القوانين المحكمة في الأصول - ج ٢

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٥

فإن أراد التناول الواقعي ، فهو غلط لعدم العلم به ولزوم البداء في المخصّص. وإن أراد التناول الظّاهري ، فلا معنى لاستصحاب الظهور. وإن أراد استصحاب حكم التناول الظاهري ، فهو ما قلنا.

ولنا أيضا (١) : احتجاج السّلف من العلماء وأهل العصمة عليهم‌السلام بالعمومات المخصّصة بحيث لا يقبل الإنكار.

وربّما يستدلّ أيضا (٢) : بأنّه لو لم يكن حجّة في الباقي ، لكانت إفادة العامّ لدخول الباقي موقوفة على إفادته للمخرج ، فلو كانت إفادته للمخرج أيضا متوقّفة على ذلك ، لزم الدّور ، وإلّا لزم الترجيح بلا مرجّح وهو ضعيف ، لأنّه دور معيّة (٣) كالمتضايفين واللّبنتين المتساندتين.

احتجّ المنكر مطلقا بوجهين :

الأوّل : أنّ حقيقة العموم غير مراد ، والباقي أحد من المجازات ، فلا يتعيّن الحمل

__________________

(١) وفي «الزبدة» أيضا ص ١٢٩.

(٢) وهذا الاستدلال وما استدلّ به المصنّف من استصحاب حكم التناول الظاهري ، نقله في «الفصول» ص ١٩٩.

(٣) قال في الحاشية : إنّ التوقف ينقسم الى توقف تقدّم كما في المعلول على العلّة والمشروط على الشرط ، والتوقف من الطرفين بهذا المعنى دور محال ضرورة استلزامه تقدم الشيء على نفسه ، والى توقف معيّة كتوقف كون هذا ابنا لذاك على كون ذاك أبا له وبالعكس ، وكتوقف قيام كل من المعنيين المتساندين على قيام الآخر. وما يلزم من الدّور في الاستدلال إنّما هو من قبيل الثاني لا الأوّل ، وما يطلق عليه المحال هو الأوّل لا الثاني. وحاصل الاستدلال ، انّه على تقدير عدم حجّية العام في الباقي لزم أحد المحذورين ، إما الدّور المحال أو الترجيح بلا مرجّح. وحاصل الجواب بالتزام الأوّل ، ولكنّه نقول : إنّه ليس بمحال لأنّه دور معيّة وهو جائز.

٦١

عليه لاحتمال إرادة سائر مراتب الخصوص ، ولا مرجّح ، فيصير مجملا (١).

والثاني : أنّه خرج بالتخصيص عن كونه ظاهرا ، وما لا يكون ظاهرا لا يكون حجّة(٢).

والجواب عن الأوّل : منع الإجمال وعدم المرجّح ، إذ الأقربيّة الى العامّ مرجّح ومدار مباحث الألفاظ على الظّنون. فكما أنّ التبادر علامة الحقيقة ، فظهور العلاقة علامة تعيين المجاز ، ولذلك لو قيل : رأيت أسدا يرمي ، لتبادر الى الذّهن معنى الشجاع لا البخر. ولا ريب أنّ العامّ المخصّص سيّما مع ملاحظة عدم ذكر مخصّص آخر معه ، ينصرف منه الباقي لكونه أقرب الى أصل المدلول.

وكفاك في المرجّح ما ذكرنا من الأدلّة ، مع أنّ الوقوع في كلام الحكيم أيضا يصرفه عن الإجمال ، لا بمعنى أنّه لا يقع المجمل في كلام الحكيم أبدا لوقوعه في الجملة كما لا يخفى ، بل بمعنى أنّ الأصل والقاعدة الناشئة عن الحكمة ، والاعتبار يقتضي عدمه حتّى يثبت بالدّليل وقوعه ، كحمل كلامه على خلاف الظاهر إذا دلّ الدليل عليه.

والحمل على أقلّ الجمع كما ذكره القائل به ، وإن كان يدفع الإجمال ، لكنّ الحمل على تمام الباقي أولي منه لضعف دليله (٣) ، لظهور الفرق بين الجمع والعامّ كما مرّ ، ولا قائل بإرادة غيرهما بالخصوص ، مضافا الى ما سنذكره في بطلان ذلك القول أيضا (٤).

__________________

(١) ذكره في «المعالم» : ص ٢٨١.

(٢) وكذا نقله في «المعالم» أيضا ص ٢٨١.

(٣) وهو دليل حمل العام المخصّص على أقلّ الجمع.

(٤) القول بالحجّية في أقلّ الجمع.

٦٢

وممّا ذكرنا ، يظهر الجواب عن الثاني (١).

هذا ولكنّ الإشكال في أنّ مقتضى محلّ النزاع أنّ القول بعدم الحجيّة مطلق (٢) ، وهذا الدّليل يقتضي اختصاصه بالقول بكون العامّ المخصوص مجازا في الباقي ، ولا ينهض على من قال بأنّه حقيقة في الباقي.

وكيف ذلك وكيف يجتمع هذا (٣) مع الكلام في القانون السّابق ، فإنّ الكلام ثمّة يقتضي حجّيّته في الباقي سواء كان حقيقة أو مجازا ، لأنّ كلّا من الحقيقة والمجاز ظاهر في معناه ، والكلام هاهنا يقتضي الخلاف في الحجّيّة.

وقد يوجّه هنا الاستدلال (٤) بحيث ينهض على القول بالحقيقة ، بأنّ مراد من قال : إنّ العامّ المخصّص حقيقة في الباقي ، أنّه حقيقة فيه من حيث إنّه أحد أبعاض العامّ لا إنّه حقيقة في الباقي من حيث إنّه تمام الباقي ، فحينئذ يقال في الاستدلال : إنّ تمام الباقي أحد الحقائق ، فلا يحمل عليه بخصوصه.

وردّ : بأنّه لا يجري على القول بكون المجموع اسما للباقي (٥) ، فكما لا يقول أحد : إنّ السّبعة مثلا اسم لهذا العدد فما دونها ، كذلك لا ينبغي أن يجوّز ذلك في عشرة إلّا ثلاثة. ولا على القول بأنّ الإسناد وقع بعد الإخراج ، فإنّ المراد بلفظ

__________________

(١) اي الدليل الثاني للمنكر.

(٢) حقيقة كان أو مجاز.

(٣) هذا اشكال آخر وهو غير الاشكال السّابق.

(٤) وهذا التوجيه هو لسلطان العلماء في حاشيته على «المعالم» : ص ٢٩٧ وهو دفع للاشكال الأوّل.

(٥) هذا وما سيأتي بعده من قوله : ولا على القول بأنّ الاسناد وقع بعد الاخراج ... الخ ، كلاهما يعودان الى ما مرّ في المقدمة الثالثة من القانون السّابق في دفع التناقض.

٦٣

العامّ هو معناه الحقيقي الأصلي إلّا الباقي فقط ، فهو عين الحقيقة لا أحد الحقائق. ولا على القول بأنّه حقيقة في الباقي (١) ، لاستصحاب التناول السّابق وعدم منافاة عدم تناول الغير لتناول الباقي ، فإنّ ظاهره أنّه لم يطرأ عليه شيء إلّا خروج ما أخرجه المخصّص ، فلا يبقى إلّا تمام الباقي.

وكذا لا يجري على الدّليل الآخر الذي هو سبق الباقي الى الذّهن ، فإنّه لا معنى لسبق أحد الأبعاض من دون تعيين ، ولا على القول بكونه حقيقة فيما لو بقي غير منحصر ، لأنّ هذا القول منهم ليس لأنّه أحد أبعاض العامّ ، كما هو مناط التوجيه في الاستدلال ، بل لأنّه هو عامّ.

فالظاهر أنّ النّزاع هنا إنّما هو على القول بمجازيّة لفظ العامّ في الباقي كما هو المختار في القانون السّابق.

وقول المفصّل بالمتّصل والمنفصل أيضا مبنيّ على ذلك ، فإنّه مبنيّ على أنّ المخصّص بالمنفصل مجاز دون المتّصل (٢).

أقول : ولعلّ التفصيلات الأخر في المسألة أيضا على هذا ناظرة الى ملاحظة مناسبة بعض المجازات للعامّ دون بعض ، بحسب المقامات ، فإنّ ما أنبأ عن الباقي قبل التخصيص أقوى (٣) من غير المنبئ ، وكذلك ما لا يحتاج الى البيان أقوى ممّا يحتاج إليه.

ونظر من قال بالحجيّة في أقلّ الجمع ، هو أنّ أقلّ الجمع هو المتيقّن من بين

__________________

(١) هذا القول يعود الى ما مرّ في أصل القانون السّابق فلاحظ أقوالهم وتقريراتهم في استدلالاتهم على كون العام حقيقة في الباقي.

(٢) وهو مذهب أبي الحسين كما مرّ في القانون السّابق.

(٣) في الانفهام من اللّفظ.

٦٤

المجازات ، يعني جميع أفراد الباقي ، والزّائد مشكوك فيه.

فصار حاصل الردّ : أنّا إن قلنا بأنّ العامّ لم يستعمل في معنى مجازي وبنينا على القول بالحقيقة في القانون السّابق ، فلا مناص عن الحجيّة ، وإن قلنا بالمجازيّة فيجيء فيه هذا الخلاف المذكور في هذا القانون.

وبما ذكر يندفع المنافاة المتوهّمة بين الأصلين (١) أيضا.

وأقول : الإنصاف أنّ ما ذكر في الترديد (٢) لا يدفع التوجيه المذكور ، لأنّ مراد من يقول بأنّه حقيقة في الباقي أنّه حقيقة فيما لم يخرج عن حكم العامّ ، فلو فرض تخصيص تمام الباقي ، مرّة أخرى وكرّة بعد أولى ، بل وكرّات متعدّدة ، ولم نطّلع إلّا على التخصيص الأوّل ، فاحتمال التخصيصات حاصل عند السّامع.

ولا ريب أنّ القائل بكونه حقيقة في الباقي ، يقول بالحقيقة في المرّة الأخيرة أيضا ، كما هو مقتضى دليله.

فالمراد بالباقي ما لم يثبت خروجه بهذا التخصيص وإن احتمل خروجه عنه بتخصيص آخر ، وحينئذ فالعامّ محتمل لحقائق متعدّدة ، فإذا قامت القرينة على عدم إرادة الجميع ، فيتساوى احتمال سائر الحقائق ، ويتمّ الدّليل ، إذ الكلام في هذا المقام بعد تسليم تصحيح هذا القسم من الحقيقة ، فيصير ذلك نظير إطلاق العامّ المنطقي على أفراده من حيث وجوده في ضمن كلّ واحد ، لا من حيث الخصوص.

وبعد تسليم ذلك (٣) ، فمنع جريان الاستدلال مكابرة ، فيتمّ الكلام فيه مثل

__________________

(١) اصالة الظهور في الباقي على الحقيقة والمجازية في السابق ، واصالة عدم الحجيّة في الباقي في هذا المقام.

(٢) بين الحقيقة والمجازية.

(٣) بعد تسليم تصحيح هذا القسم من الحقيقة ... الخ.

٦٥

القول بالمجازيّة حرفا بحرف.

وممّا ذكرنا (١) ، تقدر بعد التأمّل على إجراء الدّليل على جميع الأقوال في الحقيقة ، فإنّ مراد من قال : إنّ عشرة إلّا ثلاثة اسم للسّبعة ، لعلّة كون المستثنى والمستثنى منه اسما للباقي ، وذكر السّبعة بعنوان المثال.

وسيجيء الكلام السّابق في الباقي ، من أنّه يحتمل مراتب متعدّدة كلّها معنى حقيقي لمجموع التركيب على قول هذا القائل ، وكذلك الكلام على القول بكونه حقيقة في غير المحصور ، لأنّ لغير المحصور أيضا مراتب متعدّدة كلّها معنى حقيقي للعامّ على قول هذا القائل.

نعم ، يخدش في ذلك ، أنّ ذلك إنّما يتمّ فيما كان أفراد العامّ غير محصور واحتمل التخصيص مراتب متعدّدة منه.

وأمّا على القول بكون الإسناد الى الباقي بعد الإخراج ، فأنّت بعد التأمّل فيما ذكرنا في بطلان هذا القول ، تعلم أنّ الكلام في الحجّيّة ، وعدم الحجّيّة إنّما يرجع الى الحكم والإسناد المتعلّق باللّفظ ، وقد فرض أنّه ليس إلّا بالنسبة الى الباقي ، والتخصيص لم يتحقّق فيه بالنسبة الى لفظ العامّ ، بل إنّما تحقّق بالنسبة الى الإسناد والحكم ، فإذا خصّ الإسناد بغير القدر المخرج ، فهو يحتمل المراتب المتعدّدة ، ويجري فيه الكلام السّابق.

وممّا ذكرنا (٢) ، يظهر اندفاع المنافاة بين الأصلين أيضا ، إذ الحقيقة والمجاز

__________________

(١) أي من أنّ المراد بكون العام حقيقة هو كونه حقيقة فيما لو لم يخرج عن حكم العام ... الخ.

(٢) من احتمال التعدّد على كل الوجوه والأقوال.

٦٦

لا يستلزمان الظهور والحجّيّة في جميع الأحوال ، بل إنّما هو إذا لم يطرأهما إجمال ، فقد يحتاج الحقيقة الى القرينة كما في المشترك ، وكذلك المجاز إذا تعدّدت المجازات ، بل وكذلك المشترك المعنوي إذا أريد منه فرد معيّن ، فإنّ معرفة أنّ المراد ب : رجل في قوله تعالى : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ)(١) هو الحبيب النجّار يحتاج الى القرينة ، مع أنّه حقيقة على الظاهر كما بيّناه في مباحث الأوامر.

وقد يقال : إنّ الكلام في القانون السّابق (٢) إنّما هو بعد تسليم الحجّيّة ، فلا منافاة (٣) ، وهو أيضا باطل. وممّا ينادي ببطلانه بناء استدلالهم على عدم الحجّيّة في هذا الأصل بتعدّد المجازات وإجمالها ، وهو موقوف على كون المجازيّة مفروغا عنها في هذا القانون ، فكيف يختلفون بعد ذلك (٤) في الحقيقة والمجاز؟ مع أنّه كان ينبغي حينئذ تقديم هذا القانون على السّابق ، وكتب الأصول التي حضرتنا الآن كلّها متّفقة في تقديم القانون السّابق على هذا.

قيل : والحق (٥) ، أنّ الخلاف فيما سبق مبنيّ على فرض إرادة الباقي ، وأمّا ظهوره فغير لازم ، والقائل بكونه حقيقة ، يلزمه ظهوره ، والقائل بكونه مجازا على خلافه ، إذ المجاز قد يكون ظاهرا وقد يكون غيره ، وقس عليه التفصيل ، فتأمّل.

__________________

(١) القصص : ٢٠.

(٢) في الحقيقية والمجازيّة.

(٣) بين القانونين.

(٤) بعد كون المجازيّة مفروغا عنها. وفي الحاشية في الأصل السّابق إذ يلزمه حينئذ الدّور والتناقض لتوقف الاستدلال على الحجيّة أو عدم الحجيّة على المجازية والحقيقية ، وتوقف الاستدلال على المجازية والحقيقية على الحجيّة وعدم الحجيّة ، والحاصل توقف كل من الاستدلالين على الآخر.

(٥) والقائل هو المدقّق الشيرواني في حاشيته على «المعالم».

٦٧

أقول : ويظهر ما فيه بالتأمّل فيما قدّمناه ، إذ لو بنينا على التحقيق واقتفاء الدّليل ، فالحقّ أنّ الحقيقة والمجاز كليهما ظاهران في معناهما إذا اتّحدا ، وتعيّن القرينة على كلّ منهما فيما احتاج إليه على فرض الاشتراك أو تعدّد المجاز ، وقد بيّنا لك سابقا بطلان الحقيقة ، وتعيّن المجاز في تمام الباقي ، واحتمال إرادة ما دون تمام الباقي ، خلاف الظّاهر ولا يصار إليه ، فلو أعرضنا عن التحقيق ، وتماشينا مع الخصم في تصحيح الحمل على الحقيقة ، فلا يتفاوت الكلام في هذا القانون على القولين (١) ، فتأمّل.

ويؤيّد ما ذكرنا ، استدلالهم الثاني ، فإنّه لو لم يكن ناظرا الى احتمال الحقيقة ، لرجع الى الدّليل الأوّل ولكان تكراره لغوا ، إذ الإجمال من جهة تعدّد المجاز أخصّ من عدم الظّهور ، فإنّه أعمّ من أن يكون من تلك الجهة ، أو من جهة احتمال الحقائق ، فحينئذ يصير العامّ في محتملات الباقي على القول بالحقيقة ، مثل النّكرة التي أريد بها فرد معيّن عند المتكلّم غير معيّن عند المخاطب ، مثل قوله تعالى : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ.)(٢) وكذلك كلّ أدلّة القائلين بالحجيّة قابلة للقولين (٣) ، من دعوى الظهور (٤) ولزوم الذّمّ واستصحاب التناول ، وغيرها كما بيّناها ، بل بعضها (٥) في الدلالة على القول بالحقيقة أظهر.

__________________

(١) أي الحقيقة والمجاز.

(٢) القصص : ٢٠.

(٣) أي القول بكون العام حقيقة في الباقي أو مجازا.

(٤) قال في الحاشية : هذا بيان لأدلّة القائلين بالحجّية وقد تقدم بيان تلك الأدلّة في أوائل ذلك الأصل.

(٥) قال في الحاشية : لعلّ المراد بذلك البعض هو لزوم الذّم.

٦٨

ثمّ إنّ هاهنا أمرا لا بدّ أن ينبّه عليه ، وهو أنّ ظاهر كلام المستدلّ في أقلّ الجمع ، أنّ محلّ النزاع فيما وكل المتكلّم تعيين أفراد المخرج والباقي الى المخاطب ، كما لو قال : كل البيضات إلّا ثلاثة منها ، ونحو ذلك.

وعلى هذا يلزم على القول بجواز التخصيص الى الواحد أن يكون العامّ حجّة في الواحد ، لأنّه المتيقّن أيضا ، ولم يستثنه المستدلّ وعمّم في الإجمال.

ولعلّ نظر المستدلّ (١) في ذلك إنّما هو الصحيح ، لا نظر القائل بالحجّيّة في أقلّ الجمع ، فإنّ الغالب الوقوع في كلام الحكيم في التخصيصات ملاحظة التعيّنات في الأحكام ، ولا بدّ أن يكون مراد من يجوّز التخصيص الى الواحد في القانون المتقدّم أيضا التخصيص الى واحد معيّن عند المتكلّم ، لا أيّ واحد يكون. وكذلك أقلّ الجمع عند القائل به ثمّة ، مثلا قوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ.)(٢) قد تعلّق الإخراج عن نفي التحريم بهذه الثلاثة بخصوصها ، وكذلك : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ ،)(٣) فإذا ورد النصّ بحرمة لحم الأسد ولحم الكلب ، فيجب الإخراج أيضا وهكذا.

وكما أنّ الحرمة تتعلّق بالمخرج بخصوصه ، فكذلك نفي الحرمة لا بدّ أن يتعلّق بالباقي بتعيّنه ، فلا بدّ أن يكون الباقي متعيّنا سواء كان واحدا خاصّا أو أقلّ جمع خاصّ.

__________________

(١) أي التعميم.

(٢) الانعام : ١٤٥.

(٣) البقرة : ١٧٣.

٦٩

والى ما ذكرنا (١) ، ينظر الكلام السّابق على الاستدلال وإجرائه على القول بالحقيقة أيضا كما نبّهنا عليه ، وسيجيء في القانون الآتي أيضا إشارة الى ذلك.

وممّا ذكرنا ، يظهر لك ضعف ما قد يعارض أقربيّة المجاز المرجّحة للحجّيّة في تمام الباقي على ما ذكرنا ، بتيقّن إرادة الواحد وأقلّ الجمع ، وكذلك ضعف هذه المعارضة في بيان عدم جواز التخصيص إلّا بإرادة جمع يقرب من المدلول ، كما أشرنا إليه في محلّه.

هذا ، ولكنّي لم أقف في كلماتهم تنبيها على ما ذكرنا ، فإنّهم ذكروا حجّة المفصّل بالحجّيّة في أقلّ الجمع دون غيره كما ذكرنا ، ولم يتعرّضوا لما فيه ، فلا بدّ لهم أن يجيبوا عنه : بأنّ تيقّن الأقلّ إنّما يفيد الحجّيّة إذا تعيّن ، فلا ثمرة لهذا الكلام ، وإن اعتمد المفصّل في التعيين على قرينة أخرى ، فهذا ليس من حجّيّة العامّ في الباقي في شيء كما لا يخفى ، بل الحجّيّة حينئذ إنّما ثبت في العام مع القرينة المذكورة.

تنبيه

قد عرفت أنّ المخصّص المتّصل هو الاستثناء المتّصل والغاية والشرط والصّفة وبدل البعض. ولا يخفى أنّ المخرج في الاستثناء والغاية هو المذكور بعد أداتهما ، وفي الباقيات هو الغير المذكور ، فالباقي في قولنا : أكرم الناس إلّا الجهّال ، هو الناس العلماء ، وفي : أكرم العلماء الى أن يفسقوا ، هو غير من فسق من العلماء.

__________________

(١) الى ما ذكرنا من كون المراد من التخصيصات هو ملاحظة التعيّنات ينظر كلامنا السّابق في توجيهه استدلال القائل بعدم الحجيّة مطلقا وإجرائه على القول بالحقيقة أيضا ، هذا كما في الحاشية.

٧٠

والمخرج في : أكرم العلماء إن كانوا صلحاء ، هو غير الصالحين منهم ، وفي : أكرم الرّجال المسلمين ، هو غير المسلمين من الرّجال ، وفي : أكرم العلماء شعراءهم هو غير الشعراء منهم.

وأنت بعد ذلك خبير بطريق إجراء الكلام في المباحث السّابقة فيها ، من بيان مورد الحقيقة والمجاز والحجيّة وعدم الحجيّة وغيرها ، وتميّز المختار والمزيّف.

٧١

قانون

الحقّ ، موافقا للأكثرين (١) حتى ادّعى عليه جمع منهم (٢) الإجماع ، عدم جواز العمل بالعامّ قبل الفحص على المخصّص. وقيل : يجوز (٣).

وعلى المختار ، فالحقّ الاكتفاء بالظنّ (٤).

وقيل (٥) : يجب تحصيل القطع.

ولا بدّ في تحرير محلّ النزاع وتحقيق المقام من تمهيد مقدّمة ينكشف بملاحظتها غواشي الأوهام ، وهي : إنّ الفرق الواضح حاصل بين حالنا وحال أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام في طريق فهم الأحكام ومعرفتها وأخذها منهم عليهم‌السلام ومن أحاديثهم ، لأنّهم كانوا مشافهين لهم ومخاطبين بخطابهم ، وعارفين بمصطلحهم ، واجدين للقرائن الحاليّة والمقاليّة ، عالمين لبعض الأحكام من الضّرورة والبداهة ، آخذين ما لا يعلمونه من كلماتهم.

وكانوا قد يعلمون العموم ويشتبه عليهم الخصوصية في بعض الموارد ويسألون

__________________

(١) في «الفصول» : ص ٢٠٠ ، و «الوافية» : ص ١٢٩.

(٢) وقد ادّعى ذلك الحاجبي كما عن «الفصول» : ص ٢٠٠ ، ونسب في الحاشية قول الحاجبي إلى «المختصر» ، وفي «الوافية» ص ١٢٩ : حتّى نقل الإجماع عليه.

وذهب إلى ذلك منّا الوحيد البهبهاني في «فوائده» : ص ٢٠١ على تفصيل.

(٣) التمسّك به ابتداء وما لم تظهر دلالة مخصّصة وهو للصيرفي كما في «المحصول» : ٢ / ٥٣٧.

(٤) وإلى هذا ذهب في «الزبدة» : ص ١٣٤ ، و «الفصول» : ص ٢٠٠ ، وهو قول الأكثر كما عن «المعالم» : ص ٢٨٣ ، وإليه ذهب فيه.

(٥) وهو للقاضي الباقلّاني.

٧٢

عنه ، وقد يعلمون الخصوص من الخارج وأنّه مخالف لباقي الأفراد ، ويعرفون أنّ المراد من العامّ هو الباقي بقرينة ما سمعوه أو بقرينة المقام ، وأكثرهم كانوا محتاجين حين السّؤال ، فمكالمة المعصوم عليه‌السلام معهم لا بدّ أن يكون معهم بحيث يفهمون ولا يؤخّر بيانه عن وقت حاجتهم ، فيجب عليهم العمل على العامّ والمطلق إذا سمعوه بدون التخصيص ، فربّما كان الوقت يقتضي التعميم له والتخصيص لآخر ، وربّما كان يتفاوت الحال (١) من أجل التقيّة وغيرها.

وإن شئت توضيح الحال فقايسهم (٢) بالمقلّد السّائل عن مجتهده في هذا الزّمان.

وأمّا نقلهم الأخبار الى آخرين في زمانهم وعملهم عليه ، فهو أيضا لا يشبه الأخبار الموجودة عندنا ، فإنّه كان أسباب الاختلال والاشتباه قليلا ، ألا ترى إنّهم كانوا يستشكلون فيما لو ورد عليهم أخبار مختلفة من أصحابهم ، وكانوا يسألون عن أئمّتهم عليهم‌السلام في ذلك ويجيبون بالعلاج بالرّجوع الى موافقة الكتاب أو السنّة أو مخالفة العامّة أو الشّهرة أو غير ذلك (٣) ، ثمّ التخيير أو الاحتياط (٤) ، وهو بعينه مثل الخبر المنقول في زماننا عن مجتهد بعيد عنّا ، أو أخبار منقولة متخالفة عنه.

وبالجملة ، انحصر أمرنا في هذا الزّمان في الرّجوع الى كتب الأحاديث الموجودة بيننا ، ولا ريب أنّ المتعارضات فيها في غاية الكثرة ، بل لا يوجد فيها

__________________

(١) كأن يورد العام والمراد هو الخاص أو يخصّص والمراد هو العام.

(٢) اي قايس الأصحاب والسائلين من الأئمة عليهم‌السلام بالمقلّدين عن المجتهدين في هذا الزمان.

(٣) كالأعدل والأوثق والأفقه والأورع لرواية «العوالي».

(٤) قال عليه‌السلام : إذن فخذ بما فيه الحائط لدينك واترك ما خالف الاحتياط. قلت : إنّهما معا موافقين للاحتياط او مخالفين له ، فكيف أصنع؟ فقال عليه‌السلام : إذن فتخيّر أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر. عوالي اللآلي : ٤ / ١٣٣ ح ٢٢٩.

٧٣

خبر بلا معارض إلّا في غاية النّدرة ، فكيف يقاس هذا بخبر ينقله الثّقة عن إمامه بلا واسطة الى أهله أو الى بلد آخر مع عدم علم المستمع بمعارض له ، ولا ظنّ بذلك مع اتّحاد الاصطلاح وقلّة أسباب الاختلال ، وإنّما عرض الاختلالات بسبب طول الزّمان وكثرة تداولها بالأيدي ، سيّما أيدي الكذّابة وأهل الرّيبة والمعاندين للأئمة عليهم‌السلام ، فأدرجوا فيها ما ليس منهم (١). فنحن في الأخبار التي وصلت إلينا في وجوه من الاختلال من جهة العلم بالصّدور عنهم وعدمه ، ومن جهة جواز العمل بخبر الواحد الظنّي وعدمه ، وكذلك في اشتراط العدالة ، وتحقيق معنى العدالة ومعرفة حصولها في الرّاوي ، وكيفية الحصول من تزكية عدل أو عدلين ، ومن جهة الاختلال في المتن من جهة النّقل بالمعنى مرّة أو مرارا مختلفة ، واحتمال السّقط والتحريف والتبديل (٢) وحصول التّقطيع (٣) فيها

__________________

(١) في رواية عرض يونس بن عبد الرحمن على سيدنا أبي الحسن الرضا (ع) كتب جماعة من أصحاب الباقر والصادق عليهما‌السلام فأنكر منها أحاديث كثيرة أن يكون من أحاديث أبي عبد الله عليه‌السلام وقال : إنّ أبا الخطاب كذب على أبي عبد الله عليه‌السلام ، لعن الله أبا الخطاب. وكذلك أصحاب أبي الخطاب يدسّون هذه الأحاديث الى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد الله عليه‌السلام. وفي رواية اخرى عن هشام بن الحكم أنّه سمع أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : كان المغيرة بن سعيد يتعمّد الكذب على أبي ويأخذ كتب أصحابه ، وكان أصحابه المستترون بأصحاب أبي يأخذون الكتب من أصحاب أبي فيدفعونها الى المغيرة ، فكان يدسّ فيها الكفر والزّندقة ويسندها الى أبي. أقول : وهذا الرجل الملعون بعد أن أخذه السّلطان ليقتل اعترف أنّه أدرج في أخبار الصادق عليه‌السلام أربعة آلاف حديث.

(٢) التحريف قد يحصل في الحروف والتبديل في الكلمات.

(٣) أن يسمع الرّجل الرّاوي عن إمامه في مجلس ألف مسألة تتعلّق بأبواب الفقه ، ـ

٧٤

الموجبة (١) لتفاوت الحال من جهة السّند والدلالة ، ومن جهة الاختلال في الدلالة ، بسبب تفاوت العرف (٢) والاصطلاح ، وخفاء القرائن وحصول المعارضات اليقينيّة ، والإشكال في جهة العلاج من جهة اختلاف النصوص الواردة في التعارض ، وأنّ التكليف اليقيني (٣) الثابت بالضّرورة من الدّين ، لا بدّ من تحصيل معرفته من وجه يرضى به صاحب الشّرع وسبيل العلم به منسدّ غالبا ، وليس لنا وجه وسبيل في ذلك إلّا الرجوع الى الأدلّة (٤) المتعارفة ، والكتاب العزيز لا يستفاد منه إلّا أقلّ قليل من الأحكام ، مع اختلال وإشكال في كيفيّة الدّلالة في أكثرها ، والإجماع اليقينيّ نادر الحصول ، وكذلك الخبر المتواتر ، والاستصحاب لا يفيد إلّا الظنّ ، والأخبار مع أنّها لا تفيد إلّا الظنّ ، متخالفة ومتعارضة في غاية الاختلاف والتعارض ، بل الاختلاف حاصل بينها وبين سائر الأدلّة أيضا ، بل الاختلاف موجود بين جميع الأدلة ، ولا بدّ في الاعتماد على شيء منها على بيان مرجّح لئلّا يلزم ترجيح المرجوح أو المساوي.

والقول بالتخيير مطلقا أو الأخذ بأحد الطرفين من باب التسليم ، إنّما يتمّ مع

__________________

ـ وأصحاب الحديث والفقهاء تقطعوا هذه المسائل وكتبوا كلّ مسألة في بابها كالمسألة المتعلّقة بالطهارة في كتاب الطهارة والصوم في كتاب الصوم وهكذا.

(١) أي هذه الأمور الاربعة.

(٢) كأن كان النهي أو الأمر في زمانهم للتحريم أو الوجوب وفي زماننا صار بالعكس أو بالعكس.

(٣) جملة مستأنفة أو عطف على قوله : ان الفرق الواضح ، وهذا الأخير هو الواضح أو عطف على أنّ في قوله : ولا ريب ان ... الخ ، أو انّ الواو بمعنى مع متعلق بقوله فنحن في الأخبار ، هذا ما أفاد في الحاشية.

(٤) الأربعة.

٧٥

العجز عن الترجيح ، كما هو منصوص عليه في الأخبار ، مدلول عليه بالاعتبار ، فالأخذ بكلّ ما رأيناه أوّلا من حديث أو ظاهر آية أو استصحاب مع وجود الظنّ الغالب بوجود المعارض ، مجازفة من القول ، إذ يلزم على هذا التخيير في العمل مطلقا ورأسا ، وهو باطل جزما.

وبالجملة ، الذي نجزم به ويمكن أن نعتقده بعد ثبوت العجز عن تحصيل العلم وسدّ بابه ، هو استخراج الحكم عن هذه الأدلّة في الجملة ، بمعنى أنّه يمكن الاعتماد على ما حصل الظنّ بحقيقته من جملتها ، لا الاعتماد على كلّ واحد منها. والأصل حرمة العمل بالظنّ إلّا ما قام عليه الدّليل ، ولم يقم إلّا على هذا القدر ، مع أنّا لو قلنا أنّه يجوز لكلّ من رأى حديثا أو فهم استصحابا أن يعمل عليه ، وكذلك سائر الأدلّة ، فيصير الفقه حينئذ من باب الهرج والمرج ، ولا يكاد ينتظم له نسق (١).

فإن قلت : إنّك قائل بأنّ الخبر الصّحيح من باب الخبر الواحد حجّة مثلا ، فإذا رأينا حديثا صحيحا نعمل عليه لأنّ الأصل عدم المعارض ، ولا علم لنا بوجوده فيه بخصوصه ، وهكذا في غيره (٢).

قلت : إجراء الأصل مع وجود العلم بوجود المعارضات غالبا لا معنى له.

فإن قلت : العلم بوجود المعارضات إنّما هو في الجملة ، وليس في خصوص هذا الحديث.

قلت : إنّ هذا يصير من باب الشّبهة المحصورة التي حكموا بوجوب الاجتناب عنها ، مع أنّا لو قلنا بجواز الارتكاب في الشبهة المحصورة أيضا الى أن يلزم منه

__________________

(١) بمعنى نظام.

(٢) من الأدلّة او الأخبار كالموثّق.

٧٦

العمل بالحرام ، لا يتمّ الكلام هنا ، لأنّ فتح باب الرخصة في ذلك لآحاد المكلّفين يقتضي تجويز الارتكاب في الجميع (١) ، فأين اعتبار ملاحظة المعارض مع أنّ الغالب في ذلك هو التعارض ، وخبر لم يوجد له معارض لمن أنس بطريقة الاستنباط في غاية النّدرة ، وإن كان في أوّل أمره.

والحاصل ، أنّ المجتهد إذا علم أنّ دليل الحكم إنّما هو في جملة هذه الأدلّة المتعارضة [المتخالفة] المختلفة ، لا نفس كلّ واحد منها ، فلا بدّ من البحث عن المعارض حتّى يعرف أنّ العمل بأيّها هو الرّاجح في ظنّه ، لئلّا يكون مؤثرا للمرجوح ، ولئلّا يكون تاركا للأخبار المستفيضة الواردة بالعلاج والترجيح فيما لو كان الخبران متخالفين ، إذ العلم بوجود الخبرين المتعارضين في جملة تلك الأخبار حاصل لنا ويجب علينا علاجه ، وعدم العلم بالفعل بأنّ هذا الخبر الذي رآه أوّلا هل هو من هذا الباب أم لا ، لا يوجب العلم بعدم ذلك ، لأنّ ورود الخبرين المتعارضين صادق على ما ورد علينا في جملة الأدلّة مع إمكان معرفتهما بعينهما.

وممّا ذكرنا ، يظهر (٢) أنّه لا يمكن التمسّك بأصالة عدم المعارض في كلّ رواية ، إذ المفروض أنّ أحاديثنا مشتملة على الحديث الذي له معارض والحديث الذي لا معارض له ، وكون الأصل عدم كون الحديث الذي نراه أوّلا هو ما لا معارض له ، ليس بأولى من كونه هو الذي له معارض (٣) ، فيجب إجراء حكم كلّ من الصّنفين

__________________

(١) أي في جميع أطراف الشبهة وذلك لحصول الارتكاب في البعض قطعا في المجموع.

(٢) وهذا ناظر الى ما مرّ من قوله : فإن قلت انّك قائل ... الى قوله : لأنّ الأصل عدم المعارض ، ولا علم لنا بوجوده فيه بخصوصه.

(٣) قال في الحاشية : بعد ما عرفت من كون بعض الأحاديث ممّا له معارض وبعضها ممّا ليس له معارض لا يمكن إجراء أصل العدم بالنسبة الى أحدهما دون الآخر ، إذ الأصل ـ

٧٧

فيه ، وهو لا يتمّ إلّا بعد البحث والفحص.

وحاصل المقام ، أنّ حجّة الله على العباد منحصر في النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والوصيّ عليه‌السلام ، وبعد العجز عن الوصول إليهما وبقاء التكليف ، فلا دليل على جواز الاعتماد إلّا على ظنّ من استفرغ وسعه في تحصيل الظنّ من جهة الأدلّة المنسوبة إليهم ، ولا يمكن ذلك إلّا بعد الفحص عن المعارضات والاعتماد على الترجيحات ، وسيأتي الكلام في كفاية الظنّ وعدم وجوب تحصيل العلم عليه.

إذا تمهّد هذا فنقول : إنّ العامّ المتنازع فيه واحد من الأدلّة ، واحتمال وجود المعارض أعمّ من المناقض الرّافع لجميع حكمه أو المخصّص الرّافع لبعضه. ولمّا كان الغالب في العمومات التخصيص حتّى قيل : ما من عامّ إلّا وقد خصّ ، فقوي احتمال وجود المعارض هنا ، فصار مظنونا ، فصار ذلك أولى بوجوب الفحص عن المعارض عن سائر الأدلّة.

وشبهة من لا يقول بوجوب الفحص عن المخصّص في العامّ ، هو أنّه لو وجب طلب المخصّص في التمسّك بالعام ، لوجب طلب المجاز في التمسّك بالحقيقة ، إذ احتمال إرادة خلاف الظاهر ولزوم الوقوع في الخطأ بالعمل على الظاهر قائم فيهما ، ولا يجب ذلك في الحقيقة اتّفاقا ، وبدلالة (١) قضاء العرف بذلك ، فكذلك العامّ.

__________________

ـ عدم كون الحديث الذي نراه أوّلا مما له معارض كما تمسّك به هذا القائل ، ليس بأولى من كون الأصل عدم كونه مما ليس له معارض. وممّا قرّرنا ظهر أنّ في عبارة المتن نوع مسامحة كما لا يخفى على المتأمل ، فالأولى ما ذكرنا هذا. ولكن قال في الدرس بعد عرض ذلك على أنّ لفظ العدم في العبارة زائد سهوا من قلم النّاسخ ، فضرب عليه ، فتأمل فإنّه يرجع أيضا الى ما ذكرنا.

(١) هذا عطف على قوله : اتفاقا ، يعني انّ العرف قاض أيضا بحمل الألفاظ على ظواهرها من غير بحث عن وجود ما يصرف اللفظ عن حقيقته.

٧٨

وفيه أوّلا : أنّه إن أراد أنّه لا يجب التفحّص عن الحقيقة أصلا ، بمعنى أنّه إذا ورد حديث يدلّ على فعل شيء بعنوان الوجوب ولكن احتمل احتمالا راجحا وجود حديث آخر يدلّ على أنّ المراد بالأمر في الحديث الأوّل الاستحباب ، فهو في الحقيقة احتمال المعارض ، فلا معنى لعدم وجوب البحث عنه ، فكيف يدّعي عليه الاتّفاق.

وإن أراد أنّه لا يجب في الحقيقة طلب المجاز إذا لم يكن هنا ظنّ بوجود المعارض من الأدلّة ، بل ولا احتمال له ، بمعنى أن يتفحّص لاحتمال قيام قرينة حاليّة أو مقاليّة دلّت على إرادة المعنى المجازي من الكلمة ، فهو صحيح ومسلّم في العامّ أيضا من هذه الجهة. فإنّا لا نتفحّص في العامّ عن المخصّص ، لاحتمال أن يكون المراد معناه المجازي ، بل لأنّ وجود دليل خاصّ يرفع أحكام بعض أفراد العامّ ؛ محتمل (١) أو مظنون ، وإن آل ذلك الى حصول التجوّز في العامّ بعد ظهوره ، فتداخل البحثين (٢) لا يوجب كون كلّ منهما مقصودا بالذّات ، ولمّا كان العامّ من جملة الأدلّة أكثر احتمالا لوجود المعارض ، خصّوه بالبحث دون سائر الأدلّة.

وثانيا : على فرض تسليم كون البحث عن العامّ من جهة دلالة اللّفظ وحقيقته والاحتراز عن التجوّز ، ولكن نقول : إنّ الاتّفاق الذي ذكره المستدلّ هو الفارق بين أنواع الحقائق لعدم تحقّقه فيما نحن فيه ، بل تحقّق خلافه ، فقد ادّعى جمع من المحقّقين الإجماع على وجوب الفحص (٣) ، فحصل الفارق وبطل القياس ، مع أنّ

__________________

(١) بمعنى مشكوك.

(٢) البحث عن المجاز في الحقيقة ، والبحث عن المعارض في العام.

(٣) على ما عرفت في مقدّمته هذا القانون.

٧٩

الفارق موجود بوجه آخر ، وهو تفاوت الحقائق في الظهور ، ألا ترى إنّهم اختلفوا في ترجيح المجاز المشهور على الحقيقة.

فنقول هنا : إنّ استعمال العامّ في معناه المجازي بلغ حدّ الاشتهار الى أن قيل : ما من عامّ ... الخ (١) ، بخلاف سائر الحقائق ، فإن لم نقل بترجيح المجاز المشهور ، فلا أقلّ من التوقّف ، فالغلبة مرجّحة للتجوّز وأصالة الحقيقة وعدم التّخصيص للحقيقة ، فيصير مجملا فيحتاج الى الفحص ، بخلاف سائر الحقائق ، فإنّ الغلبة ليس فيها الى هذا الحدّ ، بل أكثر الألفاظ محمول على الحقائق.

وما يقال (٢) : إنّ أكثر كلام العرب مجازات فهو إغراق (٣) ليس على حقيقته.

وممّا يوضّح ما ذكرنا أنّه لا يجب الفحص عن احتمال سائر المجازات في العامّ أيضا كما إذا احتمل إطلاق العامّ على شخص باعتبار جامعيّته ، جميع أوصاف أفراد العامّ ، فإذا قيل : جاء العلماء ، فيحتمل أن يراد منه زيد باعتبار أنّ علمه مساو لعلم كلّهم بعلاقة المشابهة ، ويحتمل أن يراد منه أمرهم أو حكمهم أو نوّابهم بعلاقة المجاورة أو التعلّق ونحو ذلك ، بل نحمله على حقيقته من هذه الجهة ، بخلاف احتمال جهة التخصيص بإرادة بعضهم دون البعض ، وكأنّه غفل من غفل في هذا الأصل من جهة الغفلة عن تفاوت المجازات أو عن أنّ الكلام في الفحص عن المعارض من حيث إنّه معارض (٤) لا في طلب المجاز من حيث إنّه طلب المجاز ،

__________________

(١) إلّا وقد خصّ.

(٢) وهو لابن جنّي وابن مستويه.

(٣) بمعنى بالغ في الأمر وانتهى فيه ، والإغراق يضرب مثلا للغلوّ والإفراط. راجع «لسان العرب».

(٤) او من حيث إنّه مظنون.

٨٠