقين ودلالتهم المشركين على عورات المسلمين فقيل كانت تلك الحوادث سببا لنزول هذه الآية.

٢٢٥

قال أبو العالية : مكث رسول الله بمكة عشر سنين بعد ما أوحي إليه خائفا هو وأصحابه ثم أمر بالهجرة إلى المدينة وكانوا فيها خائفين يصبحون ويمسون في السلاح. فقال رجل : يا رسول الله أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح؟ فقال رسول الله : لا تغبرون (أي لا تمكثون) إلا قليلا حتى يجلس الرجل منكم في الملإ العظيم محتبيا ليس عليه حديدة». ونزلت هذه الآية.

فكان اجتماع هذه المناسبات سببا لنزول هذه الآية في موقعها هذا بما اشتملت عليه من الموعود به الذي لم يكن مقتصرا على إبدال خوفهم أمنا كما اقتضاه أثر أبي العالية ، ولكنه كان من جملة الموعود كما كان سببه من عداد الأسباب.

وقد كان المسلمون واثقين بالأمن ولكن الله قدم على وعدهم بالأمن أن وعدهم بالاستخلاف في الأرض وتمكين الدين والشريعة فيهم تنبيها لهم بأن سنة الله أنه لا تأمن أمة بأس غيرها حتى تكون قوية مكينة مهيمنة على أصقاعها. ففي الوعد بالاستخلاف والتمكين وتبديل الخوف أمنا إيماء إلى التهيّؤ لتحصيل أسبابه مع ضمان التوفيق لهم والنجاح إن هم أخذوا في ذلك ، وأنّ ملاك ذلك هو طاعة الله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) [النور : ٥٤] ، وإذا حلّ الاهتداء في النفوس نشأت الصالحات فأقبلت مسبباتها تنهال على الأمة ، فالأسباب هي الإيمان وعمل الصالحات.

والموصول عام لا يختص بمعيّن ، وعمومه عرفي ، أي غالب فلا يناكده ما يكون في الأمة من مقصرين في عمل الصالحات فإن تلك المنافع عائدة على مجموع الأمة.

والخطاب في (مِنْكُمْ) لأمة الدعوة بمشركيها ومنافقيها بأن الفريق الذي يتحقق فيه الإيمان وعمل الصالحات هو الموعود بهذا الوعد.

والتعريف في (الصَّالِحاتِ) للاستغراق ، أي عملوا جميع الصالحات ، وهي الأعمال التي وصفها الشرع بأنها صلاح ، وترك الأعمال التي وصفها الشرع بأنها فساد لأن إبطال الفساد صلاح.

فالصالحات جمع صالحة : وهي الخصلة والفعلة ذات الصلاح ، أي التي شهد الشرع بأنها صالحة. وقد تقدم في أول البقرة.

واستغراق (الصَّالِحاتِ) استغراق عرفي ، أي عمل معظم الصالحات ومهماتها ومراجعها مما يعود إلى تحقيق كليات الشريعة وجري حالة مجتمع الأمة على مسلك الاستقامة ، وذلك يحصل بالاستقامة في الخويصّة وبحسن التصرف في العلاقة المدنية بين

٢٢٦

الأمة على حسب ما أمر به الدين أفراد الأمة كل فيما هو من عمل أمثاله الخليفة فمن دونه ، وذلك في غالب أحوال تصرفاتهم ، ولا التفات إلى الفلتات المناقضة فإنها معفو عنها إذا لم يسترسل عليها وإذا ما وقع السعي في تداركها.

والاستقامة في الخويصّة هي موجب هذا الوعد وهي الإيمان وقواعد الإسلام ، والاستقامة في المعاملة هي التي بها تيسير سبب الموعود به.

وقد بين الله تعالى أصول انتظام أمور الأمة في تضاعيف كتابه وعلى لسان رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) [النحل : ٩٠] وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٢٩] وقوله في سياق الذم : (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) [البقرة : ٢٠٥] وقوله : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) [محمّد : ٢٢]. وبين الرسول عليه الصلاة والسلام تصرفات ولاة الأمور في شئون الرعية ومع أهل الذمة ومع الأعداء في الغزو والصلح والمهادنة والمعاهدة ، وبين أصول المعاملات بين الناس.

فمتى اهتم ولاة الأمور وعموم الأمة باتباع ما وضّح لهم الشرع تحقق وعد الله إياهم بهذا الوعد الجليل.

وهذه التكاليف التي جعلها الله قواما لصلاح أمور الأمة ووعد عليها بإعطاء الخلافة والتمكين والأمن صارت بترتيب تلك الموعدة عليها أسبابا لها. وكانت الموعدة كالمسبب عليها فشابهت من هذه الحالة خطاب الوضع ، وجعل الإيمان عمودها وشرطا للخروج من عهدة التكليف بها وتوثيقا لحصول آثارها بأن جعله جالب رضاه وعنايته. فبه يتيسر للأمة تناول أسباب النجاح ، وبه يحف اللطف الإلهي بالأمة في أطوار مزاولتها واستجلابها بحيث يدفع عنهم العراقيل والموانع ، وربما حف بهم اللطف والعناية عند تقصيرهم في القيام بها. وعند تخليطهم الصلاح بالفساد فرفق بهم ولم يعجّل لهم الشر وتلوّم لهم في إنزال العقوبة. وقد أشار إلى هذا قوله تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٥ ـ ١٠٧] يريد بذلك كله المسلمين. وقد مضى الكلام على ذلك في سورة الأنبياء وقوله : (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) في سورة الحج [٣٨].

٢٢٧

فلو أن قوما غير مسلمين عملوا في سيرتهم وشئون رعيتهم بمثل ما أمر الله به المسلمين من الصالحات بحيث لم يعوزهم إلا الإيمان بالله ورسوله لاجتنوا من سيرتهم صورا تشبه الحقائق التي يجتنيها المسلمون لأن تلك الأعمال صارت أسبابا وسننا تترتب عليها آثارها التي جعلها الله سننا وقوانين عمرانية سوى أنهم لسوء معاملتهم ربهم بجحوده أو بالإشراك به أو بعدم تصديق رسوله يكونون بمنأى عن كفالته وتأييده إياهم ودفع العوادي عنهم ، بل يكلهم إلى أعمالهم وجهودهم على حسب المعتاد. ألا ترى أن القادة الأروبيين بعد أن اقتبسوا من الإسلام قوانينه ونظامه بما ما رسوه من شئون المسلمين في خلال الحروب الصليبية ثم بما اكتسبوه من ممارسة كتب التاريخ الإسلامي والفقه الإسلامي والسيرة النبوية قد نظموا ممالكهم على قواعد العدل والإحسان والمواساة وكراهة البغي والعدوان فعظمت دولهم واستقامت أمورهم. ولا عجب في ذلك فقد سلط الله الأشوريين وهم مشركون على بني إسرائيل لفسادهم فقال : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً) وقد تقدم في سورة الإسراء [٤ ، ٥].

والاستخلاف : جعلهم خلفاء ، أي عن الله في تدبير شئون عباده كما قال : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) وقد تقدم في سورة البقرة [٣٠]. والسين والتاء للتأكيد. وأصله : ليخلفنهم في الأرض.

وتعليق فعل الاستخلاف بمجموع الذين آمنوا وعملوا الصالحات وإن كان تدبير شئون الأمة منوطا بولاة الأمور لا بمجموع الأمة من حيث إن لمجموع الأمة انتفاعا بذلك وإعانة عليه كل بحسب مقامه في المجتمع ، كما حكى تعالى قول موسى لبني إسرائيل : (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) كما تقدم في سورة العقود [٢٠].

ولهذا فالوجه أن المراد من الأرض جميعها ، وأن الظرفية المدلولة بحرف (في) ظاهرة في جزء من الأرض وهو موطن حكومة الأمة وحيث تنال أحكامها سكانه. والأصل في الظرفية عدم استيعاب المظروف الظرف كقوله تعالى : (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) [هود : ٦١].

وإنما صيغ الكلام في هذا النظم ولم يقتصر على قوله : (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ) دون تقييد بقوله : (فِي الْأَرْضِ) ل (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ) للإيماء إلى أن الاستخلاف يحصل في معظم

٢٢٨

الأرض. وذلك يقبل الامتداد والانقباض كما كان الحال يوم خروج بلاد الأندلس من حكم الإسلام. ولكن حرمة الأمة واتقاء بأسها ينتشر في المعمورة كلها بحيث يخافهم من عداهم من الأمم في الأرض التي لم تدخل تحت حكمهم ويسعون الجهد في مرضاتهم ومسالمتهم. وهذا استخلاف كامل ولذلك نظّر بتشبيه باستخلاف الذين من قبلهم يعني الأمم التي حكمت معظم العالم وأخافت جميعه مثل الأشوريين والمصريين والفنيقيين واليهود زمن سليمان ، والفرس ، واليونان ، والرومان.

وعن مالك : أن هذه الآية نزلت في أبي بكر وعمر فيكون موصول الجمع مستعملا في معنى المثنى. وعن الضحاك : هذه الآية تتضمن خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي. ولعل هذا مراد مالك. وعلى هذا فالمراد بالذين من قبلهم صلحاء الملوك مثل : يوسف ، وداود ، وسليمان ، وأنوشروان ، وأصحمة النجاشي ، وملكي صادق الذي كان في زمن إبراهيم ويدعى حمورابي ، وذي القرنين ، وإسكندر المقدوني ، وبعض من ولي جمهورية اليونان.

وفي الآية دلالة واضحة على أن خلفاء الأمة مثل : أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن ومعاوية كانوا بمحل الرضى من الله تعالى لأنه استخلفهم استخلافا كاملا كما استخلف الذين من قبلهم وفتح لهم البلاد من المشرق إلى المغرب وأخاف منهم الأكاسرة والقياصرة.

وجملة : (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ) بيان لجملة : (وَعَدَ) لأنها عين الموعود به. ولما كانت جملة قسم وهو من قبيل القول كانت إحداهما بيانا للأخرى.

وقرأ الجمهور : (كَمَا اسْتَخْلَفَ) بالبناء للفاعل ، أي كما استخلف الله الذين من قبلهم. وقرأه أبو بكر عن عاصم بالبناء للنائب فيكون (الَّذِينَ) نائب فاعل.

وتمكين الدين : انتشاره في القبائل والأمم وكثرة متبعيه. استعير التمكين الذي حقيقته التثبيت والترسيخ لمعنى الشيوع والانتشار لأنه إذا انتشر لم يخش عليه الانعدام فكان كالشيء المثبت المرسّخ ، وإذا كان متّبعوه في قلة كان كالشيء المضطرب المتزلزل. وهذا الوعد هو الذي أشار إليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أحاديث كثيرة منها حديث الحديبية إذ جاء فيه قوله : «وإن هم أبوا (أي إلا القتال) فو الذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي (أي ينفصل مقدم العنق عن الجسد) ولينفذنّ الله أمره».

٢٢٩

وقوله : (لَهُمْ) مقتضى الظاهر فيه أن يكون بعد قوله : (دِينَهُمُ) لأن المجرور بالحرف أضعف تعلقا من مفعول الفعل ، فقدم (لَهُمْ) عليه للإيماء إلى العناية بهم ، أي يكون التمكين لأجلهم ، كتقديم المجرور على المفعولين في قوله : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) [الشرح : ١ ، ٢].

وإضافة الدين إلى ضميرهم لتشريفهم به لأنه دين الله كما دل عليه قوله عقبه : (الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ) ، أي الذي اختاره ليكون دينهم ، فيقتضي ذلك أنه اختارهم أيضا ليكونوا أتباع هذا الدين. وفيه إشارة إلى أن الموصوفين بهذه الصلة هم الذين ينشرون هذا الدين في الأمم لأنه دينهم فيكون تمكنه في الناس بواسطتهم.

وإنما قال : (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) ولم يقل : وليؤمننهم ، كما قال في سابقيه لأنهم ما كانوا يطمحون يومئذ إلا إلى الأمن ، كما ورد في حديث أبي العالية المتقدم آنفا ، فكانوا في حالة هي ضد الأمن ولو أعطوا الأمن دون أن يكونوا في حالة خوف لكان الأمن منة واحدة. وإضافة الخوف إلى ضميرهم للإشارة إلى أنه خوف معروف مقرر.

وتنكير (أَمْناً) للتعظيم بقرينة كونه مبدّلا من بعد خوفهم المعروف بالشدة. والمقصود : الأمن من أعدائهم المشركين والمنافقين. وفيه بشارة بأن الله مزيل الشرك والنفاق من الأمة. وليس هذا الوعد بمقتض أن لا تحدث حوادث خوف في الأمة في بعض الأقطار كالخوف الذي اعترى أهل المدينة من ثورة أهل مصر الذين قادهم الضالّ مالك الأشتر النخعي ، ومثل الخوف الذي حدث في المدينة يوم الحرّة وغير ذلك من الحوادث وإنما كانت تلك مسببات عن أسباب بشرية وإلى الله إيابهم وعلى الله حسابهم.

وقرأ الجمهور : (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ) بفتح الموحدة وتشديد الدال. وقرأه ابن كثير وأبو بكر عن عاصم ويعقوب بسكون الموحدة وتخفيف الدال والمعنى واحد.

وجملة : (يَعْبُدُونَنِي) حال من ضمائر الغيبة المتقدمة ، أي هذا الوعد جرى في حال عبادتهم إياي. وفي هذه الحال إيذان بأن ذلك الوعد جزاء لهم ، أي وعدتهم هذا الوعد الشامل لهم والباقي في خلفهم لأنهم يعبدونني عبادة خالصة عن الإشراك.

وعبر بالمضارع لإفادة استمرارهم على ذلك تعريضا بالمنافقين إذ كانوا يؤمنون ثم ينقلبون.

٢٣٠

وجملة : (لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) حال من ضمير الرفع في (يَعْبُدُونَنِي) تقييدا للعبادة بهذه الحالة لأن المشركين قد يعبدون الله ولكنهم يشركون معه غيره. وفي هاتين الجملتين ما يؤيد ما قدمناه آنفا من كون الإيمان هو الشريطة في كفالة الله للأمة هذا الوعد.

وجملة : (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) تحذير بعد البشارة على عادة القرآن في تعقيب البشارة بالنذارة والعكس دفعا للاتكال.

والإشارة في قوله : (بَعْدَ ذلِكَ) إلى الإيمان المعبر عنه هنا ب (يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) والمعبر عنه في أول الآيات بقوله : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) ، أي ومن كفر بعد الإيمان وما حصل له من البشارة عليه فهم الفاسقون عن الحق.

وصيغة الحصر المأخوذة من تعريف المسند بلام الجنس مستعملة مبالغة للدلالة على أنه الفسق الكامل.

ووصف الفاسقين له رشيق الموقع ، لأن مادة الفسق تدل على الخروج من المكان من منفذ ضيق.

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦))

عطف على جملة : (يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) [النور : ٥٥] لما فيها من معنى الأمر بترك الشرك ، فكأنه قيل : اعبدوني ولا تشركوا وأقيموا الصلاة ، لأن الخبر إذا كان يتضمن معنى الأمر كان في قوة فعل الأمر حتى أنه قد يجزم جوابه كما في قوله تعالى : (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) إلى قوله : (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) [الصفّ : ١١ ـ ١٢] بجزم (يَغْفِرْ) لأن قوله : (تُؤْمِنُونَ) في قوة أن يقول : آمنوا بالله.

والخطاب موجه للذين آمنوا خاصة بعد أن كان موجها لأمة الدعوة على حد قوله تعالى : (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) [يوسف : ٢٩] ، فالطاعة المأمور بها هنا غير الطاعة التي في قوله : (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا) [النور : ٥٤] إلخ لأن تلك دعوة للمعرضين وهذه ازدياد للمؤمنين.

وقد جمعت هذه الآية جميع الأعمال الصالحات فأهمها بالتصريح وسائرها بعموم حذف المتعلق بقوله : (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) أي في كل ما يأمركم وينهاكم.

ورتب على ذلك رجاء حصول الرحمة لهم ، أي في الدنيا بتحقيق الوعد الذي من

٢٣١

رحمته الأمن وفي الآخرة بالدرجات العلى. والكلام على (لعل) تقدم في غير موضع في سورة البقرة.

(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧))

استئناف ابتدائي لتحقيق ما اقتضاه قوله : (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) [النور : ٥٥] ، فقد كان المشركون يومئذ لم يزالوا في قوة وكثرة ، وكان المسلمون لم يزالوا يخافون بأسهم فربما كان الوعد بالأمن من بأسهم متلقى بالتعجب والاستبطاء الشبيه بالتردد فجاء قوله : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) تطمينا وتسلية.

والخطاب لمن قد يخامره التعجب والاستبطاء دون تعيين.

والمقصود من النهي عن هذا الحسبان التنبيه على تحقيق الخبر.

وقراءة الجمهور : (تَحْسَبَنَ) بتاء الخطاب. وقرأ ابن عامر وحمزة وحده بياء الغيبة فصار (الَّذِينَ كَفَرُوا) فاعلّ يحسبن فيبقى ليحسبن مفعول واحد هو (مُعْجِزِينَ). فقال أبو حاتم والنحاس والفراء : هي خطأ أو ضعيفة لأن فعل الحسبان يقتضي مفعولين. وهذا القول جرأة على قراءة متواترة. وقال الزجاج : المفعول الأول محذوف تقديره : أنفسهم ، وقد وفق لأن الحذف ليس بعزيز في الكلام. وفي «الكشاف» أن (فِي الْأَرْضِ) هو المفعول الثاني ، أي لا يحسبوا ناسا معجزين في الأرض (يعني ما من كائن في الأرض إلا وهو في متناول قدرة الله إن شاء أخذه ، أي فلا ملجأ لهم في الأرض كلها) قال : «وهذا معنى قوي جيّد».

والمعجز : الذي يعجز غيره ، أي يجعله عاجزا عن غلبه. وقد تقدم عند قوله تعالى : (إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) في سورة الأنعام [١٣٤]. وكذلك المعاجز بمعنى المحاول عجز ضده تقدم في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ) في سورة الحج [٥١].

والأرض : هي أرض الدنيا ، أي هم غير غالبين في الدنيا كما حسبوا أنه ليس ثمة عالم آخر. و (فِي الْأَرْضِ) متعلق ب (مُعْجِزِينَ) على قراءة الجمهور وعلى بعض التوجيهات من قراءة حمزة وابن عامر ، أو هو مفعول ثان على بعض التوجيهات كما

٢٣٢

علمت.

وقوله : (وَمَأْواهُمُ النَّارُ) أي هم في الآخرة معلوم أن مأواهم النار فقد خسروا الدارين.

[٥٨ ، ٥٩] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩))

استئناف انتقالي إلى غرض من أحكام المخالطة والمعاشرة. وهو عود إلى الغرض الذي ابتدئت به السورة وقطع عند قوله (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) [النور : ٣٤] كما تقدم.

وقد ذكر في هذه الآية شرع الاستئذان لأتباع العائلة ومن هو شديد الاختلاط إذا أراد دخول بيت ، فهو من متممات ما ذكر في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) [النور : ٢٧] وهو بمفهوم الزمان يقتضي تخصيص عموم قوله : (لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ) الآيات لأن ذلك عام في الأعيان والأوقات فكان قوله : (الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ) إلى قوله : (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ) تشريعا لاستئذانهم في هذه الأوقات وهو يقتضي عدم استئذانهم في غير تلك الأوقات الثلاثة ، فصار المفهوم مخصصا لعموم النهي في قوله : (لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا). وأيضا هذا الأمر مخصص بعموم (ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) [النور : ٣١] وعموم (الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) من قوله تعالى : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) [النور : ٣١] إلخ المتقدم آنفا.

وقد روي أن أسماء بنت مرثد دخل عليها عبد لها كبير في وقت كرهت دخوله فيه فأتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : إنما خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حالة نكرهها. فنزلت الآية ، (يعني أنها اشتكت إباحة ذلك لهم). ولو صحت هذه الرواية لكانت هذه الآية نسخا لعموم (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) وعموم (أَوِ الطِّفْلِ) لأنها تقتضي أنه وقع العمل بذلك العموم ثم خصص بهذه الآية. والتخصيص إذا ورد بعد العمل بعموم العام صار

٢٣٣

نسخا.

والأمر في قوله : (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ) للوجوب عند الجمهور. وقال أبو قلابة : هو ندب.

فأما المماليك فلأن في عرف الناس أن لا يتحرجوا من اطلاع المماليك عليهم إذ هم خول وتبع. وقد تقدم ذلك آنفا عند قوله تعالى : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) [النور : ٣١]. وأما الأطفال فلأنهم لا عناية لهم بتطلع أحوال الناس. وتقدم آنفا عند قوله : (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) [النور : ٣١].

كانت هذه الأوقات أوقاتا يتجرد فيها أهل البيت من ثيابهم كما آذن به قوله تعالى : (وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ) فكان من القبيح أن يرى مماليكهم وأطفالهم عوراتهم لأن ذلك منظر يخجل منه المملوك وينطبع في نفس الطفل لأنه لم يعتد رؤيته ، ولأنه يجب أن ينشأ الأطفال على ستر العورة حتى يكون ذلك كالسجية فيهم إذا كبروا.

ووجّه الخطاب إلى المؤمنين وجعلت صيغة الأمر موجهة إلى المماليك والصبيان على معنى : لتأمروا الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم أن يستأذنوا عليكم ، لأن على أرباب البيوت تأديب أتباعهم ، فلا يشكل توجيه الأمر إلى الذين لم يبلغوا الحلم.

وقوله : (الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) يشمل الذكور والإناث لمالكيهم الذكور والإناث.

وأما مسألة النظر وتفصيلها في الكبير والصغير والذكر والأنثى فهي من علائق ستر العورة المفصلة في كتب الفقه. وقد تقدم شيء من ذلك عند قوله تعالى : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) إلى قوله : (عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) [النور : ٣١] فلا ينبغي التصدي بإيراد صورها في هذه الآية.

وتعيين الاستئذان في هذه الأوقات الثلاثة لأنها أوقات خلوة الرجال والنساء وأوقات التعري من الثياب ، وهي أوقات نوم وكانوا غالبا ينامون مجردين من الثياب اجتزاء بالغطاء ، وقد سماها الله تعالى : (عَوْراتِ).

وما بعد صلاة العشاء هو الليل كله إلى حين الهبوب من النوم قبل الفجر. وانتصب (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) على أنه مفعول مطلق ليستأذنكم لأن مرات في قوة استئذانات.

وقوله : (مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ) ظرف مستقر في محل نصب على البدل من (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) بدل مفصل من مجمل. وحرف (من) مزيد للتأكيد.

٢٣٤

وعطف عليه (وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ). والظهيرة : وقت الظهر وهو انتصاف النهار.

وقوله : (ثَلاثُ عَوْراتٍ) قرأه الجمهور مرفوعا على أنه خبر مبتدإ محذوف أي هي ثلاث عورات ، أي أوقات ثلاث عورات. وحذف المسند إليه هنا مما اتبع فيه الاستعمال في كل إخبار عن شيء تقدم الحديث عنه.

و (لَكُمْ) متعلق ب (عَوْراتٍ). وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم بالنصب على البدل من (ثَلاثَ مَرَّاتٍ).

والعورة في الأصل : الخلل والنقص. وفيه قيل لمن فقدت عينه أعور وعورت عينه ، ومنه عورة الحي وهي الجهة غير الحصينة منه بحيث يمكن الدخول منها كالثغر ، قال لبيد :

وأجنّ عورات الثغور ظلامها

وقال تعالى : (يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) [الأحزاب : ١٣] ثم أطلقت على ما يكره انكشافه كما هنا وكما سمي ما لا يحب الإنسان كشفه من جسده عورة. وفي قوله : (ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) نص على علة إيجاب الاستئذان فيها.

وقوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَ) تصريح بمفهوم الظروف في قوله : (مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ) وما عطف عليه ، أي بعد تلك الأوقات المحددة. فصلاة الفجر حد معلوم ، وحالة وضع الثياب من الظهيرة تحديد بالعرف ، وما بعد صلاة العشاء من الحصة التي تسع في العرف تصرف الناس في التهيؤ إلى النوم.

ولك أن تجعل (بعد) بمعنى (دون) ، أي في غير تلك الأوقات الثلاثة كقوله تعالى: (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ) [الجاثية : ٢٣] ، وضمير (بَعْدَهُنَ) عائد إلى ثلاث عورات ، أي بعد تلك الأوقات.

ونفي الجناح عن المخاطبين في قوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ) بعد أن كان الكلام على استئذان المماليك والذين لم يبلغوا الحلم إيماء إلى لحن خطاب حاصل من قوله : (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) فإن الأمر باستئذان هؤلاء عليهم يقتضي أمر أهل البيت بالاستئذان على الذين ملكت أيمانهم إذا دعاهم داع إلى الدخول عليهم في تلك الأوقات كما يرشد السامع إليه قوله : (ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ). وإنما لم يصرح بأمر المخاطبين بأن يستأذنوا على الذين ملكت أيمانهم لندور دخول السادة

٢٣٥

على عبيدهم أو على غلمانهم إذ الشأن أنهم إذا دعتهم حاجة إليهم أن ينادوهم فأما إذا دعت الحاجة إلى الدخول عليهم فالحكم فيهم سواء. وقد أشار إلى العلة قوله تعالى : (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ).

وقوله : (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) خبر مبتدأ محذوف تقديره : هم طوافون ، يعود على (الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ).

والكلام استئناف بياني ، أي إنما رفع الجناح عليهم وعليكم في الدخول بدون استئذان بعد تلك الأوقات الثلاثة لأنهم طوافون عليكم فلو وجب أن يستأذنوا كان ذلك حرجا عليهم وعليكم.

وفي الكلام اكتفاء. تقديره : وأنتم طوافون عليهم دل عليه قوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَ) وقوله عقبه : (بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ).

و (بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) جملة مستأنفة أيضا. ويجعل (بَعْضُكُمْ) مبتدأ ، ويتعلق قوله : (عَلى بَعْضٍ) بحبر محذوف تقديره : طواف على بعض. وحذف الخبر وبقي المتعلق به وهو كون خاص حذف لدلالة (طَوَّافُونَ) عليه. والتقدير : بعضكم طواف على بعض. ولا يحسن من جعل (بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) بدلا من الواو في (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) لأنه عائد إلى (الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ) فلا يحسن أن يبدل منه بعض المخاطبين وهم ليسوا من الفريقين إلا بتقدير.

وقوله : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) أي مثل ذلك البيان الذي طرق أسماعكم يبين الله لكم الآيات ، فبيانه بالغ الغاية في الكمال حتى لو أريد تشبيهه لما شبّه إلا بنفسه. وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) في سورة البقرة [١٤٣].

والتعريف في (الْآياتِ) تعريف الجنس. والمراد بالآيات القرآن فإن ما يقع فيه إجمال منها يبين بآيات أخرى ، فالآيات التي أولها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) جاءت بيانا لآيات (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ) [النور : ٢٧].

وجملة : (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) معترضة. والمعنى : يبين الله لكم الآيات بيانا كاملا وهو عليم حكيم ، فبيانه بالغ غاية الكمال لا محالة.

ووقع قوله : (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ) في موقع التصريح بمفهوم الصفة في

٢٣٦

قوله : (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ) ليعلم أن الأطفال إذا بلغوا الحلم تغير حكمهم في الاستئذان إلى حكم استئذان الرجال الذي في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ) [النور : ٢٧] الآيات ، فالمراد بقوله : (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) فيما ذكر من الآية السابقة أو الذين كانوا يستأذنون من قبلهم وهم كانوا رجالا قبل أن يبلغ أولئك الأطفال مبلغ الرجال.

وقوله : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) القول فيه كالقول في نظيره المتقدم آنفا ، وهو تأكيد له بالتكرير لمزيد الاهتمام والامتنان. وإنما أضيفت الآيات هنا لضمير الجلالة تفننا ولتقوية تأكيد معنى كمال التبيين الحاصل من قوله : (كَذلِكَ). وتأكيد معنى الوصفين «العليم الحكيم». أي هي آيات من لدن من هذه صفاته ومن تلك صفات بيانه.

(وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠))

هذه الآية مخصّصة لقوله تعالى : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ) إلى قوله : (عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) [النور : ٣١].

ومناسبة هذا التخصيص هنا أنه وقع بعد فرض الاستيذان في الأوقات التي يضع الرجال والنساء فيها ثيابهم عن أجسادهم ، فعطف الكلام إلى نوع من وضع الثياب عن لابسها وهو وضع النساء القواعد بعض ثيابهن عنهن فاستثني من عموم النساء النساء المتقدمات في السن بحيث بلغن إبان الإياس من المحيض فرخص لهن أن لا يضربن بخمرهن على جيوبهن ، وأن لا يدنين عليهن من جلابيبهن. فعن ابن مسعود وابن عباس : الثياب الجلباب ، أي الرداء والمقنعة التي فوق الخمار. وقال السدي : يجوز لهن وضع الخمار أيضا.

والقواعد : جمع قاعد بدون هاء تأنيث مثل : حامل وحائض لأنه وصف نقل لمعنى خاص بالنساء وهو القعود عن الولادة وعن المحيض. استعير القعود لعدم القدرة لأن القعود يمنع الوصول إلى المرغوب وإنما رغبة المرأة في الولد والحيض من سبب الولادة فلما استعير لذلك وغلب في الاستعمال صار وصف قاعد بهذا المعنى خاصّا بالمؤنث فلم تلحقه هاء التأنيث لانتفاء الداعي إلى الهاء من التفرقة بين المذكر والمؤنث وقد بينه قوله :

٢٣٧

(اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً) ، وذلك من الكبر.

وقوله : (اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً) وصف كاشف ل (الْقَواعِدُ) وليس قيدا.

واقترن الخبر بالفاء في قوله (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ) لأن الكلام بمعنى التسبب والشرطية ، لأن هذا المبتدأ يشعر بترقب ما يرد بعده فشابه الشرط كما تقدم في قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) [المائدة : ٣٨]. ولا حاجة إلى ادعاء أن (ال) فيه موصولة إذ لا يظهر معنى الموصول لحرف التعريف وإن كثر ذلك في كلام النحويين. و (أَنْ يَضَعْنَ) متعلق ب (جُناحٌ) بتقدير (في).

والمراد بالثياب بعضها وهو المأمور بإدنائه على المرأة بقرينة مقام التخصيص.

والوضع : إناطة شيء على شيء ، وأصله أن يعدى بحرف (على) وقد يعدى بحرف (عن) إذا أريد أنه أزيل عن مكان ووضع على غيره وهو المراد هنا كفعل (ترغبون) في قوله تعالى : (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) في سورة النساء [١٢٧] ، أي أن يزلن عنهن ثيابهن فيضعنها على الأرض أو على المشجب. وعلة هذه الرخصة هي أن الغالب أن تنتفي أو تقل رغبة الرجال في أمثال هذه القواعد لكبر السن. فلما كان في الأمر بضرب الخمر على الجيوب أو إدناء الجلابيب كلفة على النساء المأمورات اقتضاها سد الذريعة ، فلما انتفت الذريعة رفع ذلك الحكم رحمة من الله ، فإن الشريعة ما جعلت في حكم مشقة لضرورة إلا رفعت تلك المشقة بزوال الضرورة وهذا معنى الرخصة.

ولذلك عقب هذا الترخيص بقوله : (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَ).

والاستعفاف : التعفف ، فالسين والتاء فيه للمبالغة مثل استجاب ، أي تعففهن عن وضع الثياب عنهن أفضل لهن ولذلك قيد هذا الإذن بالحال وهو (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) أي وضعا لا يقارنه تبرج بزينة.

والتبرج : التكشف. والباء في (بِزِينَةٍ) للملابسة فيؤول إلى أن لا يكون وضع الثياب إظهارا لزينة كانت مستورة. والمراد : إظهار ما عادة المؤمنات ستره. قال تعالى : (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) [الأحزاب : ٣٣] ، فإن المرأة إذا تجلت بزينة من شأنها إخفاؤها إلا عن الزوج فكأنها تعرض باستجلاب استحسان الرجال إياها وإثارة رغبتهم فيها ، وهي وإن كانت من القواعد فإن تعريضها بذلك يخالف الآداب ويزيل وقار سنها ، وقد يرغب فيها بعض أهل الشهوات لما في التبرج بالزينة من الستر على عيوبها أو الإشغال عن

٢٣٨

عيوبها بالنظر في محاسن زينتها.

فالتبرج بالزينة : التحلي بما ليس من العادة التحلي به في الظاهر من تحمير وتبييض وكذلك الألوان النادرة ، قال بشار :

وإذا خرجت تقنّعي

بالحمر إن الحسن أحمر

وسألت عائشة أم المؤمنين عن الخضاب والصباغ والتمائم (أي حقاق من فضة توضع فيها تمائم ومعاذات تعلقها المرأة) والقرطين والخلخال وخاتم الذهب ورقاق الثياب فقالت : «أحل الله لكن الزينة غير متبرجات لمن لا يحل لكن أن يروا منكن محرّما». فأحالت الأمر على المعتاد والمعروف ، فيكون التبرج بظهور ما كان يحجبه الثوب المطروح عنها كالوشام في اليد أو الصدر والنقش بالسواد في الجيد أو الصدر المسمى في تونس بالحرقوص (غير عربية). وفي «الموطإ» : «دخلت حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر على عائشة أم المؤمنين وعلى حفصة خمار رقيق فشقته عائشة وكستها خمارا كثيفا» أي شقته لئلا تختمر به فيما بعد.

وقيل : إن المعنيّ بقوله : (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) غير منكشفات من منازلهن بالخروج في الطريق ، أي أن يضعن ثيابهن في بيوتهن ، أي فإذا خرجت فلا يحل لها ترك جلبابها ، فيؤول المعنى ، إلى أن يضعن ثيابهن في بيوتهن ، ويكون تأكيدا لما تقدم في قوله تعالى : (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَ) [النور : ٣١] أي كونهن من القواعد لا يقتضي الترخيص لهن إلا في وضع ثيابهن وضعا مجردا عن قصد ترغيب فيهن.

وجملة : (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) مسوقة مساق التذييل للتحذير من التوسع في الرخصة أو جعلها ذريعة لما لا يحمد شرعا ، فوصف «السميع» تذكير بأنه يسمع ما تحدثهن به أنفسهن من المقاصد ، ووصف «العليم» تذكير بأنه يعلم أحوال وضعهن الثياب وتبرجهن ونحوها.

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً

٢٣٩

كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١))

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ).

اختلف في أن قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) إلخ منفصل عن قوله (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ) وأنه في غرض غير غرض الأكل في البيوت ، أي فيكون من تمام آية الاستيذان ، أو هو متصل بما بعده في غرض واحد.

فقال بالأول الحسن وجابر بن زيد وهو مختار الجبائي وابن عطية وابن العربي وأبي حيان. وقال ابن عطية : إنه ظاهر الآية. وهو الذي نختاره تفاديا من التكلف الذي ذكره مخالفوهم لبيان اتصاله بما بعده في بيان وجه الرخصة لهؤلاء الثلاثة الأصناف في الطعام في البيوت المذكورة ، ولأن في قوله : (أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) إلى آخر المعدودات لا يظهر اتصاله بالأعمى والأعرج والمريض ، فتكون هذه الآية نفيا للحرج عن هؤلاء الثلاثة فيما تجره ضرارتهم إليهم من الحرج من الأعمال ، فالحرج مرفوع عنهم في كل ما تضطرهم إليه أعذارهم ، فتقتضي نيتهم الإتيان فيه بالإكمال ويقتضي العذر أن يقع منهم. فالحرج منفي عن الأعمى في التكليف الذي يشترط فيه البصر ، وعن الأعرج فيما يشترط فيه المشي والركوب ، وعن المريض في التكليف الذي يؤثر المرض في إسقاطه كالصوم وشروط الصلاة والغزو. ولكن المناسبة في ذكر هذه الرخصة عقب الاستئذان أن المقصد الترخيص للأعمى أنه لا يتعين عليه استئذان لانتفاء السبب الموجبة. ثم ذكر الأعرج والمريض إدماجا وإتماما لحكم الرخصة لهما للمناسبة بينهما وبين الأعمى.

وقال بالثاني جمهور المفسرين وقد تكلفوا لوجه عدّ هذه الأصناف الثلاثة في عداد الآكلين من الطعام الذي في بيوت من ذكروا في الآية الموالية.

والجملة : على كلا الوجهين مستأنفة استئنافا ابتدائيا.

(وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً).

مناسبة عطف هذه الرخص على رخصة الأعمى ، على تقدير أنه منفصل عنه كما تقدم وهو المختار عند المحققين ، هو تعلق كليهما بالاستئذان والدخول للبيوت سواء كان

٢٤٠