القوانين المحكمة في الأصول - ج ٢

الميرزا أبو القاسم القمّي

القوانين المحكمة في الأصول - ج ٢

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: رضا حسين صبح
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٨٥

أيضا ، بل إنّما هو من جهة الأقربيّة ونحوها.

فها هنا مقامات ثلاثة (١) اعتبرها المستدلّ وغفل عنها المعترض.

وأمّا العلاوة التي ذكرها المعترض أخيرا (٢).

ففيه : أنّ عدم سماع الاستثناء المنفصل عن النطق إنّما هو لعدم ثبوت الرّخصة من الواضع في أصل تعليق الاستثناء في مثله ، فأصل ترتيب الكلام فيه غلط مخالف لضوابط الوضع ، بخلاف ما نحن فيه ، فإنّ استعماله بعد العمومات المتعدّدة صحيح وارد في كلام الفصحاء ، لكنّه لحقه الإجمال فصار مثل المجملات ، فلا بدّ حينئذ لرفع القبح عن كلام الحكيم ودفع لزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، من الإرجاع الى أحد العمومات والتمسّك في نفيه عن أكثر منه بالأصل ، والاكتفاء بالأخيرة إعمالا للدليلين.

وأمّا التقرير الثاني : فمقتضاه أنّ توهّم التناقض وظهور المخالفة للحكم الأوّل في الاستثناء صار سببا للعدول عن القاعدة ، وهي أنّه لا يسمع الإنكار بعد الإقرار ، فلمّا كان ظاهر الجملة الاستثنائية سماع الإنكار بعد الإقرار مثلا ، فصار مخالفا للأصل ، فعدلنا عنه في جملة واحدة لدفع الهذريّة ، الى آخر ما ذكرنا في

__________________

(١) أحدها : أن يكون الاستثناء للإخراج وصيرورته قرينة للمجاز من جهة رخصة الواضع ولكن الثابت هو في الجملة لا مطلقا. وثانيها : الحكم يتعلّق ما في صورة الإجمال. والثالث : تعيين الأخيرة.

(٢) وهو الشيخ حسن في «المعالم» : ص ٢٩٦ كما عرفت من اعتراضه المذكور. وفي الحاشية ، بقوله : مع أنّ تخصيص الجملة الأخيرة ومطمح النظر منها هو ذيل العلاوة المذكور بقوله : فإنّه لو صلح بمجرده ... الخ وإلّا فجزؤه الأوّل وهو قوله : مع أنّ تخصيص الأخيرة قد مرّ دفعه.

١٢١

التقرير الأوّل (١).

وتحريره والفرق بين التقريرين مع أنّ مقتضاهما واحد ، لأنّ فهم العموم (٢) أيضا من أجل كون اللّفظ (٣) حقيقة فيه ، أنّ هذه القاعدة غير مختصّة بالحقيقة ، وإن اتّفق هنا اتّحاد موردهما فقد يحصل الإقرار والاعتراف بلفظ مجازي ، فمخالفة الاعتراف ومناقضته مخالفة للقاعدة ، سواء دلّ على الاعتراف بأصالة الحقيقة أو غيره ، كما أنّ المخالفة بحسب الحقيقة والمجاز أيضا قد تكون بالتخصيص ، وقد يكون بغيره ، فاختلف التقريران مفهوما وإن اتّحد مصداقهما فيما نحن فيه في العامّ الذي له لفظ حقيقي.

وأمّا بيانه (٤) في مخالفته (٥) للاستصحاب ، فهو غلط فاحش ، ولا يمكن تطبيقه إلّا على الاستثناء البدائي وهو خارج عن المتنازع كما لا يخفى ، ولا معنى لاستصحاب ظهور الإرادة أيضا كما لا يخفى.

وأمّا ما ذكره المعترض (٦) في دفع هذا التقرير فما له منع ظهور الإرادة ، وأنت خبير بما فيه ، إذ احتمال ذكر المنافي لا يخرج الحقيقة عن الظّهور في معناها الحقيقي ، ينادي بذلك أصلهم المشهور في الاستثناء ، وعلاج ظهور التناقض فيه. ولا ريب أنّ انتفاء احتمال التجوّز لا يحصل بعد انتهاء الكلام أيضا ، لاحتمال

__________________

(١) المراد مما ذكره هو الذكر من حيث الحاصل وليس من حيث نفس اللّفظ وهذا هو ترجيح الأخيرة بالأقربية والقطعية ونحو ذلك.

(٢) المذكور في التقرير الثاني الذي يلزم منه الإقرار.

(٣) والذي عليه ابتنى التقرير الأوّل.

(٤) أي بيان مخالفة الأصل.

(٥) مخالفة الاستثناء.

(٦) كما في «المعالم» كما عرفت.

١٢٢

المخصّص المنفصل ، فوجود الاحتمال ما دام الكلام لم ينته ، غير مضرّ بظهور الدلالة على الحقيقة ، مع أنّه لا يجتمع إنكار ظهور الإرادة في هذا التقرير مع قبول أنّ التجوّز خلاف أصل الحقيقة في التقرير الأوّل ، لأنّ معنى قولهم : الأصل في اللّفظ الحقيقة ، أنّ اللّفظ الذي له موضوع له معيّن واستعمل في شيء لم يظهر للسّامع ، لا بدّ أن يحمل على معناه الحقيقي ما لم يجئ قرينة على خلافه.

ومقتضى ما ذكرنا في مقدّمات المباحث السّابقة من أنّ المقصود في الوضع هو غرض التركيب ، لا ينافي ما نقول هنا ، لأنّ التركيب يتمّ بقول القائل : أكرم العلماء ، ولا ينتظر في فهم معناه التركيبي لمجيء جمل متعدّدة بعده ، ومجيء استثناء عقيب الكلّ ، فقد تمّ الكلام النحويّ وإن لم يتمّ الكلام الاصطلاحي بعد. والمعيار في صحّة الفهم هو الأوّل وإن كان للمتكلّم رخصة في جعل اللّواحق مربوطة بالسّوابق ، وذلك لا يوجب عدم ظهور الحقيقة في معناها ، ولا نقول : أنّ مجرّد صدور اللّفظ يوجب الجزم بإرادة الحقيقة حتّى ينافيه التصريح بخلافه ، بل نقول : انّ ظاهره إرادة الحقيقة ونحكم به حكما ظنيّا لا قطعيّا ، وإذا جاء المنافي في تتمّة الكلام فيكشف عن بطلان الظنّ ويتجدّد للنفس تصديق جديد بإرادة المعنى المجازي ، ولا غائلة (١) فيه أصلا.

وأمّا قوله (٢) : فما لم يقع الفراغ لم يتّجه ... الخ.

ففيه : تناقض (٣) ، وهو مناف لما تقدّم من المعترض ، فإنّه قال سابقا أيضا : إنّه

__________________

(١) الغائلة جمع غوائل الشر والحقد الباطن ، ويقال : الغوائل أي الدواهي.

(٢) والذي ذكره في «المعالم» : ص ٢٩٦.

(٣) أي أنّ في كلامه بين أوّله وآخره تناقض ، وآخر كلامه هنا أيضا مناف لما تقدم من المعترض وإن كان ما تقدم من كلامه مطابقا لأوّل كلامه هنا.

١٢٣

لا يحكم بالحقيقة حتّى يتحقّق الفراغ وينتفي احتمال غيره. ولا ريب أنّه بعد الفراغ عن ذكر الجمل والشروع في ذكر الاستثناء لا ينتفي احتمال التّخصيص كما هو المفروض (١) ، فما معنى إبقاء غير الأخيرة على عمومه تمسّكا بالأصل ، وما معنى الأصل هنا ، فقد عرفت بطلان إرادة الاستصحاب منه. وكذلك القاعدة على مذاق المعترض ، فلم يبق إلّا الظاهر ، أعني أصل الحقيقة ، إذ ليس كلّ عموم موافقا لأصل البراءة حتّى يقال أنّه هو المراد.

والتحقيق في الجواب : أنّ هذا الدليل (٢) لا يدلّ على مدّعاهم ، بل هو موافق لمّا اخترناه من الاشتراك المعنوي ، وإنّ ما ذكره المستدلّ ، قرائن لتعيين أحد أفراده ، وأين هذا من إثبات كونه حقيقة مخصوصة في الإخراج عن الأخيرة ، فهذا دليل على ما اخترناه في المسألة بلا قصور ولا غائلة.

ومنها : أنّه لو رجع الى الجميع لرجع في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا.)(٣) مع أنّه لا يسقط الجلد بالتوبة اتّفاقا (٤) ، وخلاف الشعبي (٥) لا يعبأ به.

__________________

(١) من صلاح الاستثناء للجميع.

(٢) وهو دليل الحنفية لا يدل على ما ادّعوه من كون الاستثناء المتعقب للجمل المتعدّدة حقيقة في الإخراج عن الأخيرة فقط.

(٣) النور : ٤.

(٤) وقد بحث هذا المبحث في «الذريعة» : ١ / ٢٦٩ ـ ٢٧٣ من المهم مراجعته.

(٥) فإنّه ذهب الى سقوط الجلد بالتوبة ، في «مجمع البيان» : ٧ / ١٦٢ : أنّ الاستثناء يرجع إلى الأمرين فإذا تاب قبلت شهادته حدا ، ولم يحد ، عن ابن عبّاس في رواية ـ

١٢٤

وفيه : أنّ مطلق الاستعمال لا يدلّ على الحقيقة ، فلا ينافي ذلك كونه حقيقة في الرجوع الى الجميع والخروج عن مقتضاه في الجلد بالدليل الخارجي وهو الإجماع ، وأنّه حقّ الناس ، فلا يسقط بالتوبة ، مع أنّه لا يدلّ على الاختصاص بالأخيرة لقبول الشهادة بعد التوبة إلّا أن يمنعها المستدلّ.

ومنها : أنّ الجملة الثانية (١) بمنزلة السّكوت ، فكما لا يرجع المخصّص بعد السّكوت والانفصال عن النطق الى ما تقدّمه ، فكذلك ما في حكمه.

وجوابه : المنع.

ودعوى أنّه لم ينتقل من الجملة الأولى إلّا بعد استيفاء الغرض منها ، أوّل الكلام.

ومنها : أنّه لو رجع (٢) الى الجميع ، فإن أضمر مع كلّ منها استثناء ، لزم خلاف الأصل ، وإلّا فيكون العامل في المستثنى أكثر من واحد ، ولا يجوز تعدّد العامل على معمول واحد في إعراب واحد لنصّ سيبويه عليه ، ولئلّا يجتمع المؤثّران المستقلّان على أثر واحد.

وأجيب : باختيار الشقّ الثاني (٣) ومنع كون العامل في المستثنى هو العامل في المستثنى منه ، بل هو أداة الاستثناء كما هو مذهب جماعة من النّحاة لقيام معنى

__________________

ـ الوالبي ومجاهد والزهري ومسروق وعطاء وطاوس وسعيد بن جبير والشعبي وهو اختيار الشافعي وأصحابه.

(١) أي الأخيرة.

(٢) الاستثناء.

(٣) المراد من الشق الثاني هو عدم الإضمار وهو المختار ، هذا والمجيب هو صاحب «المعالم» ص ٢٩٩.

١٢٥

الاستثناء بها. والعامل هو ما يتقوّم به المعنى المقتضي للإعراب ، ولكونها نائبة عن أستثني ، كحرف النداء عن أدعو.

سلّمنا ، لكن نمنع امتناع اجتماع العاملين على معمول واحد ، ولا حجّة في نصّ سيبويه لاحتمال أن يكون ذلك من اجتهاده (١) لا من نقله ، كما أنّ رواية الثّقة حجّة على غيره لاجتهاده ورأيه ، مع أنّه معارض بما نقل عنه من تجويزه نحو : قام زيد وذهب عمرو الظريفان ، مع أنّه قائل بأنّ العامل في الصّفة هو العامل في الموصوف ، وبنصّ الكسائي على الجواز (٢) ، وكذلك بتجويز الفرّاء (٣) بتشريك العاملين في العمل إذا كان مقتضاهما واحدا.

وربّما يؤيّد الجواز بمثل : هذا حلو حامض ، لعدم جواز إخلائهما عن الضّمير (٤) ولا يختصّ أحدهما به ، فتعيّن أن يكون فيهما ضمير واحد.

وفيه إشكال ، لاحتمال أن يقال : هما كالكلمة الواحدة وهو مزّ ، مع احتمال أن يكون حامض صفة لحلو لا خبرا بعد خبر.

وأمّا حكاية عدم اجتماع المؤثّرين المستقلّين.

__________________

(١) برأيه لا من نقله ، ولو كان نقله مستندا الى استنباط عن كلام العرب ولو بالقرائن فإنّ هذا غير الاجتهاد المستند الى الرأي والاستنباط العقلي الصّرف. هذا ما أفاده في الحاشية.

(٢) وحجّتهم لأنّ سيبويه نصّ عليه ، وقوله حجة ، وردّها الرازي في «المحصول» : ٢ / ٥٦٣ ، إلى أنّ نصّ سيبويه على أنّه لا يجوز ، معارض بنص الكسائي على أنّه يجوز ، وكذا صاحب «المعالم» : ص ٣٠٠.

(٣) في «المعالم» ص ٣٠٠ : وقول الفرّاء في باب التنازع مشهور.

(٤) وذلك لاتفاقهم على افتقار الخبر المشتق الى الضمير.

١٢٦

ففيه ما لا يخفى ، إذ العلل الإعرابية كالعلل الشرعيّة ، معرّفات (١) وعلامات لا علل حقيقية ، ولا ريب في جواز اجتماع المعرّفات.

أقول : ويرد عليه أيضا مضافا الى ما ذكر ، النقض بصورة التجوّز (٢) ، فلو استعمل الهيئة المذكورة في الإخراج عن الجميع ، فيكون مجازا على رأي المستدلّ ولم ينقل عنه القول ببطلان الاستعمال ، فيعود المحذور عليهم (٣). ولا يمكنهم دفع ذلك بالتزام الإضمار مع كلّ منهما من جهة أنّه نفس التجوّز الّذي ذهبوا إليه.

فإنّ المراد بالتجوّز المبحوث عنه ، هو استعمال لفظ وضع لإخراج شيء عن عامّ واحد في الإخراج عن عمومات متعدّدة على التبادل ، وهو لا يستلزم الإضمار مع كلّ واحد ، فالإضمار خلاف أصل آخر يجب التحرّز عنه على القول بالمجازيّة أيضا.

ثمّ إنّ تصحيح التجوّز وبيان العلاقة في هذا المجاز ، دونه خرط القتاد ، ولا يصحّ جعله من باب استعمال اللّفظ الموضوع للجزء في الكلّ ، إذ الإخراج عن الأخيرة ليس جزء للإخراج عن كلّ واحد كما لا يخفى.

وأمّا التجوّز بإرادة الجميع من حيث المجموع ، فهو خارج عن المتنازع ، مع أنّ لهذه العلاقة شرطا وهو مفقود ، ولا العكس (٤).

__________________

(١) ومثله قال الفخر الرازي في «المحصول» : ٢ / ٥٦٣ ، والشيخ حسن في «المعالم» : ص ٣٠٠.

(٢) الذي جوزه المستدل.

(٣) أي على المستدلّين.

(٤) أي ليس من باب إطلاق الكلّ في الجزء بتقريب انّ اللّفظ للفرد مع الخصوصيّة ، فاستعمل بعد إرجاع الجميع الى نفس إخراج المطلق الذي هو جزء إخراج الخاص.

١٢٧

بتقريب أن يقال : إنّه موضوع للإخراج المخصوص ، وهو الإخراج عن الأخيرة فاستعمل في الإخراج المطلق الشامل للإخراج عن الأخيرة ، والإخراج عن غيرها ، فإنّ جزء الموضوع له هو مطلق الإخراج ، أي الماهيّة الجنسيّة ، ولا ريب أنّه لم يستعمل فيه (١) حينئذ ، بل استعمل في فرد خاصّ آخر منه وهو الإخراج عن كلّ واحد ، وهذا ليس من باب إطلاق المشفر على شفة الإنسان ، إذ الشفة ماهيّة مشتركة بينهما وبين غيرهما أيضا من شفاه الحيوانات ، ومع ملاحظة هذا النوع من العلاقة يصحّ استعماله في كلّ شفة ، بخلاف ما نحن فيه ، لعدم جواز استعماله في كلّ إخراج.

نعم لو فرض الكليّ الذي هو جزء الإخراج عن الأخيرة هو القدر المشترك بينه وبين الإخراج عن الجميع ، لتمّ ما ذكر ، وليس فليس. وما ذكرنا (٢) أيضا ممّا يوهن هذا القول ويضعّفه.

هذا كلّه ، مع أنّه لو تمّ هذا الاستدلال لا يضرّ ما اخترناه في المسألة أصلا ، فإنّا لا نقول بجواز رجوعه الى كلّ واحد ، لا حقيقة ولا مجازا.

ومنها (٣) : أنّ الاستثناء من الاستثناء يرجع الى ما يليه دون ما تقدّمه اتّفاقا ، فإذا قال القائل : ضربت غلماني إلّا ثلاثة إلّا واحدا ، كان الواحد المستثنى راجعا الى الجملة التي تليه دون ما تقدّمها ، فكذا في غيره ، دفعا للاشتراك (٤).

__________________

(١) لم يستعمل في مطلق الاخراج.

(٢) أي ما ذكرنا هنا علاوة مما ذكره صاحب «المعالم» ، أو ما ذكرنا سابقا في بيان الوجه المختار أو ما ذكرنا هنا من عدم وجه لتصحيح علاقة المجاز هنا. هذا كما في الحاشية.

(٣) وهي مما احتجّ بها أبو حنيفة من الوجوه.

(٤) وهو الاشتراك بين الرجوع الى الأخيرة في صورة الاستثناء من الاستثناء والى الجميع في غير هذه الصورة.

١٢٨

وفيه أوّلا : أنّ الكلام في الجمل المتعاطفة لا غير.

سلّمنا ، لكنّ الاتّفاق فارق.

سلّمنا ، لكنّ المانع في المقيس عليه موجود من جهة لزوم اللّغوية لو عاد الى غير الأخيرة أيضا ، لأنّه لو رجع مع الرّجوع الى الاستثناء الأوّل الى المستثنى منه أيضا لزم أن يخرج من المستثنى منه مثل ما أدخل فيه ، فيبقى الاستثناء الأخير لغوا ، كما لو قيل : له عليّ عشرة إلّا ثلاثة إلّا واحدا ، فالكلام بعد استثناء الثلاثة اعتراف بالسّبعة.

وإذا أخرج من الثلاثة واحد بالاستثناء الثاني ، يرجع الاعتراف الى الثمانية ، ثمّ إذا رجعناه الى العشرة ثانيا ، فيخرج من العشرة أيضا واحدا ويصير اعترافا بالسّبعة وهو المستفاد من الاستثناء الأوّل ، فيبقى الاستثناء الثاني لغوا.

وحجّة القول بالتوقّف (١) : هو تصادم الأدلّة (٢) وعدم ظهور شيء مرجّح لأحد الأقوال عنده.

ثمّ إنّك إذا أحطت خبرا بما ذكرنا ، تقدر على استخراج الأدلّة على حكم سائر المخصّصات ، وإنّ الكلام فيها واحد ، فلا حاجة الى الإعادة.

__________________

(١) بمعنى لا ندري أنّه حقيقة في أيّ الأمرين.

(٢) أو إلى ما ذكر من أنّه لو ثبت فإمّا بالعقل ولا مدخل له ، وإمّا بالنقل فوقوع التواتر منه يوجب عدم الخلاف ، كما أنّ الآحاد منها لا يفيد العلم. وجواب كل هذا يعرف مما مضى.

١٢٩

قانون

إذا تعقّب العامّ ضمير يرجع الى بعض ما يتناوله ، فقيل : إنّه يخصّص (١).

وقيل : لا (٢). وقيل : بالوقف (٣). وذلك مثل قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ،)(٤) الى أن قال : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ.)(٥) فإنّ الضمير في قوله تعالى : (بِرَدِّهِنَّ ،) بل في : (وَبُعُولَتُهُنَّ ،) للرجعيّات.

فعلى الأوّل يختصّ التربّص بهنّ (٦) ، وعلى الثاني يعمّ البائنات ، وعلى الثالث يتوقّف(٧).

احتجّ المثبتون : بأنّ تخصيص الضمير مع بقاء عموم ما هو له يقتضي مخالفة

__________________

(١) كان ذلك تخصيصا له ، اختاره العلّامة في «النهاية» ونقله في «المعالم» : ص ٣٠٢ ، وفي «الزبدة» : ص ١٤٢ ، وللعلّامة قولان.

(٢) أنكره القاضي كما في «المعارج» : ص ١٠٠ ، ومنعه الشيخ والحاجبي كما عن «الزبدة» : ص ١٤١ ، و «العدة» : ١ / ٣٨٥ ، والآمدي في «الإحكام» : ١ / ٤٦٦ والبيضاوي في «المنهاج» منعه أيضا.

(٣) وحكى المحقق رحمه‌الله عن الشيخ إنكار ذلك وهو قول جماعة من العامة واختار هو التوقف ، ووافقه العلّامة في «التهذيب» وهو مذهب المرتضى أيضا عن «المعالم» وهو الأقرب عنده كما في «المعالم» : ص ٣٠٢ ، والشيخ البهائي في «الزبدة» : ص ١٤٢ قال : والمرتضى والمحقق بالوقف وهو أسلم.

(٤) البقرة : ٢٢٨.

(٥) البقرة : ٢٢٨.

(٦) أي بالرجعيّات.

(٧) وهكذا في «المعالم».

١٣٠

الضمير للمرجوع إليه ، فلا بدّ من تخصيص العامّ لئلّا يلزم الاستخدام (١) ، فإنّه وإن كان واقعا في الكلام ، لكنّه مجاز.

واحتجّ النافون : بأنّ اللّفظ عامّ فيجب إجراؤه على عمومه ما لم يدلّ دليل على تخصيصه ، ومجرّد اختصاص الضمير العائد في الظّاهر إليه ، لا يصلح لذلك ، لأنّ كلّا منهما لفظ مستقلّ ، فلا يلزم من خروج أحدهما عن ظاهره ، خروج الآخر.

واحتجّ المتوقّفون : بتعارض المجازين وتساقطهما وعدم المرجّح (٢).

وقد يقال في ترجيح الأوّل (٣) : بأنّ عدم التخصيص مستلزم للإضمار ، لأنّ المراد من قوله تعالى : (وَبُعُولَتُهُنَ) بعولة بعضهنّ ، والتخصيص أولى من الإضمار.

وقد يجاب عنه : بأنّ الضمير (٤) كناية عن البعض ، فلا إضمار ، فالأمر مردّد بين التخصيص والمجاز لا التخصيص والإضمار ، ولا ترجيح للتخصيص على المجاز.

وقد يقال (٥) : انّ ذلك تردّد بين التخصيصين ولا وجه لترجيح أحدهما على الآخر.

__________________

(١) قال في الحاشية : المراد بالاستخدام هنا هو أن يراد بالعام معناه الحقيقي أعني تمام ما يتناوله اللّفظ من البائنات والرجعيّات ، ومن الضمير الراجع إليه معناه المجازي أعني بعض ما يتناوله اللّفظ. وفى أخرى : والاستخدام في الآية من قبيل الاستخدام في قول الشّاعر : إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا. حيث أراد بالسماء معناه المجازي وهو المطر ، ومن ضمير رعيناه الرّاجع إليه معناه المجازي الآخر مثل : النبات والحشيش.

(٢) والاستخدام شائع كما عن «الزبدة» : ص ١٤٢.

(٣) راجع «المعالم» : ص ٣٠٣.

(٤) من جانب المتوقف على ما في «المعالم» ص ٣٠٣.

(٥) والقائل هو سلطان العلماء في حاشية «المعالم» ص ٣٠٠ في ردّ ما في «النهاية» في مقام ردّ الجواب عنه بما سبق.

١٣١

وفيه ما فيه ، إذ المراد التجوّز (١) الحاصل من صرف الضمير عن ظاهر وضعه وهو المطابقة للمرجع وهو لا يستلزم كونه من باب التخصيص وإن اتّفق تحقّقه في ضمنه في بعض الأحيان ، مع أنّ العموم غير مسلّم في الضمير ، فإنّ وضعه للجميع لا غير ، فالأولى التمسّك بترجيح التّخصيص على مطلق المجاز (٢).

وقد يرجّح الثاني ، بأنّه يستلزم مجازا واحدا في الضمير بخلاف الأوّل ، فإنّ مجازيّة العامّ يستلزم مجازيّة الضمير أيضا فيتعدّد المجاز.

وقد يجاب (٣) عن ذلك : بأنّه مبنيّ على كون وضع الضمير لما كان المرجع ظاهرا فيه حقيقة له (٤). لكنّ الحقّ أنّه حقيقة فيما هو مراد من المرجع ، ولو كان معنى مجازيا.

وفيه : أنّ الضمير وإن كان حقيقة في المراد لكنّ ظاهر اللّفظ كاشف عن المراد فهو المعيار ، فالمعتبر فيه هو ظاهر اللّفظ.

إذا عرفت هذا ، فالأظهر عندي هو القول الأوسط (٥).

وبيانه يتوقّف على ذكر فائدتين :

الأولى :

أنّ في معنى كون الأصل في الضمير المطابقة للمرجع ، وكون وضع الضمير في

__________________

(١) أي مراد المجيب وهو صاحب «المعالم».

(٢) كما عرفت في أوائل الكتاب في مبحث التعارض بعد تسليمه ترجيح التخصيص على مطلق المجاز ، بل المسلّم ترجيحه على مطلق المجاز في العام.

(٣) والمجيب أيضا هو صاحب «المعالم» فيه ص ٣٠٣.

(٤) أي فيه.

(٥) وهو القول بعدم التخصيص.

١٣٢

الأصل لما هو ظاهر فيه حقيقة له (١) أو المراد منه غموضا (٢). وذلك لأنّ وضع الضمائر قد عرفت أنّه من قبيل الوضع العامّ وأنّ الموضوع له فيها كلّ واحد من خصوصيات الأفراد ، لكن بوضع واحد إجماليّ ، وبذلك يمتاز عن المشترك كما أشرنا إليه في أوّل الكتاب.

وعلى هذا فضمير المفرد المذكّر الغائب مثلا إذا استعمل في كلّ واحد من أفراد المفرد المذكّر الغائب ، يكون حقيقة ، وكذلك اسم الإشارة ، مثل : هذا ، لكنّها تحتاج في إفادة المعاني الى القرينة ، نظير استعمال النّكرة في الفرد المعيّن عند المتكلّم الغير المعيّن عند المخاطب ، فلا دخل لحقيقة المرجع ومجازه في وضع الضمير بهذا المعنى.

نعم ، لمّا كان المعتبر في وضع ضمير الغائب مثلا معهوديّة المرجع بين المتكلّم والمخاطب ولو بمقتضى الحال والمقام ، فلا بدّ أن يستعمل ضمير الغائب في المفرد المذكّر الغائب المعهود.

والعهد إن كان باللّفظ الذي أريد به المعنى الحقيقي أو كان بغير اللّفظ كمقتضى المقام أو بلفظ مجازيّ مقرون بالقرينة ، فلا إشكال في تحقّق الوضع الأصلي ووروده على مقتضاه حينئذ.

__________________

(١) هذا إشارة الى ما بيّن المجيب السّابق كلام خصمه عليه ولم يرض به ، كما أنّ قوله : أو المراد منه إشارة الى ما هو الحق عند المجيب ، فالترديد باعتبار الاختلاف الواقع بين المجيب وخصمه في وضع الضمير. هذا كما في الحاشية.

(٢) هذا اسم لأنّ في قوله : انّ في معنى كون الأصل ... الخ ، قدّم عليه خبره باعتبار كونه ظرفا. كما أفاده في الحاشية.

١٣٣

وأمّا إذا كان المرجع لفظا له حقيقة وأريد به المعنى المجازي (١) ، فلمّا كان مقتضى أصل الحقيقة حمل اللّفظ على معناه الحقيقي ، فيقتضي ذلك الأصل أنّ المراد من ذلك اللّفظ هو ما كان ظاهرا فيه ، ويحصل العهد بينهما بدلالة الظّاهر ، فإذا دلّت القرينة على إرادة خلاف الظّاهر منه بعد ذكر الضمير ، فيكشف عن عدم معهوديّة المرجع ، وذلك يستلزم استعمال الضمير في غير ما وضع له ، وهذا هو معنى مجازيّة الضمير اللّازمة على تقدير تخصيص العامّ.

وبما ذكرنا تقدر على فهم المجازيّة في سائر أنواع الاستخدام (٢) الذي يحصل

__________________

(١) بلا قرينة المجاز.

(٢) قال في الحاشية : لا يخفى انّ قاعدة مطلق الاستخدام هو أن يراد بلفظ له معنيان سواء كانا حقيقيين أو مجازيين أو مختلفين أحد المعنيين ، ثم يراد بالضمير الراجع إليه معناه الآخر أو يراد بأحد ضميري ذلك اللّفظ أحد المعنيين ، ثم يراد بالضمير الآخر معناه الآخر. ومن أمثلة القسم الثاني قول الشاعر : فسقى القضاء وساكنيه وإن هم شبّوه بين جوانحي وضلوعي. حيث أراد بأحد الضميرين الراجعين الى القضاء وهو المجرور في الساكنين المكان ، وبالآخر وهو المنصوب في شبّوه النار. يعني سقى الله تعالى القضاء وهو شجر معروف يقال له في الفارسية (درخت طاق) والساكنين مكان الذي قريب بذلك القضاء مجاوريه ، وإن كان أهل ذلك المكان والساكنية أوقدوا النار التي مثل نار القضاء في الشّدة بين جوانحي وضلوعي ، بل ولا بأس بأن يجعل ذلك البيت بملاحظة المعنى الحقيقي للّفظ أعني الشجر المعروف ، فيكون من أمثلة القسم الأوّل أيضا.

والحاصل ، أنّ الشاعر أراد هنا ثلاثة معان : أحدها : الشجر المعروف. وثانيها : المكان الذي هو قريب من هذا الشجر ومجاور له. وثالثها : النار التي مثل نار القضاء في الشدة والحرارة. فباعتبار إرادة معنى من أحد ضميري اللّفظ ومعنى آخر من ضميره الآخر في القسم الثاني. وكيف كان فملاحظة تلك الأقسام المتصوّرة في ـ

١٣٤

بغير إرادة بعض أفراد الموضوع له من سائر العلائق.

والحاصل ، أنّ مقتضى وضع الضمير الغائب رجوعه الى متقدّم معهود مفهوم بينهما بالدّلالة الحقيقيّة والحاصلة بالقرينة ، وإذا ظهر بعد ذكر الضمير خلاف مقتضى العهد والدلالة ، ظهر كونه مجازا.

الثانية :

إنّك قد عرفت سابقا (١) أنّ التشاغل بالكلام مع احتمال عروض ما يخرجه عن الظاهر من اللّواحق ، وبقاء مجال إلحاق اللّواحق ، لا يخرج اللّفظ الظاهر في معنى مثل العموم عن الظاهر حتّى يثبت تعلّق اللّواحق به وإخراجه عن الظاهر. فالعامّ المذكور أوّلا ظاهر في معناه الحقيقي حتّى يأتي ما تحقّق كونه مخصّصا له. وما يتوهّم أنّ ذلك ينافي عدم جواز العمل بالعامّ قبل الفحص عن المخصّص ، ومقتضى ذلك التوقّف عن الحكم بإرادة الحقيقة من العامّ حتى يتمّ الكلام ، فلا يحكم بالظهور في معناه الحقيقي إلّا مع انتفاء احتمال إرادة المجاز.

ففيه : أنّ البحث عن وجود المخصّص وعدمه ، غير البحث عن كون ذلك الشيء مخصّصا أم لا. والّذي يقتضيه تلك القاعدة هو الأوّل لا الثاني.

وأيضا فأصالة الحقيقة تقتضي الحكم بظهورها في المعنى الحقيقي ، وغلبة التخصيص تقتضي الحكم بعدمه ، فهو مراعى حتّى يتفحّص ، وبعد التفحّص والتأمّل في أنّ ذلك الذي وقع في الكلام من اللّواحق هل يقتضي التخصيص أم لا ، فإذا لم

__________________

ـ القسمن سما مع ملاحظة أنواع العلائق المعتبرة في المجاز يرتقي أنواع الاستخدام الى أقسام كثيرة.

(١) والذي مرّ في القانون السّابق من دفع ما أورده المعترض على استدلال الحنفيّة على مدّعاهم من رجوع الاستثناء المتعقب للجمل المتعدّدة الى الأخيرة خاصة.

١٣٥

يحصل الظنّ بالتخصيص فيحكم بأصل الحقيقة.

وبالجملة ، الذي يضرّ بأصل الحقيقة هو ظنّ التخصيص ، ولا يجب في إعمال أصل الحقيقة الظنّ بعدم المخصّص ، بل عدم الظنّ به كاف. هذا مع انّا لو فرضنا التفحّص من الخارج وثبت تخصيص ما له من وجه آخر ، فلا وجه للتوقّف بعد ذلك كما أشرنا في القانون السّابق (١). وكذلك لو حصل الظنّ بالعدم من الخارج ، وبقي الإشكال في كون اللّاحق في الكلام مخصّصا.

وبالجملة ، فرق بيّن بين توقيف العامّ عن العمل حتى يحصل الظنّ بعدم المخصّص الواقعي ، وبين توقيفه عن العمل حتّى يحصل الظنّ بعدم كون ما يحتمل كونه مخصّصا من اللّواحق في الكلام أو غيرها مخصّصا له ، والكلام إنّما هو في الثاني.

إذا تمهّد هذا ، فنقول في توضيح جميع المقامات المذكورة فيما نحن فيه :

إنّه إذا ابتداء في الكلام بذكر العامّ ، مثل لفظ المطلّقات ، فنقول : أنّ ظاهرها العموم.

وإذا قيل : (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ.)(٢)

فنقول : إنّ المراد منها الغير المدخولات وغير اليائسات على الأقوى (٣) ، فبقي العامّ ظاهرا في الباقي ، إذ مرادنا من أصل العموم أعمّ من الحقيقة الأوّلية أو الظهور الحاصل في الباقي.

وإن قلنا بمجازيّته في الباقي أيضا ، فحينئذ المطلّقات أيضا ظاهرة في ذوات الأقراء مطلقا.

__________________

(١) في قانون عدم جواز العمل بالعام قبل الفحص عن المخصّص حيث قال : فإذا ظهر وجود مخصّص ما فلا دليل على وجوب الفحص إن أريد من ذلك لا ظنا ولا قطعا.

(٢) البقرة : ٢٢٨.

(٣) يظهر أن قيد الأقوى هو لقوله : اليائسات خاصة لا لما قبله ، هذا كما في الحاشية.

١٣٦

وإذا قيل : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ.)(١) علمنا أنّ الحكم بالردّ مختصّ بالرجعيّات ، لكن لم يظهر من ذلك أنّ المرجع أوّلا هل كان هو الرجعيّات أو الأعمّ ، فأصل العموم بحاله. وإن كان المراد به تمام الباقي لا نفس المدلول ، فلا دليل على تخصيص العدّة بالرجعيّات ، وعدم ثبوت الإرجاع (٢) كاف ، ولا يجب ثبوت العدم.

فظهر أنّ احتمال كون مخالفة الضمير مخصّصا للمرجع ، لا يضرّ لظهور المرجع في العموم ، مع أنّه يمكن القلب بأنّ قاعدة لزوم مطابقة الضمير للمرجع أيضا عامّ ، ويمكن أن يكون مخصّصا بما سبقه ظاهر ينافي حمله (٣) على مقتضى قاعدة المطابقة.

هذا مع أنّ الظاهر أصل ، والضمير تابع ، والدلالة الأصلية أقوى من الدلالة التبعيّة ، والتصرف في الأضعف أسهل.

__________________

(١) البقرة : ٢٢٨.

(٢) إرجاع العام المذكور الى الخاص أو إرجاع الضمير الى العام مع المطابقة في التخصيص.

(٣) حمل هذا الظاهر على قاعدة المطابقة ينافي المقصود او انحمل الضمير على قاعدة المطابقة ينافيه هذا الظاهر ، للعلم بأنّ المراد من الضمير غير هذا الظاهر كما لا يخفى. فالحمل على الأوّل فاعل وضميره للظاهر والمفعول محذوف ، وعلى الثاني مفعول وضميره للضمير ، وفاعله ضمير الظاهر وكلاهما صحيحان. هذا كما أفاده في الحاشية.

١٣٧

قانون

لا خلاف في أنّ اللّفظ الوارد بعد سؤال ، أو عند وقوع حادثة ، يتبع السّؤال ، وتلك الحادثة في العموم والخصوص إذا كان اللّفظ غير مستقلّ بنفسه ، بمعنى أنّه يحتاج الى انضمام السّؤال إليه في الدلالة على معناه ، إمّا لذاته وباعتبار (١) الوضع كقوله عليه‌السلام «وقد سئل عن بيع الرّطب بالتّمر : أينقص إذا جفّ».

«فقيل : نعم. فقال : فلا إذن» (٢).

أو بحسب العرف ، مثل قولك : لا آكل ، في جواب من قال : كل عندي.

فإنّ أهل العرف يفهم تقييد الجواب ، يعني لا آكل عندك.

وكذا لو كان مستقلا مساويا للسّؤال في العموم والخصوص ، مثل ما لو قيل : ما على المجامع في نهار شهر رمضان؟

فيقول : على المجامع في نهار شهر رمضان الكفّارة.

أو أخصّ من السّؤال مع دلالته على حكم الباقي على سبيل التّنبيه مع كون السّامع من أهل الاجتهاد ووسعة الوقت لذلك ، لئلّا يفوت الغرض ، كأن يقال في جواب السّؤال عن الزكاة في الخيل : في ذكور الخيل زكاة ، أو : ليس في إناثه زكاة. فإنّ الإناث لمّا كانت هي محلّ النموّ ففي إثباتها في الذّكور يثبت في الإناث بطريق أولى ، ومن نفيها في الإناث ينفى عن الذّكور كذلك.

ولو كان أعمّ منه في غير محلّ السّؤال مثل قوله عليه‌السلام «وقد سئل عن ماء البحر :

__________________

(١) عطف تفسير.

(٢) «مستدرك الوسائل» : ١٣ / ٣٤٢ ح ١٥٥٤٩.

١٣٨

هو الطهور ماؤه ، الحلّ ميتته» (١) فإنّ السّؤال عن الماء ، والجواب عن الماء وعن الميتة ، فيتبع عموم الجواب في المقامين (٢) أيضا لعدم مانع من ذلك.

وأمّا لو كان اللّفظ أعمّ منه في محلّ السّؤال ، مثل قوله عليه‌السلام «وقد سئل عن بئر بضاعة : خلق الله الماء طهورا لا ينجّسه شيء إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو رائحته» (٣). وقوله عليه‌السلام «لمّا مرّ بشاة ميمونة على ما رواه العامّة : أيّما إهاب (٤) دبغ فقد طهر» (٥).

فاختلفوا فيه ، والحقّ ـ كما هو مختار المحقّقين ـ أنّ العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص المحلّ (٦).

وبعبارة أخرى السّبب لا يخصّص الجواب.

وقيل : إنّ السبب مخصّص للجواب (٧).

__________________

(١) «دعائم الاسلام» : ١ / ١١١ ، «مستدرك الوسائل» : ١ / ١٨٧ ح ٣٠٤١.

(٢) أي في الماء والميتة. ويمكن إرجاعه الى صورة الأعم والأخص إلّا أنّه بعيد.

(٣) «الوسائل» : ١ / ١٣٥ ح ٣٣٠. بضاعة الباء مضمومة وقد تكسر كما في «القاموس» ص ٦٤٨ وهو بئر في المدينة المشرّفة.

(٤) الإهاب بكسر الهمزة على وزن كتاب هو الجلد مطلقا ، وقيل : اذا لم يدبغ. وهذا الحديث ذكره للتمثيل ويصلح ذلك ، وإن كان غير ثابت عندنا وبه يستدل من أبناء العامة على طهارة جلد الكلب مع الدباغة ..

(٥) «صحيح مسلم» : ١ / ٢٧٧ ح ٣٦٦ ، «سنن الترمذي» : ٤ / ٢٢١ ح ١٧٢٨.

(٦) لا يخصص السبب كما في تعبير العلّامة في «التهذيب» : ص ١٥١ ، والشهيد في «التمهيد» : ص ٢١٦.

(٧) وإلى ذلك ذهبت طائفة من أصحاب الشافعي ، وإن كان كلام الشافعي محتملا له ولغيره كما عن «العدة» : ١ / ٣٦٨ ، وفي «التهذيب» : ص ١٥١ على أحد قوليه ، ـ

١٣٩

لنا : أنّ المقتضي ـ وهو اللّفظ الموضوع للعموم ـ موجود ، والمانع مفقود ، وما يتصوّر مانعا سنبطله ، ولعمل العلماء والصحابة والتّابعين على العمومات الواردة على أسباب خاصّة ، بحيث يظهر منهم الإجماع على ذلك ، كما لا يخفى ذلك على من تتبّع الآثار وكلام الأخيار.

احتجّوا : بأنّه لو كان عامّا في السّبب (١) وغيره ، لفاتت المطابقة بين الجواب والسّؤال.

وفيه : أنّ المطابقة إنّما يحصل بإفادة مقتضى السّؤال ، والزيادة لا تنفي ذلك مع ما فيه من كثرة الإفادة ، وبأنّه لو كان يعمّ غير السّبب لجاز تخصيص السّبب وإخراجه بالاجتهاد كما يجوز في غيره ، والتالي باطل (٢) والمقدّم مثله.

__________________

ـ وصرّح عن «المبادئ» : بأنّه ليس مخصّصا خلافا للشافعي ، هذا وقد ذكر على حاشية «التبصرة في اصول الفقه» : ص ١٤٥ بأنّه : قد نسب إمام الحرمين في «البرهان» كما قاله ابن السبكي ـ نسب هذا القول [أي السبب مخصّص للجواب] للشافعي فقال : وهو الذي صحّ عندنا من مذهب الشافعي وتبع ابن الحاجب إمام الحرمين في هذه النسبة ، ولكن الحق الصريح والقول الصحيح أنّه الإمام الشافعي لم يقلّ به أبدا ، والفروع الفقهية التي أوردها في «الامّ» وغيره تدلّ على أنّه كان يذهب مذهب الجمهور في هذه المسألة ، ومن فهم منه أنّه يقول بخصوص السبب إنّما فهمه على غير حقيقته. وقد أطال ابن السبكي في الكلام عنه في كتابيه «رفع الحاجب» : ١ / ٣٧٨ و «الإبهاج» : ٢ / ١١٧ وبيّن أنّ مذهبه مذهب الجمهور ، وقال الاسنوي في شرحه على البيضاوي في رده على الجويني : وما قاله الإمام مردود فإنّ الشافعي قد نصّ على أنّ السبب لا أثر له. فقال في «الأم» في باب ما يقع به الطلاق وما يصنع السّبب شيئا إنّما تصنعه الألفاظ. راجع «ميزان الأصول» : ١ / ٤٨١.

(١) اي على السّبب.

(٢) لأنّ الإخراج الموردي غير صحيح كما أفاد في الحاشية.

١٤٠